رواية في حضرة الحب
الفصل الاول1بقلم فادي عمر
لم تكن المدينة كما تخيّلتها نور.
لم تكن ناطحات السحاب، ولا أضواء الشوارع، ولا الزحام الذي لا يهدأ... كانت شيئًا آخر. كانت امتحانًا صامتًا للصبر، واختبارًا مستمرًا للنية.
حين نزلت من الحافلة في أول صباح لها، كانت تحمل حقيبة خفيفة، وقلبًا ثقيلًا بالاحتمالات.
"أين سأكون بعد سنة؟ هل سأحتمل؟ وهل سيعرف أحد أنني وصلت؟"
أسئلة تتطاير في رأسها كأوراق الخريف في طريق ريفي.
دخلت مبنى الشركة بخطوات مترددة، تختبئ خلف قميص أبيض مكوي بعناية ومعطف رمادي قديم استعارتْه من أختها.
في عينيها بريق التحدي، لكن على أطراف شفتيها ارتجافة الخوف.
وعلى الطرف الآخر من الطابق، كان رامي يتابع ساعة معصمه وكأنها ستفكّ له لغز الحياة.
يجلس خلف مكتب زجاجي، أوراقه مرتبة كأنها لا تُقرأ بل تُحفظ في متحف.
في الثلاثين من عمره، طويل القامة، ملامحه رزينة... لكن خلف ذلك الهدوء الواثق، شيء من التعب، وشيء من الوحدة.
ولد رامي في عائلة اعتادت النجاح، وكأن كل فردٍ فيها وُلد بخارطة طريق مرسومة بدقة: المدارس الأرقى، الوظائف الأهم، العلاقات الأرفع.
لكنه، منذ سنوات، بدأ يشعر بشيء لا يراه الآخرون…
كل إنجاز جديد لم يكن يُشبع شعور النقص الذي لم يفهم سببه.
كل ابتسامة اجتماعية كان يضعها كقناع فوق عيون مرهقة من التمثيل.
كان يحب النظام، يقدّس العمل، ويهرب منه في الوقت ذاته.
لم يكن قاسيًا، بل حذرًا.
لم يكن متكبرًا، بل متورّطًا في الدفاع المستمر عن صورة لم يخترها، بل وُلد داخل إطارها.
وحين طرقَت نور باب المكتب للمرة الأولى لتقدّم نفسها، لم يكن لقاءً عاديًا.
بل كان كأنّ شخصين من عالمين مختلفين يتصافحان للمرة الأولى، وكلٌ منهما لا يعرف لغة الآخر بعد.
قالت نور بصوتٍ خافت، يخفي وراءه جبلاً من الجرأة:
ـ صباح الخير، أنا نور... الموظفة الجديدة.
رفع رامي نظره، رمقها بسرعة، ثم عاد إلى شاشته.
لم يكن تجاهلاً، بل محاولة لتجنّب ذلك الشعور الذي بدأ يوقظه فيها…
ذلك الشعور القديم، الذي نسيه وسط الزحام، والذي همس له فجأة:
"ربما الحياة أكثر من جدول عمل."
منذ تلك اللحظة، بدأت المدينة تتغير في عينيها.
لم تعد الطرق طويلة كما كانت، ولا البنايات باردة كما ظنت.
شيء ما بدأ يتسلل إلى تفاصيل أيامها، شيئًا لم تفهمه بعد، لكنه... يبتسم.
كان المكتب صامتًا كأنّه لا يتنفس، سوى صوت جهاز التكييف وخربشات أقلام متفرقة هنا وهناك.
نظرت نور إلى الزملاء في الطابق، الكل منشغل، لا أحد ينظر. شعرت للحظة أنها طيفٌ شفاف، مرّ دون أن يُلحظ.
لكنها لم تكن من أولئك الذين ينسحبون.
ابتلعت ارتباكها، وعدّلت وضع حقيبتها، ثم سألت:
ـ معلش، حضرتك أستاذ رامي؟ قالولي إنّي هكون تحت إشراف حضرتك أول أسبوع.
رفع رامي نظره للمرة الثانية. هذه المرة أطال النظر قليلًا.
عيناها فيهما شيء نقي، شيء يذكّره بنسخة منه قبل سنوات، قبل أن تُثقل المدينة روحه بالتفاصيل.
قال بلهجة مقتضبة لكنها هادئة:
ـ أه، تمام. اتفضلي، اقعدي.
ثم أشار إلى مكتب صغير بمحاذاة مكتبه، أُعدّ لها مسبقًا.
جلست نور، تداري ارتباكها بابتسامة مجاملة.
فتحت مفكرتها، وقلمها بيدها، كأنها تستعد لأول معركة.
مرّت الدقائق الأولى بصمتٍ ثقيل، كلٌّ منهما يُراقب الآخر من طرف عينه.
رامي لاحظ طريقة جلوسها المنضبطة، كيف ترتب أوراقها، وتحاول فهم النظام دون أن تزعج أحدًا.
كانت تحاول أن تبدو قوية...
لكنّه اعتاد أن يرى القلق في نظرات الناس، وتلك النظرة في عينيها قالت له كل شيء:
"أنا جديدة هنا... ولا أريد أن أُكسر."
سألها بهدوء، دون أن ينظر إليها:
ـ أول مرة تشتغلي في شركة كبيرة؟
هزّت رأسها إيجابًا، وقالت بصوت خفيف:
ـ أول مرة أشتغل أصلاً... بس اتعلمت كتير لوحدي. بحاول.
أغمض عينيه للحظة، ثم قال كأنّه يحادث نفسه:
ـ أحسن حاجة إن الواحد يحاول، مهما كانت البداية صعبة. المهم ما يقفش.
نظرت إليه، بتلك النظرة التي يملكها من نشأوا في الريف... خليط من الاحترام والتساؤل والإعجاب الحذر.
لم تكن تعلم إن كان قاسيًا أم فقط... حذر جدًا.
وبينما مرّت الساعات الأولى من يومها، شعرت نور أن تلك المدينة الصاخبة بدأت تهدأ قليلًا.
أن وراء الأبواب الزجاجية، وقواعد العمل المعقدة، ربما هناك مساحة صغيرة تُدعى "الدفء".
وأن هذا الرجل، رامي، وإن بدا صلبًا… يخفي شيئًا لم تفهمه بعد.
في آخر اليوم، وقفت عند باب المكتب، وقالت بصوتٍ خفيض، لكن فيه امتنان حقيقي:
ـ شكرًا يا أستاذ رامي، على صبرك النهارده.
لم يجب. فقط رفع عينيه، وقال بنبرة هادئة:
ـ بكرا هتكوني أحسن.
ثم عاد إلى شاشته، لكنّ ابتسامة صغيرة، بالكاد مرئية، تسللت إلى ملامحه… وكأن شيئًا جديدًا بدأ.
