رواية خلف الوجوه البيضاء الفصل الخامس5بقلم اسلام الحريري


رواية خلف الوجوه البيضاء
 الفصل الخامس5
بقلم اسلام الحريري


كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرًا، والمدينة تتنفس في صمتٍ كأنها تعتذر عن كل الأصوات التي أطلقتها نهارًا. نوافذ المباني مغلقة، لكن خلف بعضها… هناك عيون لا تنام. عيون اعتادت الظلال أكثر من الضوء، كأنها لا تثق في النهار.
في أحد المكاتب القديمة داخل قسم الشرطة، جلس أدهم مراد أمام لوحة التحقيق، عاكفًا على فك شيفرة الجريمة كما لو كان يفكّ طلاسم ماضٍ لم يُغفر بعد. الأوراق أمامه، الصور، الأقنعة… وكلها تنظر إليه، لا تطلب حلًّا، بل تعكسه. 

"الملاك الأبيض..." تمتم بالكلمة من جديد، وهو يرسمها بقلمه على الورقة، ثم وضع تحتها ثلاث دوائر، كتب في كلٍ منها اسمًا:
"رائد سليم… فادي نوفل… سامر الجندي." 

ثلاثة قتلى، ثلاث أقنعة… وثلاث وجوه حقيقية، لا يربط بينها شيء ظاهر، إلا ذلك الغموض الذي يزداد سماكة كلما اقترب منه. 

دخلت المحققة زين صفوان، تحمل كوبين من القهوة، وقد بدا على ملامحها التعب أكثر من أي وقت مضى. وضعت كوبه أمامه، وقالت بصوت منخفض:
"اتأكدنا من الكاميرات… مفيش أي حركة غريبة دخلت العمارة قبل أو بعد وقت الجريمة." 

نظر إليها أدهم، ابتسم بسخرية:
"يعني القاتل شبح… أو عنده مفتاح المدينة." 

جلست أمامه، نظرت إلى الورقة التي كتب عليها اسم "الملاك الأبيض"، ثم قالت:
"أنا سألت عن الاسم… مش موجود في أي ملف مفتوح. بس في أرشيف القضايا القديمة، لقيت تحقيق تم حجبه بقرار وزاري… تحت عنوان: عملية ٧٤، تصنيف أمني: أحمر." 

حدّق فيها أدهم طويلاً، ثم همس:
"٧٤… كان عمري وقتها ٢٣ سنة." 

سكت لثوانٍ، كأنه يستدعي شبحًا دفنه بيديه.
"كنا نحقق في سلسلة جرائم اغتيال حصلت وقتها… الهدف كان واضح: تصفية شهود ضد قيادات فاسدة. ووراء كل جريمة… توقيع واحد، مش بالقلم… بالرمز." 

أشارت زين إلى العبارة المكتوبة على القناع الأخير:
"الطُهر لا يعني البراءة… ده نفس أسلوبهم؟" 

أومأ ببطء:
"نفسه… بس وقتها، الملاك الأبيض كان أسطورة… ماحدش شافه، ماحدش مسكه. العملية اتقفلت فجأة، واتمسحت ملفاتها. وأنا… خرجت من القسم." 

نظرت إليه زين بعينين تحملان أكثر من سؤال:
"وإنت… كنت شاهد؟ ولا شريك؟" 

لم يجبها، بل قام من مقعده، وأخذ اللوحة من على الحائط، قلبها… وأخرج من خلفها صورة قديمة. بالأبيض والأسود. خمسة رجال يقفون أمام مبنى أمني. أحدهم كان أدهم.
وأشار بإصبعه إلى رجلٍ في المنتصف، يحمل ملامح صارمة، وندبة على خده الأيسر.
"ده كان رئيس العملية… اسمه كمال صادق. والليلة… هاروح أسأله عن الملاك الأبيض." 

قالت زين بسرعة:
"مستحيل تلاقيه… الراجل اختفى من سنين." 

ابتسم أدهم ابتسامة لم تكن مطمئنة:
"الماضي ما بيختفيش يا زين… هو بيتنكر، وبيستنى اللحظة اللي نفتحله فيها الباب." 

خرج من المكتب، والمطر بدأ يهطل من جديد، خفيفًا أول الأمر، كأنه يداري الحقيقة.
ركب سيارته، وجهها نحو الضاحية الشرقية، حيث البيوت القديمة التي لم يعد يسكنها إلا من رفضوا مغادرة الذاكرة. 

وفي تلك اللحظة، في غرفةٍ معتمة لا تبعد كثيرًا، وقف رجلٌ أمام جدارٍ مغطى بالصور. كل صورة تحمل وجهًا وقناعًا.
وفي منتصف اللوحة، صورة واحدة بلا قناع.
وجه أدهم مراد… وأسفلها سطرٌ كُتب بخطٍ واضح:
"الضحية الرابعة… ستفتح الباب."

...
أدار أدهم المقود بصمت، ورائحة الأوراق القديمة لا تزال تطارده، كأنها التصقت بأنفاسه. الطريق إلى الضاحية الشرقية كان خاليًا من السيارات، لكنه ممتلئ بالذكريات. كل منعطف يحرك شريطًا من الماضي، وكل لافتة تذكره باسمٍ محذوف من الملفات. 

توقف أمام منزل صغير، نوافذه مغلقة بستائر ثقيلة، وجدرانه شاحبة كأنها لا تريد أن تُرى. ترجل من السيارة، وتقدم بخطوات حذرة نحو الباب. طرق ثلاث طرقات متباعدة. 

لا صوت. 

ثم، فجأة، صوت مزلاج يتحرك، والباب يُفتح ببطء. 

ظهر له رجل مسنّ، عيناه غائرتان، وصوته أجشّ:
"أدهم مراد… تأخرت كتير." 

أجابه أدهم بثبات:
"مافيش وقت نضيّعه، كمال." 

فتح كمال صادق الباب أكثر، أشار له بالدخول. الداخل كان كالعتمة نفسها، لا أثاث إلا ما يكفي بالكاد للحياة. جلسا بصمت، قبل أن يخرج كمال من درج قديم صندوقًا صغيرًا، مغطى بالقماش. 

وضعه على الطاولة، ثم قال:
"كنت عارف إنك هتفتحه يومًا ما." 

أدهم لم يرد، بل فكّ القماش، وفتح الصندوق. 

في الداخل، قناع أبيض. مكسور من أحد الجانبين. وأسفله، صورة. 

صورة لرجلٍ مقيد على كرسي، وفمه مكمّم، وعلى جبينه علامة حبر حمراء… دائرة مغلقة. 

نظر أدهم إليه بذهول:
"ده… ده واحد من الشهود اللي ماتوا في عملية ٧٤." 

أومأ كمال ببطء، وقال:
"مش مات… اتنفّذ فيه حكم خارج القانون. الملاك الأبيض ماكانش قاتل وقتها… كان أداة. أداة تطهير بقرار من فوق. وإحنا… كنا المنفذين." 

ضرب أدهم الطاولة بيده، صوته يرتجف غضبًا:
"يعني اللي بيحصل دلوقتي… حد بيكمل اللي بدأناه؟" 

رفع كمال عينيه المطفأتين وقال:
"لأ يا أدهم… اللي بيحصل دلوقتي هو حساب. الملاك الأبيض رجع، بس المرة دي… هو بيطهر اللي نظّفوا قبل كده." 

شهق أدهم، ثم تمتم:
"يعني القاتل… واحد منّا؟" 

في تلك اللحظة، انقطع التيار فجأة. ساد الظلام، وسُمِع صوت باب يُفتح في الطابق العلوي. 

نهض أدهم فورًا، يده على سلاحه، صوته حاد:
"في حد هنا غيرنا؟" 

لكن كمال لم يرد. كان يحدق في العتمة، كأنه يرى فيها شبحًا يعرفه جيدًا. 

ثم، بصوت بالكاد يُسمع:
"لو جيه… متحاولش تقاوم. لأنك بالفعل في قائمته." 

وما هي إلا لحظات، حتى دوى صوت رصاصة…
ثم سقط شيء على الأرض. 

أدهم التفت بسرعة، سلاحه موجه، لكنه لم يرَ أحدًا. 

فقط، القناع الأبيض… كان على الأرض. 

والصندوق… فارغ. 


                    الفصل السادس من هنا

تعليقات



<>