رواية ايلينورا الفصل الرابع4بقلم ملك الحريري
كانت الرياح تعصف بأشجار "آلورين" بشكل لم يحدث من قبل، وكأنها تحمل في طياتها عواصف من الظلام لا يراها إلا من يستطيع سماع همساتها. ومع كل نغمة عزفتها ليورا من أوتارها السحرية، كانت الرياح تزداد قوة، ولكن لم يكن هناك وقت للتراجع. الكائنات الظلية التي كانت تتحرك ببطء نحوهم، تعززت قوتها مع كل خطوة، وكأنها تشعر بتلك الأوتار التي كانت تتردد في الهواء.
أوسيان لم يلتفت إلى الوراء، بل استدار نحو ليورا وقال بصوت هادئ ولكنه يحمل توترًا:
"الوقت ليس في صالحنا. لا يمكننا أن ننتظر حتى تكتمل همساتك."
آنا، التي كانت تراقب باهتمام، قالت:
"لن تتوقف الظلال بسهولة، لكن يجب أن تبقي تركيزك على قلبك، ليورا. قوتك الحقيقية تأتي من داخلك."
ليورا، التي كانت تستجمع قوتها، نظرت إلى الأرض التي كانت تهتز تحت قدمها. شعرت بالأوتار تتفاعل مع الأرض، وكأنها جزء من هذا العالم بأسره. قلبها بدأ ينبض أكثر من أي وقت مضى، وتدفق سحر الندى من قلبها إلى أطراف أصابعها.
"لن أتركهم يدمّرون هذا المكان." قالت ليورا، وعينيها تلمعان بالعزم، ثم مدت يديها للأمام وأطلقت نغمة جديدة من أوتارها، نغمة كانت أكثر قوة من أي شيء سبق.
الأوتار رددت في الهواء، وتسللت إلى كل زاوية من زوايا "آلورين". ظلال الكائنات بدأت تذبذب وكأنها تواجه مقاومة لم تعرفها من قبل. ولكن المفاجأة كانت عندما بدأوا يتكاثرون بسرعة، حتى أصبحوا محاطين بهم من كل جانب.
"العدد أكبر مما توقعنا." قال أوسيان، وهو يشد على سيفه بحذر.
لكن ليورا لم تتردد. في تلك اللحظة، شعرت بأن همسات الندى أصبحت أكثر وضوحًا في ذهنها، وكأنها تتحدث إليها مباشرة. كان الصوت يملأ قلبها، يخبرها بأن اللحظة الحاسمة قد حانت.
"إذا كان يجب أن نواجههم، سنواجههم معًا." قالت ليورا، ثم أضافت بصوت حازم: "لن أسمح لهم بالاستمرار."
أوسيان، الذي كان يعلم أن المعركة الآن لا تعتمد فقط على القوة، بل على التركيز الداخلي، اقترب منها وقال:
"نعم، لكن اعلمي أن هذا الطريق لن يكون سهلاً. حتى إذا انتصرنا، هناك شيء أكبر في انتظارنا."
وفي تلك اللحظة، ازداد عدد الظلال بشكل مفاجئ، لكن ليورا كانت قد اكتسبت قدرة جديدة. الأوتار بدأت تصدر أصواتًا لم يسمعها أحد من قبل، صوتًا يهز الفضاء ويملأه بذبذبات غريبة. كان الصوت مشبعًا بمشاعر الأمل والحب، لكنه كان يحمل أيضًا القوة اللازمة لإيقافهم.
لكن الظلال لم تتوقف، بل بدأوا في التحرك بشكل أكثر عنفًا، وكأنهم يسعون إلى إغراق الصوت الذي تصدّره الأوتار.
"هل تتذكرين ما قلته لكِ؟" قالت آنا فجأة، ثم التفتت إلى ليورا بابتسامة غامضة. "الوحوش لا يُهزمون فقط بالقوة، بل بالحب."
ليورا رفعت عينيها نحو السماء، حيث كانت أول خيوط الضوء تظهر عبر الغيوم السوداء. فهماً جديداً بدأ يتفتح في ذهنها. بدأت تعزف على أوتارها من جديد، ولكن هذه المرة كانت النغمات تحتوي على شيء أكثر قوة: الحب.
"الحب؟" همست ليورا في نفسها.
ثم أضافت في صوت قوي، ليصل إلى أعماق الجميع:
"الحب لا يقتصر على العاطفة، بل هو طاقة يمكنها أن تغير كل شيء."
والدهشة كانت في عيون الجميع، خاصة آنا التي شعرت بشيء مختلف في الجو. في تلك اللحظة، انطلقت أصوات الأوتار، وكانت هذه المرة أكثر تأثيرًا. لكن ما كان مذهلاً، أن النغمات التي أصدرتها ليورا لم تكن مجرد موسيقى عادية، بل كانت تصدر منها ترددات استمرت في الانتشار في الهواء، تؤثر في كل شيء حولها، بما في ذلك الظلال.
"ماذا يحدث؟" سأل أوسيان بقلق.
آنا نظرت إليها وقالت بدهشة:
"لقد فعلتها... ليورا، أنتِ لا تملكين فقط القوة السحرية، بل أنتِ تملكين القدرة على تغيير الوجود نفسه."
وفي تلك اللحظة، كان الظلال يتراجعون ببطء، كأنهم يشعرون بشيء هائل يقف في وجههم. لكن في نفس الوقت، كانت هناك شدة غريبة تملأ الجو، وكأنها تعد بمفاجأة أكبر.
"هذا ليس النهاية." قال أوسيان، وهو يراقب الظلال التي تتلاشى في الأفق.
آنا أضافت:
"لكننا أوقفناهم... ومع ذلك، هناك خطر أكبر قادم. يجب أن نسرع."
ليورا نظرت إليهم بحذر، ولكن قلبها كان ينبض بتفاؤل جديد. "لن نسمح لأي شيء آخر أن يهدم هذا المكان. سنحميه، بكل ما فينا."
وهكذا، مع اختفاء الظلال، بدأ الطريق الذي أمامهم يزداد وضوحًا. لكن كان هناك شيء آخر يلوح في الأفق، وكان ذلك الشيء هو الحقيقة التي لم تكن ليورا على استعداد لمواجهتها بعد.
بعد أن تراجعت الظلال، ظلّ الهدوء يخيّم على "آلورين"، لكنّه كان هدوءًا مريبًا، كأنما كانت الأرض تتنفس ببطء، تنتظر شيءً آخر سيحدث في لحظة ما. كانت الأوتار لا تزال تُردد أصداءها في الهواء، لكن ليورا شعرت بشيء غريب، شيء يشدّها نحو الداخل، نحو قلب المكان. كأن هذه الموسيقى لم تكن فقط مجرد لحن، بل كانت دليلًا على أن هناك شيئًا أعمق بكثير يجري في هذا العالم الخفي الذي اكتشفت نفسها فيه.
"أين هم؟" سأل أوسيان بلهجة تشوبها الحيرة، وهو يتأمل الأفق حيث اختفت الظلال، لكن الأجواء لا تزال مشبعة بشيء غريب.
"كيف اختفوا هكذا؟ هل كانوا يختبئون؟"
آنا التي كانت تراقب كل حركة بدقة، نظرَت إلى ليورا وقالت:
"لا، الظلال ليست من يختبئ، بل هناك قوة أكبر تدفعهم بعيدًا."
بدا أن الصوت الذي أطلقته ليورا على أوتارها قد أحدث تغييرًا عميقًا في قلب "آلورين"، لكن ليورا كانت تشعر بشيء آخر، شيء كان يختبئ في ظلال الغابة التي تقع بالقرب منها. المكان الذي كان دائمًا يشع بالحياة والنور الآن بدا وكأنه يكتسي بظلام خفيف، مثل غمامة ثقيلة تغطي سماء مكان عميق.
"هذا ليس كل شيء." قالت ليورا بصوت ناعس، وعيناها تجولان في أرجاء المكان، حتى توقفت عند ضوء ضعيف يتسرب من خلال فجوة في الأشجار العملاقة.
"هناك شيء ينتظرنا هناك." أضافت بصوت هادئ، لكن تلك الكلمات كانت كافية لشد انتباه الجميع.
مضوا باتجاه المكان، وبينما كانت قدم ليورا تخطو على الأرض الرطبة، شعرت بأن الندى يتسلل إلى أطراف أصابعها، كما لو أن الروح القديمة للمكان تعانقها. الأشجار كانت ترتجف كأنها تُحيي أنفاسًا عميقة، ورائحة الأرض الرطبة اختلطت مع نسيم خفيف كان يشبه الأغاني القديمة التي تهمس بها الرياح.
كلما اقتربوا أكثر، كان المكان يتكشف أمامهم بشكلٍ غريب، حيث كانت الأشجار العتيقة تُحيط بهم مثل جدران من أضواء خافتة وألوان خضراء داكنة، وعبير الزهور البرية الملتوية يعطر الجو حولهم.
"هل أنتم مستعدون لما سنواجهه هنا؟" سأل أوسيان، نظرته حادة مليئة بالتساؤلات والقلق.
ليورا، التي كانت تشعر بشيء غريب يجذبها نحو الداخل، أجابت بصوت رقيق، ولكن مليء بالعزم:
"أنا لا أعرف تمامًا، لكنني أشعر أن هذا المكان ليس مجرد مكان عادي. هناك سرّ هنا، شيء أكثر قداسة من أن يُفهم."
وصلوا إلى نقطة ما في قلب الغابة، حيث كانت الأشجار تتكاثف حولهم، وكأنها تخفي شيئًا عميقًا في طياتها. وبينما كانوا يتأملون المكان، انبعث ضوء خافت من بين الشجيرات. بدأ الصوت اللطيف الذي كان يهمس في آذان ليورا يتردد في ذهنها مجددًا، وكأن شيئًا كان ينتظرها هناك.
"تذكروا..." قالت آنا بصوت هادئ، "لا تتركوا الموسيقى تُملي على قلوبكم. حافظوا على توازنكم."
لكن قبل أن تتمكن من إكمال حديثها، رأت ليورا شيئًا غريبًا يتحرك في الظلام. كانت هناك كتلة مظلمة تتأرجح من بعيد، لكن مع اقترابهم أكثر، بدأت الملامح تتضح. كانت صورة قديمة لجسر خشبي مهدم يلتف حول شجرة عملاقة، وكانت أجزاء من الجسر تتدلى في الهواء كأذرع ضخمة ملتوية، وكلما اقتربوا، بدأ الضوء يزداد إشراقًا.
"هذا الجسر..." قالت ليورا، صوتها يرتجف، "لقد كان هنا في زمن بعيد."
"لكن ماذا يعني؟" سأل أوسيان، بينما تقدم بثبات.
لكن آنا اقتربت من الجسر، وأصابعها تمس أطراف الخشب المهدم. كانت نظرتها تائهة للحظة، وكأنها تنقلها إلى زمن بعيد جدًا.
"لقد مرّ وقت طويل على هذا المكان... لا يزال يحمل التاريخ في عظامه."
لكن ليورا شعرت بشيء أقوى من مجرد الماضي. كانت هناك رائحة خفيفة للزهور البرية تتسلل في الجو، مثل ذكريات غامضة عُبِّرَ عنها بموسيقى قديمة. وفجأة، توقف قلبها عن الخفقان لدقيقة، كما لو أنها استمعت إلى شيء غير مرئي. همست:
"هنا، هنا يأتي الفجر..."
أخذت نفسًا عميقًا، ثم بدأت الأوتار تنساب بين أصابعها كأنها تلتقط موسيقى المكان نفسه. مع كل نغمة، بدأ الجسر المهدم يتألق قليلاً، وكأن ضوءًا داخليًا ينبعث منه، ينقش أشكالًا هندسية غريبة على الأرض التي تحتها. كانت هناك حركة غير مرئية في الهواء، وكأن الوقت قد توقف للحظة.
"هل هذا..." قال أوسيان بصوت متردد، "هل نحن... في المكان الذي نبحث عنه؟"
لكن قبل أن تتمكن ليورا من الإجابة، بدأ الجسر يهتز، وكأنما الحياة بدأت تدب فيه من جديد. الصوت الذي بدأه الندى قبل لحظات، أصبح الآن أقوى وأوضح، والضوء من حولهم بدأ يزداد سطوعًا.
"نعم." قالت ليورا، وجهها متوهجًا بالأمل، "نحن هنا... لنكتشف ما هو أكبر من مجرد أسطورة."
ولكن في تلك اللحظة، بدأت الرياح تعصف مجددًا، ولكن هذه المرة كانت تحمل معها همسات جديدة، همسات ليست من الندى، بل من قوة أخرى. قوة مظلمة، أكثر شراسة.
