رواية قربك يطمئني الفصل الثالث3بقلم سامر الحريري
في تلك الليلة، لم تستطع سارة أن تنام.
كانت ممددة على فراشها، واللوحة لا تفارق خيالها. لم تكن مجرد صورة... بل بوابة فتحت على عالمٍ لم تكن تظن نفسها قادرة على دخوله. طارق رأى ما لم تره هي في نفسها، وهذا وحده أربكها.
نهضت، وذهبت إلى مكتبها الصغير، أخرجت دفتر ملاحظاتها، كتبت:
“عندما يراك أحدهم كما لم ترَ نفسك من قبل، هل تهرب؟ أم تبقى لترى من أنت حقًا؟”
في اليوم التالي، وبينما كانت تغلق باب عيادتها بعد انتهاء دوامها، وجدت مظروفًا صغيرًا عالقًا أسفل الباب. نظرت حولها، لم يكن هناك أحد. فتحته ببطء، ووجدت بداخله ورقة واحدة، كتب عليها:
"مش كل القصص بتبدأ بكلمة، في قصص بتبدأ بنظرة... وفيه اللي بتبدأ بلوحة."
تحتها توقيع صغير: "ط".
ابتسمت، لكنها سرعان ما عقدت حاجبيها. لم تخبر طارق بمكان العيادة الجديد الذي انتقلت إليه منذ أسبوع.
من أخبره؟ وكيف وصل إليها؟
شعرت بشيء غريب يسري في قلبها، مزيج من الخوف والفضول... لكنه لم يكن مزعجًا، بل أشبه بنداء غامض في ليلٍ ساكن.
وفي اليوم الرابع، حضرت الجلسة في موعدها، لكن طارق لم يكن نفسه.
كان شاحبًا، عيناه غائرتان، وصوته متوتر.
– "فيه حاجات لازم تعرفيها، وأنا كنت بتهرب منها."
سارة (بحذر): "طارق، أنا هنا علشان أسمعك... بس برضه لازم تبقى جاهز تواجه الحقيقة."
أطرق رأسه، ثم قال:
– "أنا رسمتك لأنك شبهي... بتستخبي جوا نفسك."
نظرت إليه طويلاً. لأول مرة، شعرت أن هذا الرجل لا يتحدث كحالة، بل كمرآة لها.
– "عارفة إنك بتخبي حاجة، وبتقنعي نفسك إنك أقوى من كده... بس الحقيقة إنك بتتكسّري كل يوم، بصمت."
انقبض قلبها، لكنها لم تردّ. الكلمات اخترقتها، لا لأنها مؤلمة، بل لأنها حقيقية.
ثم همس:
– "عايزة أحكيلك عن اللي حصل معايا في بيروت... عن الحاجة اللي غيرتني، واللي مخلياني مش قادر أنام من ساعتها."
رفعت رأسها فجأة، لم يسبق له أن تحدّث عن تلك الرحلة التي أشار إليها في أول جلسة، لكنه دوماً تهرّب من تفاصيلها.
– "كنت في معرض فني هناك... قابلت بنت، اسمها ليان. كانت رسامة، مختلفة عن أي حد قابلته قبل كده. ضحكتها كانت ترسم أمل... وعينيها فيها حزن الدنيا. حبينا بعض، وفي يوم..."
صمت فجأة.
سارة (بهدوء): "وفي يوم...؟"
بلع ريقه، ثم قال:
– "انفجر المكان اللي كنا فيه. أنا خرجت، هي لأ."
مرت لحظة صمت ثقيلة.
– "من ساعتها وأنا برسمها، وأدور على عيون تشبها... بس مفيش."
ثم رفع عينيه إليها وقال:
– "لما شفتك، ما شفتش ليان... لكن شفت الوجع اللي كان فيها، وسألت نفسي: هو الحب بيخلص لما الشخص يمشي؟ ولا بيكمل جوه ناس تانيين؟"
سارة لم ترد. شعرت وكأنها أمام باب لم تكن مستعدة لفتحه، لكن يدها كانت على المقبض.
نهض طارق من مكانه وقال:
– "أنا ماجيتش هنا علشان أتعالج... جيت علشان ألاقي السلام."
ثم غادر، دون أن ينتظر ردها.
لكن سارة لم تتحرك. جلست هناك، صامتة، وداخلها صراع. هل تترك هذا الرجل الذي بدأ يحرك داخلها أشياء نائمة؟ أم تضع حدودًا؟
لكنها لم تدرك أن قصتها مع طارق لم تبدأ بعد...
بل كل ما حدث كان مجرد تمهيد للغوص في أعماق لن تكون الرحلة فيها سهلة...
وأن ما تخشاه ليس الحب، بل الانكشاف أمامه.
عادت سارة إلى منزلها ذلك المساء وصوت طارق لا يزال يتردّد في ذهنها.
"هو الحب بيخلص لما الشخص يمشي؟ ولا بيكمل جوه ناس تانيين؟"
كأن كلماته كانت مفاتيح فتحت أبوابًا أغلقتها منذ زمن. لم تكن تعلم لماذا شعرت بأن فاجعة طارق تخصّها، رغم أنهما بالكاد يعرفان بعضهما.
جلست على الأريكة، تناولت هاتفها، وفتحت محرك البحث، كتبت:
“انفجار بيروت – معارض فنية – قبل عامين”
بدأت تقرأ، قلبها ينبض سريعًا. وجدت خبراً عن معرض فني صغير دُمّر بالكامل في الانفجار، ومجموعة من الضحايا لم يُذكر عنهم سوى أسماء قليلة.
توقفت عند اسم: ليان المصري.
ضغطت على الرابط. كانت هناك صورة مرفقة للفتاة... عيناها واسعتان، بريقها مألوف، لكنها ليست تشبه سارة شكلاً... بل شعورًا. نفس النظرة الهادئة التي تخفي العواصف، نفس الغموض.
انكمشت سارة في جلستها، وشعرت بوخز عميق في صدرها. لم تفهم لماذا، لكنها أحست كأنها فقدت شخصًا تعرفه... أو ربما كانت هي تلك الفتاة في قصة أخرى لم تُكتب بعد.
وفي الصباح التالي، وصلت إلى العيادة قبل موعد الجلسة الأولى، لتجد ظرفًا آخر موضوعًا عند الباب.
فتحته بقلق.
كانت ورقة صغيرة، مكتوب فيها بخط طارق:
"لو غبت، متدوريش عليّ... بس لو رجعت، متسألينيش كنت فين."
ارتجف قلبها.
طارق لن يحضر؟ لماذا هذا الغموض؟ ماذا يعني بـ"لو غبت"؟ هل قرر أن يختفي كما اختفت ليان من حياته؟
شعرت سارة بانقباض لم تفهمه، لكنها قررت ألا تصمت.
كتبت له رسالة على الورقة نفسها:
"أنا ما بسألش علشان أتطفّل... أنا بسأل علشان أعرف إذا كنت لسه هنا، أو خلاص مشيت."
تركت الرسالة داخل ظرف، ووضعتها في درج مكتبه في غرفة الجلسات.
وفي المساء، وبينما كانت تطفئ أنوار العيادة استعدادًا للمغادرة، سمعت طرقة خفيفة على الباب الخلفي.
فتحت بحذر... فوجدته.
كان يقف هناك، عابس الملامح، والضوء ينعكس على وجهه المتعب.
قال بصوت منخفض:
– "مقدرتش أمشي... لأنك كتبتيلي."
ثم ابتسم ابتسامة خفيفة، كأنها كسرت بينهما صمتًا طويلاً.
نظرت إليه سارة، ثم قالت بهدوء:
– "أنا كمان... مقدرتش أرجّع الورقة للدرج."
وقفت بينهما لحظة صادقة، بلا كلمات... فقط صمت مليء بالاعترافات.
ربما لم يبدأ الحب بعد، لكن شيئًا أكبر من الارتياح قد وُلد تلك الليلة...
شيء اسمه الاطمئنان.
