رواية خلف الوجوه البيضاء الفصل الثالث3بقلم اسلام الحريري


رواية خلف الوجوه البيضاء 
الفصل الثالث3
بقلم اسلام الحريري




أدهم وقف في مكانه، عيناه معلقتان بالكتاب الذي بين يديه، وكل كلمة في عقله كانت تتناثر كقطع من لغز معقد. كانت الجدران المحيطة به تبدو وكأنها تضيق، والهواء في المكتبة أصبح ثقيلاً. لم يعد بإمكانه الهروب، لم يعد بإمكانه تجنب الأسئلة التي كانت تلاحقه منذ سنوات. 

"ماضيك كله هنا، أدهم." كانت كلمات رامي تتردد في أذنه، لكنه لم يستطع أن يفهم ما يعنيه تمامًا. 

رفع أدهم رأسه لينظر إلى رامي الذي كان يقف بعيدًا عنه، يشع منه ضوء غريب، كما لو أنه يخبئ شيئًا وراء ابتسامته الغامضة. كان أدهم يعرف أن هناك شيء خطير وراء تلك الكلمات، لكن لم يكن يملك القوة ليطلب المزيد من الإجابات. 

"ماذا تقصد؟" سأل أدهم بصوت منخفض، وكأن قلبه بدأ ينبض بسرعة غير معتادة. 

"فيه حاجة مش واضحة، أنت مش لوحدك، يا أدهم. الموضوع أكبر من أي حد يتخيل. الملاك الأبيض... هو مش مجرد فكرة أو شخص. هو قوة، هو التحكم في كل شيء." 

أدهم شعر بشيء ثقيل في معدته، قلبه بدأ يتسارع، والشعور بالقلق يلتهمه. لم يكن يعرف إذا كان رامي يختبره أم أنه يعترف له بشيء أكبر من الخيال. 

"قوة؟ تحكم في مين؟" كانت الكلمات تخرج من فمه بصعوبة. 

"في كل حاجة، في كل تفاصيل حياتنا. في كل حركة، في كل قرار. أنت كنت جزء من الخطة دي من البداية، ما تقدرش تهرب." 

أدهم شعر وكأن الأرض تحت قدميه بدأت تهتز. كانت ذاكرته تعود به إلى لحظات ضبابية، لحظات كانت مشوشة لكنه كان يشعر أنه يملك المفتاح لفهم كل شيء. 

"أنا مش فاهم، رامي. إنت عايز مني إيه؟" 

"أنا عايزك تشوف الصورة كاملة، عايزك تشوف الحقيقة. الملاك الأبيض مش موجود في الكتاب ده، ولا في الصور دي. هو في عقلك، هو سر كنت مدفون، وعلشان تقدر تكمل، لازم تفتح قفل ذاكرتك." 

عقل أدهم كان في حالة فوضى، كان يحاول ترتيب الأفكار، لكنه كان يجد نفسه يغرق أكثر في بحر من الأسئلة. رامي كان يتكلم وكأن كل شيء قد تم الترتيب له مسبقًا. 

"وإنت كنت جزء من ده؟ ليه؟" 

أجاب رامي بتردد، وكان صوته يبدو غريبًا، كأنه يحمل نغمة غير مألوفة، وكأنه يتحدث عن شيء يرهبه هو نفسه: 

"كنت جزءًا من العملية، زيك بالضبط. لكن أنا فشلت، حاولت أهرب، وحاولت أخفي كل حاجة." 

هز أدهم رأسه، لا يستطيع تصديق ما يسمعه. كان يشعر وكأن أفقه ينقلب، وكأن رامي كان يكشف له حقيقة مؤلمة عن نفسه وعن العالم الذي كان يعيش فيه. 

"وأنا؟" سأل أدهم، وهو يحاول أن يثبت نفسه. 

"أنت مش فاهم، يا أدهم. أنا مش بقولك ده علشان أهددك، بس علشان تقدر تنقذ نفسك. أنت محتاج تفهم كل حاجة عشان تبطل تكون جزء من اللعبة دي." 

كانت اللحظة التي فيها تداخلت كل الأحداث، حيث اختلط الماضي بالحاضر، وأصبح أدهم عاجزًا عن التفريق بين الواقع والخيال. كان كل شيء يوشك على الانهيار، وكان يتساءل إذا كان كل هذا مجرد وهم، أم أنه كان فعلاً جزءًا من شيء أكبر وأعمق من أي شيء يمكن أن يتخيله. 

"إيه يعني تنقذ نفسي؟" قال أدهم وهو ينظر إلى رامي في عينيه، يشعر بشيء بارد ينساب في عروقه. 

"أنت لو عايز تخلص من ده كله، لازم تكمل الطريق، لازم تروح للآخر. الكتاب ده مش مجرد دليل، هو مدخل لشيء أكبر، لشيء مش هيفهمه غير اللي كانوا جزء من العملية. والأهم من ده كله، لو فكرت تقف، لو فكرت تتراجع، هتدفع الثمن." 

كلمات رامي كانت ثقيلة، وكأنها تعكس حقيقة مظلمة عن الحياة التي كان يعيشها. أدهم شعر كأن السماء انشقت عن وجهه، وأنه دخل إلى عالم جديد لم يكن مستعدًا له. 

"إزاي بقى؟ إزاي أتجنب ده؟" أدهم كان يتحدث بصوت ضعيف، وهو يحاول فهم ما يحدث حوله. 

"إنت ما تقدرش تتجنب، أدهم. لو انت مش جاهز، هتخسر كل حاجة. بس لو كنت جاهز تكمل، هتكتشف الحقيقة." 

تلك اللحظة كانت حاسمة، لحظة فارقة في حياة أدهم. كان يعرف أنه لا يوجد عودة، كان عليه أن يختار الآن بين متابعة هذا الطريق المظلم، أو أن يهرب إلى ما تبقى له من حياة طبيعية. لكن الطريق كان مسدودًا أمامه، والخيارات أصبحت محدودة جدًا. 

"ما هو الطريق ده؟" 

سأله أدهم وهو يشعر أنه كان بالفعل في خضم اختبار لا يستطيع الهروب منه. رامي ابتسم ابتسامة غريبة، وكأن كل شيء كان تحت سيطرته. 

"الطريق ده؟ هو الطريق اللي هيوصلك لسر الملاك الأبيض. الطريق اللي هيدخلك إلى قلب الظلام."

تجمد أدهم للحظات. صوت رامي بدا وكأنه لا يأتي من فمه، بل من مكان أعمق… من داخل الجدران نفسها.
كأن المكتبة صارت شاهدة على صراع غير مرئي… صراع بين ماضيه المسجون ومستقبله الذي يُكتب الآن بمداد أسود. 

"طيب… لو دخلت؟ لو كملت؟"
نبرة صوته كانت خاوية… وكأنه يخاطب قبرًا لا شخصًا.
"هلاقي نفسي؟ ولا هلاقي نهايتي؟" 

رامي اقترب، أخرج من جيبه مفتاحًا صغيرًا لامعًا، وضعه على الطاولة الخشبية العتيقة، وقال بصوت خافت:
"فيه باب، تحت المكتبة… تحتك إنت دلوقتي. افتح الباب ده، وادخل لوحدك. لو كنت فعلاً عايز الحقيقة… بس لو خفت، اقفل الكتاب وانساني للأبد." 

أدهم مد يده بتردد، التقط المفتاح بأصابع مرتجفة، وشعر بوخز بارد مرّ من جلده إلى قلبه.
كان واضحًا أن هذا لم يكن مجرد مفتاح لباب… بل مفتاح لحياة أخرى. 

هبط السلم الحجري أسفل المكتبة، كل خطوة تصدر صدى كأنها تقع في أعماق سرداب مهجور منذ قرون.
كان الظلام هناك لا يشبه الظلام العادي… بل ظلام حيّ… يراقب. 

عند الباب الحديدي الصدئ، أدخل أدهم المفتاح… وسمع صوت صرير حاد اخترق أذنه.
الباب انفتح ببطء… والهواء الذي خرج كان محمّلًا برائحة الدم والرماد. 

دخل… 

ووجد نفسه في غرفة مربعة، جدرانها مغطاة بصور قديمة، باهتة، لكنها مألوفة.
وجهه… طفلًا… شابًا… مبتسمًا… باكيًا… لكن في كل صورة، هناك شيء ناقص.
عين مطموسة، فم ممحو، ظلال خلفه تشبه شبحًا.
وفي منتصف الغرفة… مرآة مغطاة بقماش أسود. 

اقترب منها، يده ترتجف وهو يمدها نحو الغطاء… 

"لو شفت، ماينفعش ترجع."
صوت غريب… لم يكن صوت رامي. لم يكن صوتًا بشريًا بالكامل. 

رفع القماش. 

المرآة… لم تعكس وجهه. 

بل أظهرت طفلًا يجلس في زاوية مظلمة… مكبل اليدين… يرتجف… يبكي.
وفجأة… الطفل رفع رأسه، وابتسم.
ابتسامة شيطانية.
وقال بصوت أجوف: 

"أنا أنت… قبل ما يسرقوني." 

انطفأت الأنوار. 

وصوت الأبواب يُغلق خلفه… وصوت رامي يأتي من بعيد، بصدى مشوّه:
"اختارت تمشي للطرف التاني… دلوقتي ابحث عنك وسط الوجوه… وخلّي بالك… بعض الوجوه بتبتسم علشان تغرقك." 


                     الفصل الرابع من هنا


تعليقات



<>