رواية ايلينورا الفصل الخامس5بقلم ملك الحريري
قبل أن تدرك ليورا، كان الجسر المهدم قد اهتز بشدة. الرياح التي بدأت تهب فجأة لم تكن كما كانت من قبل؛ لم تكن رياحًا عادية، بل كانت تحمل معها شيئًا مظلمًا، شيئًا لا يشبه الرياح التي عرفتها طوال حياتها في "آلورين". كان الصوت الذي ينبعث منها خافتًا في البداية، ثم سرعان ما تحوّل إلى همسات تعتصر الفضاء من حولهم.
"يجب أن نغادر هنا الآن!" قال أوسيان، وقد بدت على ملامحه علامات القلق، وعيناه تتأملان الجسر الذي بدأ يتصدع من جديد.
لكن ليورا، التي كانت تستشعر في أعماقها شيئًا لم تفهمه بعد، شعرت بشيء غريب يربطها بهذا المكان. كانت الهمسات التي سمعتها، التي لا تُسمع إلا في لحظات الفجر الأولى، قد تحولت إلى أصوات مظلمة، كأنها تحاول تحذيرهم.
"لا." ردّت ليورا بثبات، رغم أن قلبها كان ينبض بشدة، "لا أعتقد أننا هنا لمجرد الهروب. هناك شيء يجب أن نفهمه."
آنا التي كانت تقف جانبًا، بدت مشوشة، بينما كانت تحدّق في السماء التي بدأت تتحول إلى لون رمادي قاتم. "الريح... ليست عادية. هذه ليست الرياح التي نعرفها." ثم التفتت إلى ليورا وقالت: "الندى لا يختفي هكذا. هناك شيء آخر يعمل في الظل."
وفي اللحظة التي أكملت فيها كلامها، بدأ الجسر يتشقق أكثر فأكثر، وكأن قوة غامضة كانت تقاوم محاولات ليورا لفهم هذا العالم. سمعوا صوتًا قادمًا من الجسر، مثل صرير قديم، ثم انبعثت منه همسات أكثر وضوحًا، وكأن الأرواح التي كانت تهمس لهم سابقًا أصبحت الآن تتألم.
"ما الذي يحدث هنا؟" قال أوسيان وهو ينظر حوله بتوتر.
"لماذا بدأ كل شيء يتغير؟"
لكن ليورا كانت تتابع بتركيز، عيونها مثبتة على الجسر الذي بدأ يتنفس. نعم، كما لو أن الجسر نفسه كان حياً، يحاول التفاعل مع كائنات قديمة أو قوى أكثر غموضًا.
ثم، فجأة، تكوّنت أمامهم صورة مظلمة، صورة قديمة تظهر من بين الشقوق في الجسر. كانت صورة لظل ضخم، غير واضح الملامح، يتحرك داخل الظلام، متجهًا نحوهم بسرعة.
"إذن هو..." قالت آنا بصوت متردد.
"الظل... هو من وراء كل هذا."
أعاد ذلك الصوت القوي نفسه في الهواء، همسات العدم، وكان الظل يقترب أكثر فأكثر. لكن ليورا شعرت بشيء غريب في قلبها؛ كانت همسات الرياح لا تتوقف، لكنها كانت تحمل شيئًا غريبًا، شيئًا لم تعهده. كانت تلك الهمسات تحمل ترددات مألوفة لها، ألحان كانت تشبه الأوتار التي تعزفها، لكن... كانت مكسورة، كما لو أن المكان نفسه كان يعاني.
"أنا لا أستطيع أن أهرب من هذا." همست ليورا بصوت ضعيف، يدها تتحرك على الأوتار، وكأنها تحاول أن تجد لحنًا يعيد السلام للمكان.
"يجب أن أوقفه."
فجأة، خرجت من الظلام صورة أخرى، أكثر وضوحًا. كانت كائنات ندى أخرى، مظلمة، تتقاطع مع الخيوط الفضية للمكان. كانت محاطة بظلام عميق، وعيناهما تنبضان بالشر.
"هل هؤلاء هم... الندى الفاسد؟" سأل أوسيان، وكان في صوته شيء من الخوف.
لكن ليورا لم تجب. كانت تعلم أن هذا لم يكن مجرد ظلام عادي. كان شيئًا أكثر تعقيدًا. ربما كان الظلام الذي يظهر الآن هو العدم نفسه، القوة التي بدأت تمحو همسات الندى وتخفيها تحت ستار الظلام.
"يجب أن نُوقفهم الآن!" صرخت آنا، لكنها كانت تتحرك ببطء، كما لو أن المكان حولها بدأ يثقل.
"لكن كيف؟" سأل أوسيان، وهو يحاول أن يثبت نفسه في وجه الرياح العاتية.
"الموسيقى؟ أم أننا بحاجة إلى شيء آخر؟"
لحظات طويلة من الصمت، فقط الرياح تواصل العصف بهم، وهمسات العدم تتسارع. وكان الجسر يتحرك، وكان الضوء يزداد سطوعًا تدريجيًا، وكأن المكان بأسره ينهار في نفسه.
وفي تلك اللحظة، شعرت ليورا بشيء مدهش. همسات الرياح التي كانت تحمل العدم بدأت تلتف حول قلبها، وكأنها تعانقها. كان صوتها يتردد داخلها، وتلك الهمسات بدأت تتحول إلى لحن قديم. لحن يذكرها بشيء بعيد، شيء نادر.
أغمضت عينيها، وعندما فتحتها، كان الجسر قد هدأ قليلاً. الرياح توقفت عن العصف، والظلال التي كانت تقترب بدأت تتلاشى.
"لقد فعلتها!" قال أوسيان بصوت متفاجئ.
لكن ليورا، بعينين متأملتين، قالت: "لا... لقد فهمت الآن."
"ماذا فهمت؟" سأل أوسيان.
"أن العدم ليس مجرد قوة مدمرة، بل هو شيء آخر... شيء يحتاج إلى التوازن. لقد حاولوا أخذ كل شيء، لكنني سأحميه. سأحمي النهر، سأحمي الغابة، سأحمي الندى."
وفي تلك اللحظة، لاحت أمامهم ألوان جديدة، كما لو أن الضوء يعود للحياة. وعادت الهمسات القديمة تتردد مرة أخرى، لكن هذه المرة كان لها لحن مختلف، لحن جديد، مليء بالأمل.
كانت بداية جديدة، بداية رحلة جديدة لفهم العدم وإعادة التوازن المفقود.
كانت الرياح قد هدأت أخيرًا، وتباطأت الهمسات التي ملأت الأجواء. في تلك اللحظة، شعر الجميع وكأنهم عادوا إلى عالمهم، لكن بشيء مختلف. كان الجسر قد استعاد بعضًا من تماسكه، وكأن الطاقات التي كانت تهدد بتدميره قد تراجعت، لكن ليورا كانت تعلم أن هذا ليس سوى بداية المعركة الحقيقية.
"كيف فعلتِ ذلك؟" سأل أوسيان، عينيه تتابعان كل حركة لها بتعجب. كان يراها تنحني، بيدها التي امتدت برفق نحو الجسر، وكأنها تطلب من العالم أن يهدأ، أو ربما كانت تطلب من نفسها أن تجد القوة لتستمر.
"لم أفعل شيئًا. كنت أستمع فقط... للأصوات التي طالما كرهت سماعها، ولعذابات تلك الهمسات القديمة." قالت ليورا بصوت هادئ، وهو يعكس ارتياحًا، رغم أنها كانت تشعر بداخلها بعبء ثقيل. "الندى لا يمكن أن يُسمع إلا عندما تكون الأرواح مستعدة للشفاء، وحينما يتسرب الغبار إلى المكان، يصبح الصوت ضائعًا. يجب أن أسمعه من جديد، وأُعيده كما كان."
وفي تلك اللحظة، ارتسمت صورة ضبابية في الأفق. لم تكن واضحة تمامًا، لكن كان هناك شيء غريب يلوح من بعيد. كانت هذه صورة لباب خشبي ضخم، يكسوه الزهور المتشابكة، وهو يغلق شيئًا ما بداخله.
"ما هذا؟" همست آنا، وهي تتحرك نحو ليورا.
"إنه باب..." قالت ليورا وهي تتفحص المشهد عن كثب، "بابٌ نحو مكان لا يمكن الوصول إليه إلا عندما نكون جاهزين."
لكن أوسيان كان قد شعر بشيء ما. عيناه كانتا مركّزتين على الحواف المظلمة التي تحيط بالصورة. "شيء هنا ليس كما يبدو." قال بصوت جاد، "هناك شيء ينتظرنا وراء هذا الباب."
قالت ليورا بلهجة أقرب إلى الهمس: "هذا الباب هو الفاصل بين عالمين... بين العدم وبين الحياة. لا يمكننا العبور إلى هناك بسهولة." ثم أخذت نفسًا عميقًا وأضافت: "ولكن هذا هو الطريق الوحيد."
توقف الجميع عن الكلام للحظة، وتحول تركيزهم إلى الباب الذي بدأ ينبض ضوءًا خافتًا من بين الزهور التي تحيط به. كان كأن هذا الباب كان يغني، بل يهمس بنفس النغمة التي كانت قد سمعتها ليورا في لحظات الفجر الأولى، النغمة التي ارتبطت بها طوال حياتها.
"هل سنذهب عبره؟" سأل أوسيان بصوت يحمل ترددًا، لكن بدا في عينيه أنه لم يعد هناك خيار آخر.
"نعم." قالت ليورا، عازمة على السير في الطريق الذي بدا أنها مضطرة للسير فيه. "سنذهب من خلاله، لكن يجب أن نتذكر شيئًا واحدًا: لا شيء يمكن أن يغير المصير إلا إذا كنا مستعدين لتغيير أنفسنا أولًا."
"لا أعتقد أننا مستعدون..." قال أوسيان. "ألم تلاحظي؟ نحن ما زلنا نحمل عبئًا من الماضي، أليس كذلك؟"
"الماضي جزء منا، لكن يجب أن نتحرر منه." أجابت ليورا، وعينيها مليئة بالعزم. "ما نحتاجه الآن هو الإيمان... والإيمان وحده سيمكننا من عبور هذا الباب."
ثم نظرت نحو آنا، التي كانت صامتة طوال الوقت، وحركت رأسها بلطف، مشجعة إياها على التقدم. قالت آنا بصوت هادئ: "لنكن معًا، لنواجه كل ما هو قادم."
"حسنًا." قال أوسيان في النهاية، وهو يلتفت إلى الباب. "إلى أين سيأخذنا هذا؟"
"لا نعرف." ردّت ليورا، بينما كانت تقترب من الباب. "لكننا نعرف أن هذه هي الخطوة الأولى نحو المستقبل."
وبخطوات ثابتة، عبرت ليورا أولاً من خلال الباب، تبعها أوسيان وآنا. ما إن عبروا إلى الجانب الآخر حتى شعروا بتغيير مفاجئ في الأجواء. الهواء كان باردًا، لكن نقيًا، كما لو أن المكان كان مليئًا بالنقاء الذي لم يشعروا به من قبل. كانت الأرض تحت أقدامهم مغطاةً بزهور غريبة ولامعة، ورائحة الفاكهة الطازجة تعبق في الأرجاء.
كان المكان غريبًا؛ الطبيعة هنا كانت أكثر حيوية وجمالًا. الأشجار العملاقة كانت مزينة بأزهار ذات ألوان متغيرة، كما لو أن ألوانها تتنفس. في السماء كانت هناك طيور غريبة بأجنحة شفافة، ترفرف بخفة وسط الضوء المتناثر.
لكن كان هناك شيء آخر، شيء كان يراقبهم من الظلال. "ما هذا المكان؟" قال أوسيان وهو يلتفت حوله. "ليس هذا هو عالمنا."
"إنه عالم الندى، عالمنا الحقيقي." أجابت ليورا، وهي تتنفس بعمق، ثم تقدمت خطوة إلى الأمام. "هنا نعيد التوازن، وهنا تبدأ القصة الحقيقية."
بينما كانت الكلمات تنساب منها، شعروا بشيء آخر، شيء أعظم من التوقعات. كان هناك قوة غير مرئية تسري في المكان، قوة تجعل الأشجار تتمايل وتنحني، وتجعل الزهور تتفتح بألوان مبهرة.
لكن في الزوايا المظلمة للمكان، كان هناك شيء آخر، كائن مظلم يراقبهم عن كثب.
"العدو يقترب." همست آنا، وعيناها تراقبان تلك الظلال المطموسة.
"نحن هنا فقط لنحمي الندى." قالت ليورا، وهي تطلق من بين شفتيها لحنًا خفيفًا. "وكل من يتربص بنا سيتعلم أن الندى أقوى مما يعتقدون."
