رواية اصوات الليل
الفصل الثالث3
بقلم فادي مسالمه
في تلك الليلة، كما جرت العادة في أيام الصيف الطويلة، كانت ريما تجد نفسها مستلقية على السرير، عينها على السقف، أفكارها تتنقل بين الماضي والحاضر، وبين ما قاله سامر ودفء يده التي لامست يدها. كانت تشعر بشيء غريب داخلها، شعور لم تعهده من قبل. كان صوت قلبها يعلو ببطء، في إيقاع متسارع، بينما العقل يرفض التصديق.
سامر لم يكن مثل أي شخص آخر في حياتها، وكان حديثه مختلفًا، مليئًا بالصدق الذي يثير الخوف داخلها. كيف يمكن لشخص غريب أن يدخل حياتها بهذه السلاسة، يترك أثرًا في كل زاوية، ثم يختفي فجأة؟ لا، هي لا تستطيع أن تُفكر بهذه الطريقة. كانت تعلم أن سامر كان يحمل شيئًا آخر في عينيه، شيئًا لا تستطيع أن تهرب منه، رغم خوفها الشديد من الوقوع فيه.
**
في صباح اليوم التالي، بعد يوم طويل من العمل في الحقول، جلست ريما على حافة السور الخشبي في الحديقة الخلفية لمنزلها، تكاد ترى الأفق البعيد يمتد أمامها مثل لوحة فنية هادئة. كان الهواء يحمل رائحة الأرض الرطبة والشمس تسطع بلطف على وجهها.
سامر مرّ من أمام منزلها، كعادته، لكنه هذه المرة أوقف سيارته بالقرب منها. كان واضحًا من ملامحه أنه كان في صراع داخلي أيضًا.
سامر (مقتربًا منها ببطء):
ـ ريما... عندك دقيقة؟
ريما (تنظر إليه بعيون تحمل تساؤلات عديدة):
ـ دائمًا عندي وقت لأنت.
**
جلس بجانبها على السور، وحين نظر إليها، كان صوته خافتًا لكنه مليء بالتوتر.
سامر (مبتسم ولكن بمرارة):
ـ بدي أحكي معك عن شيء، بس مش عارف كيف أبدأ.
ريما (بهدوء، موجهة عينيها نحو الأفق):
ـ قول اللي بداخلك، سامر. دايمًا بحكي معك بدون ما أخاف.
**
كان سامر يلتقط أنفاسه، وكأن الكلمات ترفض الخروج من فمه.
سامر (بتردد):
ـ ما بعرف إذا كنت جاهز لمواجهة حالي... يعني من يوم ما رجعت لهون، صار عندي شي غريب تجاهك... يمكن عشان أنتِ مش زي أي شخص عرفته قبل. فيك شيء مش قادر أشرحّه. مشاعري مربكة، وأنا خايف.
ريما (تلتفت إليه، عيونها مليئة بالحيرة):
ـ خايف من شو؟ من الوقوع في شيء ما بتقدر تسيطر عليه؟
سامر (بنبرة ثقيلة):
ـ خايف من إنّي أؤذيك... من إنّك تكوني جزء من حياة مليانة مشاعر متخبّطة. حياتي مش مستقرة، وأنا مش مستعد لحدا يكون في طريقي.
ريما (تبتسم برقة):
ـ ما في أحد عنده حياة ثابتة، سامر. إحنا كلنا عايشين بخوف من الغد. بس الحياة الحقيقية هي كيف نتعامل مع اللحظة اللي نعيش فيها. ومش ضروري تكون الحياة ثابتة عشان نكون فيها مع بعض.
**
كلامها كان بسيطًا ولكنه كان حقيقيًا. شعر سامر بقلقه يتبدّد قليلاً. كان يحتاج إلى تلك الكلمات البسيطة التي أعادت له الثقة بأن الحياة يمكن أن تكون جميلة حتى في لحظات الضعف.
**
في اليوم التالي، كان هناك حدث غير متوقع. تعرضت ريما لحادث صغير أثناء عملها في الحقل، وسقطت من على السلم الخشبي بعد أن فقدت توازنها. كان الألم شديدًا، لكن لحسن الحظ، لم تكن الإصابة خطيرة.
حينما وصل سامر إلى المكان، كان قلبه يكاد يقفز من مكانه. ركض نحوها بسرعة، وكان أول ما فعله أن حملها بين ذراعيه، محاولًا تهدئتها.
سامر (بقلق شديد):
ـ ريما، شو صار؟ حكيلي!
ريما (تأخذ نفسًا عميقًا، تحاول إخفاء الألم):
ـ ما في شي، بس وقعت شوي. مش مهم.
لكن سامر لم يقتنع، وظلّ يراقب عينيها بقلق.
سامر:
ـ أنتِ مش لوحدك هلق. رح أبقى جنبك، ريما، ما تخافي.
**
حينما حملها وأخذها إلى منزلها، كان صوته هو الصوت الوحيد الذي ملأ المكان.
سامر (وهو يساعدها على الجلوس):
ـ ما كنت لازم أتركك لوحدك، ريما. لو شي صار لك... ما بعرف شو كنت رح أعمل.
ريما (مبتسمة، رغم الألم في عينيها):
ـ كنت رح تبقى هنا معي، صح؟ ما رح تتركني أبدًا.
**
ثم، في لحظة صمت قصيرة، نظر سامر في عيني ريما، ووجد أن كل شيء تغيّر. كان يعلم أن مشاعره نحوها أصبحت أعمق مما كان يتصور. وهذا الشعور، الذي بدأ بشيء خفيف، أصبح جزءًا من كيانه.
**
عندما انتهت تلك اللحظة الصامتة، تبادلا نظرة مليئة بالمعاني التي لم تُقل بالكلمات، لكن كلاً منهما كان يعرف ما يعنيه الآخر في تلك اللحظة.
سامر (بصوت منخفض، بحنان):
ـ ريما... فيك شيء جوّاتي بيقولي إني مش لوحدي. يمكن الوقت مش جاهز، بس حاسس إنه في مكانك أنتِ.
**
كانت نظرة ريما تتأمل وجهه، وقلوبهم تتناغم معًا في هدوء، وهي على يقين أن شيئًا جديدًا قد بدأ بينهما. وكلما طالت اللحظات بينهما، كان القلب يقول لهما: "لا تخافا، الحب يزهر في أبسط الأماكن."
مرّت الأيام بعد الحادث الصغير، وصارت ريما تجد في سامر نوعًا من الوجود الذي لم تعهده من قبل. لم يكن فقط رجلاً لطيفًا أو عابرًا، بل بات يشبه النسمة التي تأتي فجأة وتبقى في المكان حتى بعد رحيلها.
كانت تجلس في الشرفة كل مساء تقريبًا، تنتظر أن يمرّ أو أن يبعث برسالة قصيرة، حتى لو كانت تقول فقط:
"مساء الخير يا ريما، طمني عرجلك."
وكانت تردّ عليه، بترددٍ خفيف، لكنها كانت تبتسم رغمًا عنها.
"أحسن، صارت أقوى شوي... يمكن عشانك."
**
في أحد الأمسيات، اقترح سامر أن يأخدها إلى التلّ الصغير خلف القرية، حيث تطلّ القرية على السهول الممتدة.
سامر (وهو يفتح باب سيارته):
ـ ما بدك تشوفي قريتك من فوق؟ صدقيني، بالليل المنظر بيخلي القلب يهدى.
ريما (وهي تنظر إليه بتردد ثم تبتسم):
ـ بس وعد... نرجع قبل ما أمي تحسّ.
**
في الطريق، لم يكن هناك ضجيج، سوى صوت المحرك ونسمات الريح التي تعبث بشعرها عبر النافذة. كان سامر يختلس النظرات إلى وجهها، ويبتسم كلما لمح ابتسامة خجولة.
**
حين وصلا، خرجا من السيارة، وجلسا على صخرة كبيرة تطل على الوادي. كانت القرية تبدو كأنها صندوق صغير من الضوء، تغفو بهدوء تحت السماء الممتدة.
ريما (وهي تهمس):
ـ بتحس لما بتطلع عليها كأنك عم تتفرّج على حياتك من بعيد؟
سامر (بصوت منخفض):
ـ يمكن... بس لما أنظر لها وإنتِ جنبي، بحس إن الحياة مو بس ماضي... بحس إنه ممكن نبلش من جديد.
**
ساد الصمت، لكنه لم يكن صمتًا ثقيلًا. كان صمتًا مليئًا بما لم يُقال. لحظة هدوء تامة، حيث لم يكن في هذا العالم غيرهما.
ريما (تنظر إليه فجأة، بصوت منخفض):
ـ سامر... إنت حدا مليان وجع، بس بتضحك كأنك ما بتعرف الحزن.
سامر (ينظر إليها طويلاً):
ـ وإنتِ... بتخبي الدنيا بعينك، وبتحكي كأنك ما بدك تكشفي ولا شي.
**
مدّ يده بلطف، ولمس أطراف أصابعها، لم يكن هناك وعد، ولا اعتراف، فقط تلك اللمسة البسيطة التي قالت الكثير.
سامر (بهمس):
ـ إنتِ رجّعتي لي إحساس كنت فاكره مات.
ريما (بابتسامة فيها دمعة):
ـ وأنا... ما كنت بعرف إن في شي ممكن يوجعني ويريّحني بنفس الوقت.
**
وقفت الريح تشهد على تلك الليلة، وكانت الأشجار تحرّك أغصانها كأنها تبارك صمتهما العميق.
حين عادوا، لم يتكلم أحد. لكن القلوب كانت تتكلم، كانت تتلو ترانيم صامتة لا يسمعها إلا من اختبر دفء المشاعر التي تأتي دون تخطيط.
**
في الليالي التالية، بدأت ريما تجد نفسها تكتب كثيرًا في دفترها الصغير، تكتب عن عينيه، عن صمته، عن قلقه وعن تلك الليلة التي شعرت فيها أنها ليست وحدها.
أما سامر، فصار يأتي أكثر، يسألها عن يومها، يساعدها في أشياء بسيطة، يضحك حين تضحك، ويصمت حين تغرق في شرودها.
ذات يوم، قال لها:
"ريما، في أشياء بحياتي ما شرحتها لحدا... بس حاسس إني بقدر أحكيها لإلك، لو بتحبي تسمعي."
ردّت عليه بهدوء، دون أن تلتفت حتى:
"أنا دايمًا بسمعك، سامر... حتى قبل ما تحكي."
