رواية قربك يطمئني الفصل الثاني2بقلم سامر الحريري


رواية قربك يطمئني
 الفصل الثاني2بقلم سامر الحريري


كانت سارة تجلس وحدها في العيادة، بعد أن غادر طارق. صوته ما زال يتردد في أذنيها، كأن كلماته لم تخرج من فمه فقط، بل خرجت من مكان عميق يشبه الأماكن المهجورة داخلها. 

نظرت إلى الورقة التي كتبت عليها ملاحظاتها، ثم مسحتها ببطء. لم تكن بحاجة لتوثيق ما حدث، لأن الجلسة تلك لم تكن طبيعية... لم تكن مهنية تمامًا. كانت إنسانية أكثر مما ينبغي. 

رفعت عينيها إلى النافذة، كان الغروب يزحف على المدينة، بلونه البرتقالي المائل للحزن، يعكس ما شعرت به داخلها. شيء في حديث طارق حرّكها، كما لو أن شيئًا فيها استيقظ بعد نوم طويل. 

"بيرسم..." قالتها في نفسها، ثم تخيّلت وجهه وهو يتحدث عن الرسم، ملامحه كانت أخف، نبرة صوته أكثر دفئًا، وابتسامته الحزينة تركت أثرًا لا يمكن نسيانه بسهولة. 

مرّت الأيام، وطوال ذلك الأسبوع، وجدت سارة نفسها تنتظر موعد الجلسة التالية دون أن تعترف بذلك. كانت تراجع ملفاتها الأخرى، تؤدي جلساتها المهنية كالمعتاد، لكنّ شيئًا ما جعل الأيام تمرّ ببطء. 

وفي الموعد المحدد، طرق طارق الباب بخفة، ثم دخل. هذه المرة، بدا أكثر هدوءًا، لكنه لم يكن متعبًا كالسابق، كأن مجرّد الحديث، في الجلسة الأولى، فتح له نافذة صغيرة للهواء. 

ابتسم لها وقال: 

– "كنت حاسس إني مش هاجي... بس رجعت في كلامي قبل ما أوصل الباب." 

ضحكت بخفّة، وردّت: 

– "واللي بيرجع في قراره وهو على الباب، غالبًا قلبه لسه بيدق." 

جلس في مكانه المعتاد، لكنّه لم يتحدث فورًا. نظر إلى الطاولة الصغيرة، ثم إلى يدها وهي تدوّن في دفترها. 

قال فجأة: 

– "كنت بفكر أرسمك." 

رفعت نظرها، متفاجئة قليلًا، لكنها لم تُظهر ذلك. فقط سألته بلطف: 

– "ليه؟" 

هزّ كتفيه: 

– "مش علشانك إنتِ كإنسانة... يمكن علشان الهدوء اللي بتخليه حوالينا. حسيت إن في خطوط معينة ممكن تترسم من ملامحك، من سكوتك، من طريقتك وإنتي بتسمعي." 

سكت قليلًا، ثم قال: 

– "بس خفت أرسم، وخفت أرسمك." 

سألته بابتسامة صغيرة: 

– "خفت من الرسم؟ ولا منّي أنا؟" 

أجاب بصوت خافت: 

– "خفت من الحقيقة اللي ممكن تطلع من اللوحة... خفت ألاقي فيها مشاعر مش المفروض تبقى موجودة." 

في تلك اللحظة، لم تكن سارة تعرف بماذا تجيب. كانت معتادة على سماع الكثير من الاعترافات، لكنها لم تكن تتوقع أن يقترب هذا الشخص، الذي لا تعرف عنه سوى القليل، من منطقة هي تخاف الاقتراب منها. 

– "عارفة يا سارة؟ فيه ناس بنقابلهم مش علشان نكمل معاهم الطريق، بس علشان يعرفونا نفسنا... وده مش تقليل من وجودهم، العكس... ده بيخليهم أغلى." 

سكت، ثم أكمل: 

– "بس أنا مش عايز أكون حد بيعدّي. أنا عايز ألاقي مكاني، واللي يطمني وأنا بدوّر عليه." 

نظرت إليه، هذه المرة بعينين خاليتين من المهنيّة، فقط بعينين أنثى تسمع رجلاً يبوح بأمانة وصدق. 

– "أوقات اللي بيطمنك مش لازم يكون مكان... ممكن يكون شخص." 

قالت الجملة ثم صمتت، شعر كلاهما بثقل الصدق فيها، لكن لم يتجاسر أيٌّ منهما على شرح ما تعنيه. 

طارق تنفّس بعمق، ثم نهض ببطء، وقال: 

– "أنا هارسم... وهارسمك." 

ثم ابتسم وأضاف: 

– "بس مش دلوقتي." 

غادر بخطوات أهدأ من المرة الماضية، وكأنّه يترك خلفه وعدًا، أو بداية لقصة لم يُكتب عنوانها بعد. 

وبعد أن خرج، كتبت سارة في ملفّه جملة قصيرة: 

"أحيانًا، تطرق قلوبنا خطوات شخص، لا ليمكث... بل ليوقظ فيها الحياة." 

ثم أغلقت الدفتر... لكنها لم تُغلق قلبها هذه المرة.

مرّ يومان على جلسة طارق الأخيرة، وسارة لم تنم ليلتها كعادتها. كانت تقرأ الجملة التي كتبتها في ملفّه مرارًا، تشعر وكأنها لم تكتبها له بل لنفسها...
الجملة تلك، أبقتها مستيقظة رغم كل محاولات الهروب إلى النوم. 

في صباح اليوم الثالث، وبينما كانت منهمكة في مراجعة ملاحظات إحدى الحالات، رنّ هاتفها. نظرت إلى الرقم، كان غير مسجل، لكنها ردّت دون تردد. 

– "أيوة؟"
– "الدكتورة سارة؟ أنا طارق."
– "أهلاً، طارق... خير؟"
– "أنا عارف إن المفروض الجلسة الجاية لسه... بس فيه حاجة لازم تشوفيها."
– "إيه هي؟"
– "لو ماعندكيش مانع... تعالي الجاليري اللي في وسط البلد، هبعَتلك العنوان على واتساب." 

لم تنتظر كثيرًا لتفكر. شيء ما في نبرة صوته لم يكن يَقبل التأجيل، شيء يشبه النداء الهادئ الذي يدخل القلب دون ضجيج. 

بعد أقل من ساعة، كانت تقف أمام باب خشبي قديم، فوقه لوحة معدنية باهتة كُتب عليها: "بيت الفن."
دخلت، وتقدّمت عبر ممر صغير مليء باللوحات المعلقة على الجدران، حتى توقفت فجأة. 

كان طارق يقف أمام لوحة كبيرة مغطّاة بقماش أبيض. 

لما شافها، ابتسم وقال: 

– "مكنتش متأكد إنك هتيجي." 

– "بس جيت." 

اقتربت أكثر، وهي لا تدري بالضبط ما الذي ينتظرها. أشار طارق إلى اللوحة وقال: 

– "قبل ما تشوفيها، لازم تعرفي حاجة... أنا ما برسمش الناس بسهولة. بس لما رسمتك، حسيت إني رسمت روحي حوالين ملامحك." 

سحبت أنفاسها ببطء، ثم أزاح هو القماش. 

كانت اللوحة مزيجًا غريبًا من السكون والدهشة. لم تكن مجرد صورة لها، بل كانت ملامحها محاطة بخطوط ضوء، وعينيها ممتلئتين بكلمات لم تُقل. خلفها، رسم طارق عيادة صغيرة، لكن جدرانها كانت مكسوّة بورق شجر، كأنها مكان بين الواقع والحلم. 

سارة لم تقل شيئًا. فقط تقدّمت خطوة، ووضعت يدها على طرف الإطار الخشبي. 

– "ليه رسمتني بالشكل ده؟" 

– "علشان كده بشوفك... مكان بيطمن، بس كمان بيخوف، علشان لما بندخل جواه بنشوف نفسنا زي ما إحنا." 

ثم أضاف بنبرة أهدأ: 

– "أنا مابقتش خايف من الصورة دي، بس خايف أعيشها لوحدي." 

نظرت إليه، كانت عيناها تلمع، لكنها لم تبكِ. فقط همست: 

– "أنا كمان بخاف، بس يمكن الخوف مش ضعف... يمكن هو أول خطوة في طريق الحقيقة." 

سكت كلاهما للحظة، ثم قالت: 

– "بس يا طارق، في فرق بين الحقيقة اللي بنرسمها، والحقيقة اللي بنعيشها." 

– "وإحنا نختار نعيش أنهي فيهم؟" 

– "أحيانًا بنضطر نعيش الاتنين." 

ابتسم طارق، ثم قال: 

– "يبقى نرسم اللي نفسنا نوصله... ونعيش اللي نقدر عليه." 

في تلك اللحظة، لم تكن سارة مجرد طبيبة نفسية، ولم يكن طارق مجرد حالة علاج.
كانا شخصين ضاعا يومًا في الزحام، وها هما يجدان بعضهما تحت ضوء لوحة، لا تبحث عن الكمال، بل عن الشعور. 

وبين رائحة الألوان، وضجيج الصمت، ولدت بداية... لا اسم لها بعد، لكنها بدأت. 

                     الفصل الثالث من هنا
تعليقات



<>