رواية خلف الوجوه البيضاء الفصل السادس6بقلم اسلام الحريري
كانت السماء في تلك الليلة تبدو وكأنها صفحة محاها الزمن من ذاكرته، ملبّدة لا بالغيوم، بل بالأسئلة. المدينة تئن تحت وطأة صمتها، كأن كل شارع فيها يخفي سِرًّا، وكل نافذة تراقب دون أن ترى. كان المطر الخفيف يلمع على الإسفلت، يعكس أضواء النيون كدموع لا تجد من يمسحها.
قاد أدهم مراد سيارته ببطء، كأن كل لفة في الطريق كانت تجره نحو هاوية يعرفها جيدًا… لكنه نسي شكلها. لم يكن في السيارة سوى صوته الداخلي، يهمس له بأسئلة لا يملك رفاهية تجاهلها بعد الآن.
"الملاك الأبيض..."
الاسم وحده كان يكفي ليوقظ كوابيسه القديمة. لم يكن مجرد لقب، بل ملفًا طُويَ تحت طاولة مغلقة، ودُفن معه زمنٌ كامل من الأكاذيب. لكنه الآن... ينبض من جديد، على وجوه الموتى.
توقّف أمام بناية مهجورة في أطراف المدينة، مكان يعرفه جيدًا. هنا بدأ كل شيء. أو ربما... انتهى كل شيء.
فتح باب السيارة ببطء، خطا نحو الباب الحديدي، دفعه بيده، فانفتح كأنما كان في انتظاره. كان الداخل كما تركه منذ سنوات: غبار كثيف، رائحة العتق، وصدى ذكريات لم تُغفر. مرّ بأصابعه على الجدار، حيث كانت تُعلّق صور الضحايا... وتُخفى الأوامر.
وفي منتصف القاعة، كانت هناك مرآة… قديمة، مكسورة عند الزاوية. اقترب منها، نظر إلى انعكاسه، فرأى وجهًا لا يشبهه. لم يكن وجه رجل، بل قناع. قناع يُشبه القاتل... أو الضحية.
في اللحظة التالية، دوّى هاتفه المحمول. رقم مجهول.
تردّد، ثم أجاب.
"أدهم مراد..."
كان الصوت معدنيًا، مشوّهًا.
"القناع الرابع جاهز... والوجه هذه المرة... لن يكون غريبًا عليك."
صمت.
"أين؟"
"المكان الذي شهد صمتك… هو ذاته الذي سيشهد سقوطك."
ثم انقطع الاتصال.
لم يكن بحاجة لتفسير. المكان الوحيد الذي شهد صمته كان قاعة المحكمة القديمة، حيث قدّم شهادته يوم خيانة الملاك الأبيض. يوم خاف من الحقيقة، واختار النجاة... بالصمت.
أدار نفسه نحو الباب، لكنه توقف. على الجدار، كانت هناك رسالة محفورة حديثًا، لم تكن هناك من قبل. بخط دقيق، حادّ، كأن القاتل كتبه بسكين:
"الاعتراف الأخير... يُكتب بالدم."
خرج أدهم من البناية، ونظراته مبلّلة بالشك. هناك خيطٌ ما يعود ليمتد من الماضي، يربط الوجوه البيضاء، بالشاهد الأسود... وهو.
في طريقه إلى المحكمة المهجورة، تذكّر جملة قالتها المحققة قبل أن يفترقا: "القاتل مش بيقتل عشوائي... هو بيقدّم مسرحية. وكل قناع... مشهد. وكل مشهد... رسالة."
أدهم لم يكن بطل هذه المسرحية… بل خطيئة فيها.
عندما وصل، كانت الأبواب الخشبية تصرخ مع كل نسمة هواء. دخَل القاعة، وعلى منصة الشهود، وُضع القناع الرابع.
قناع مطابق تمامًا لوجه أدهم مراد.
وبجانبه… رسالة.
اقترب، مدّ يده المرتجفة، فتح الورقة الصغيرة.
"أنت حكمت على الصمت... الآن الصمت يحكم عليك."
سقطت الكلمات كرصاصة في صدره.
وفي تلك اللحظة، لم يعد يتساءل: "من القاتل؟"
بل: "من تبقّى لأحميه... حين أكون الهدف القادم؟"
كانت القاعة مظلمة، ظلال الأعمدة الضخمة تتراقص على الجدران كأنها أشباح من الماضي. كان أدهم يقف هناك، أمام القناع الرابع، والرسالة التي تحمل توقيعًا خفيًا لشخص ما كان يعرفه جيدًا، أو هكذا كان يظن.
"أنت حكمت على الصمت... الآن الصمت يحكم عليك."
الكلمات كانت تشق طريقها إلى عقله، وتنفذ إلى قلبه دون رحمة. الصمت الذي حكم عليه في الماضي كان جزاءً لما فعله من خيانة، أو على الأقل هذا ما كان يظنه حينها. لكن الآن... كان يدرك أنه كان يهرب من حقيقة أكبر، من وجهه الآخر الذي طالما تجاهله.
فجأة، دوّت خطوات قادمة من الزاوية المظلمة. التفت أدهم بسرعة، قلبه ينبض كأنما هو في مواجهة مع شخص آخر غير القاتل. ظهرت المحققة "رنا" من بين الظلال، كانت عيونها تحمل مزيجًا من القلق والتصميم. بدت كمن كانت تراقب كل حركة في القاعة منذ لحظة دخوله.
"أدهم..." قالت بصوت منخفض، لكن كان هناك شيء في نبرتها يجعل الكلمات تزداد ثقلًا. "القاتل يعرف كل شيء... نحن فقط جزء من لغز أكبر."
اقتربت منه، وتناولت القناع من على الطاولة، ثم نظرت إلى الرسالة مرة أخرى، وكأنها تحاول فك شفرتها.
"هنا شيء غريب..." قالت، "القاتل ليس مجرد مجرم عادي. هو يوجه لنا رسالة، ويحاول أن نبحث وراء الأقنعة. لكنه لا يترك لنا خيارًا سوى أن نلعب اللعبة."
أدهم رفع رأسه ونظر إليها بجدية، "اللعبة؟"
"نعم. القناع الرابع هذا... هو ليس موجهًا فقط لك." قالت المحققة رنا. "بل هو موجه لنا جميعًا. لا أعتقد أننا نقف أمام مجرد قاتل. نحن أمام شخص يريد أن يكشف الماضي... ويعاقبنا على سكوتنا."
كان أدهم يشعر كما لو أن الكلمات تكشف عن أبواب مغلقة في عقله، أبواب لا يرغب في فتحها، لكنها كانت تفتح نفسها شيئًا فشيئًا.
"أدهم..." قالت رنا، في لحظة صمت، "أنت ليس وحدك في هذا. هناك أشخاص آخرون في القصة. القاتل لا يقتلك لأنك مجرد شرطي سابق. هو يقتلك لأنك تعلم شيئًا... شيء أكبر."
أدهم شعر بأن الأرض تتحرك من تحت قدميه. بدأ يتذكر الماضي، ذكرياته القديمة في العمل كمحقق، تلك الملفات التي كانت مغلقة بإحكام، والتي لم يعد أحد يجرؤ على فتحها. كان هناك أمرًا مفقودًا، سرًا دفنه الجميع، لكنه عاد الآن ليظهر من جديد.
في تلك اللحظة، فجأة، دوت رنّة هاتفه مرة أخرى. كان الرقم نفسه، الغريب، المجهول. أمسك بهاتفه، يده ترتجف، ثم أجاب بلهجة متوترة.
"أدهم، لا تظن أني نسيتك..." جاء الصوت البارد من الطرف الآخر. "كل شيء بدأ يعود إلى مكانه... ونحن لا نلعب نفس اللعبة."
ثم أغلق الاتصال فجأة.
صمت عميق. كان أدهم يشعر بثقل في صدره، كما لو أن الأسئلة نفسها أصبحت جزءًا منه. كان يعلم أن الوقت قد حان ليواجه الحقيقة التي هرب منها طويلاً.
"من هو؟" سألته رنا، وهي تراقب تعابيره.
أدهم امتص الهواء بعمق، ثم أجاب بصوت خافت: "هو جزء من الماضي... جزء من القصة التي لا أستطيع الهروب منها."
لكن قبل أن يستطيع إكمال حديثه، اهتز المكان فجأة، وكأنما انفجرت إحدى الأسوار القديمة. كان الصوت عميقًا ومرعبًا، تمامًا كأن جدارًا سريًا قد انهار. رنا هرعت نحو الباب، أدهم خلفها، وعيناه تبحثان في كل زاوية من القاعة. كانت الظلال تزداد كثافة، وكأن المدينة نفسها بدأت تنسحب إلى مكان مظلم.
في اللحظة التي اقترب فيها من الباب، شعر بشيء غريب. كان هناك صوت خافت، يأتي من خلفه، كأن شخصًا آخر يهمس له: "كل شيء سينكشف، أدهم... لكن هل ستكون مستعدًا؟"
توقّف أدهم في مكانه. كان يعلم أن اللحظة التي كان يتهرب منها قد جاءت أخيرًا. الخيوط التي كانت متشابكة في عقله، تلك التي كان يعتقد أنه قطعها، بدأت تتجمع من جديد.
"كل شيء... سينكشف."
ثم أدار ظهره للماضي، وبدأ يخطو نحو المستقبل، حيث كانت أسئلة أكبر تنتظره... وأسوأ من ذلك، كانت الوجوه البيضاء تترقب عودته.
