رواية ارشيف الارواح الفصل الخامس5والسادس6بقلم امير مروان
كل شيء حولها تحول إلى سكون قاتل. اختفت الأرواح، اختفى سليمان، وكل شيء أصبح ضبابياً، غير واضح. كانت هالة تقف في مكانها، متحجرة، تصارع أفكارها المتناثرة في الفوضى. كانت تشعر وكأنها قد فقدت شيئًا عميقًا في ذاتها، شيئًا لا يمكن استرجاعه. كان الظلام يلتهم كل شيء حولها، وكأن المكتبة نفسها أصبحت جزءًا من هذا العدم.
لكن كانت هناك همسات خافتة، تتسلل إلى مسامعها، تتردد بين جدران المكتبة القديمة، وكأن شيئًا آخر كان يراقبها. شيء أكبر من مجرد أرواح، شيء يترقب اللحظة المناسبة ليظهر.
ثم جاء صوت خافت، خفيض كهمسات الرياح في الزمان، لينفصل عن الظلام، صوته بارد كالجليد:
"أنتِ الآن في عالمنا، هالة."
كان الصوت يشبه تنفسًا ثقيلًا، وكأن كل كلمة تأتي من أعماق العدم، مرعبة، مخيفة، كأنها تحدث من كائن غير بشري. بدأ الضوء يتلاشى تدريجياً، وكأن الزمان نفسه كان يمحو وجودها، وكل خطوة تخطوها كانت تصبح أكثر غموضًا، أكثر شراسة.
في تلك اللحظة، شعرت بشيء في صدرها، نبض غريب. كانت روحها تنقسم ثانية. لكن هذه المرة لم تكن الروح الأخرى سليمان. كانت شيئًا مظلمًا، شيطانًا يتسلل داخل جسدها. شعرت به يهمس في ذهنها، يتسلل إلى أعماقها، كما لو أنه يُعيد تشكيلها.
"أنتِ لا تعرفين من نحن." جاء الصوت ثانية، ولكن هذه المرة كان أكثر وضوحًا، أكثر تهديدًا. "أنتِ مجرد نقطة في لعبة أزلية. روحك ستظل جزءًا من الأرشيف، ولن تعودي كما كنتِ."
كانت هالة تقاوم هذا الكائن الظلامي الذي كان يملأ ذهنها. ولكن في كل مرة كانت تحاول التراجع، كانت الهمسات تزداد قوة، كأنها تطاردها من كل زاوية، من كل زاوية مظلمة في المكتبة. كانت تشعر بأن المكتبة نفسها كانت تصبح كائنًا حيًا، يتنفس، يراقبها.
"أنتِ جزءٌ من الطائفة الآن، هالة." همس الصوت مرة أخرى. "أنتِ لا تملكين الهروب. لا تملكين الذاكرة. نحن من يمتلكك."
ولكن فجأة، كما لو كان الضوء قد عثر على طريقه، لاحت أمامها صورة ضبابية أخرى، صورة مشوشة لكنها مألوفة. كانت صورة امرأة، شابة، يبدو أن ملامحها تتبدل بين الشدة والنعومة. كانت عيونها مظلمة تمامًا، وحين اقتربت منها هالة، لاحظت أن هذا الوجه كان يشبه وجهها، ولكن ملامحها مشوهة. كانت تعرفها، لكن شيئًا ما كان غريبًا في هذه الصورة.
"أنتِ تتذكرينني." قالت المرأة بصوت هادئ، ولكن كان هناك شيء لا يُحتمل في صوتها. "أنا من كنتِ. أنا جزء منكِ."
هالة تجمدت. كانت ترتجف، لم تفهم كيف يمكن لهذه الصورة أن تكون حقيقية. كيف يمكن لهذه الروح أن تكون جزءًا منها؟
ثم، فجأة، عادت الهمسات مجددًا، تزداد قوة، مثل طوفان من العواصف التي تحطم كل شيء في طريقها. "كل من يقرأ الأرشيف يصبح جزءًا من طائفتنا. روحك أصبحت ملكنا."
لكن كان هناك شيء ما في كلامهم لم تشعر به من قبل. كانت هناك قوة غامضة تكمن وراء تلك الكلمات. شيء لا تستطيع مقاومته. شعرت أن روحها تنكسر أكثر، وأن الظلام يتسرب إلى داخل عقلها، يملؤه بتفاصيل غير حقيقية، كأنها تلتهم هويتها.
"أنتِ جزءٌ من الماضي... من الحكاية التي نرويها للأجيال المقبلة." أضاف الصوت، مصحوبًا بضجيج غريب.
هالة كانت على وشك الانهيار. شعرت وكأن الأرض تحت قدميها تتحرك، وكان كل شيء يلتف حولها، يتحول إلى لولب مظلم. ثم، كل شيء تحطم دفعة واحدة.
"لا!"
صرخت هالة، وحاولت أن تبتعد، لكن عيونها كانت تُجبر على التركيز على الكائن الذي أمامها، على الظلام الذي يلاحقها. فجأة، ظهر شيء مظلم آخر أمامها، شيء أكبر من أي كائن رأته من قبل. كان جسده مشوهًا، مع ملامح غير واضحة، وعيناه تغطيهما طبقات من العتمة.
"الوقت ليس في صالحكِ، هالة." قال الكائن، صوته يعبق بالخوف والرعب، كما لو أن الزمن نفسه كان يبتلعها. "لقد أصبحتي جزءًا من أبدية الحبس."
بلا رحمة، زحف الظلام إليها، وابتلع كل شيء، حتى أن أصوات همسات الأرواح التي كانت تراقبها اختفت في العدم.
"الأبدية لا بداية لها."
كان يمكنها أن تشعر بكل شهيق من الظلام…
ليس صوتًا، بل أنفاسًا ثقيلة تنبعث من جدران المكتبة. شيء ما يُزفر من بين الأحجار العتيقة، كأن الأرواح المحبوسة تتنفس من خلال التصدعات.
"لم تعودي وحدك، يا هالة…"
صوت آخر، أنثوي هذه المرة، هامس، لكنه مشحون بالغضب والحزن.
استدارت… فرأتها.
كانت تقف على الدرج المؤدي إلى الطابق السفلي الذي لم تتجرأ يومًا على النزول إليه. امرأة بلا عيون… فقط تجويفين أسودين يُسيل منهما دم داكن كالقطران. بشرتها رمادية كالأموات، وشعرها يتدلّى مبللًا، وكأنه خرج للتو من قبر.
"أنا من قرأتُ قبلك… والآن… أنا المكتبة."
في تلك اللحظة…
ارتجَّت الأرض تحت قدمي هالة. الكتب، أو بالأحرى، الأوراق التي تملأ الأرفف بدأت بالاهتزاز… تصدر أنينًا خافتًا… ثم صرخات!
"أعيدوناااا!"
"لا نريد الموت مرّة أخرى!"
"لم نكتب لنُحبس!"
الصرخات كانت بشرية، ممزقة، كأن كل ورقة في هذه المكتبة تحمل روحًا حية تُعذَّب للأبد… وهالة، بقراءة ورقتها، فتحت الباب لآلاف أخرى.
ثم… بدأ الضوء بالتشوه. كل المصابيح القديمة في المكتبة انفجرت دفعة واحدة، وتدفق الدم من مقابض الأبواب، وكأن المبنى ينزف.
شعرت بشيء خلفها… يد!
كانت يدًا طويلة، نحيلة، عظمية، تخرج من بين الكتب… أمسكت برقبتها، باردة حد التجمد. حاولت أن تصرخ، أن تهرب، لكن الصوت خُنق داخلها، كما لو أن كل صوت حولها قد تم ابتلاعه.
"كل روح تُحبس… تحتاج جسدًا لتعيش مجددًا."
همس صوت داخل أذنها… ببطء، بشهوة مرعبة.
بدأت تشعر بها… الروح القديمة التي قرأت ورقتها… تسكن داخلها، تُبدّل أفكارها، تتحكم بأصابعها، تجعلها ترى رؤى ليست لها: رجل يُذبح، فتاة تُشنق، طفل يُغرق في بئر مظلم…
رؤى متلاحقة، متوالية، لا تتوقف.
ثم جاء السكون…
فجأة.
كل شيء توقف.
لكن هالة لم تكن كما كانت.
وقفت ببطء… لم يكن وجهها يعكس الخوف، بل شيئًا آخر…
الورقة التي قرأتها، التي حَبست الروح القديمة، كانت تحترق… وبابتسامة مريضة، همست بصوتها، لكن بنبرة غريبة:
"لقد استعدت جسدي أخيرًا..."
وفي زاوية المكتبة… كانت هناك ورقة جديدة، نُقِشَ عليها اسم: هالة عبد الرحمن.
بخط يدٍّ ناعم… وروح مسجونة حديثًا.
هل كانت ما تزال بداخل الجسد؟
أم أن "هالة" أصبحت صفحة في أرشيف الأرواح؟
الصمت لا يجيب… لكنه دائمًا يُخفي الأسوأ.
يتبع.....
أرشيف الأرواح _الجزء السادس:
كان الليل خارج المكتبة كثيفًا، لكنه بدا أقل ظلمة من الداخل.
الأنوار لا تعمل.
الهواء راكد كأنه لم يُحرّك منذ قرن.
والجدران تنزف… لكنها لا تُصدر صوتًا.
وكأن المكان كله يتنفس بصمتٍ، يتحين لحظة الانقضاض.
في الداخل… تقف هالة. أو ما تبقّى منها.
كانت تنظر إلى المرآة المعلقة على الحائط العتيق خلف الطاولة الخشبية.
في انعكاس الزجاج… لم ترَ نفسها.
رأت امرأة أخرى.
نفس الملامح، نفس الوجه…
لكن العينين كانتا سوداويّتين، خاويتين، وفمها مشقوق إلى الأذنين كأنها تبتلع صرخة لا تنتهي.
"من أنا…؟"
همست هالة، وصوتها خرج كطبقتين… صوتها وصوت آخر يُردد خلفها.
المرآة لم تعد مرآة… بل نافذة.
ومن خلف الزجاج، رأتهم…
مئات من الأرواح المحبوسة، تتراكم في ظلالها، تنظر إليها بلا أعين…
أطفال يحملون رقابهم بأيديهم، رجال بلا أفواه، نساء يصرخن لكن لا صوت لهن.
وفجأة… الصوت!
"اختاري."
صوت أنثوي، مشبع بالكراهية، قادم من داخل رأسها.
"إما أن تسكني الجسد… أو تُحبسي في الورقة."
وبدأ الانشطار.
جسد هالة ارتجف…
شعرت أن جسدها لا يحتويها وحدها.
شخص آخر يتحرك معها… عظامها ترتج… يدها ترتفع دون إرادتها…
بدأت تكتب… بأصابعها… على جدار المكتبة.
"كان اسمي هالة. والآن… أنا الأرشيف."
ثم شهقت…
وتجمّد كل شيء.
**
فلاش باك...
**
قبل خمسة أيام…
هالة تقف على درج المكتبة، في أول زيارة لها.
كانت تشعر بانجذاب غريب… لا تفسير له.
وقفت أمام باب غرفة صغيرة مغطاة بالغبار، تحمل قفلًا صدئًا.
جذبها شيء غامض…
فتحت الباب.
على الأرض، وجدت دفترًا جلديًّا مغطى بالرماد… وعبارة منقوشة على الغلاف:
"لا تقرأ الصفحة الأخيرة."
لكنها قرأتها.
وهناك… رأت نفسها.
مرسومة بالحبر، بنفس ملامحها، والعبارة أسفل الرسم:
"ضيفة جديدة في الأرشيف. الهروب مستحيل."
**
عودة للحاضر…
**
المرآة تنفجر.
والزجاج المتناثر يرتفع في الهواء… ويتجمع أمامها.
يتكوّن منه وجه…
وجهها.
لكن بملامح مختلفة… مشوّهة، ممتدة، كأنها خرجت من كابوس.
"لقد بدأتِ، ولا عودة."
قال الصوت من كل مكان.
وفجأة… تحرّكت الأوراق من الأرفف… آلافها، طائرة في الهواء كالعاصفة.
واحدة منها سقطت على الأرض أمام هالة… مكتوب عليها بخط طازج:
"اختيارك كان الخطيئة الأولى… وما سيأتي، هو العقاب."
ظلامٌ مطبق… ثم…
صرخة.
سقطت هالة على ركبتيها، قلبها يقرع صدرها بعنفٍ لا يُحتمل، ورئتاها تتقلصان وكأنهما تنسيان كيف تتنفّسان.
الأرض تحتها بدأت تتنفّس أيضًا…
نعم، تتنفس!
كل بلاطة حجريّة كانت تنبض بنبضٍ خافت، دافئ وملتصق، كأن المكان لم يُبنَ من حجر، بل من أجساد مدفونة حيّة… أرواح مطحونة تحت أساس هذا الجحيم العتيق.
الدم يسيل من الحروف.
نعم، الحروف التي كتبتها على الجدار بيدها بدأت تُقطر دمًا.
العبارة: "كان اسمي هالة. والآن… أنا الأرشيف."
تحوّلت إلى نقش نازف.
انفتح جدار خلفه… لا باب، لا مقبض… فقط فجوة حية.
ريح باردة تفوح منها رائحة الموت الرطب تسحبت منها، حاملة همسات مشوشة.
"رجعونااا… لا نريد النسيان!"
"هو وعدنا بالخلود… ثم باعنا!"
هالة أخذت تزحف ببطء، كأن أقدامها لا تتحمل ثقل الجسد بعد أن أصبح مأهولًا بروحين.
داخل الفجوة…
سلالم.
لكنها لم تكن تنزل للأسفل…
بل كانت تنزلق، ملتوية، وكأنها تسير داخل أمعاء شيء عملاق، حيّ.
الهواء أصبح أثقل، الروائح أقذر، الأضواء أخفت، لكنها رأتهم…
رفوف من الأوراق، لكن الأوراق تتحرك!
كل ورقة كانت تنتفض كالذبابة الجريحة، بعضها يصدر خرير بكاء، بعضها يهمس كلمات لا معنى لها، والبعض يصرخ… صراخ حقيقي.
وسط هذا الجحيم… كان هناك عرش.
عرش ضخم من عظام محترقة، يجلس عليه رجل مغطى بالكامل برداء من قصاصات الورق.
وجهه… غير موجود.
بدلًا من الملامح، كانت هناك صفحة بيضاء.
وحين نظرت هالة إليها… بدأت الحروف تظهر.
"أنا الكاتب.
أنا الذي بدأ الطائفة.
أنا من أعطى للخلود ثمنًا."
صوتٌ في عقلها، لا يُنطَق، بل يُحقن في وعيها.
"كل روح تُحجز، تفتح بوابة، وكل قارئ يُصبح طريقًا.
أنتِ لم تكوني إلا جسدًا مؤقتًا… لكنكِ فتحتِ لنا المكتبة من جديد."
هالة أرادت أن تصرخ… لكن جسدها بدأ يتحلل من الداخل.
يدها اليسرى شفافة… كأنها تنصهر… عروقها تتفتت إلى رماد، تنساب من أطراف أصابعها.
"أعيديني… أرجوكي!"
كان الصوت… صوتها هي!
روحها الأصلية، صوتها الحقيقي، يُصرخ من الورقة المسجونة.
مدّت يدها المرتجفة… تحاول انتشال الورقة، تمزيقها… لكنها توقفت.
أصابعها الأخرى أمسكت بها، تمنعها.
هي ليست المتحكمة الآن…
شيء آخر… يسكنها.
وفجأة…
انشق العرش.
اندفعت منه يدٌ مغطاة بالحبر الأسود، وسحبتها للداخل.
**
صمت تام.
**
ثم…
تفتح المكتبة أبوابها.
يأتي شخص جديد، شاب من خارج البلدة، يبحث في تاريخها الغامض.
يجد الورقة القديمة، المغطاة بالرماد، وعليها عبارة:
"لا تقرأ الصفحة الأخيرة."
وتبدأ الدورة من جديد.
