رواية احببتك حتي انطفائي
الفصل الخامس5
بقلم ماسه الحريري
كانت الأيام تمر ببطء، لكنها لم تكن فارغة.
لمى بدأت تشعر بشيء مختلف... شعور ما بين الخوف والأمل، الندم والحنين.
آدم، بدوره، لم يكن يحاول أن يقترب أكثر، لكن كل تصرف منه كان يقول: "أنا بتغير، بس مش علشانك... علشان نفسي، ثم علشانك."
وفي أحد الأيام، وصلتها رسالة غريبة على بريدها الإلكتروني...
المرسل: إياد الراوي
العنوان: "ما لم يقله لكِ آدم..."
ترددت، قلبها دق بسرعة.
ثم فتحت الرسالة، وكان مكتوب فيها:
"أنا مش بكتبلك علشان أطلب أي شيء... أنا بكتب علشان لازم تعرفي، لمى.
آدم مش بس ابن آدم القديم اللي عرفتيه، هو كمان ابن الماضي اللي ما عمره حكالك عنه.
وأنا... كنت أحد أسباب كسر روحه."
تجمدت لمى، وكملت تقرأ:
"لما آدم كان صغير، أنا ما كنتش أب... كنت مشروع فاشل لرجل بيجري ورا المال، والسلطة.
كنت بشتغل في شركات مشبوهة، وكان عندي يد في صفقات سوداء... وهو عرف.
شافني يومًا بعيونه وأنا بدّي رشوة لطبيب علشان يسكت عن حالة وفاة لطفل صغير مات بسبب دواء مغشوش إحنا كنا بنورّده للمستشفيات.
كان عنده ١٥ سنة... ومن يومها، كرهني، وكتم كل حاجة جواه.
هرب مني، من البيت، من كل شيء. وبقى بيحاول ينسى.
بس وجعي ما كانش بيمشي من جواه... ولما دخل في عالم الشغل، سابني، وساب روحه."
لمى قعدت وهي بتحس إن في جبل وقع على قلبها.
ما كانتش تعرف، ولا تتخيل إن اللي جواه مش بس خطيئة هو ارتكبها... لكن كمان خيانة أب.
"أنا عارف إني ما استحقش أطلب منك أي عفو... لكن كنت محتاج توصلك الحقيقة.
آدم مش ملاك، بس هو مش شيطان كمان.
هو ابن إنسان مكسور، وكان بيحاول يرمّم نفسه وسط عتمة أنا كنت سببها."
**
في المساء، جلست لمى قدام لوحتها، تحاول ترسم شيء... أي شيء.
لكن الدموع نزلت من غير إذن.
مش بس علشان آدم، لكن علشان وجع عمره ما اتقال.
فكرت...
في كم مرة حست إن فيه حاجة مكسورة جواه، حاجة مش مفهومة.
في كم مرة كانت بتحس إنه بيهرب مش منها، لكن من حاجة أبعد بكتير.
حاولت تنام...
بس الحلم جه:
آدم صغير، واقف وسط شارع مظلم، بيعيط، وبصوته بيقول:
"بابا... هو ليه الطفل مات؟... هو ليه أنا مش قادر أنام؟"
صحيت مفزوعة، مسحت دموعها، وقررت تكتب له رسالة... مش علشان ترجعله، لكن علشان تفتح باب الحقيقة.
**
"آدم...
يمكن أنا معرفتش أقرأك كويس في البداية.
كنت بشوفك قوي، ومغرور، وغامض... بس النهاردة، شفتك طفل بيحاول يلاقي طريق.
أنا مش قادرة أقول إني سامحت، ولا إني نسيت...
بس لأول مرة، حاسة إني شايفة وجعك.
مش هطلب منك تقابلني، ولا ترد،
بس لو كنت محتاج تحكي... أنا هاسمع."
**
وفي اليوم التالي، وصلها رد.
لكن ماكانش رد مكتوب...
كان تسجيل صوتي.
فتحته، وسمعت صوته متهدج، مش متماسك.
"عارفة يا لمى...
أنا عمري ما حكيت لحد. حتى ريتا ما تعرفش.
بس الرسالة دي منك كسرت شيء جوايا كنت حابسه من ١٥ سنة.
أنا كنت شاهد على موت طفل بريء،
وشاهد على كذبة بحجم الجبل،
وشاهد على إن اللي المفروض يربيني... كان سبب خراب روحي."
صوته ارتعش.
"كنت بحاول أنتقم... مش من بابا، لكن من العالم.
وبعدين ظهرتي إنتي.
كنتي حقيقية، نقية، وفجأة... بقيت أخاف أخسرك،
بس خسرتك فعلاً لما كنت لسه مش بني آدم كامل."
لمى بكت وهي بتسمع.
"أنا النهاردة... مش طالب فرصة،
أنا طالب تُسجلي في قلبك إني حاولت.
ولو في يوم... حبيتي تبقي جنبي،
أنا هبقى هناك... طفل جوه راجل، مستني حب ينقذه."
**
وفي المساء، وهي واقفة قدام المرايا، بصّت لنفسها، وقالت بصوت واطي:
"الحب الحقيقي مش بس غرام...
الحب هو إنك تشوف الجرح، وتختار تداويه، مش تهرب منه."
مرّت ساعات طويلة بعد سماع لمى للتسجيل…
ساعات كانت تشبه الغرق، بين أمواج متضاربة من مشاعر متشابكة:
شفقة… ألم… حنين… وغضب لم تعد متأكدة من مصدره.
أهو الغضب من آدم؟ من والده؟ من نفسها؟ أم من الحياة التي تفرض على القلوب أن تنضج من خلال الانكسار؟
عندما غفت أخيرًا، كان ذلك ليس نومًا… بل انسحابًا مؤقتًا من معركة الداخل.
لكن في اليوم التالي، وصلتها دعوة.
بخط يدٍ مألوف… بسيط… متردد.
"لمى…
فيه مكان أول مرة شفتك فيه، بس عمرك ما خدتِ بالك…
كان قبل حتى ما نعرف بعض كويس.
كنتِ واقفة في زاوية المعرض، قدام لوحة لطفلة بترسم أمل وسط ظلال كتير…
كان شعرك مربوط، وعينيكي مشغولين بالتفاصيل،
وساعتها، قلت لنفسي: الإنسان ده، لازم أدخله عالمي…
لو عايزة تقابليني… أنا هناك.
بس لو مش حابة، متيجيش.
بس هافضل أستناكي."
**
لمى لبست معطفها الرمادي، اللي دايمًا بتلبسه في لحظات الحسم،
وقلبها كان بيدق كأنه بيرقص رقصة الموت والبعث معًا.
وصلت المكان.
نفس الزاوية… نفس اللوحة…
لكن كانت اللوحة مختلفة.
الفتاة في اللوحة اليوم كانت تنظر للأعلى…
وأمامها، نافذة مفتوحة، تدخل منها طيور بيضاء.
وأمام اللوحة… كان آدم.
واقف… ساكن… متغير.
شعره أطول قليلًا، لحيته غير مرتبة، لكنه بدا إنسانًا.
حين التفت ورآها… لم يبتسم.
لكنه رفع عينيه إليها، بتلك النظرة التي لا تعرف الكذب.
نظرة تقول: "أنا هون… مش بطل، ولا ضحية… بس رجل بيحبك بكل فوضاه."
اقتربت بخطى بطيئة.
سكون تام غلّف اللحظة، كأن العالم كله انحنى احترامًا للصدق المتأخر.
آدم قال بصوت منخفض:
– "ماكنتش متأكد إنك هتيجي…"
لمى نظرت للوحة، ثم إليه:
– "كنت خايفة… ولسه خايفة.
بس لما شفت الطفلة اللي جوهك،
حسيت إن قلبي مش بيكرهك… هو بس زعلان."
اقترب خطوة.
– "وأنا زعلان من نفسي…
لأني كنت بضحك، وأنتي بتنزفي من جواكي.
كنت باهرب من وجعي، وكنت أناني كفاية إني ما شفتش وجعك."
لمى عضّت شفايفها، وعيناها امتلأت بالدموع:
– "أنا فقدت الثقة… مش فيك بس… في قلبي كمان.
بس… النهاردة، حسيت إني محتاجة أسمع نبضك من قريب."
فأمسك يدها بلطف، كأنها شيء هش يخشى عليه من الانكسار:
– "أنا مش جاي أطلب غفران،
أنا جاي أقولك إني هافضل أستحقه…
كل يوم، كل لحظة،
لحد ما قلبك يقوللي: كفاية، رجعت الأمان."
**
مرّت اللحظة بينهما ثقيلة ومقدّسة.
صمت، فوضى مشاعر، دموع لا تحتاج إذنًا.
ثم همس:
– "ينفع أقول كلمة… من زمان نفسي أقولها؟"
هزّت رأسها، بشفاه مرتعشة:
– "قول…"
فقال وهو يرفع يدها لشفتيه:
– "أنا مش بحبك…
أنا بتعافى بيك."
**
وفي تلك اللحظة…
أغمضت عينيها،
وسمحت لقلبها أن يتنفس من جديد.
