رواية احببتك حتي انطفائي الفصل الرابع4بقلم ماسه الحريري


رواية احببتك حتي انطفائي
 الفصل الرابع4
بقلم ماسه الحريري



سلّمته الورقة وقالت بنبرة هادئة، فيها نغمة من الماضي ونظرة إلى ما قد يأتي:
"سيبها معاك... لو اتصلّحت، ابعتهالي تاني." 

ابتسم آدم، بس كانت ابتسامة مختلفة. مش ابتسامة فوز، ولا رجوع، كانت ابتسامة إنسان لسه بيتعلم يمشي من جديد بعد سقوط طويل. 

لمى لفت تمشي، وقبل ما توصل للباب، سمعته بينادي عليها بنبرة فيها رجاء صغير: 

"هتفضلي تروحي من غير ما تشوفي ورشة الأطفال؟ حتى لو لخمس دقايق؟ الأطفال كانوا فرحانين إنك ممكن تيجي النهارده... ومستنيينك." 

وقفت لمى، ولفت تبص له. ملامحه كانت صادقة، وصوته فيه بحة من تعب وأمل. 

اتنهدت وقالت:
"خمس دقايق... مش أكتر." 

دخلت معاه الورشة، وكانت مليانة ألوان وضحك بريء. أطفال بيرسموا بحماس، وكل واحد حاطط في لوحته عالمه الصغير.
في ركن بسيط، كان في كرسي فاضي، جنبه لوحة بيضا. 

قالت الطفلة الصغيرة:
"هنا هنبدأ نرسم لوحة جديدة... وانتِ اللي هتبدأيها، عاوزين نتعلم منك!" 

ضحكت لمى بخجل، وبدأت ترسم أول خط، وإيدها بترتجف شوية... بس شيء جوّاها كان بيرتاح. أول مرة من فترة طويلة تحس إنها مش لوحدها. 

آدم وقف في الزاوية، بيتفرج عليها من بعيد، ماحاولش يقرب، ولا يقاطع، بس عيناه كانت مليانة فخر وسكون. 

وفجأة، مدّت الطفلة فرشاة صغيرة لآدم وقالت له:
"يلا، ارسم جنبها." 

بصّ لمى كأنه بياخد إذنها بصمت.
لمى بصّت له، وسكتت ثانية... ثم قالت بنبرة خفيفة:
"بس أوعى تلون بالرمادي." 

ضحك، وقعد جنبها لأول مرة من شهور...
وفرشة صغيرة في إيده، ولون جديد على الورقة...
وبداية ما حدّش منهم كان متوقّعها، لكن الاتنين كانوا محتاجينها.

بدأت الفرش تتحرك على اللوحة البيضاء، ألوان دافئة بتتراقص بين ضحكات الأطفال ولمسات لمى وآدم.
لحظة فيها سكون ودفء، كأن الدنيا قررت تهدّي وتديهم فرصة يتنفسوا من جديد. 

لمى كانت بتحاول تبان هادية، لكن قلبها كان بيخبط بخفة، كل ما قربت الفرشاة من إيده.
آدم حسّ بده، بس ما اتكلمش، بس خفّف من حركته علشان ما يزعجهاش... احترم المسافة، حتى وهو بيتمنى يقرب. 

الطفلة الصغيرة بصّت في اللوحة وقالت بضحكة:
"شكلها هتبقى أحلى لوحة رسمناها!" 

ضحكت لمى وردّت:
"علشان فيها قلوب بتحاول تتلون من تاني." 

آدم ابتسم بصمت... الجملة خبطت فيه، لكنه حبّها. 

وفجأة، دخلت الست المشرفة على الورشة وهي مبتسمة:
"في مفاجأة صغيرة... واحد من المتبرعين الكبار جه مخصوص يشكر الرسامين الصغار، وخصوصًا اللي رسموا لوحة "النافذة"... وطلب يقابل الفنان اللي ألهمهم بيها." 

آدم اتوتر، ولمى استغربت، لكن لحظات وظهر رجل خمسيني، أنيق، بشعر رمادي ونظرة حنونة. دخل بابتسامة وقال: 

"أهلاً... أنا الدكتور إياد، والد آدم." 

الهدوء اتكسر فجأة، ولمى بصّت لآدم بصدمة.
آدم وقف مكانه، باين عليه مش مرتاح. 

الدكتور إياد قرّب ولمى وقالب صوته فيه دفء واضح:
"أنا آسف لو وجودي فاجئك... بس كنت حابب أشكرك، مش بس على دعمك للأطفال، لأ، كمان على إنك ساعدتي آدم يبقى شخص أحسن." 

لمى ترددت، لكنها قالت بأدب:
"أنا... ماعملتش حاجة كبيرة." 

رد إياد بابتسامة:
"بل عملتي أكتر مما تتخيلي... هو عمره ما اتغيّر لحد، بس معاكي... بدأ يسمع، ويشوف، ويحاسب نفسه." 

آدم بصّ للأرض، وعينه فيها اعتراف. 

لحظة قصيرة، لكنها فتحت باب لأسئلة كتير...
ليه والد آدم بيظهر دلوقتي؟
وهل فعلاً التغيير الحقيقي بدأ... ولا لسه في أسرار مستخبية؟

لمى فضلت واقفة، مش عارفة ترد بإيه، ودماغها بيلف حوالين الجملة اللي قالها والد آدم:
“هو عمره ما اتغير لحد... بس معاكي، بدأ يسمع، ويشوف، ويحاسب نفسه.” 

آدم كان واقف بعيد، وكأنه بينتظر رد فعلها، لكنه ما اتكلمش.
هي بصّت له للحظة، شافت في عينه خوف... مش خوف من المواجهة، لأ، خوف من إنها تمشي. 

الدكتور إياد لاحظ التوتر، فحاول يخفف الجو وقال بابتسامة:
"أنا عارف إني غريب عن الجو ده، بس كنت محتاج أشوفه وهو كده... مختلف. وكنت محتاج أشوفك انتي، البنت اللي قدرت تغيّره." 

لمى قالت بلطف وتحفظ:
"أنا بس كنت سبب صغير... التغيير الحقيقي بييجي من جوه." 

هزّ إياد راسه وقال:
"لو تعرفي هو كان عامل إزاي، هتعرفي قد إيه وجودك غيّر جوّاه كتير." 

قلبها وجعها، مش عشان الكلام، لكن عشان الخوف اللي رجع من تاني.
هل ده فعلاً آدم اللي ممكن تتطمن له؟
ولا ده بس وجه جديد بيتخفي ورا ذنب كبير؟ 

بعد دقائق، قررت لمى تنهي اللقاء بلطافة، وقالت للدكتور إياد:
"أنا هروح أشوف الأطفال، سعيده إني قابلتك." 

مشت، وآدم كان لسه في مكانه. لكن وهي ماشية عدت جنبه، بصّت له وقالت بهدوء:
"كمل، لأجلهم... ولأجل نفسك." 

وعدّت، لكنه حس إن فيه ضوء صغير اتفتح من جديد جواها... وإنه لسه عنده فرصة. 

في الأيام اللي بعدها، لمى ما كانتش بترد على رسايله، لكنها ما عملتش له بلوك.
كانت بتقرأ، وبتشوف صوره من بعيد، وبتسمع من ريتا عن اللي بيعمله. 

كان بيروح المستشفى كل يوم، بيساعد، بيرسم، بيدعم.
حتى بدأ يشارك في ورش توعية للأطفال، ويرسم حكايات فيها أمل.
كل خطوة كان بيعملها، كانت بتخلي لمى تفكر...
هل فعلاً بيتغير؟
ولا بيحاول يثبت حاجة مؤقتة؟ 

وفي يوم، وهي خارجة من شغلها، لقت ظرف صغير متعلق على باب عربيتها.
فتحت الظرف، ولقت فيه كارت صغير مرسوم عليه شجرة، وتحتها مكتوب:
"كل ما كنت بتهرب... كنت بزرع مسافة بيني وبين الحياة. انتي كنتي أول مَن زرع جوه قلبي فكرة البقاء... مش الهروب." 

كان فيه كمان دعوة صغيرة:
"ورشة رسم جديدة في دار المسنين – بكرة الساعة 4. لو عايزة تشوفي النسخة الجديدة مني، تعالي." 

ترددت... كتير.
بس فضولها، وحنينها، وعيون الأطفال اللي رسموا أمل، غلبوا عقلها. 

تاني يوم، راحت. 

الدنيا كانت هادية، جو بسيط دافي، وروائح ألوان بتملأ المكان. 

آدم كان واقف قدام لوحة كبيرة، بيساعد راجل مسنّ يرسم شجرة وعليها عصافير. 

ولما شافها، عيونه اتفتحت بدهشة وسعادة حقيقية، لكنه ما جريش عليها، ولا قال كلمة.
بس ابتسامته كانت مليانة شكر وراحة. 

قربت لمى بهدوء، وسألت الراجل العجوز:
"أقدر أساعدكم؟" 

ضحك الرجل وقال:
"طبعًا يا بنتي، بس متضحكيش على رسمي، إيدي بتتهز من الزمن!" 

ضحكت لمى من قلبها، وقالت:
"أنا مش هضحك... دي أجمل شجرة شفتها." 

آدم بصّ لها وهمس:
"أنا كنت مستني اليوم ده... بس ما توقعتوش." 

قالت لمى بهدوء وهي بترسم:
"أنا جيت... علشان أشوف... مش علشان أسامح." 

رد بهمس أعمق:
"عارف... وأوعدك، مش هستعجلك، بس كل يوم هثبتلك... إني بقيت حد يستحق يكون جنبك، لو حبّيتي يومًا ترجعي." 

بعد الورشة، كانت ماشية للباب، لقى نفسه بيقول من غير ما يفكر:
"لمى..." 

وقفت، بصّت له، ساب الكلام يوصلها بعنيه، وقال:
"أنا ما بقيتش عايزك تسامحيني... بقيت عايزك تشوفيني." 

سابت له ابتسامة خفيفة... وسابت الباب وراه. 

بس قلبها كان دافي لأول مرة من زمن.
ولسان حالها بيقول:
يمكن... لسه في فرصة. 


                   الفصل الخامس من هنا

تعليقات



<>