رواية خلف الوجوه البيضاء الفصل الاول1بقلم اسلام الحريري


رواية خلف الوجوه البيضاء
 الفصل الاول1
بقلم اسلام الحريري

كانت المدينة في مساء ذلك اليوم تشبه وجهًا أنهكته الأقنعة... صامتة، مرتجفة من الداخل، كأنها تخشى أن تنظر في المرآة فترى ما لا يجب رؤيته. مبانيها الحديثة تلمع كواجهات كاذبة، لكن في الزوايا، في العتمة، كانت الحقيقة تتكوّم كجثة نُسيت عمدًا. 

لم يكن أدهم مراد قد وطأ هذه الأرض منذ ثلاث سنوات. خرج منها كما يُطرد من حلم لم يكتمل، مطرودًا من قسم الشرطة بعد حادثةٍ أغلقت ملفه بختم "عدم الكفاءة"، وإن كانت الحقيقة أعمق من ذلك بكثير.
لكنهم أعادوه الآن... لا لأنهم صدّقوا براءته، بل لأنهم لم يجدوا من يملك شجاعة النظر في وجه الجريمة. 

وقف عند حافة الرصيف، ينظر إلى البناية التي ضُبطت فيها آخر جريمة. البناية ذاتها التي كانت بالأمس مجرد عنوان، صارت اليوم فصلاً في رواية لا يفهم أحد نهايتها. 

"ثلاثة قتلى خلال أسبوع واحد... وجوههم مغطاة بأقنعة بيضاء، مطابقة لوجوه أحياء لا علاقة لهم بالجريمة."
تمتم الشرطي الشاب الواقف بجانبه، وعيناه تتفادى التقاء عيني أدهم. 

أجابه أدهم بصوت خافت، وكأنه يتحدث إلى نفسه:
"لكن القاتل لا يترك أثرًا... فقط قناعًا، ورسالة مشفّرة عليه." 

الضحية الثالثة كانت فنانًا مشهورًا، محبوبًا من الجمهور، لا ماضٍ مظلم ولا سجل إجرامي، حتى الصحف لم تجد ما تلوّث به سمعته بعد موته.
لكن أدهم... لم يصدّق الصورة اللامعة. لم يكن يومًا يؤمن بالوجوه، بل بما خلفها. 

صعد الدرجات المؤدية إلى الشقة ببطء، خطواته تُحدث صدىً في المبنى كأن كل جدار فيه ينتظر أن يُنطق بالحقيقة.
فتح الضابط الباب، وكأن المشهد داخله كان يحبس أنفاسه منذ أيام. 

الضحية جالسٌ على الكرسي، ظهره مستقيم، يداه على فخذيه، كأنما استقبل موته بكامل وعيه. وعلى وجهه... القناع الأبيض.
كان مشهدًا غير طبيعي في هدوئه. 

اقترب أدهم، تأمل ملامح القناع. لم يكن مجرد شكلٍ عام، بل نسخة مطابقة لوجه قاضٍ ما زال حيًّا... اسمه "أمين الصايغ". 

"نفس التقنية..."
قالها أدهم، ثم التفت إلى المحققة التي كانت تراقبه بصمت منذ دخوله.
"طباعة ثلاثية الأبعاد... دقة مرعبة. وكأن القاتل ليس مجرد قاتل، بل نحات... أو عالم نفس." 

همست المحققة:
"هناك شيء آخر... الرسالة." 

ناولته بطاقة صغيرة كانت ملقاة أسفل المقعد، عليها شيفرة مطبوعة بعناية.
أخرج أدهم جهاز فك التشفير المحمول، ولمّا أدخل الرموز، ظهرت عبارة وحيدة: 

"الطُهر لا يعني البراءة... اسأل عن الملاك الأبيض." 

تجمدت نظراته، كأن الكلمات لامست شيئًا قديمًا في ذاكرته، شيء لم يتجرأ على نبشه. 

"الملاك الأبيض؟"
سأل الضابط الشاب بتردد، لكن أدهم لم يُجبه. كان ينظر في الفراغ، كما لو أن اسمه كُتب على جدار النسيان، وعاد الآن لينتقم. 

خرج من الشقة وهو يتمتم:
"العدّ التنازلي بدأ... وأنا جزء من اللعبة." 

وقبل أن يغادر المبنى، لمح اسمه محفورًا بخط دقيق على زاوية القناع، لم يكن مرئيًا للوهلة الأولى.
اقترب منه، قرأه بصوت مبحوح: 

"أدهم مراد." 

وانتفض داخله سؤال واحد لم يجد له إجابة:
"لماذا وجهي... على قائمة الموت؟"

... كانت الرائحة في الشقة ثقيلة، لا تشبه رائحة الموت العادي، بل رائحة خطيئة قديمة أعيد فتح قبرها. أدهم، رغم كل ما خبره من جرائم ودم، شعر بشيء في داخله ينقبض، كأن هذا الموت تحديدًا يعرفه… بل ينتظره. 

كان يُحدّق في اسمه المحفور على زاوية القناع، لا عن فضول… بل عن رعبٍ خافتٍ تسلل إلى صدره كدخان حريق لم يُعلن بعد. 

"شوفت الاسم؟"
سألته المحققة. كانت امرأة لا تبتسم. عيناها ثاقبتان، كأنهما تراقبان ما خلف الملامح لا ما يظهر فقط.
"ليه القاتل يكتب اسمك؟ تهديد؟ استهزاء؟ ولا... دعوة؟" 

رد أدهم بنبرة جامدة:
"القاتل مش بيديني خيار... هو بيقوللي: أنا شايفك." 

سارت المحققة خلفه إلى السلالم، ثم قالت:
"أنا مش من اللي بيصدقوا الخرافات، بس الجريمة دي مش طبيعية."
أجابها، وهو ينزل الدرج كأنه يهرب من الأشباح التي خلف الباب:
"ولا أنا من اللي بيصدقوا الأمل." 

عند باب المبنى، كان الليل قد أسدل ستائره بالكامل. الشارع صامت، والأنوار الخافتة تسكب ظلالًا طويلة على الأرض كأنها قبور مفتوحة تنتظر ساكنيها. 

فتح أدهم باب سيارته، ثم التفت إليها:
"اسمه مش القناع... اسمه الرسالة. والقاتل مش بيقتل علشان المتعة، ده بيبعث كود، لكل جريمة تفسير… وكل وجه… قصة." 

أشعل سيجارته، نظر إلى الأعلى، إلى النوافذ السوداء، ثم همس:
"ثلاثة وجوه... ثلاثة أقنعة... بس في وشّ رابع جاي." 

سألته:
"إنت متأكد؟" 

ابتسم بسخرية وقال:
"لو كنت القاتل، مكنتش هاوقف عند تلاتة." 

تركها واقفة تحت المطر الخفيف، وسار بسيارته نحو العتمة. داخل عقله كانت الذكريات تتزاحم…
سنوات مضت منذ آخر مرة سمع فيها ذلك الاسم: "الملاك الأبيض". 

كان الاسم رمزًا لمهمة قديمة، أُغلقت بسرية تامة، كانت دماء الأبرياء تُسفك باسم العدالة، وكان أدهم… شاهدًا على كل شيء. لكنه صمت. ساعتها اختار أن يصمت. 

لكن أحدًا لم ينسَ... وها هو الماضي يكتب على وجوه الموتى خطاياه.
وأدهم... لم يكن يعلم إن كان هو المحقق هذه المرة... أم الضحية القادمة. 

"خلف كل قناع… في سرّ."
قالها لنفسه وهو ينظر في مرآة السيارة… لوهلة، خُيّل إليه أن وجهه تغيّر… أو ربما لم يكن يومًا كما ظنه. 

"من نحن… حين تختفي وجوهنا؟"
سؤال لا يليق بالمحققين، بل بالهاربين من أنفسهم.
وأدهم… لم يعد يملك وجهًا للهروب.


                    الفصل الثاني من هنا

تعليقات



<>