رواية خلف الوجوه البيضاء
الفصل الرابع4
بقلم اسلام الحريري
كان الليل قد ابتلع المدينة بالكامل، يبتلع معها همسات الناس، وأصوات الأرصفة، وحتى ضوء النجاة.
في مقر الشرطة، لم يكن الصمت هو السائد… بل شيء آخر يشبه الغليان الصامت، توترٌ لا يرى لكنه يُحَسّ، كأنه ضوء خافت يتسلل من تحت باب مغلق على جريمة جديدة.
جلس أدهم على الكرسي المقابل لشاشة التحقيق، يحدّق في الصورة الأخيرة التي التقطتها كاميرات الحي. لم يكن فيها شيء مريب، سوى رجلٍ يعبر الرصيف... ويرتدي القناع الأبيض.
"الساعة ١:٤٥ بعد منتصف الليل، نفس التوقيت في الجرائم التلاتة." قالتها المحققة وهي تقف خلفه، يدها على الطاولة، ونظرتها على الفراغ.
لم يجب. كانت عيناه تتنقلان ببطء بين الإطار والإطار، كما لو أنه يحاول سماع ما تقوله الصور، لا رؤيته فقط.
"وشّه مش باين... طبعًا." تمتمت.
أدهم همس، وكأنه يحادث نفسه: "القاتل مش محتاج يستخبى... هو واثق إننا بندور في الدايرة الغلط."
صمتت لحظة، ثم مدت يدها إلى درجها، أخرجت ملفًا صغيرًا، ودفعته أمامه.
"البلاغ الجديد وصل النهاردة... نفس التفاصيل. بس الضحية لسه ما اتقتلتش."
رفع نظره إليها ببطء. شيء في ملامحها تغيّر، كأن الخوف بدأ يتسرّب خلف قناع الحياد المهني الذي ترتديه.
فتح الملف. صورة لامرأة... شابة، تبتسم في صورة رسمية، تقف أمام مبنى العدالة، بيدها ملف، وبعينيها يقينٌ يُغضب الجناة.
"اسمها سلمى الجندي. محامية، كانت جزء من لجنة طردك زمان."
نظر إليها مرة أخرى، هذه المرة بعينين لا تسألان، بل تتذكّران.
"هو بيقتلهم واحد واحد..." قالها، وعيناه تعودان إلى الصورة. "مش عشوائي... دي تصفية."
وقبل أن يكمل، رنّ هاتفه المحمول. رقم مخفي. تردد لحظة، ثم أجاب.
الصوت كان مشوّهًا، كأن صاحبه يتحدث من تحت الماء أو من خلف قناع.
"أدهم مراد... بتحاول تنقذهم؟ متأخر زي كل مرة."
أراد أن يرد، لكن الصوت قاطعه:
"وجه جديد… قناع جديد… بس القصة لسه ناقصة مشهد. المشهد اللي أنت فيه."
وانقطعت المكالمة.
حدّق أدهم في الهاتف للحظات، ثم نهض.
"عنده خطة، والاسم اللي جاي… مكتوب من بدري."
قالتها المحققة بهدوء، كأنها تأكدت من شيء كانت تخشاه.
أجابها بنظرة واحدة، ثم قال:
"والخوف مش من الضحية اللي جاية… الخوف من اللي بعدها."
خرج من المكتب، والمطر بدأ يتساقط من جديد. خطاه على الأرض المبللة تُصدر صوتًا خفيفًا، كأن المدينة كلها تصغي لما لم يُقَل.
وقف تحت عمود النور، رفع رأسه للسماء، كأن المطر يحاول محو ما كُتب. لكن في قلبه… كانت الجملة تحترق:
"الملاك الأبيض… ما زال حيًّا."
ثم تمتم، وكأن الكلمات لم تكن له، بل لظلٍّ يقف خلفه منذ البداية:
"أنا ماشي في طريق… نهايته قناع… وعنوانه: أنا."
في الممر الطويل المؤدي إلى قسم الأدلة، كانت الأضواء ترتجف فوق الرؤوس، كما لو أنها تهمس: شيءٌ ليس في مكانه.
أدهم مراد كان يمشي بخطى أثقل من العادة، كأن الأرض تعرف ثقل الذنب الذي يحمله منذ سنوات.
كان يحمل صورة الضحية القادمة في جيبه، لا لأنها دليل، بل لأنها تذكرة… أن الفشل لا يُمحى بسهولة.
حين وصل، وجدها جالسة على الطاولة، تراجع أوراقًا بهدوء، تُقلب فيها بأصابع حذرة كأنها تعرف أن أحدها سيكون لها.
لم ترفع عينيها نحوه فورًا، لكنها قالت بصوت ناعم، فيه جمود المحاماة، وفيه رعشة أنثى تعرف ما يُخبّئه الليل:
"بلغوني إنك عايز تقابلني… ليه؟"
اقترب ببطء، وضع الصورة أمامها. نظرت إليها، ثم إليه. لم تفهم.
"انتي على الليستة،" قالها دون التفاف، "بس المرة دي… في فرصة نمنع الجريمة قبل ما تحصل."
شهقت داخليًا، لم تهرب، لم تصرخ، فقط أغمضت عينيها لحظة.
كأنها سمعت حُكمًا مؤجلًا كانت تعرف أنه سيأتي يومًا.
"أنا كنت من الناس اللي وقّعوا على قرار طردك... فاكرة."
قالتها بصوت خافت.
ابتسم… أو شيء يشبه الابتسامة، لا سخرية فيها ولا غضب… فقط اعتراف بالقدر.
"هو بيرتب جرائم بـ 'عدالة معكوسة'… كل واحد له دور، وكل دور ليه عقوبة… وأنا مجرّد شاهد متأخر."
سكت، ثم أضاف:
"بس مش ناوي أفضّل شاهد."
نظرت إليه بعينين مختلفتين، لم تعد ترى فيه الضابط المطرود، بل الرجل الذي قرأ الخطر في منتصف الحلم، وقام وحده ليحارب ظلًّا لا وجه له.
مرت لحظة… طويلة، حتى النَفَس فيها كان محسوبًا.
ثم وقفت، وقالت بثقة خافتة:
"لو في فرصة أنجو… فهتكون إني أواجه مش أستخبى."
لم يعترض، ولم يشجع. فقط نظر إلى الباب خلفها، وقال:
"طيب نبدأ من أول سؤال… مين كان ضدك أكتر من اللازم وقت اللجنة؟"
وفي تلك اللحظة… انطفأ أحد المصابيح في الممر.
نظرت إلى السقف. هو لم ينظر… بل همس:
"بيحب يسيب علامة قبل ما يضرب… دايمًا."
ثم خرج، وهي خلفه، تمشي لا كضحية… بل كامرأة فهمت أنها في حربٍ لا تختارها، لكن يمكن أن تنجو منها… إن أرادت.
وفي زاوية الممر، كان هناك ظلّ… يراقب.
كان لا يزال يرتدي القناع الأبيض…
لكن هذه المرة، كان يحمل بين يديه شيئًا صغيرًا…
مرآة.
