رواية في حضرة الحب
الفصل الثالث3
بقلم فادي عمر
وقفت نور في مكانها دقائق، تراقب انعكاس الأضواء على الرصيف المبلّل، وكأنها تحاول أن تفكّ شيفرة تلك الجملة التي قالها رامي:
"أنا بس مش عايز المدينة دي تاكلك... زينا كلنا."
كلمات لا تشبهه، خرجت منه وكأنها أفلتت من بين شفتيه دون إذن.
وكأنّه، للحظة، لم يكن المدير المنضبط… بل رجل تائه يطلب المساعدة دون أن يطلبها.
لكن قبل أن تغادر المكان، وقبل أن تخطو خطوة واحدة…
سمعت صوتًا مألوفًا من خلفها.
ـ "إنتي نور؟!"
التفتت، ببطء ودهشة، لتجد وجهًا من الماضي…
كان يقف أمامها، يحمل مظلة سوداء، وتغمره دهشة أكبر من دهشتها.
آدم.
ابن الجيران في قريتها القديمة، ذلك الصديق القديم الذي شاركها مقاعد الدراسة، وضحكات الطفولة، وحتى ذلك الوداع الصامت حين غادرت القرية دون أن تودّعه.
كبر آدم… وجهه صار أكثر رجولة، لكن عينيه لم تتغيرا.
فيهما نفس الاندهاش، نفس الدفء، ونفس السؤال الذي لم يُسأل أبدًا.
قال وهو يقترب:
ـ معقول؟ كنت فاكرك سافرتي برّه…
ـ لأ، اشتغلت هنا… لسه جديدة.
كان اللقاء غريبًا، مفاجئًا، كما لو أنّ القدر نفسه قرر أن يلعب لعبته.
ابتسم آدم وقال:
ـ طب ده لازم نحتفل… اتنين ريفيين في قلب المدينة!
ضحكت نور، ربما للمرة الأولى منذ وصلت.
لكن في داخلها، شعرت بشيء يضطرب… هل المدينة بدأت تُحبها أخيرًا؟ أم أنها تختبرها بشخصين؟
في اليوم التالي، دخلت الشركة وعقلها مشتّت بين وجهين:
رامي… بجديّته وصمته العميق.
وآدم… بصوته الذي يذكّرها بمن هي، لا بمن تحاول أن تكون.
رامي لاحظ الشرود في نظراتها.
لم يقل شيئًا.
لكنه للمرة الأولى، لم يجدها في وقت الاستراحة، ولم يرَ ظلّها في ممرّات المكتب كما اعتاد.
وهو لا يحب الاختفاءات المفاجئة…
لأنها تذكّره بخسارات لم يتعافَ منها.
في نهاية الدوام، رآها تغادر بسرعة، وعلى الرصيف المقابل… كانت تضحك مع آدم.
وبين الضحكة والمطر، وبين رامي والنظرة السريعة التي التقطها…
بدأ قلبه يدقّ، لكن ليس حبًا…
بل شيئًا أقرب إلى الخوف من الفقد قبل أن يملك شيئًا أصلًا.
في صباح اليوم التالي، دخلت نور المكتب قبل الوقت بدقائق.
لكنها لم تكن وحدها هذه المرة.
آدم وقف معها أمام الباب الزجاجي الكبير، يحمل كوبين من القهوة الورقية، يضحك وهو يقول:
ـ ولسه بتفكّري تتعلمي طريق الشركة؟ إنتي لازم تكتشفي المدينة كلها مش بس العنوان!
ضحكت نور وهي تأخذ القهوة:
ـ وأنا فاكراك لسه بتشرب شاي بالنعناع!
ـ كبرت… المدينة خلتني أتعلم إن القهوة هي الوقود هنا.
فتح لها الباب كأنّه يحميها من صخب المدينة.
دخلت المكتب وخلفها خطوات آدم، الذي كان يمرّ ليزور قسمًا آخر، لكنه تعمّد أن يرافقها.
وهناك، عند مكتبه، كان رامي يراقب المشهد من خلف الشاشة.
لم تكن النظرة التي رآها عابرة.
نور كانت تبتسم… ابتسامة لا تشبه ابتسامات العمل.
فيها دفء… وشيء يشبه الأمان.
رفع رامي عينيه ببطء، ثم قال بلهجة حيادية:
ـ صباح الخير، نور.
ردّت وهي تحاول استعادة توازنها:
ـ صباح النور، أستاذ رامي.
ثم أضافت، كأنّها تحاول كسر الصمت الثقيل:
ـ ده صاحبي من زمان… آدم، كان جارنا في البلد. صدفة غريبة إنه يشتغل في شركة قريبة.
أومأ رامي دون ابتسامة، وقال وهو ينظر إلى شاشة الكمبيوتر:
ـ صدفة فعلاً… الدنيا صغيرة.
لاحظت نور نبرة الحذر في صوته… أو لعلها تخيلت؟
لكن شيئًا ما في تعبيره لم يكن كعادته.
هل شعر بشيء؟ هل ضايقه وجود آدم؟ ولماذا تهتم أصلاً إن ضايقه؟
بعد ساعات من الصمت المهني، كسر رامي الحاجز في وقت متأخر من اليوم، حين سألها فجأة:
ـ بتحبي الناس اللي بيرجعوا فجأة من الماضي؟
نظرت إليه بدهشة، وترددت قبل أن تقول:
ـ مش كل الناس… بس في ناس وجودهم بيفكرك إنك كنت بخير زمان.
ـ وإنتي؟ كنتِ بخير زمان؟
ابتسمت بمرارة خفيفة:
ـ كنت بفتكر كده… بس بعد ما جيت هنا، مش عارفة إذا كنت فعلاً كنت بخير، ولا كنت بس مش شايفة الدنيا.
تأمّل وجهها للحظة.
ثم قال بنبرة أهدأ مما توقعت:
ـ الناس اللي من الماضي ممكن يبهجونا… بس ساعات بيجوا ومعاهم أسئلة إحنا ما بقيناش نعرف نجاوبها.
سكتت نور.
كانت تدرك تمامًا ما يقصده.
لكن قلبها كان مشوّشًا… ما بين صوت الضحك مع آدم، وصوت الصمت مع رامي، كان هناك شيء غامض يُصاغ داخلها.
وفي تلك الليلة، وبين دفاترها وأفكارها، كتبت على ورقة صغيرة:
"في المدينة… في شخص بيفكرني أنا كنت مين، وفي شخص بيخليني أسأل: أنا عايزة أكون مين؟
والمشكلة… إن الاتنين حقيقيين جدًا."
