رواية نسمة متمردة الفصل السادس6بقلم امل مصطفي
هتف فريد بعصبية، وهو يطالع ملامح نَسمة الجميلة:
– مش ممكن!
ثم وجّه نظره إلى مروان، الذي تعجب من نبرته، وسأله بحدة:
– إيه ده بقى إن شاء الله؟
رمقه مروان بنظرة حادة، وردّ بسخرية:
– خير؟ العروسة مش عاجباك ولا إيه؟
ابتلع فريد ريقه بصعوبة، محاولًا السيطرة على الحالة التي تلبسته عند رؤيته لنَسمة...
ماذا يقول؟ هل يعترف أمام الجميع أنها نفس الفتاة التي قابلها في شركة مروان؟
تلك التي سحبت أنفاسه، وأشعلت بداخله رغبة في قربها؟
هل يعترف بأنه صعد يتغزّل بها أمام مروان نفسه، دون أن يعلم أنها خطيبته؟
أم يصمت، حتى لا يحدث شقاق بين الأخوين... أو الأسوأ، يُحرّك غيرة مروان، فيثور عليه ويفتك به أمام الجميع؟
رأى الجميع ينهض لتحية نَسمه والترحيب بها، فآثر الصمت.
ابتلع لسانه، وأخذ يُحرّك عينيه بعيدًا عن مرمى رؤيتها، لتمر المقابلة على خير.
********
بعد مرور الأيام
كانت تتحرك في غرفتها، تحمل هاتفها بين يديها، تنتظر مكالمة أو رسالة من مروان... ولكن لم يحدث شيء.
منذ قراءة الفاتحة، لم يُحدثها.
كم رسمت لنفسها أحلامًا وردية طوال فترة الخطوبة؛ من لهفة، وأشواق، وأحاديث طويلة، يتخللها الحب والرومانسية.
حاولت أن تبرر صمته بضيق الوقت، وبأن الجميع منشغل في التجهيزات لحفل الزفاف،
ورغم محاولاتها المستمرة لطمأنة نفسها، إلا أن قلبها كان يتألم من إهماله لمشاعرها.
حاولت مرارًا أن تبادر، أن تهاتفه على الرقم الذي أرسلته لها والدته...
لكن في اللحظة الأخيرة، كان كبرياؤها يمنعها.
تم كل شيء على قدم وساق، وجاءت الليلة الموعودة.
شعرت نَسمة أنها أسعد شخص في العالم، لأنها ارتبطت بمن تمنى قلبها.
لكنها لم تكن تعلم ما يُخبئه لها القدر من حزن وألم جديد لم تعرفه من قبل.
أما سهير، فكانت أسعد من نَسمة نفسها، و أعطت اهتمامًا بالغًا بأدق التفاصيل؛
فستان زفاف جاء خصيصًا من باريس، وأشهر خبيرة تجميل أشرفت على إطلالة العروس...
لم تُهمل شيئًا.
وكلما رجعت لمروان في أمرٍ ما، وجدت بروده المعتاد، يجيبها بجمل مقتضبة ثم يترك لها المكان.
ورغم كل شيء، صبرت، ووثقت أن أخلاق نَسمة وجمالها سيؤثران فيه بعد الزواج.
في المساء، كانت القاعة في أبهي صورة.
والدة نَسمة ارتدت عباءة سوداء أنيقة، وحجابًا فضيًّا.
أما والدها، فكان في بدلة كحلي أنيقة، وأحمد في بدلة سوداء زادته وسامة وهيبة.
كانت القاعة من أكبر وأفخم القاعات، وتعالت فيها الموسيقى لتعلن بدء مراسم الزفاف.
وقف العروسان لتبديل الدبل، ثم بدأت الحفلة برقصة "سلو" هادئة.
لم يستطع مروان إخفاء إعجابه الشديد بها، وعندما اقترب منها، همس قائلاً:
– إنتي جميلة جدًا...
أجابت نَسمة بخجل:
– شكرًا...
تحركت معه بسلاسة وخفة على نغمات الموسيقى، تتمايل بخجل، وتتناغم خطواتها مع خطواته في رقصة السلو الهادئة.
سألها مروان بهدوء:
– ماكنتش متخيل إنك تعرفي ترقصي سلو.
لم ترفع عينيها إليه، رغم اقترابه الشديد الذي زاد من توترها، وأجابت بخجل:
– أحم... أنا وأحمد علمنا بعض.
نظر إليها باستفهام، وسأل:
– إزاي؟
ردّت بتوضيح بسيط:
– كل حد فينا يسمع أغنية تعجبه، يطلب من التاني يشاركه فيها... تقريبًا كده بنعرف نرقص جميع الرقصات.
غامت عيناه فجأة بالحزن، عندما زاره طيف أخته، وتنهد بشرود وهو يقول:
– أنتي وأحمد شكلكم متفاهمين.
أكّدت كلامه وهي تبتسم بحب:
– جدًا... علاقتنا قوية، وأسرارنا مع بعض...
عمرنا ما كنا مجرد إخوات، إحنا أصدقاء أكتر.
في مكان آخر من القاعة، نادى خالد على ابنه:
– أحمد، روح قابل عمك صالح عند باب القاعة.
ترك أحمد ما بيده، وردّ باحترام:
– حاضر.
وأثناء سيره، سمع صوتًا مألوفًا يقول:
– أه... أنا آسفة.
رفع أحمد عينيه، ليتسع نظره بدهشة:
– إيه ده... إنتِ؟!
لم تصدق عينيها أنه أمامها الآن، بكل تلك الوسامة التي طالما تمنت رؤيتها مرة أخرى،
رغم الخوف الذي شعرت به في لقائهما الأول... غلبتها سعادتها، وهتفت بفرحة صادقة:
– إزيك!
قال أحمد بتعجب:
– آخر مكان كنت أتوقع أشوفك فيه... أكيد إنتِ تبع العريس؟ لأن أنا عارف كل أصحاب نَسمة.
هزت رأسها بتأكيد، وردّت:
– آه، ابن عمي. وأنت؟
قال وهو يبتسم:
– أنا أخو العروسة... نَسمة، اللي كانت معايا في العربية يومها.
هتفت بدهشة وسعادة:
– بجد؟ ده خبر جميل جدًا! أنا كنت مسافرة عند خالتي، وده سبب عدم حضوري الخطوبة... بس كده بقينا قرايب، يعني هنشوف بعض دايمًا.
رمقها أحمد بعدم رضا:
– برضه... مفيش فايدة في لبسك ده.
تلعثمت وهي ترد بخجل:
– ليه؟ ما أنا غيرت لبسي من يومها... ولبسة طويل وواسع أهو.
ضحك بسخرية، وهو يشير إلى الجزء العلوي من فستانها:
– طيب... وبالنسبة للجزء اللي فوق ده؟ أدعيله أنا بالستر ولا إيه؟
أعادت النظر إلى ما ترتديه، فستان أحمر كب، طويل وواسع، لا تعرف سبب اعتراضه الدائم على ملابسها.
لقد منعت نفسها بالفعل من ارتداء الفساتين القصيرة منذ لقائهما... لكنها الآن تشعر أن الأمر لا يرضيه أيضًا.
فاقت على صوته وهو يقول بنبرة آمرة:
– تعالي ورايا.
تحركت خلفه كالمغيبة، كأنها طفلة تخاف عقاب والدها.
وصل إلى إحدى الطاولات خارج القاعة، وأشار لها بالجلوس، ثم نادى على الويتر وطلب لها عصيرًا على ذوقه، دون أن يسألها إن كانت تحبه أم لا.
نظر إليها بتحذير واضح:
– ممنوع تتحركي من هنا لحد ما أرجع.
لم تعترض، لم تغضب، فقط نطقت بكلمة واحدة:
– حاضر.
نسي أحمد سبب خروجه، وركب سيارته. غاب ما يقرب من ربع ساعة، ثم عاد، ومدّ لها يده بحقيبة ورقية.
تناولتها بلهفة، فتحتها دون أن تنتبه لماهيتها، ثم سألته باستغراب:
– إيه ده؟
أجابها بنبرة هادئة لكن حاسمة:
– حاجة تغطي بيها إيدِك... آه، مش ماركة زي لبسك، بس هو الموجود. وياريت تحافظي على نفسك.
ثم أضاف بجديّة وهو يخفض عينه:
– جسمِك ده حاجة غالية، ياريت تداريه للي يستاهله... مش عرض لكل واحد.
ثم تركها واختفى.
عاد ليجد والده في انتظاره، سأله بتعجب:
– كنت فين يا أحمد؟ أنا مش طلبت منك تخرج لعمك صالح!
ضرب أحمد جبهته بيده بأسف:
– آسف يا بابا، نسيت والله.
ابتسم والده بحنان، وسأله ممازحًا:
– اللي واخد عقلك؟
وعلى طاولة أخرى، هتف فريد بتهكم وهو يراقب نَسمة:
– مروان ابن عمي... ده حظه من السما! البنت نار، لوزة مقشرة، عايزة تتاكل!
اعترض سيف بغضب:
– ماتتلم يا فريد! هو أنت ما عندكش حدود؟ دي بقت مرات ابن عمك، يعني شرفك!
رمقه فريد بغيظ:
– طبعًا يا أخويا، مين هيدافع عنه غيرك؟ طول عمركم مش طايقني، و أسراركم كلها مع بعض!
وقف سيف بملل:
– لا دانتَ اتجننت... أنا سايبك وماشي.
أسند فريد ظهره إلى الكرسي، ووضع قدمًا فوق الأخرى، وهتف بغيظ:
– امشي... ينعل أبو فقرك! عكّرت مزاجي!
في تلك اللحظة، رأى سيف أحمد، فناداه.
التفت أحمد بابتسامة:
– باشمهندس سيف، منوّرنا والله!
أصاب سيف الذهول؛ فهو يعلم أن أحمد توظف في شركتهم، لكنه لم يكن يعلم أن العروس أخت الموظف الجديد.
لم يرَ مروان الموظفين الجدد ليعلم أن أخو خطيبته موظف عنده.
– مش ممكن... هي العروسة أختك؟!
ضحك سيف:
– يعني طلعنا نسايب!
ردّ أحمد وهو يضحك:
– والله أنا ما عرفت الاسم كامل غير من كام يوم.
قال سيف بهدوء:
– خلاص، أسيبك لضيوفك.
لكن صوت أحمد أوقفه:
– معلش، ممكن كلمة؟... ماكنتش عايز حد من زمايلي يعرف صلة القرابة... حضرتك عارف طبعًا اللي بيحصل، وأنا عايز أعمل اسم لنفسي، وأنجح بمجهودي.
ابتسم سيف بإعجاب، وأجابه بتقدير:
– تمام قوي... وده بيدل على أخلاقك الجميلة.
شكره أحمد، ثم تركه ليتفرغ لاستقبال المعازيم.
أما سيف، فتمتم لنفسه بضيق:
– شكلكم ناس كويسين... بس حظ بنتكم... تكون لعبة!
دخلت شهد القاعة وهي تشعر بمشاعر جديدة لم تعهدها من قبل. نعم، هي ابنة الطبقة المخملية، ونعم، ترتدي أغلى الماركات، وكل متاع الحياة بين يديها... ولكنها، ولأول مرة، شعرت باهتمام حقيقي وحنان صادق، فقط خلال دقائق معدودة جمعتها بذلك الشخص.
ضمت ما ترتديه إلى صدرها بحب. كان عبارة عن بوليرو سهرة أسود، يتوسطه بروش فراشة كريستالي، صغير في حجمه، عظيم في قيمته بالنسبة لها. لم يكن مجرد قطعة قماش... كان ذكرى، وشعورًا، ورسالة اهتمام لم تعهدها من أحد من قبل.
لم تكد تلتقط أنفاسها حتى وقعت عليها نظرة والدتها، نظرة ممتلئة بعدم الرضا، لتسألها بحدة مكتومة:
– إيه اللي إنتي لابساه ده؟
ردت شهد بتأفف، وهي تحاول أن تخفي ارتباكها:
– حسيت ببرد... رحت اشتريته.
هتفت حياة، والدتها، بنفور واضح:
– يعني ماكنش فيه حاجة أشيك من كده؟!
تنهدت شهد، وفي قلبها رغبة عارمة أن تقول لها:
"ده أغلى من أغلى فساتين باريس... ده هدية من حد ما شفتش زيه قبل كده..."
لكنها لم تملك الشجاعة لتكشف سرّها، فاكتفت بأن تململت قليلًا، وردّت بصوت خافت:
– فيه... بس ده عجبني.
********
– ممكن كلمة على جنب يا أحمد؟
تحرك أحمد جوار نادر، الذي أردف بهدوء:
– إحنا هنروح بعد الفرح... كفاية كده، بقالنا عندك أربع أيام.
أجابه أحمد بنبرة لا تقبل النقاش:
– مالكش دعوة، ومافيش مروّاح... السفر هيكون الصبح، نسافر كلنا مع بعض هناك.
انتهى من كلمته، ثم جذبه شيء ما ليبتعد بنظره عن نادر، الذي سأله باستغراب:
– بتبص على إيه كده؟
تحرك أحمد مبتعدًا وهو يردد:
– ثواني... وجاي لك.
في تلك الأثناء، خرجت شهد من القاعة وهي تتحدث في هاتفها، دون أن تنتبه إلى شابين يتتبعانها بخطى بطيئة.
– الجميل مالُه؟ لو عايزة حاجة... إحنا في الخدمة.
التفتت شهد إليهما بخوف، لكن فجأة انبعث صوت قوي من الخلف:
– خير يا شباب؟
كان أحمد. وقف كظلٍّ شامخ، وقد تجمد الشابان في أماكنهم، خاصة عندما أدركا من هو.
أحدهما تمسّك بذراع صديقه في الخفاء، وقد ارتعدت أوصالهما. هما يعرفانه جيدًا... أحمد، الشاب المحترم، المتدين، الذي لا يقبل الخطأ.
أكثر ما يغضبه، ويوقظ الوحش المدفون بداخله، هو التعدي أو التطاول على فتاة.
خرجت الكلمات من فم أحدهما بتوتر، متقطعة:
– ب... بشمهندس أحمد، هي تبعك؟
أجاب أحمد ببرود قاتل، وهو يضع يديه في جيب بنطاله:
– ده فرح أختي... يعني كل بنت فيه تبعي.
أخفض الشابان رأسيهما بخجل، ورددا في صوت متقطع:
– إحنا آسفين...
قال أحمد بحدة:
– يا تقعدوا باحترامكم... يا توروني عرض أكتافكم.
أنتم عارفين كويس اللي يتطاول على بنت... عقابه بيكون إيه.
ابتعد الشابان بسرعة، يكررون اعتذارهم،
وعندما ابتعدا بما فيه الكفاية، همس أحدهما
للآخر وهو ينطق الشهادة:
– مش قولتلك بلاش هنا؟ لمصيرنا يبقى زي رامي، اللي قعد في المستشفى شهر لما ضايق صاحبه وأخته.
بينما كان أحمد يوجه كلامه لـشهد، كانت هي تتابع ما يحدث بعينين متسعتين من الانبهار؛ كيف تحوّلت ملامح الشبان إلى الرعب فقط لمجرد وجوده!
– وبعدين معاكي؟ كل شوية رايحة جاية!
إحنا في فرح... كله رجالة وشباب!
أخرجها صوته الحازم من حالتها، لترد بتوتر:
– جالي تليفون، ومش سامعة حاجة جوه... خرجت أتكلم بره.
هزّ رأسه رافضًا:
– لا، معلش... اقضي تليفوناتك طول الفرح واتس، ولما تروحي اتكلمي براحتك.
أنا مش هسيب الفرح وأمشي ورا حضرتك علشان محدش يضايقك.
ابتسمت شهد ابتسامة ناعمة، وقد لمعت عيناها:
– محدش يقدر يضايقني طول ما ملاكي الحارس موجود.
ثم تركته ومضت، وهي تشعر بأنها أسعد إنسانة في الوجود.
أول مرة تجد من يهتم بها ويحميها بهذه الطريقة...
فـوالدها اهتمامه الأساسي الصفقات، ووالدتها لا ترى في الدنيا إلا الموضة، أما أخوها، فلا تراه إلا بالصدفة!
ابتسم أحمد وهو ينظر لطيفها يبتعد...
قاطعه صوت مألوف خلفه:
– معقول تكون طيبت؟ يا أبو حميد...
التفت أحمد ليجد نادر يبتسم له بخبث.
*******
انتهى الفرح، وأخذ مروان يد نَسمة متجهًا نحو السيارة.
كانت تسلّم على الجميع والدموع تنهمر من عينيها... فهي تفارقهم لأول مرة.
اقتربت منها سهير وربتت على كتفها بحنان:
– حبيبتي، كفاية عياط... أنتي مش مهاجرة.
هتيجي تشوفيهم، وهما كمان هيجولك.
أدخلها مروان السيارة وجلس إلى جوارها، لكنها لَمَحت حنين تبكي بين ذراعي جدتها.
التفتت إليه برجاء:
– ممكن... معلش، تجيب حنين معانا؟
نزل مروان دون أن يرد، وتوجّه لجدته، أخذ حنين من بين ذراعيها، وعاد بها إلى نَسمة.
بمجرد أن احتضنتها، توقفت الصغيرة عن البكاء، وارتسمت ابتسامة دافئة على وجهها.
في تلك اللحظة، أدرك مروان أن راحة ابنته الحقيقية بين ذراعي هذه الفتاة...
وتذكر كم كانت حنين ترتعب من رؤية شاهي.
وبعد نحو ساعة في الطريق، غفت حنين في حضن نَسمة، بينما فتح مروان عبوة عصير وأعطاها إياها قائلاً:
– اشربي ده.
ردّت بهدوء:
– ماينفعش... عشان حنين.
نظر لها باستغراب:
– مالها حنين؟
ابتسمت وهي تهمس:
– إيدي تحت خدها، علشان شغل الفستان ما يجرحش بشرتها.
رمقها مروان بنظرة طويلة، وفي رأسه ألف سؤال.
لكنه نطق بعكس ما كان يدور في عقله:
– طيب... ممكن أنا أشربك؟
هتفت بخجل:
– لا، مش مشكلة... لما نوصل إن شاء الله.
*******
عاد أحمد ونادر مع أهاليهم، وكان الجميع سعيدًا، أما هناء فكانت تغرق في تأمل رجولة أحمد الطاغية ووسامته.
فردّت أختها بسخرية:
– ما كنتِ بتقولي عيب؟
تأفّفت هناء ثم قالت:
– بعدين معاكِ يا سالي.
في تلك الأثناء، مدح والد نادر أحمد قائلاً:
– صاحبك وأهله ناس تتحط على الجرح يطيب.
وأضاف مستفسرًا:
– إحنا مش هنسافر النهارده؟
ردّ نادر بتأكيد :
– فعلاً يا أمي، أحمد جدع وبيحب يساعد الناس،
لكنّه رفض قال هنروح كلنا بكرة بدل بهدلة المواصلات.
ظلّت شهد شاردة طوال الطريق، مستغرقة في تأمل رجولة أحمد، خوفه عليها، وتوجيهه لها أحيانًا بعنف، لكنها كانت تشعر معه بالأمان.
كان أول من يعاملها بدون تكلف أو اعتبار لعليتها أو مكانتها، إذ كان الجميع يتعامل معها لمصلحته الخاصة، بسبب مالها أو مركز وقوة عائلتها.
*********
دخلت نسمه إلى الفيلا، وكان مروان يحمل حنين بين ذراعيه. صعدوا إلى غرفة حنين، وضعها على السرير بحنان.
انحنت نسمه، خلعت عنها حذاءها، ودثرتها، ثم قبلت جبينها. التفتت إلى مروان، الذي أخذها ودخل بها إلى جناحهم.
كان الجناح مزينًا ببالونات حمراء وبيضاء، وفوق السرير كان هناك قلب كبير بنفس الألوان. شعرت نسمه بسعادة كبيرة.
لاحظ مروان فرحتها بأشياء بسيطة، لكنه لم يرحم قلبها المتيم بحبه، وقضى على فرحتها بكلماته.
جلست نسمه على طرف السرير بخجل، بينما جذب مروان كرسيًا وجلس أمامها، وقال:
– أنا عايز أتكلم معاكي في شوية حاجات عشان ما نتعبش بعض.
لم ترد، بل انتظرت ما سيقوله، وهو اعتبر صمتها موافقة.
تابع:
– أنا اتجوزتك لأن ماما وحنين بيحبوك، وحنين متعلقة بيكي جدًا،
لكن أنا... بحب واحدة تانية، وهي دي اللي هتكون مراتي بجد.
شعرت نسمه بوخز حاد في قلبها، كأن خنجرًا مسمومًا غرز فيه بلا رحمة.
الإنسان الوحيد الذي دق له قلبها لا يشعر بها ولا يراها.
أجمل ليلة في عمرها أصبحت الأسوأ على الإطلاق.
تمنت وجود أحمد لترتمي في أحضانه، يحميها من هذا الإحساس القاتل لكل مشاعر الإنسانية.
مع من تتكلم ليخفف عنها الألم، شعرت بالاختناق، عاجزة عن الحركة أو الكلام.
*********
في غرفة سهير، تنفست الصعداء
حدثها زوجها :
— الوقت أرتاحت يا سهير.
ردت عليه وهي تملؤها الفرحة:
جدا جدا
تحدث برضي
— عندك حق، البنت وأهلها ناس في قمة الأخلاق والبساطة والطيبة، شكلهم محبوب من الكل. حتى صاحب الفندق كان شايلهم كتير.
نظرت إليه سهير وهي تهتف:
— أنت عارف؟ كريم، صاحب الفندق، كان عايزها وكلمها قدامي. رغم أنها رفضته، لكنه كان واقف مع أهلها كأنهم عيلة.
قالت وهي تشير إلى والدها:
— باين على باباها إنه له معارف كتير.
شردت سهير محاوِلةً إقناع نفسها بأنها وصلت لما تريد، أهم شيء ربنا يسعدهم ويهدي ابنك وينسي شاهي.
لكن وجدي أسقطها من غيمتها الوردية بكلماته الحادة:
— يبقى ما تعرفيش، ابنك
مروان عمره ما هيرضي بحاجه اتفرضت عليه. بيسايرك، أه، لكن البنت هي اللي هتدفع الثمن، وأنتي السبب.
********
لم تجد نسمه ردًا على كلامه، ولم ترفع رأسها ليرى تأثير تلك الكلمات عليها. هتف بتردد:
— نسمه، أنتي سامعاني؟
لم تستطع رفع وجهها، حتى لا يرى دموعها وحزنها، فهزت رأسها خفية.
وقف وابتعد عدة خطوات، ثم عاد مرة أخرى ومد لها يده بظرف.
سألته وهي تحاول كتم ضعفها و تحارب دموعها كي لا تنكسر أمامه:
— إيه ده؟
أجابها ببرود:
— فيزا، حطيت وديعة في البنك باسمك مقابل الوضع ده، لأن ظلمتك معايا.
رفعت نسمه عينها بحدة وكبرياء، وقالت:
— فلوس؟ إيه اللي بتتكلم عنها؟ أنت جايب واحدة من الشارع!
أنا نسمه الحسيني، والفلوس دي ما تداويش خداعك و غشك. كان ممكن تكون صريح معايا من الأول وأنا صاحبة القرار.
أضافت بصوت متصلب:
— لكن للأسف، حضرتك رسمت و خططت حياتي تبع هواك، و حاليًا أنا مش هقدر أخد أي قرار، خوفًا على سمعة أهلي، وبرده قلب ماما سهير ممكن ما يتحملش.
لم يتوقع حدتها في الكلام و كبريائها الذي استشعره من نطق اسمها واسم عائلتها، لكنه تغاضى عن ذلك.
هتف ببرود:
— قدام أهلي وأهلك، إحنا أسعد زوجين، لكن في جناحنا كل واحد حر في تصرفاته.
لم تكن نسمه، ابنة خالد، لتظهر له ضعفها أو انكسارها، فتحدثت بكبرياء:
— أنا كمان وافقت على الجواز عشان حنين وماما سهير.
وتابعت:
— والفلوس دي أنا مش محتاجاها، خليهالك أو شوف حد محتاج لها، وكل حاجة هتمشي زي ما أنت عايز.
و أضافت:
— و متقلقش، ماما سهير صحتها أهم عندي من نفسي.
وقفت بكبرياء لا يليق بغيرها ممكن أروح أغير لأني تعبانة وعايزة أنام.
ابتعد من أمامها بحيرة وهو يهتف:
— أه، اتفضلي.
دخلت نسمه غرفة الملابس في الجزء الخاص بها، تناولت ملابسها ببرود، و أسدلها
ثم توجهت لدخول الحمام.
عندما أغلقت الباب، تبخرت قوتها وجلست على حافة البانيو تبكي بحرقة، فهي لأول مرة تشعر بالضعف والعجز والإهانة. لقد طعنها في أنوثتها برفضه لها و تفضيله أخرى عليها في تلك الليلة.
حدثت نفسها بحيرة :
— لو رجعت تاني يوم فرحي،
أهلي هيتفضحوا، و معدّوش هيقدروا يرفعوا رأسهم بين الناس، رغم أن متأكدة أنهم مش يهمهم غير راحتي.
وتابعت:
— وماما سهير لو عرفت اللي حصل، ممكن قلبها يتعب وتروح فيها. أعمل إيه يا رب؟ حلها من عندك.
ظلت تبكي من الضياع والألم
كل أحلامها مع حبيبها انهارت في لحظة، وقلبه ملك امرأة أخرى.
— مش عارفة أعمل إيه، حبه في قلبي أكبر من أني أسيطر عليه. أنا عايشة معاه وكفاية عليا أشوفه و أسمع صوته.
ملست على قلبها:
— ده ذنبك يا قلبي، دقيت لواحد مش ملكك.
توضأت وخرجت، وجدته في انتظارها.
سألها بفضول :
— أنتي أتأخرتي ليه كده؟
لم ترفع عينها وردت:
— مفيش، تعبت عشان أفك الفستان.
سألها:
— ليه ما قولتيش؟ كنت ساعدتك.
خرج صوتها بقوة وثقه :
— شكرًا متعودتش اعتمد علي حد في أي حاجه تخصني ، أنا هصلي وأنام فين؟
أشار لها إلى السرير، لكنها رفضت:
— لا، معلش، ممكن أنام على الكنبة دي؟
أخذ ملابسه وتوجه إلى الحمام، مرددًا بلا مبالاة:
— براحتك.
ثم سألها بفضول:
— أنتي هتصلي ايه ؟ الفجر لسه ما اذنش
— أنا بصلي قيام الليل، بس النهارده هصلي كام ركعة وأنام لأني تعبانة.
دخل مروان غير ملابسه وخرج، وكانت نسمه قد صلت، وتوجهت إلى الكنبة لتنام.
أوقفها صوته:
— السرير كبير، ممكن تنامي جنبي.
قالت له:
— لا، خليك براحتك، والكنبة كبيرة وواسعة. ولو تعبت، هنام على السرير. تصبح على خير.
رد عليها:
— وأنت من أهل الخير.
---
في الصباح، رن هاتف مروان، فتح الخط ليأتيه صوت شاهي الحانق:
— صباحية مباركة يا عريس.
قام مروان وأعتدل، وألقى نظرة على نسمه التي ما زالت نائمة، :
— صباح الخير يا حبيبتي.
هتفت بحزن:
— كده يا مروان تدخل حياتك واحدة غيري؟
هتف بحب:
— والله يا حبيبتي، ما حصلش حاجة بينا. أنا قولت الجواز "سوري"، ولازم تصدقيني.
هتفت بغضب ::
و هي وافقت طبعا، هي كانت تصدق، أنها تكون زوجة مروان الفيومي أو تعيش في بيته .
تململ من طريقتها ليهتف:
— معلش يا حبيبتي، هقفل دلوقتي و أشوفك لما أخرج.
قام مروان ودخل الحمام.
فتحت نسمه عينيها الدامعتين، استمعت لكلماته التي أكملت على الباقي من روحها لتتألم في صمت.
همست:
— يا رب، أكيد ليك حكمة في كده. وأنا راضية بحكمك، بس ألم قلبي صعب، ساعدني على تحمله يا رحيم، يا عليم.
