رواية في حضرة الحب
الفصل الرابع4بقلم فادي عمر
المساء حلّ على المدينة مُثقلًا بالغيم، والضوء البرتقالي للمصابيح ارتسم على زجاج النوافذ مثل خيوط قلقٍ صامت.
نور كانت تجلس في الكافيتريا الصغيرة داخل الشركة، تحرّك ملعقتها في كوب النسكافيه دون أن تشرب.
ذهنيًا، لم تكن هنا. كانت في المنتصف، بين ماضٍ يظهر على هيئة ضحكة آدم، وحاضر غامض بصمت رامي.
قطع الصمت صوت مألوف:
ـ "النسكافيه ده محتاج سكر، وإنتي محتاجة تفوّقي شوية."
رفعت رأسها بسرعة، لتجد آدم يبتسم، حاملاً كوبًا آخر جلس به دون دعوة.
قالت بنصف ابتسامة:
ـ "مش ناقص غير تقوليلي إنك بتقرأ أفكاري."
ضحك:
ـ "أقرأ ملامحك… ولسه حافظك كويس على فكرة."
ـ "زمان يا آدم… كتير حصل من وقتها."
ـ "بس انتي لسه زي ما انتي، بتخبّي تعبك تحت ضحكة صغيرة."
ساد صمت، قبل أن يقول بنبرة أكثر جدية:
ـ "نور… ليه مش بتسأليني أنا جيت هنا ليه؟"
نظرت إليه بفضول خفيف:
ـ "افتكرتها صدفة."
ابتسم:
ـ "جزء منها صدفة، وجزء… كان قرار."
سكتت، وعيونها اتسعت.
قال بصوت أخفض:
ـ "لما عرفت إنك هنا، قدمت على النقل. كان لازم أعرف إذا لسه في فرصة نرجّع اللي ضاع مننا."
قبل أن ترد، سمعا صوتًا خلفهما:
ـ "آسف… ما كنتش حابب أقاطع."
كان رامي، يقف عند المدخل، وجهه ثابت لكن نبرته بها شيءٌ جديد… شيء لم تعهده نور من قبل.
قال وهو يتجه نحوهما:
ـ "نور، كنت عايزك في المكتب بعد ما تخلصي، في موضوع ضروري نراجعه سوا."
قالت بهدوء:
ـ "تمام، خمس دقايق."
رمق آدم رامي بنظرة سريعة، ثم مال إلى نور وهمس:
ـ "أنا مستنيكي بعد الشغل. مش هسيبك تروحي لوحدك زي كل يوم."
وغادر.
رامي لم يقل شيئًا، لكنه سمع الهمسة… ورآها.
وفي مكتبه، حيث كان ينتظرها بعد دقائق، وقف أمام السبورة الزجاجية وهو يخطّ ملاحظاته، لكنه لا يرى الكلمات.
حين دخلت، أغلق الباب خلفها بهدوء، ثم جلس دون أن يتكلم.
قالت نور:
ـ "كنت عايزني ليه؟"
أجاب، وهو يثبّت عينيه على الورق:
ـ "عشان أقولك إن شغلك ممتاز… وإن وجودك هنا مختلف."
نظرت إليه، تنتظر ما هو أكثر.
فرفع عينيه أخيرًا وقال:
ـ "بس اللي لسه مش فاهمه… هو إنتي جاية تشتغلي هنا فعلاً… ولا جاية تفتحي صفحات قديمة؟"
ارتبكت نور، لكنها تماسكت:
ـ "مش كل حد من الماضي بيمثّل تهديد. يمكن آدم بس رجّعلي جزء كنت نسيته."
قال ببطء، كأنّ كل كلمة تخرج من جرح:
ـ "بس أنا… مش قادر أكون متفرّج. وأنا مش من الناس اللي بتتكلم كتير، بس بلاحظ كل حاجة."
سكت، ثم أضاف:
ـ "وبلاحظ إنك، لما بتضحكي معاه… بتنسي وجودي."
قالت بصوت منخفض:
ـ "رامي… أنا مش عارفة إيه اللي بيحصل جوايا. بس أنا مش بلعب… لا بيك، ولا بيه."
نظر لها للحظة طويلة… ثم قال بهدوء، دون غضب:
ـ "أنا عارف. علشان كده خايف."
وفي تلك اللحظة…
لم تكن نور تعرف من تخشى أن تخسره أكثر.
رامي… الذي يحمل في صمته ألف سؤال.
أم آدم… الذي جاء يحمل كل الإجابات، ولكن في التوقيت الخطأ؟
خرجت نور من مكتب رامي بعد حديثه الأخير، لكن خطواتها لم تكن كما دخلت.
كانت أخفّ، لكنها مثقلة.
في عينيها ارتباك، وفي قلبها صوتان يتصارعان.
وفي الخارج، عند البوابة الرئيسية، كان آدم ينتظر، يقف تحت شجرة قليلة الظلّ، وكأنّه يحمل كل الزمن الماضي في جيبه.
ـ "اتأخرتي."
ـ "كان في شغل…"
ـ "ولا كلام؟"
قالها بنبرة فيها نغمة فهمٍ خفيّ.
نظرت إليه بحذر:
ـ "إنت جاي فعلاً تشتغل؟ ولا عايز تفتح حكاية قفلتها بإيدك من سنين؟"
رد وهو يخطو جوارها:
ـ "أنا غلطت إني سبتك تمشي من غير ما أحاول… بس يمكن دي فرصتي أصلّح."
ـ "الحياة مش دايمًا بتدّي فرص تصليح، آدم…"
صمتت لحظة، ثم قالت:
ـ "أنا مش جاهزة أرجع لنسخة قديمة من نفسي… يمكن بقيت حد تاني."
ابتسم وقال بثقة:
ـ "لو اتغيرتي… فده لأنك قوية، مش لأنك نسيتي. وأنا… مش جاي آخدك من اللي إنتي بقيتي عليه. أنا جاي أكون جزء من دلوقتي."
في اليوم التالي، دقّت ساعة الحقيقة.
رامي دعا نور إلى اجتماع داخلي مع مجلس الإدارة لعرض مشروع مشترك كانت تعمل عليه منذ أسبوعين.
اجتهدت، واستعدت، لكنها لم تكن تعرف أن الجلسة ستكون لحظة فاصلة في أكثر من جانب.
دخلت القاعة، وفوجئت بأن آدم يجلس إلى جوار أحد الأعضاء…
ما لم تكن تعلمه نور أن آدم هو ابن مدير تنفيذي في واحدة من الشركات الشريكة… وأنه لم يكن موظفًا بسيطًا كما أوهمها، بل جزء من الإدارة العليا في مشروع استثماري.
وفي اللحظة التي بدأت فيها عرضها، دخل رامي…
توقف بجوار الطاولة، ثم قال وهو ينظر إلى الجميع:
ـ "قبل ما نبدأ العرض… عايز أقدّم معلومة صغيرة."
أدار نظره إلى نور، ثم إلى آدم:
ـ "آدم يوسف… مش مجرد موظف جديد. هو ابن الشريك الاستثماري الرئيسي، وجاي بصفة مراقب. وكنت أتمنى أقول إن دي صدفة… بس واضح إن في حاجات كتير مش واضحة."
تجمدت نور في مكانها، نظرت إلى آدم بدهشة وغضب:
ـ "إنتَ كدبت عليّا؟!"
آدم حاول تبرير الموقف:
ـ "أنا مكدبتش… بس ما قلتش كل حاجة. كنت عايز أعرفك من غير ما يكون اسمي عامل فارق."
قال رامي وهو ينظر إليها:
ـ "ونور؟ هي كمان كانت تستحق تعرف… من البداية."
وقف التوتر على حافة الطاولة كسكين…
لكن في قلب نور، شيء أقوى من الخيانة أو الخوف… اليقظة.
قالت بنبرة ثابتة، تخترق الصمت:
ـ "أنا جيت هنا أشتغل، مش أكون قطعة في صراع سلطة، ولا في لعبة عواطف.
ولو حد فاكر إني هختار بناءً على أسماء أو علاقات… يبقى مش عارفني."
ثم التفتت ناحية رامي، وقالت بهدوء:
ـ "أنا محتاجة وقت… مش علشان أختار بينكم، لكن علشان أختار أنا عايزة أبقى مين وسط كل ده."
وغادرت القاعة…
لكنها لم تدرِ أن ما قالته، لم يكن مجرد كلمات.
بل كان إعلانًا لبداية معركة…
بين رجلين لم يتعلّما الخسارة.
