رواية ارشيف الارواح الفصل السابع7والثامن8بقلم امير مروان
الساعة تشير إلى الثالثة فجرًا.
في الخارج:
ريح عاصفة تصرخ، كأن البلدة كلها تحتضر.
وفي الداخل…
المكتبة تُفتح من تلقاء نفسها، بعد أن ظلت مغلقة منذ اختفاء هالة قبل أسبوع.
الوافد الجديد: يوسف — شاب ثلاثيني، باحث في الظواهر الخارقة، سمع عن "مكتبة الأرواح" من إشاعات متناثرة على منتديات الإنترنت المظلمة، وقرر أن يكتشف الحقيقة.
**
دخل المكتبة.
رائحة الكتب القديمة؟ لا.
رائحة لحم محترق وماء راكد.
حذاؤه يغوص قليلًا في الأرض… كأن الأرض لزجة.
الأنوار لا تعمل…
لكن الأرفف تهتز بخفة… كأنها تتنفس.
**
على الطاولة الخشبية المهشّمة…
دفتر جلدي، مغطى بطبقة سميكة من الغبار والرماد.
يوسف نفخ عليه…
وظهرت العبارة:
"لا تقرأ الصفحة الأخيرة."
ابتسم بسخرية:
— "تهديد؟ أو دعاية رخيصة؟"
جلس، وفتح الدفتر.
الصفحات الأولى… فارغة.
لكن حين اقترب من النهاية، بدأت الكلمات تتكوّن ببطء، أمام عينيه، بخط أنثوي مرتجف:
"اسمي هالة. لم أعد أتذكّر شكل وجهي.
أرجوك… لا تدعهم يأخذوك."
انقلبت الصفحة…
رسمٌ لوجهه!
نعم، وجهه هو!
مُحاط بألسنة سوداء، وخلفه عرش عظام… والعينان في الرسم تنزفان.
صرخ يوسف…
أغلق الدفتر بعنف.
لكن الأوراق حوله بدأت تطير… آلاف الأوراق ترفرف من كل الأركان، وتدور حوله كإعصار.
**
بدأ يشعر أن جلده يحترق…
كل ذكرى في عقله بدأت تُنتزع.
نسي اسمه، نسي عمره، نسي لماذا جاء…
وصوت في رأسه يردد:
"كل من يقرأ الصفحة الأخيرة…
يصبح بداية قصة جديدة."
انشقت الأرض تحت قدميه…
سقط.
سقط إلى مكان بلا جدران، بلا سماء، فقط ظلام ينبض، وصوت طنين الأرواح.
**
هناك، رآها…
هالة.
شعرها متساقط، عيناها بيضاوان تمامًا، وجهها نصفه جلد، نصفه ورق.
قالت له بصوت مخنوق:
— "الكاتب لا يكتب بالحبر… بل بأرواحنا."
صرخ يوسف:
— "كيف أخرج؟! أخبريني!"
فهمست:
— "لا تخرج…
اكتب."
**
وفي العالم الخارجي…
يُفتح الدفتر من جديد.
صفحة جديدة…
مرسوم فيها شاب ذو ملامح باهتة، يجلس على طاولة وسط مكتبة، يكتب بدمه.
والعبارة:
"هالة رحلت… والكاتب الجديد وصل."
ارشيف الارواح _الجزء الثامن
[صفحة ممزقة – غير مؤرخة]
إلى من يجد هذه الورقة…
لم يعد هناك وقت.
أنا لا أكتب من أجل إنقاذ نفسي، بل لتحذيرك…
المكتبة ليست مكانًا… إنها كائن.
نعم، كائن حيّ.
جائع.
لا يتغذى على اللحم… بل على "التكرار".
كل من يدخل، يظن أنه أول الضحايا… لكنه لا يعلم أنه مجرّد فصل جديد في كتاب لا ينتهي.
أنا كنت يوسف… والآن؟
أنا بند في فهرس الأرواح.
[ورقة تالفة – ملطخة بالبقع]
ملحوظة: الأصوات لا تأتي من الخارج.
هي تأتي من بين ضلوعك.
في البداية… تسمع همسة، ثم حلم، ثم نسيان.
عندما تستيقظ وتجد أن ذكرياتك لم تعد لك،
حين تتذكّر شيئًا لم تعشه…
اعرف أنك بدأت تنقسم.
[ورقة مطوية داخل كتاب قديم – بخط نسائي]
كنت أظن أنني أكتب لأتذكّر،
لكنني كنت أكتب لأنني أنسى.
أنا هالة. أو كنتُ كذلك.
كل مرة أدوّن فيها شيئًا عن نفسي… يمحى شيء آخر.
ذكرياتي… أخي، أمي، أول كتاب قرأته… كلها تحوّلت إلى جمل مشوهة، أحرف بلا معنى.
والآن؟
أنا قصة تُقرأ كل ليلة.
[ملاحظة غامضة على ظهر دفتر مفقود]
الكاتب ليس شخصًا.
الكاتب هو أنت… حين تقرأ.
[صفحة مشبعة بالحبر الأحمر]
نصيحة أخيرة:
لا تبحث عن باب الخروج.
المكتبة تُقفل من الداخل فقط…
حين يكتمل الأرشيف.
وكل صفحة جديدة…
هي قبر جديد.
[الصوت في الفراغ – غير مكتوب، بل يُسمع في رأس القارئ]
لقد قرأت…
أهلاً بك بيننا.
الهواء في المكتبة لم يعد يُشبه هواء العالم الخارجي...
صار أثقل، كأنك تتنفس من رئة ميتة.
الجدران… بدأت تتنفس فعلًا.
ببطء، بهدوء خانق، يُشبه أنين الموتى في المقابر المنسية.
يوسف لم يعُد يتذكّر اسمه بالكامل.
كان يشعر بأن ذهنه يُفرغ نقطة بعد أخرى،
كأن ذاكرته صنبور تنقط… تنقط… حتى الجفاف.
نظر حوله، فلم يجد الباب الذي دخل منه.
حتى الطاولة التي قرأ عليها اختفت…
وحلّ مكانها شيءٌ آخر:
كرسي من عظام بشرية،
وفوقه دفتر مفتوح، ينزف حبرًا داكنًا من قلبه.
سمع همسًا…
قادمًا من الفراغ:
— "اجلس… واكتب نفسك."
اقترب، رغم ارتجاف ساقيه.
كل خطوة تقرّبه من الجنون…
لكنه لم يكن يملك خيارًا.
جلس.
أمسك القلم.
لكنه لم يكن قلمًا…
بل ريشة سوداء، مبللة بدم دافئ… كأنها اقتُلعت لتوّها من جناح كائن مشوّه.
كتب أول كلمة:
"أنا..."
فتصدّعت الأرض.
رأى أمامه مشهدًا لا يُنسى:
قبو من طين حيّ…
فيه أرواح محبوسة داخل أوراق، تبكي دون صوت.
وجوههم مسطّحة، بلا ملامح…
لكن عيونهم تلمع برجاءٍ كاذب.
في الزاوية…
كانت هناك هي.
هالة.
**
نحيلة، شاحبة، يعلو وجهها رماد حارق.
تتمسك بصفحة مشقوقة كأنها قلبها.
عندما رأته، لم تبتسم…
بل قالت بنبرة من كُسر الخوف:
— "ليسوا طائفة كما ظننت… إنهم قرّاء."
— "ماذا؟!"
— "كل من قرأ، ترك بابًا مفتوحًا. كل من كتب، خلق سجنًا."
أراد يوسف أن يصرخ، أن يركض، أن يعود،
لكنه شعر أن قدميه مغروستان في الحبر.
قالت له:
— "لن تستعيد نفسك إن كتبت.
ولن تهرب إن توقفت."
ثم اقتربت منه…
وغرزت إصبعها في جبينه.
و… فلاش.
ذكرى لم يعشها قط:
هو… طفل صغير، في منزل قديم،
أمّه تهمس له:
— "لا تفتح الدرج السفلي… فيه رسائل جدّك. من كتبها… لم يعد كما كان."
فلاش آخر.
شخصٌ يُقتل ببطء أمامه.
حبر يتدفق من فمه لا دم.
فلاش ثالث.
اسمه الحقيقي يُمحى من شهادة ميلاده.
عاد إلى الحاضر.
كان يصرخ.
هالة اختفت.
والدفتر أمامه…
كتب نفسه بنفسه:
"يوسف: الجزء ٧٨٦ من أرشيف الأرواح."
أغلق الدفتر.
وظهر كتاب جديد على الرفّ…
غلافه جلدي.
عليه وجه يوسف…
وابتسامة صغيرة مرسومة بالدم.
في نهاية الرف، ظهرت فجأة بطاقة جديدة:
"المجلد التالي يُكتب الآن…"
وقف يوسف في زاوية القبو المظلم، يتنفس بصعوبة كأنّ صدره يُثقل بحجارة لا تُرى. عينا هالة كانت لا تزالا متشبثتين بوجهه، تشعّان بشيء لم يفهمه… مزيج من الخوف والشفقة، وكأنها كانت تعرف ما سيحدث له قبل أن يبدأ.
قالت بصوت خفيض، أشبه بالهسهسة:
— "فيه باب… خلف الرفّ المكسور."
تردّد، لكنه تحرّك ببطء، مشى على أطراف أصابعه كأن الأرض ستبتلعه إن خطا بثقل. عندما وصل، أزاح الرفّ بصعوبة، فظهر جدار قديم متآكل عليه رموز محفورة بنقوش حادة، كأنها كُتبت بأظافر لا بأقلام. في منتصف الجدار، كانت هناك مرآة مغطاة بقماش أسود.
قالت هالة، وهي تبتعد خطوة إلى الوراء:
— "دي مش مرآة… دي بوابة…"
يوسف تمتم بخوف:
— "بوابة لإيه؟"
نظرت إليه نظرة طويلة، ثم قالت:
— "لهم."
لم يفهم… لكن شيئًا بداخله أخبره أنه يجب أن يرى. بيدٍ مرتجفة، أزاح القماش ببطء… لحظة واحدة فقط كانت كافية.
**
انعكس في المرآة شيء لا يُشبهه…
كائن يشبهه من الخارج، لكن عيونه كانت مقلوبة، وفمه ممتد إلى أذنيه، يضحك ضحكة صامتة لا تُسمع… بل تُحس في النخاع.
تراجع يوسف بسرعة، لكنه سمع الصوت لأول مرة منذ دخوله:
— "وجدناك."
في تلك اللحظة، تكسّر الزجاج، لكن لم يتناثر… بل ذاب كما يذوب الجلد المحروق. وخرج من خلفه ظلّ طويل، يمشي بلا قدمين، رأسه مشوّه، وصدره مفتوح تتدلى منه أوراق… نعم، أوراق.
كل ورقة مكتوب عليها اسم.
وعندما مرّ قرب يوسف… سقطت ورقة على الأرض.
انحنى يوسف، قرأ الاسم:
"هالة عثمان – محفوظة مؤقتًا."
رفع عينيه فجأة… لكن هالة لم تكن هناك.
**
بدأت الأرض تهتز، وأصوات الصراخ تصاعدت من الجدران.
كل الأرواح المحبوسة في الأرشيف بدت وكأنها تُركت فجأة بدون حراسة.
الظلال تخرج من الكتب…
الأرواح تمشي من بين الأرفف…
والأسماء تُعاد كتابتها، لكن بخطٍّ جديد… دموي.
ركض يوسف دون أن يعلم إلى أين. كل الممرات تغيرت. المكتبة نفسها لم تعد كما كانت… وكأنها تتنفس وتتحرك. كل باب يفتحه يجد خلفه نفس الغرفة. وكل غرفة بها نفس المرآة.
ثم… سمع همسًا خلفه:
— "لسّه فاضل ورقتك، يوسف… اكتبها قبل ما تندثر بالكامل."
صُعق.
من قال ذلك؟
كيف عرف اسمه؟
وهل أصبح الآن الدور عليه؟
**
توقف في منتصف الممر، وأمامه مكتب خشبي متهالك… وعليه دفتر مفتوح، ينتظره.
اقترب منه، وعندما همّ بلمس القلم، ارتعد جسده بالكامل. القلم كان ينبض… كأن بداخله قلب.
وفي الصفحة الأولى، كانت هناك جملة مكتوبة بخط غريب:
"البدايات لا تُكتب… إلا عند نهايتك."
