رواية خلف الوجوه البيضاء
الفصل السابع7بقلم اسلام الحريري
المدينة كانت ترتدي ثوبها الليلي الثقيل، كما لو أن الظلام نفسه كان يحاول إخفاء شيء ما. بينما كانت سيارات الشرطة تلتف حول المبنى المهدم، كانت الأنوار تتراقص على الوجوه القلقة. أدهم كان يقف أمام الحطام، عينيه تتفحصان المكان بتوتر، كما لو كان يهرب من شيء ما في عقله، شيء أكبر من القاتل نفسه.
كان قلبه ينبض بقوة، كل ما حوله كان يعكس صورة واحدة في ذهنه: "الملاك الأبيض." لم يكن يتوقع أن تعود تلك الذكرى، لكن صوت المكالمة الأخيرة، والرسالة المشفّرة، أجبرا كل شيء على العودة. كانت هناك خيوط تخرج من الماضي، تجره قسرًا إلى مكان لا يريد أن يذهب إليه.
وقفت إلى جانبه المحققة رنا، عينيها تتابعان المشهد، لكن نظرتها كانت تتجه نحو شيء آخر، نحو زاوية مظلمة خلف الحطام. "هذا المكان... لم يكن مجرد حادث." قالت بصوت هادئ، لكن كلماتها كانت تنبض باليقين. "القاتل أراد أن يترك علامة هنا. هذه الجريمة ليست مجرد جريمة."
أدهم نظر إليها بنظرة عميقة. "أنتِ أيضًا تعتقدين أن هناك شيئًا أكبر من هذا؟"
هزّت رأسها ببطء، ثم أضافت: "هذا لم يكن مجرد قتل. كان تصفية حسابات، وهذا المكان... كان بداية النهاية."
ثم نظرت إلى رجل يرتدي زيًا مدنيًا، كان يراقبهم من بعيد. ظهر فجأة من بين الظلال، ثم اقترب بخطوات ثابتة. كان طويلًا، ذا لحية كثة، وعيناه كأنهما لا تخفيان شيئًا. "أنا يوسف ناصر، رئيس وحدة التحقيقات الخاصة."
مدَّ يده إلى أدهم، الذي أخذ يده بحذر، ثم قال يوسف بلهجة جادة: "أدهم، نحن نواجه شيئًا أكبر من مجرد قاتل مهووس. هناك شبكة، شبكة تدير كل شيء في الظل."
أدهم شعر بشيء ثقيل في قلبه، وعينيه تلاحقان كل حركة لهذا الرجل الذي كان يحمل سرًا لا يبدو أنه مستعد للكشف عنه بعد. "ما الذي تعرفه عن القاتل؟" سأل أدهم.
يوسف نظر إلى الأرض للحظة، ثم رفع رأسه وقال بصوت منخفض: "القاتل جزء من مجموعة تعمل في الظل... وهي أقدم بكثير مما تتخيل. هم ليسوا مجرد مجرمين، إنهم جزء من نظام عالمي... شبكة ضخمة."
ثم أضاف يوسف: "الملاك الأبيض ليس مجرد رمز. هو اسم مستعار لشخصيتين مختلفتين... وأنا أعتقد أن واحدة منهم موجودة هنا، بيننا."
أدهم شعر ببرودة في أطرافه، وعقله بدأ يعمل بسرعة. "أنت تقول إن القاتل جزء من شبكة ضخمة... وأن الملاك الأبيض هو شخص حقيقي؟"
"نعم." أجاب يوسف ببساطة، وكأن كل شيء كان واضحًا بالنسبة له. "لكن هناك شيء يجب أن تعرفه، أدهم. هذه المجموعة لا تقتصر على الجريمة فقط. لديهم أهداف أكبر. أهداف سياسية، اقتصادية. هم يعتقدون أنهم يتحكمون في مصير العالم."
وفي تلك اللحظة، دخل شخص آخر إلى المشهد، كان شابًا في أوائل الثلاثينات، عينيه تحملان نظرة حادة، وحركاته تشير إلى حذر دائم. كان يلبس بدلة أنيقة، لكنه بدا وكأنه لا ينتمي إلى أي مكان. "سامي كامل." قال الشاب بنبرة باردة. "محلل استخبارات دولي. لدي معلومات قد تهمكم."
أدهم نظر إليه بتمعّن، ثم قال: "ماذا تعرف؟"
"المجموعة التي تتحدثون عنها... هي واحدة من أكبر شبكات الجريمة المنظمة في العالم. لكن هذه الشبكة ليست مجرد مجموعة من الأفراد المجرمين. هم يتعاونون مع كبار المسؤولين في الحكومات، رجال أعمال كبار، وحتى شخصيات دينية."
استمر سامي قائلاً: "ولكن هناك سرًا أكبر... هناك شخص واحد يقف وراء كل هذا، شخص يظل في الظل، يتلاعب بالجميع."
رنا كانت تراقب بعناية، ثم قالت: "ومن هو هذا الشخص؟"
"لن تعرفوا اسمه بسهولة." رد سامي، ثم أضاف بصوت خافت: "لكن يمكنكم البدء من الملاك الأبيض. هذا هو مفتاحهم."
كان الجو مشحونًا، وكل كلمة كانت تزداد كثافة. أدهم شعر كما لو أن العالم كله بدأ يدور حوله، وكل شيء كان يشير إلى وجهه، إلى اسمه. "إذا كان الملاك الأبيض هو المفتاح... كيف نبدأ؟" سأل.
يوسف أجاب بثقة: "بدايةً، يجب أن تجدوا كل وجه وراء كل قناع. يجب أن تكشفوا عن من يقف وراء هذه المجموعة، وأن تفهموا الدور الذي تلعبه كل شخصية في هذه اللعبة."
أدهم شعر بثقل المسؤولية. لكن فجأة، انقطع حديثهم عندما بدأ الهاتف يرن مرة أخرى. كان نفس الرقم، المجهول. أدهم أمسك بالهاتف، وعيناه لا تفارقان سامي ويوسف. "أنا هنا... أستطيع سماعك."
الصوت كان نفسه، باردًا، مليئًا بالتحدي: "أدهم، إذا كنت تعتقد أنك ستكون الشخص الذي يكشف كل شيء، فأنت مخطئ. اللعبة لم تبدأ بعد."
ثم أغلق الاتصال.
"اللعبة... لم تبدأ بعد." همس أدهم لنفسه، وكأن الكلمات كانت تحمل تهديدًا صريحًا.
في تلك اللحظة، شعر بأن كل شيء في حياته قد تغيّر. لم يعد هو المحقق الذي يبحث عن القاتل فقط. كان الآن جزءًا من لعبة أكبر، لعبة قد تبتلع كل شيء، وقد تبدأ من تلك الوجوه البيضاء.
لكن في عمق قلبه، أدرك أن الملاك الأبيض لم يكن مجرد شخصية غامضة. كان رمزًا لحقيقة قديمة كانت مخفية بعيدًا عن الأنظار. حقيقة يعرفها هو، وكل من كان جزءًا من هذه اللعبة.
أدهم أغلق الهاتف بعنف، وكان قلبه ينبض بقوة. نظرات يوسف وسامي كانت مشدودة إليه، كأنهم ينتظرون أن يقول شيئًا. كانت الأجواء ثقيلة، كما لو أن الجميع كان يركبون في سفينة تتجه نحو المجهول.
"ما الذي يعنيه ذلك؟" سأل سامي بصوت هادئ، لكن في عينيه كان هناك توتر ظاهر. "لماذا هذا التحدي؟"
أدهم مرَّر يده في شعره، ثم نظر إلى السماء كما لو كان يبحث عن إجابة في الفراغ. "لا أعرف، لكن ما أعرفه أن هذا الشخص... يعرفني جيدًا. هذه اللعبة بدأت تصبح شخصية جدًا بالنسبة لي."
يوسف كان يتنقل خطوة إلى الأمام، وجهه صارمًا. "أدهم، هذه ليست مجرد لعبة بالنسبة لك. لا تدع الأمور تتداخل. نحن نتعامل مع أناس قادرين على تدمير حياتك في لحظة."
أدهم استدار نحوه بنظرة حادة، ثم قال بحنق: "وأنت! هل تعتقد أنني لا أعرف؟ هل تعتقد أنني لا أرى الصورة الكاملة؟" ثم أضاف بنبرة مرتفعة: "أنت تخفي شيئًا، يوسف. أنت تعرف أكثر مما تقول، لا يمكن أن تكون هذه مصادفة. كيف لنا أن نثق بك وأنت جزء من هذا كله؟"
سامي تدخل بسرعة، لكن نظرته كانت مشددة، وكأن لسانه كان يكاد يشتعل: "كفاكم! كل واحد منا هنا لديه أهدافه الخاصة. لكن الهدف الآن هو كشف ما وراء الملاك الأبيض، سواء كان يوسف جزءًا من هذه الشبكة أم لا، لن نصل إلى شيء إذا لم نكون متعاونين!"
تأمل أدهم في كلامه لبضع لحظات، ثم هزَّ رأسه ببطء وقال: "أنت محق، سامي. لكن ما الذي يدفعك للظهور فجأة؟ لماذا الآن؟"
أجاب سامي بنبرة مشحونة، كأنها تهديد: "لأنني أريد أن أكون من ينهي هذا الأمر. لسنوات وأنا أتابعهم من بعيد، أراقب كل خطوة، وكل حركة. لكن لم أكن قادرًا على الإقتراب... حتى الآن."
يوسف اقترب منه، ثم قال بصوت منخفض ولكن حاسم: "هل تعتقد أنك الوحيد الذي يعرف كيف يدير اللعبة؟ لا تحاول أن تكون أكبر من اللازم، سامي. كل واحد منا لديه أسراره، وكل واحد منا يخشى أن يكشف الآخر."
التفت أدهم إليهم، وعيناه تحترقان بالأسئلة: "ماذا تخفيان؟"
لكن قبل أن يستطيع أحد الإجابة، انقطع الحديث فجأة. صوت ضجيج سيارات الشرطة يقترب بسرعة. رنا، التي كانت على اتصال مع الفرق الأخرى، ركضت نحوهم، وجهها شاحب من القلق. "في مكان قريب، هناك عملية مداهمة على بناء آخر. إنها شبكة تهريب أسلحة دولية. علينا أن نتحرك بسرعة."
يوسف لم يضيّع الوقت، وأشار إلى أدهم بسرعة: "يجب أن تذهب معنا. هذا قد يكون فرصتنا."
تردد أدهم للحظة، ثم قرر: "لن أذهب إلا إذا أخبرتني أولًا بما تخفيه. لماذا كنت تراقبهم لسنوات؟ ماذا تعرف عن الملاك الأبيض؟"
يوسف نظر إليه، وابتسامة باردة سحبت زاوية فمه. "كل شيء سيأتي في وقته، أدهم. لكن لا تدع أسئلتك تقف بينك وبين ما هو أهم. لقد اقتربنا من كشف كل شيء."
ثم انطلقوا معًا نحو السيارات، بينما رنا كانت تشير بإشارة عاجلة. كان أدهم يشعر بشيء يزعجه في قلبه، لكن كان هناك شيء آخر أكبر يلاحقه. "لا أستطيع أن أضيع الوقت في الأسئلة. لكن لا شك أن يوسف يخفي شيئًا كبيرًا."
في المداهمة:
عندما وصلوا إلى موقع المداهمة، كان هناك ضباب كثيف يحيط بالمبنى، والجو مشحون بالكهرباء. كانت مجموعة من الشرطة في انتظارهم، وعيناه تتفحصان المكان بحذر. لكن ما لم يكن يعلمه أدهم هو أن هناك شخصًا آخر داخل المبنى، شخص قد يعرف كل شيء عن الملاك الأبيض.
يوسف اقترب من أحد الضباط، وأشار إلى المبنى: "هم هناك. ويجب أن نتحرك بسرعة. سيتعين علينا مواجهة المزيد من الأسرار الليلة."
في الداخل، كان المكان مظلمًا وموحشًا. فجأة، ظهر شخص ما من الظلال. كانت عيناه تتلألأ بالضوء الخافت، وجهه نصف مغطى. "أدهم... يوسف... رنا." قال بصوت عميق، كأنه يعرف كل واحد منهم. "أنت هنا لأنكم أخيرًا بدأتم تفهمون."
أدهم وقف في مكانه، قلبه ينبض بسرعة. "من أنت؟"
الشخص رفع يديه ببطء، ثم كشف عن وجهه، وعيناه متقدتان بالغموض. "أنا من يعرف الحقيقة. وأنا من سيرشدكم إلى الملاك الأبيض."
لكن عندما اقترب أكثر، تغيرت الأجواء تمامًا. كانت ملامحه تتحول ببطء، كما لو أن شيئًا غير طبيعي يحدث، وتفاجأ الجميع عندما سمعوا صوته الذي أصبح أكثر خشونة: "لكن هل أنتم مستعدون لما سيحدث بعد ذلك؟"
أدهم نظر إلى يوسف، ثم إلى رنا وسامي، ثم عاد للنظر إلى هذا الشخص الغامض، كأن كل شيء أصبح على المحك.
"هل نحن مستعدون؟" سأل أدهم بصوت منخفض.
والجواب كان واضحًا: "لا شيء يمكن أن يوقفنا الآن."
