رواية خلف الوجوه البيضاء الفصل الثاني2بقلم اسلام الحريري


رواية خلف الوجوه البيضاء
 الفصل الثاني2
بقلم اسلام الحريري


كانت السيارة تسير ببطء عبر الطرق المظلمة، وكانت عينا أدهم مغمضتين خلف نظارته الشمسية، رغم أن الليل قد ألقى بظلاله على المدينة منذ وقت طويل. كان صوته منخفضًا، يهمس أكثر مما يتحدث، كأنه يبوح بما لم يُقال بعد، وما يجب أن يُخفى. 

"الكل بيحاول ينسى، بس الماضي بيشوفنا... ما بنقدرش نهرب منه." 

أغمض عينيه للحظة، كما لو أنه يحاول الهروب من ذلك الصوت الذي ظل يلاحقه. كان الصوت صوتًا قديمًا، لا يزال يدوي في أذنه من حادثة تلك الليلة التي غيرت كل شيء. 

الحادثة التي لا يزال يراها أمامه بوضوح كأنها وقعت بالأمس. 

"أدهم مراد... ما كنتش عايزها تموت." 

قالتها أصوات رجال الأمن في تلك اللحظة، كأنهم يستنكرون فعله، ولكن الحقيقة كانت أبشع. كل شيء كان مستورًا في تلك اللحظة… في تلك الحجرة المغلقة التي تكشفت فيها الأسرار. وما كان يراه الآن من وجه القاتل كان يشبه ما رأته عيناه في تلك الحجرة منذ سنوات مضت، لحظة لا يستطيع محوها مهما حاول. 

"أنت ضابط مش قاتل، فهمت؟" 

قالها المحقق، لكن كلمات أدهم كانت متمردة في تلك اللحظة، كانت ترتجف بداخل قلبه وهو يرى وجه زميله الذي سقط في تلك المعركة. من حينها بدأ كل شيء يتغير. كانت تلك اللحظة بمثابة الخطوة الأولى في مسارٍ مظلم… كان فيها الندم، كان فيها الحزن، وكان فيها وجه الملاك الأبيض. 

وصل إلى مكانه في منتصف المدينة. المدينة التي كانت تبدو وكأنها غريبة عنه، حتى وإن كان قد عايش شوارعها وميادينها لسنوات. أوقف السيارة أمام مبنى قديم، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يخرج منها. 

"هنا المكان اللي فيه كل حاجة بدأت... مش عارف ليه، بس قلبي بيقول لي إن في حاجة لسه مخفية هنا." 

بدأ يسير باتجاه المدخل المظلم للمكتبة التي اختارها كملجأ لحل هذا اللغز المشتعل بداخله. كانت الأضواء ضعيفة، والجدران المغطاة بالغبار تعكس صورة الماضي البعيد، الذي لا يزال يتبع خطواته، حتى وإن كان يحاول الهروب منه بكل قوة. قلبه ينبض بشدة مع كل خطوة يخطوها نحو الداخل. 

دخل إلى المكتبة، وقلبه يرتجف من ذلك الشعور الذي لا يستطيع تفسيره. الزمان هنا وكأنّه توقف، والهواء كان يثقل رئتيه. لكن رغم كل شيء، كان لا بد من أن يواجه نفسه، يواجه ذلك الجزء المظلم الذي كان يظن أنه غادره. 

"هل أنت مستعد لملاقاة الحقيقة، يا أدهم؟" 

همس صوته في داخله، ولكن لم يكن هناك من جواب سوى الصمت. 

فتّش بين رفوف الكتب القديمة، التي قد لا تحمل إلا غبار الزمن. ثم وقف أمام الكتاب الذي كان يحمل اسمًا غريبًا عليه، كان يُسمى "الملف الأبيض." 

أخذ الكتاب بين يديه وأدرك في تلك اللحظة، أن الإجابة التي يبحث عنها، ربما تكون مخبأة بين طياته. فتح الكتاب ببطء، ثم وجد نفسه أمام ملف مليء بالأسرار القديمة، فقرات مربكة، وصفحات مليئة بالكلمات التي تبدو عشوائية في البداية، لكن مع كل كلمة كان يشعر بأنها تقترب أكثر من ماضيه الذي ظن أنه قد دفنه إلى الأبد. 

توقف قلبه عندما وصل إلى صفحة معينة، تحمل صورة قديمة جدًا له. كان هو، لكن الوجوه من حوله كانت غريبة. كان جالسًا في حلقة دراسية، وعلى الطاولة أمامه كانت تجارب لم يسبق له أن شاهَد مثلها في حياته. كانت تلك اللحظة، هي اللحظة التي بدأ فيها كل شيء. 

"إزاي دي صورة من زماااان... ما أعتقدش إني شُفتها قبل كده." همس أدهم لنفسه وهو يحدق في الصورة. لكن السؤال الحقيقي كان في داخله، هل هذه اللحظة هي بداية النهاية؟ أم أن هذه اللحظة ستكون بداية لكشف الحقيقة المخبأة وراء الوجوه البيضاء؟ 

"هل أنت مستعد يا أدهم؟" 

كان الصوت في داخل رأسه الآن يرتجف وهو يتنقل بين صفحات الكتاب، ويستمر في اكتشاف المزيد عن "الملاك الأبيض" والمشروع الغامض الذي كان مرتبطًا به دون أن يدري. إنه يقترب من اكتشاف شيء لا يمكن له الهروب منه... شيء أكبر من مجرد جريمة قتل.

كانت أضواء المدينة الباهتة تنعكس على زجاج السيارة الذي كان أدهم يحدق فيه بشغف. خلف نظارته الشمسية، كانت عيناه تراقب الطريق المظلم، بينما كان قلبه مشغولًا بأفكار لا تهدأ. أدهم كان يعرف أنه لا مفر، مهما ابتعد عن ذلك الماضي المظلم، فكلما حاول الهروب، كان الماضي يتسلل إليه من جديد. اليوم، وهو يذهب إلى المكتبة، كان قد اتخذ قراره. كان يريد أن يعرف كل شيء. 

"أنت بتجري وراء سر مجهول، يا أدهم. في حاجة مش واضحة، وكل خطوة بتقربك أكتر من الجواب، بس كمان بتقربك أكتر من النهاية." 

كانت تلك الكلمات تتردد في عقله، كلمات أحد المحققين الذين عمل معهم في السنوات السابقة. كان المحقق يعرف أكثر مما يقول، وكان يعرف كيف يزرع الشك في نفس أدهم. 

أوقف السيارة أمام المكتبة القديمة، تلك المكتبة التي كانت تعرف كل شيء عن بلدة لا يُذكر اسمها كثيرًا. كانت جدرانها القديمة مليئة بالأسرار التي لم تُحكى، وأرفف الكتب التي لم تُفتح منذ عقود. 

"السر هنا... وكل حاجة هتكون واضحة." 

قال أدهم هذه الكلمات لنفسه وهو يفتح الباب ببطء. كان الصوت الخافت للباب يعلو في الصمت القاتل للمكتبة. ثم دخل، ليجد نفسه في مكان آخر، مكان يعيد له ذكريات قديمة. 

"مكتبة آل قنطار... مش ممكن... لسه في حاجة هنا مش مفهومة." 

توقف أمام رفوف الكتب القديمة. كان الهواء في المكان ساكنًا، كما لو أن الزمن قد توقف هنا منذ سنوات طويلة. كانت الكتب مليئة بالغبار، وبدت وكأنها تنتظر شخصًا ليحركها، ليكتشف ما كان مخفيًا بين صفحاتها. 

أخذ أدهم نفسًا عميقًا بينما كان يمر بيده على الكتب المتراكمة. ثم توقف عند كتاب غريب كان يُحتفظ به بعيدًا عن البقية. الكتاب كان يحمل عنوانًا بسيطًا، لكنه غامض في نفس الوقت: "الملف الأبيض." 

"الملف الأبيض؟ ده مش اسم كتاب عادي." 

همس أدهم لنفسه بينما كان يلتقط الكتاب بحذر. شعر بشيء غريب في قلبه، كأن الكتاب ينجذب إليه بطريقة لا يستطيع تفسيرها. 

جلس على الطاولة الخشبية أمامه وفتح الكتاب ببطء، ثم بدأت صفحاته تتناثر أمامه، وكأنها تتحدث إليه. 

"دي الصور اللي مش ممكن تكون موجودة... من أين دي؟" 

كانت الصور داخل الكتاب هي نفسها التي رأها في ذاكرته قبل سنوات. كان هو في الصور، لكنه لم يتذكر أبدًا أنه كان هناك. كانت الوجوه من حوله غريبة، لكن هناك شخصًا واحدًا كان يقف في الصورة بجواره... كان "الملاك الأبيض." 

أدهم غمغم لنفسه: "إزاي ده حصل؟ أنا كنت في مكان ده قبل كده؟" 

ثم جاءه الصوت المألوف من خلفه، وهو يعرفه جيدًا: 

"أدهم، متقلقش. إحنا كلنا كنا هنعيش في نفس الدائرة." 

استدار أدهم بسرعة، ليجد نفسه أمام شخصية كانت جزءًا من ماضيه، لكنه لم يتوقع أن يظهر هنا، في هذا المكان، في هذا الوقت. كان رامي، زميله السابق في الجيش. 

"أنت هنا ليه، رامي؟" سأل أدهم بحدة. 

"كنت عارف إنك هتيجي، كنت مستنيك." 

رد رامي بابتسامة غريبة على وجهه، وأدهم شعر بشيء غير مريح في قلبه. كان يعرف أن رامي ليس مجرد زميل عادي، كان يحمل أسرارًا كثيرة، أسرار تتعلق بماضيهم المشترك. 

"إيه السر ده اللي جابك هنا؟" 

أدهم سأل وهو يحاول أن يقرأ تعبيرات وجهه. رامي نظر إلى الكتاب الذي بين يدي أدهم، ثم قال بصوت منخفض: 

"الكتاب ده هو اللي هيفضح كل حاجة، أدهم." 

"إيه يعني؟ أنا مش فاهم." 

قال أدهم وهو يزداد توترًا. كان قلبه ينبض بسرعة. كان يشعر أن الأمور تتسارع، وأنه يقترب من اكتشاف شيء لا يمكن أن يهرب منه. 

"الكتاب ده مش مجرد كتاب، يا أدهم. ده بوابة." 

رامي قال الكلمات ببطء، كأن كل كلمة ثقيلة على لسانه. أدهم تراجع إلى الوراء، كما لو أن شيئًا غير مرئي يضغط عليه، يجبره على سماع المزيد. 

"بوابة؟ بوابة لإيه؟" 

"بوابة لماضيك، وللأشياء اللي أنت مش فاكرها. والملف الأبيض ده مش جايب معاه سر واحد، جايب معاه كل الأسرار." 

أدهم شعر بالدوار. كانت كل تلك الأفكار التي كانت تدور في رأسه تتداخل، وتصبح أكثر تعقيدًا. كان يعتقد أنه سيكتشف شيئًا عن الماضي، لكن يبدو أن كل شيء كان أكثر تعقيدًا مما تصور. 

"إيه يعني كل ده؟ وماله الملاك الأبيض ده؟" سأل أدهم، وهو يحدق في رامي. 

رامي ابتسم ابتسامة غير مفهومة وقال: 

"هو مش شخص، يا أدهم. هو فكرة... فكرة كانت بتحاول تسيطر علينا." 

أدهم شعر بأن العالم ينهار من حوله. كل شيء كان يتناثر حوله الآن. الماضي الذي كان يحاول الهروب منه أصبح أقرب إليه. كان في قلب دوامة، وكان عليه أن يكتشف الحقيقة الآن، مهما كانت. 


                    الفصل الثالث من هنا


تعليقات



<>