رواية اصوات الليل الفصل الرابع4بقلم فادي مسالمه


رواية اصوات الليل الفصل الرابع4بقلم فادي مسالمه


كانت القرية قد بدأت تستعد لفصل الخريف، إذ تحوّلت أوراق الأشجار إلى لوحة من الذهبي والبرتقالي، وكأنها تشارك في حكاية بدأت تتفتح شيئًا فشيئًا. 

ريما جلست كعادتها على عتبة البيت، تحمل فنجان قهوتها وتنتظر… لا تعلم إن كانت تنتظر سامر أم تنتظر قلبها ليهدأ من كل هذه المشاعر التي باتت تؤرقها في صمت الليل. 

وصله صوتها حين اتصل:
سامر (بصوت هادئ):
ـ فيك تطلعي معي؟ ما رح نروح لمكان بعيد… بس بدي نحكي شوي. 

تردّدت، قلبها خفق كأنه يعرف ما سيُقال. 

ريما:
ـ إذا قلت لأمي إني معك… رح تعمل قصة. 

سامر (ضاحكًا):
ـ قولي لها إنك رايحة تشوفي الغروب… وإذا حبت تتأكد، بمرّ أنا وبسلم عليها. 

ضحكت. بصمت، ارتدت شالها، وقالت لأمها كلمات بسيطة، ثم خرجت. 

** 

ركبت معه، وابتسمت حين وجدت السيارة تشبه رائحتها القديمة… خليط من البنّ والخشب والمطر.
قادها إلى بيت قديم مهجور كان يعود إلى جدّ والدته. فتح الباب بهدوء، وكان المكان مليئًا بالغبار، لكنه نظيف. وضع فانوسًا صغيرًا، ثم أشار إليها بالجلوس على كرسي خشبي. 

سامر (يجلس قبالتها):
ـ ريما… بتعرفي إنّي طول عمري كنت أفكر إن الحب شي بيصير فجأة… بس معك، طلع الحب متل الندى… بيجمع شوي شوي… وبس تلاحظيه، بتلاقيه غمر كل شي. 

نظرت إليه… كانت نظراتها تقول الكثير، لكن شفتيها ظلّت صامتة. 

سامر:
ـ لما رجعت عالضيعة، كنت تايه. حسّيت حالي ما بعرف شي عني. بس أول مرة شفتك… وقت دلّيتيني على أرض أبوي… حسّيت شي غريب، كأنك مشيتي من حلم لعندي. 

ريما (بصوت خافت):
ـ وأنا… ما كنت بعرف إني ممكن أرتاح لحدا بهاي السرعة. وجودك… خفف ضجة جوّاي. 

** 

اقترب منها خطوة، جلس على الأرض أمامها، رفع نظره إليها وقال:
"أنا بحبك، ريما." 

قالها بهدوء، دون ارتباك، دون خوف. كأن قلبه نطق قبله. 

** 

ريما (بهمس لا يشبه الخجل المعتاد):
ـ ما كنت عارفة إذا لازم أقولها… بس قلبي عم بيصرخ فيها من زمان.
"أنا كمان بحبك يا سامر." 

** 

تنهّدت… كأنها أفرغت حملًا من الروح. ساد صمت دافئ، يتخلله صوت أنفاس متقطعة وموسيقى خفيفة كانت تأتي من بعيد. 

** 

سامر:
ـ بتعرفي شو أجمل شي فيك؟ إنك ما حاولتي تكوني شي تاني. كنتِ ريما… والباقي صار حولك. 

ريما:
ـ يمكن لأني تعبت من إني أخبّي مشاعري… وإنت جيت وعلّمتني كيف أرتّبها. 

** 

قام وجلب بطانية صغيرة كان قد وضعها على أحد الكراسي. غطّاها بلطف، ثم جلس بجانبها وقال:
ـ ريما… في كثير وجع بحياتي ما حدا شافه، ولا حدا حسّه. بس اليوم… حاسس إني لو شاركتك فيه، ما رح يضلّ وجع. 

** 

أخذ نفسًا طويلًا، ثم بدأ يحكي لها عن والده… عن مرضه… عن السنوات الأخيرة التي قضاها في الغربة وهو يشعر بالذنب لأنه لم يكن قربه. عن فشله في علاقة سابقة كانت مزيّفة، وعن خيبته من الناس، حتى عاد للقرية يبحث عن أي شيء يُشعره أنه ما زال إنسانًا. 

وكانت ريما تستمع… بصمت محبّ، لا تقاطع، لا تسأل، فقط تضع يدها على كفّه كل مرة يرتجف فيها صوته. 

** 

ريما (بهمس):
ـ الماضي ما بيغيّر إنسان، بس الحب ممكن يخلّيه يحبّ نفسه من جديد. 

** 

بقيا هكذا حتى الليل. كان الوقت يمرّ ببطء جميل. وعندما قررا العودة، لم يكن هناك حاجة لأي كلام آخر. 

فكلاهما أصبح يعرف أنه لم يعُد هناك خوف. 

** 

في طريق العودة، سألها:
ـ شو رح تقولي لأمك؟ 

ريما (ضاحكة):
ـ رح قوللها إنو الغروب كان أجمل شي شفته… وإنو قلبي شاف شي تاني كمان. 

ضحك، وضحكت معه… والريح التي مرّت بينهما حملت وعدًا… ربما لا يسمعه غيرهما. 

** 

عادا من ذلك البيت القديم، وقلوبهما لا تزال تترنّح بين الهدوء والخوف. الحب قيل، نعم، لكن ماذا بعد؟ 

في اليوم التالي، استيقظت ريما على صوت عصفور صغير يغرّد قرب نافذتها. لم تكن عادتها أن تهتم لأصوات الطيور، لكنها اليوم شعرت أنّ لهذا الصوت معنى… وكأنّه يُخبرها أن قلبها تغيّر، أنّها لم تعُد تلك الفتاة التي تمشي بخجل وسط السوق وتتجنّب العيون. 

نهضت، ارتدت فستانًا بسيطًا بلون السماء، وخرجت… دون سبب واضح، فقط أرادت أن تمشي. 

** 

في الجهة الأخرى، كان سامر في المقهى الريفي الصغير، يحتسي قهوته وينتظرها. لم يتّفقا على اللقاء، لكنّه بات يعرف أنّ الريح تأتي بها دون موعد. 

وعندما دخلت، لم يستطع إخفاء ابتسامته. وقفت أمامه كأنها لم تكن في حياة أحد من قبل، كأنّها خُلقت له وحده. 

سامر (بصوته العميق):
ـ بتعرفي إنو وقت قلتيلي إنك بتحبيني… أنا حسّيت حالي انولدت من جديد؟ 

ريما (بخجل ناعم):
ـ وأنا… ما كنت عارفة شو يعني أرتاح لحدا، لحد ما طلعت مشيتك بجنبي. 

ضحك بخفّة، ثم أشار إلى الكرسي المقابل:
ـ اقعدي… بدي نكمل حديثنا من مبارح. 

** 

جلسا في ركنٍ هادئ من المقهى، وبين فنجاني القهوة كان الحديث أكثر صدقًا هذه المرة. 

سامر:
ـ بعرف إنك بتحبي البساطة… وأنا وعدتك إنو ما أحملك هم شي. بس بدي أعرف… بتحلمي بشي؟ يعني… في شي بتحبي توصلي له؟ 

ريما:
ـ بحلم أكون مع حدا يحبني مثل ما أنا… ما يطلب مني أتغير، ولا يشوفني صغيرة بس لأنّي ساكنة بقرية.
(ثم نظرت إليه بعمق)
ـ بحلم أفتح مكتبة صغيرة… وأقرّب الكتب من الناس. بعرف إنه حلم بسيط… بس بيشبهني. 

سامر (بابتسامة فيها فخر):
ـ وإذا قلتلك إنو في محل فاضي بالضيعة، وبقدر أساعدك تفتحي فيه المكتبة… بتوافقي؟ 

سكتت للحظة، ثم همست:
ـ بتوافق تكون أول زبون؟ 

قالها وعيناها تلمعان، وكان قلبه يذوب بكل حرف. 

** 

في الأيام التالية، أصبح لقاؤهما عادة. يتشاركان نزهة في الحقول، أو وجبة غداء تُعدّها ريما وتأخذها إليه.
كان كل شيء يتم ببطء… لا استعجال، لا ضغوط. الحب نما كما تنمو زهرة في أرض صلبة. 

وفي أحد الأيام، أحضر لها سامر دفتراً جميلاً مغلفًا بجلد ناعم. 

سامر:
ـ هذا دفتر ذكرياتنا. كل مرة نتلاقى، اكتبي شعورك فيه… وأنا كمان رح أكتب. 

فتحت الصفحة الأولى، وكتبت بخطها الجميل: 

"في عينيك، رأيت الضياع واليقين معًا. وفي قلبي، وُلد وطن لا يعرفه سواك." 

** 

وفي مساء ذلك اليوم، كانت السماء تمطر بخفّة. استأذنها سامر أن ترافقه إلى شجرة قديمة في أعلى التلة. 

وقفا تحتها، والمطر يتسلل بخجل بين الأوراق. 

سامر (وهو يمسك يدها لأول مرة):
ـ في شي بحياتي ما كنت متخيله، إنو ألاقي شخص يشبهني رغم إنو ما مرّ بنفس حياتي. بس إنتي، يا ريما… عم بتكمّلي نقص كان جوّاي. 

ريما (بهمس مرتعش):
ـ وأنا كنت فاكرة إني خلقت لضلّ عادية… بس إنت عم تخليني أشوف حالي غير. 

اقترب منها، ووضع بين كفّيها صندوقًا صغيرًا من الخشب. فتحته… فوجدت فيه خاتمًا بسيطًا من الفضة، لا يلمع، لكنه يشبه نبضها. 

سامر (بصوت مبلل بالمطر):
ـ ما بعرف شو مخبّى إلنا المستقبل، بس بعرف إني بدي أعيشه معك.
"تقبلي تكوني رفيقتي… شريكتي… وصوت الليل اللي بحبه؟" 

** 

سكتت لثوانٍ، ثم أغلقت الصندوق، ورفعت رأسها، وعيناها تدمعان. 

ريما:
ـ ما رح قول "إيه"… بس رح أجي معك، وين ما رحت. 

** 

ذلك المساء، كانت السماء رمادية، لكن قلبهما صار مشرقًا. وعندما عادت إلى المنزل، كتبت في الدفتر: 

"طلب يدي تحت المطر… وما طلب قلبي، لأنه صار معه من زمان." 


                   الفصل الخامس من هنا

تعليقات



<>