رواية قربك يطمئني الفصل الرابع4بقلم سامر الحريري


رواية قربك يطمئني الفصل الرابع4بقلم سامر الحريري

منذ تلك الليلة، أصبحت جلسات طارق مختلفة. لم يعد ذلك المريض المتردد، بل رجل يحاول مواجهة نفسه بصراحة مؤلمة. أما سارة، فكانت تنصت بقلبها قبل أذنيها، تشعر أن كل جملة يقولها، تعنيها شخصيًا بطريقة ما. 

في الجلسة التالية، لم يتحدث طارق كثيرًا. جلس صامتًا للحظات، ثم قال: 

– "أحيانًا بنحتاج نرجع لورا، عشان نقدر نكمل لقدّام…" 

سارة (بهدوء): "ومين مننا ما رجعش؟ بس الفرق إنك لما رجعت، كنت شايف الطريق... مش بس الندم." 

ابتسم طارق بخفة، وقال:
– "أنا كنت شايفك في الطريق." 

ابتلعت سارة التوتر الذي تسرّب إليها. كانت الكلمات تحمل شيئًا أكبر من المجاملة، شيءٌ يهز الاستقرار الذي بنت جدرانه حول نفسها. 

لكن ذلك اليوم لم يُكتب له أن ينتهي بهدوء، فقد دخلت سارة مكتبها بعد انتهاء الجلسات لتجد ظرفًا مغلقًا على مكتبها، دون اسم. 

فتحته ببطء. 

كان هناك فقط صورة... بالأبيض والأسود. 

طارق واقف في حضن امرأة أخرى. 

أمام خلفية قديمة، والابتسامة على وجهه لا تشبه شيئًا مما رأته منه. 

وخلف الصورة، بخط نسائي دقيق: 

"مش كل اللي بيفتحلك قلبه، فاضي من جوه." 

شعرت سارة بوخز في صدرها، لكن سرعان ما انتبهت. هذه ليست رسالة عادية، بل محاولة لإفساد شيء ما بدأ بالكاد يتشكّل. 

وفي المساء، اتصلت به. 

سارة (بهدوء مصطنع): "أنا لقيت حاجة النهاردة... صورة." 

ساد الصمت على الطرف الآخر. 

– "صورة ليّ أنا؟" 

– "أيوه... ومعاها رسالة من واحدة. تعرفها؟" 

تنهد طارق، وكأن شيئًا توقعه قد حدث. 

– "دي كانت... مراتي." 

سارة (مصعوقة): "كنتم متجوزين؟" 

– "اتجوزنا سنتين... ليان مش بس حبيبتي، كانت مراتي. بس موتها كان قبل حتى ما نلحق نكمل حلمنا سوا." 

سارة لم تنطق. شعرت بمزيج معقّد من الصدمة، والشفقة، والغيرة التي لم تكن مستعدة للاعتراف بها. 

– "أنا مكنتش ناوي أخبي، بس مكنتش مستعدّ أقول. مكنتش عايز أبدو ضعيف…" 

– "بس إنت مش ضعيف، طارق... الضعف الحقيقي هو إنك تخاف تقول الحقيقة." 

سكت للحظة، ثم قال بنبرة هادئة:
– "أنا مابقتش بخاف، يمكن لأنك بقيتي موجودة." 

أغلقت سارة الهاتف دون رد. لم تكن غاضبة، بل ضائعة بين أفكارها.
هل كانت تحبه فعلًا؟ أم أنها فقط تعلّقت به لأنه كسر هدوءها العاطفي؟ 

في تلك الليلة، لم تنم. 

وفي الصباح، وجدت على باب العيادة وردة بيضاء، وبجانبها ورقة قصيرة: 

"أنا ماقدرتش أختار وقت أحبك فيه… بس اللي متأكد منه، إن قلبي اختارك وانتهى." 

أخذت الوردة بين يديها، ثم دخلت... وقد بدأت تشعر أن نهاية الطريق تقترب، لكن الوجهة لا تزال مجهولة.

جلست سارة على طرف سريرها، تقلب الوردة البيضاء بين أصابعها، وعيناها شاردتان في السقف. لم تكن تلك الكلمات كافية لطمأنتها، لكنها أيضاً لم تكن عبثية. في قلبها، كانت تعلم أن طارق لم يكن رجلاً عابراً... ولكن ماضيه، ذلك الذي كشفه فجأة، جعلها تتراجع خطوة. 

كيف يمكن لامرأة مثلها، قضت عمرها تستمع لقصص الآخرين، أن تجد نفسها فجأة جزءًا من قصة غامضة؟ وهل يمكن للقلوب أن تُشفى وهي ما زالت تنزف؟ 

في اليوم التالي، كانت جلسة طارق مختلفة. 

دخل المكتب وهو يحمل صندوقاً صغيراً، وضعه أمامها، وجلس بهدوء. لم يتكلم فوراً، بل راقب تعبير وجهها وهي تتأمل الصندوق. 

– "دي حاجات تخص ليان... صور، مذكرات، كل حاجة... حاسس إني لازم أواجه ده كله عشان أبدأ من جديد." 

ترددت سارة، ثم مدت يدها بهدوء وفتحت الصندوق. وجدت صورة لفتاة ملامحها ناعمة، تحمل ابتسامة واهنة، وعيناها فيها من الحزن أكثر مما تحتمله الذاكرة. 

قال طارق بصوت خافت:
– "كانت بتحبني جداً، وأنا كنت بحبها... بس إحنا كنا مختلفين. ليان كانت مريضة، وكان عندها قلق مزمن، رفضت العلاج، وفضلت تكابر لحد ما انهارت…" 

نظر إلى سارة نظرة صريحة، لا تهرب فيها. 

– "أنا جربت أساعدها، زي ما إنتِ بتساعديني دلوقتي... بس مقدرتش. يمكن عشان ساعتها كنت أنا كمان تايه." 

همست سارة وهي تغلق الصندوق:
– "اللي راح، راح... بس أنت لسه هنا." 

صمت قليلاً، ثم قال:
– "وأنا هنا علشانك." 

توقف الزمن لثوانٍ، قبل أن يقطع الصمت صوت هاتف سارة. نظرت إلى الشاشة، وتغير وجهها. 

رقم مجهول... ورسالة واحدة. 

"سيبيه قبل ما تندمي... هو مش زي ما فاكرة." 

انقبض قلبها. 

نظرت إلى طارق، الذي لاحظ تغير ملامحها، فسألها بهدوء: 

– "فيه حاجة؟" 

– "حد بيهددني... أو بيهددك... مش عارفة." 

مد يده ببطء نحو الورقة، قرأها، ولم يندهش. 

– "هي… صاحبة الصورة. كانت صاحبة ليان. بتحمّلني ذنب موتها." 

– "بس ليه دلوقتي؟" 

– "يمكن عشان بدأت أعيش…" 

سارة شعرت بالخوف، لكنها شعرت أيضاً بأنها لن تتركه وحده. ربما لم تبدأ القصة بينهما كما تبدأ القصص التقليدية، لكنها لم تكن عابرة. 

في تلك الليلة، جلست تكتب في مذكرتها، لأول مرة منذ أشهر: 

"أحياناً، تأتي الطمأنينة في هيئة فوضى... في هيئة رجل مكسور لكنه صادق، يحاول أن يعيد بناء نفسه بكلمة، بنظرة، وربما بيّ." 

أغلقت الدفتر وابتسمت بخفة. 

كانت تدرك أن النهاية قريبة... لكن قلبها أخبرها أن ما ينتظرها هناك، يستحق أن تُكمل الطريق. 

                    الفصل الخامس من هنا
تعليقات



<>