رواية في حضرة الحب الفصل الثاني2بقلم فادي عمر


رواية في حضرة الحب
 الفصل الثاني2
بقلم فادي عمر


في صباح اليوم التالي، استيقظت نور قبل موعدها بساعتين.
لم يكن بسبب الخوف من التأخير… بل لأنّ النوم نفسه صار ترفًا في هذه المدينة التي تسرق الأحلام من على الوسادة.
ارتدت نفس المعطف الرمادي، وربطت شعرها كما في اليوم السابق، لكنّ في عينيها هذه المرة شيء مختلف:
نقطة أمل صغيرة، بالكاد تُرى، لكنها تضيء العالم كله. 

دخلت الشركة، تجاوزت الأمن بخطوة أكثر ثباتًا، ابتسمت لعامل النظافة، ثم صعدت إلى الطابق كما لو كانت تعرفه منذ زمن.
حين وصلت، وجدت المكتب خاليًا، عدا رامي، الذي كان هناك كعادته… قبل الجميع. 

كان يرتشف قهوته السوداء ببطء، يقرأ تقريرًا على شاشة الحاسوب، ونصف انتباهه فقط حاضر.
لم يلتفت عندما دخلت، لكنه قال بصوته الهادئ:
ـ صباح الخير، نور. 

توقفت لحظة، لم تكن تتوقع أن يتذكر اسمها.
قالت بخجل لا تخفيه:
ـ صباح النور. 

جلست بهدوء، ثم بدأت تراجع المهام التي أوكلها لها بالأمس.
لاحظ هو ذلك. لم يعلّق، لكنه كتب ملاحظة في نفسه:
"بتركّز... وبتحاول. ده لوحده كفاية." 

مرّت ساعة، وساعتان، دون حديث.
لكنّ الصمت بينهما لم يكن ثقيلًا كما بالأمس… بل كان نوعًا من الهدنة بين عالمين.
هو يُنجز أعماله، وهي تحاول أن تواكب الإيقاع. 

في وقت الاستراحة، ترددت نور قليلًا، ثم جمعت شجاعتها وسألت:
ـ حضرتك بتحب الشغل؟
نظر لها بدهشة، كأنّه سمع سؤالًا لا يُطرح عادة.
ثم ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال:
ـ السؤال ده سهل وصعب في نفس الوقت.
ـ يعني؟
ـ يعني... بحب النتايج، بس أوقات بكره الرحلة.
ضحكت نور بصوت خافت، وقالت:
ـ وأنا بحب الرحلة… يمكن لأني لسه مشوفتش النتايج. 

توقّف للحظة. تلك الجملة أصابته في عمقٍ لم يتوقعه.
هو الذي اعتاد أن يرى كل شيء بأرقام وجداول، نسي متى كانت آخر مرة استمتع فيها بـ"الرحلة". 

قال بعد صمت:
ـ خليكي كده. متخليش المدينة تغيّرك بسرعة.
نظرت إليه نظرة طويلة… لم تكن تعلم إن كان يوصيها أم يحذّرها… أم يتمنى أن يجد في نفسه ما يراه فيها. 

وفي تلك اللحظة، لم يكن بينهما شيء… سوى احترام صامت، وميل خفي، يتسلل بهدوء مثل نسمة في شارع مزدحم.
لكنهما لم يدركا بعد أن ما يبدأ بهدوء… قد يشتعل فجأة.

في المساء، كانت السماء تمطر خفيفًا، كأنّ المدينة تغسل وجوهها من تعب النهار.
أنهت نور دوامها متأخرة قليلًا، كانت منهمكة في إنجاز بعض المهام الإضافية التي كُلّفت بها، عندما سمعت صوت خطوات تقترب خلفها. 

التفتت، فوجدت رامي يقف بهدوء، يحمل مظلّته، وعلبة صغيرة بيده. 

قال دون مقدمات، ونبرته حيادية كعادته:
ـ نسيتِ غداكِ على المكتب… لقيته فوق الورق.
ناولها العلبة البلاستيكية الصغيرة، ثم أضاف:
ـ ما ينفعش تشتغلي طول اليوم من غير ما تاكلي.
نظرت إليه بدهشة... لم يكن الأمر في الطعام، بل في انتباهه، وفي طريقته التي تُخفي اهتمامًا خلف ستار البرود. 

قالت وهي تأخذ العلبة بخجل:
ـ شكراً… بس إزاي خدت بالك؟
أجاب بسرعة، دون أن ينظر مباشرة:
ـ مافيش حاجة بتعدي من غير ما آخد بالي. خصوصًا الحاجات اللي مالهاش صوت. 

ثم استدار، وبدأ يمشي نحو المصعد.
وقبل أن يدخل، التفت فجأة، ونظر إليها نظرة خاطفة، وقال:
ـ لو لسه الدنيا بتمطر وإنتِ ماشيه… استني عند الباب، أنا هوصّلك. 

لم تنتظر أن ترد.
اختفى داخل المصعد، تاركًا قلبها يخفق بأسئلة لا إجابات لها.
من هذا الرجل؟ ولماذا تشعر بأنه يرى فيها شيئًا لا تراه هي بعد؟ 

خرجت من الشركة بعد نصف ساعة، كانت تمطر فعلًا، وأمام الباب الخارجي، وجدت رامي واقفًا… يمسك بمظلته، بانتظارها. 

قال ببساطة، دون أي ابتسامة أو مجاملة:
ـ يلا. 

سارا معًا تحت المظلة… جسدان تحت المطر، وصمتٌ بينهما، لكنّه ليس صمتًا عادياً.
كان صمتًا يصرخ بأشياء كثيرة. 

على الرصيف الضيّق، كانت تقترب منه خطوة بخطوة، لكنه لم يتحرّك.
كأنّه تعمّد أن يبقي المظلة ثابتة، حتى تضطرّ هي إلى الاقتراب أكثر. 

قال فجأة، وعيناه للأمام:
ـ على فكرة… أنتي مختلفة.
ـ مختلفة إزاي؟
ـ مش عارف… بس يمكن علشان مش متعودة تخبّي اللي بتحسيه. 

سكتت، قلبها يرتجف، لا تعرف ما إن كانت تلك الكلمات مدحًا… أم إنذارًا. 

وصلت إلى نهاية الشارع، حيث تفترق طرقهما.
قالت بخفوت وهي تقف:
ـ شكراً إنك وصّلتني.
أجاب بنبرة منخفضة:
ـ أنا بس مش عايز المدينة دي تاكلك… زينا كلنا. 

ثم رحل.
وبقيت هي واقفة، تحت المطر، تتأمل تلك الجملة التي التصقت بروحها. 

"زينا كلنا"...
هل كان يعترف أنه ضاع؟ أم كان يطلب منها أن تنقذه؟ 

شيء واحد فقط كان مؤكدًا…
أن هذه المدينة، التي بدت لها قاسية وباردة، بدأت فجأة تنبض بشيء لا اسم له بعد.
وربما، فقط ربما، كانت على وشك أن تقع في حبّ رجل… لم يعرف بعد أنه هو أيضًا يبحث عن الخلاص. 


                     الفصل الثالث من هنا

تعليقات



<>