رواية نسمة متمردة الفصل الثامن8 بقلم امل مصطفي
في أحد الأيام،
وقفت سهير أسفل الدرج تُحفّز نسمة على الإسراع:
– يلا يا نسمة، مش عايزين نتأخر!
خرجت نسمة وهي تعدّل هيئتها، وقالت:
– حاضر يا ماما.
نزلت درجات السلم، وجدت الجميع في انتظارها. ركبوا السيارة وذهبوا إلى حفل حنين في الروضة.
كان الحفل عبارة عن دويتو بين الأم وابنتها.
تمتلك نسمة حضورًا و طلة مميزة، لفتت أنظار الحضور. كان أداؤها رائعًا، وةغنّت "ابنيتي الحبيبة" وهي في منتهى السعادة، لأنها استطاعت أن تشارك حنين فرحتها.
بينما كان مروان، وسهير، ووجدي يتابعون ما يحدث بفرحة كبيرة، تذكّروا كيف كانت حنين دائمًا تشتكي من حزنها لعدم وجود والدتها مثل باقي الأطفال.
وعندما ذهب مروان وهو يصطحب شاهي كي تشعر حنين بوجود أم وأب في انتظارها،
انهارت وظلّت تصرخ، حتى طلب مروان من شاهي الابتعاد وركوب تاكسي حتى لا يزداد الأمر سوءًا.
انتهى العرض، وحملت نسمة حنين ونزلت من على المسرح بعد تصفيق الجمهور، وجلست بجوارهم في انتظار باقي العروض.
قالت حنين بفرحة، وهي تجلس بين أحضان مروان و تتشبث بعنقه:
– بابي، شوفت أنا و مامي كنا حلوين إزاي؟
ابتسم مروان و قبّلها من وجنتها :
– أجمل بنوتة و مامتها.
أشارت حنين إلى نسمة وقالت:
– طيب بوس مامي، لأنها هي كمان تعبت.
نظر لها مروان لم يتوقع مثل هذا الطلب
بينما تورد وجه نسمة من الخجل.
تحدثت حنين بتحفيز:
– يلا يا بابي!
انحنى مروان على وجنة نسمة و قبّلها برقه .
انتفض جسدها من لمس شفتيه لوجنتها، وحاولت التماسك بفرك يدها الموضوعة على
قدميها، بينما أحس مروان بشعور مختلف لم يستطع تحديده.
عاد الجميع إلى الفيلا، وكانت نسمة تتحاشى النظر إلى مروان، لأنها ما زالت تشعر بالخجل مما حدث في الحفلة.
******
هناك في شقة أحمد
كعادته يوميًا، يقوم أحمد ببعض التمارين الرياضية.
يرتدي بنطلون قطن أبيض و تيشيرت أبيض، يبرز عضلاته.
رن جرس الباب، فذهب ليفتح وهو يتحدث:
– إنت يا ابني لو طاير مش...
وقطع كلامه عندما رأى هناء، أخت نادر صديقه، تقف أمامه وهي تتأمله بهيام.
تحدث أحمد بتعجب:
– خير يا هناء؟
مدّت له يدها وهي ما زالت على وضعها:
– ماما بعتا لك طبق أم علي.
تناوله منها وهو يشكرها، ثم أراد أن يخرجها مما هي فيه، فهتف:
– بصي يا هناء، افهمي كلامي كويس.
إنتِ زي أختي. أنا شاب عازب، وما ينفعش بنت زيك كل شوية تخبط على بابي.
عشان سمعتك أولًا،
ولأن أخوكي صاحبي ومش عايزه يفهم غلط. ياريت لو عايزه تجيبي حاجة، تبعتيها مع نادر... منعا للإحراج.
ردت هناء بتوتر:
– بس أنا يعني...
تحدث بهدوء:
– أنا عارف، بس صدقيني، ده مجرد إعجاب.
إنتِ لسه صغيرة، مش عارفة حقيقة مشاعرك. أنا زي نادر، أخوكي، ولو احتجتيني في أي وقت هتلاقيني في ضهرك دايمًا.
فلو سمحتي، امشي... لأن نادر على وصول.
نظرت له هناء بدموع، ثم ركضت وهي تبكي، ولا تعلم شيئًا عن تلك العيون التي كانت تتابعها بغضب.
*****
مرّت الأيام بينهما، يغلفها الهدوء والاحترام.
دخل مروان جناحه، فوجد نسمة تجلس وحولها مذكرات وكتب. ألقى عليها تحية المساء قائلاً:
– مساء الخير.
رفعت عينها إليه، وتركَت ما بيدها، وأجابت:
– مساء النور.
سألها بفضول وهو ينظر إلى تلك الكتب:
– بتعملي إيه؟
أجابت باختصار:
– بذاكر.
– وليه كل ده؟ إحنا لسه في أول السنة!
– أنا بحب أذاكر المحاضرات أول بأول.
سألها بتردد:
– إنتي شاطرة على كده؟
ردّت بثقة:
– طبعًا، الأولى على دفعتي كل سنة.
تحدث بإعجاب:
– حبيبي إنتِ يا واثق من نفسك!
ضحكت نسمة وقالت مازحة:
– طبعًا يا بني، إنت متجوز نابغة.
سرح مروان في ضحكتها، لاحظت نظرته، خفضت وجهها بخجل.
أراد أن يُبعد عنها الإحراج فقال ضاحكًا:
– ماشي يا عمّ المغرورة! هاخد شاور، ولو احتجتي مساعدة، أنا عبقري في الرياضة.
قالت نسمة بتردد:
– لا، صراحةً... أنا محتاجة منك حاجة تانية.
هتف بهدوء:
– خلاص، لما أخرج أشوف محتاجة إيه.
ثم تركها، تناول ملابسه ودخل الحمام.
قامت نسمة بجمع كل أشيائها بسرعة،
ثم نزلت لتحضر كأسين من العصير و قطعتين من الجاتوه.
أما مروان، وقف شاردًا تحت الماء، يشعر بالحيرة من نفسه.
يشعر براحة شديدة في التعامل معها.
اختفى النفور الذي شعر به منذ أُجبر على هذا الإرتباط.
أحب الأحاديث التي تدور بينهما، و أُعجب بشخصيتها.
نسمة هادئة، مثقفة، تعرف حدودها جيدًا مع الجميع، مما أدخلها القلوب سريعًا. حتى شهد، ابنة عمه، لم تسلم من سحرها، لدرجة أنها لم تعد تترك منزلهم إلا عند النوم.
لقد تزوجها منذ شهرين، و معاملتهما يحكمها التفاهم والاحترام.
وهذا جعله ينظر إليها نظرة أخرى لا يعرف كيف يحددها.
لم تحاول يومًا أن تستغل جمالها في لفت نظره. بل دائمًا ما يراها بالإسدال، حتى وهي نائمة.
عند ذكر اسمها، يشعر بألفة غريبة، كأنه يعرفها منذ سنين.
***
خرج مروان من الحمام، وجدها تجلس وأمامها عصير و قطعتا جاتوه.
تحدث وهو يضحك برجولة:
– إنتِ بتغرّيني بقى عشان أوافق من غير كلام؟
غمزت بشقاوة، :
– حاجة زي كده.
لم تعلم كيف أخذت عليه بتلك الطريقة، وفي هذا الوقت البسيط، رغم رفضه لها منذ زواجهما.
لا تُنكر أنها ما زالت مجروحة منه، وأنهما يتعاملان كأصدقاء، لكنه يعاملها باحترام شديد.
واكتشفت أيضًا الجانب المرح من شخصيته من خلال تعامله مع ابنة أخته ووالديه.
جلس جوارها على الكنبة، وسألها بفضول:
– خير يا نسمة؟
توترت نسمة من قربه غير المسبوق، ومن وسامته التي أسرتها منذ اللحظة الأولى.
حاولت الابتعاد بطريقة لا تُسبب له أو لها أي إحراج.
تناولت طبقًا ووضعت به قطعة من الجاتوه، ناولته إياها بابتسامة،
فشكرها
–استرسلت كلماتها أنا كنت بسأل لو ينفع أزور أهلي... أصل و حشوني جدًا.
سألها بهدوء :
– طيب... و جامعتك؟
– بكرة عندي محاضرة واحدة، والخميس والجمعة والسبت ما فيش عندي حاجة.
ثم نظرت إليه وهي تكمل:
– وحنين وماما طبعًا معايا.
قال مروان باهتمام:
– والطلب التاني؟
– كنت عايزة... لو ينفع أتدرب عندك في الشركة.
– طيب ليه تتعبي نفسك؟ اصبري لما تخلصي.
ردّت بحزن:
– أنا لسه قدامي السنة دي بس، كنت عايزة أكتسب خبرة وأنا بدرس.
و متقلقش، أنا هأنظم وقتي بين حنين والجامعة والشغل.
لاحظ مروان حزنها، فقرصها من و جنتها بابتسامة وقال:
– سيبي الموضوع ده لحد ما ترجعي، إيه رأيك؟
قالت بسرعة:
– ده معناه موافقة على طلبي الأول، مش كده؟
هز رأسه وهو يبتلع القطعة في فمه.
–تحدثت بإمتنان ::
شكرًا جدًا ليك، هقوم أبلّغ ماما عشان تجهز نفسها.
*******
عند أحمد، أغلق الباب ووضع الطبق على السفرة، ثم توجه لإكمال تدريبه.
رن جرس الباب مرة أخرى، فذهب ليفتحه، ليجد نادر واقفًا أمامه، ويبدو عليه الحزن.
هتف أحمد بابتسامة:
– مالك يا بني؟ مكشّر كده ليه؟
رد نادر بحزن:
– شكرًا يا صاحبي... لأنك حافظت على شرفي.
رماه أحمد بنظرة طويلة، ثم قال:
– هناء حكتلك؟
هز نادر رأسه نفيًا:
– لا... أنا كنت طالع وسمعت كل حاجة. ولازم أربيها.
رد أحمد بحزم:
– كده غلط. قرب من أختك و صاحبها.
هي في سن خطر ومحتاجة توجيه. بدل ما تضربها و تبعدها عنك، خليك صديقها.
ثم أكمل:
– أنت عارف... نسمة، أول ما قلبها دقّ لمروان، جَت تجري عليّا وتحكيلي، لأني عمرنا أصحاب وهي دايمًا عارفة إن أنا سندها.
ده دور الأخ الكبير... الأمان والاحتواء.
احتضنه نادر وقال بإخلاص:
– أنت نِعْم الصديق.
رد أحمد بمزاح ليخفف من حزنه:
– أبعد كده يلا... أنا كنت شاكك فيك من الأول!
ضحك الإثنان معًا.
********
مساء اليوم التالي
كانت نسمة تجلس بهدوء، تتصفح "فيسبوك" على هاتفها، حين جاءت رسالة على "الواتساب".
لم تصدق عينيها حين عرفت صاحب الرسالة: مروان.
– أنتي صاحية؟
اعتدلت في جلستها وابتسمت، وكأنّه يراها، ثم كتبت:
– آه.
– بتعملي إيه؟
– بتصفح الفيس شوية... وهنام.
– يظهر إني اتعودت على وجودك... مش عارف أنام عشانك مش موجودة.
قابلت رسالته بالصمت...
– أنتي نمتي؟
– لا.
– طب ليه مش بتردّي عليا؟
شعرت نسمة بالحيرة... لم تعرف هل ما يحدث شيء جميل أم سيّئ.
ثم كتب لها:
– أنتي رأيك إيه؟
– مش عارفة.
– اتبسطتي النهارده؟
– جدًا، اتغدّينا، ودخلت أنا وحنين المطبخ... عملنا تشيز كيك، وطبعا بهدلنا المطبخ زي كل مرة، وماما كانت عايزة تموتني.
أرسل لها مروان "إيموشن" مبتسم، فابتسمت نسمة وهي تكمل:
– بعدين نزلنا أنا وحنين ويوسف، لعبنا كورة على البحر، ورجعنا من وقتها، وهي نايمة زي الملاك... يا حبيبتي.
– هي معاكي في الأوضة؟
– طبعًا... نايمة جنبي أهي.
– وفين ماما؟
– أنا طلبت منها تنام جنب حنين، وأنا أنام على الكنبة... بس هي رفضت، وراحت نامت في أوضة أحمد.
– يظهر إنك بتعشقي الكنبة!
أرسلت له "إيموشن" غاضب،
فضحك مروان حين رآه، ثم بعث:
– خلاص يا ستي، ما تزوقيش! تصبحي على خير.
ابتسمت نسمة بحب، وردّت:
– تلاقي الخير.
أغلق مروان هاتفه وهو يشعر براحة لم يعرفها منذ زمن...
أما نسمة، فقبّلت هاتفها، واحتضنته بين يديها، ثم أغلقت عينيها.
*******
في الصباح
في مكتبه، جلس مروان يراجع بعض الأوراق، ثم أرسل في طلب أحمد.
لم يمضِ وقت طويل حتى دخل أحمد بسرعة قائلاً:
– السلام عليكم.
رد عليه مروان دون أن يرفع عينيه:
– وعليكم السلام.
اقترب أحمد قليلًا، وقال باحترام:
– حضرتك طلبتني؟
أشار له مروان بالجلوس، ثم قال بابتسامة خفيفة:
– اقعد يا أحمد... أنا مروان، وأنت أحمد.
مافيش "حضرتك" و"حضرتي" غير وقت الشغل.
ثم أكمل بصوت جاد:
– أنا مسافر النهارده عند نسمة... وهتيجي معايا.
تردّد أحمد قليلًا قبل أن يجيب معتذرًا:
– أنا لسه عندي شغل.
رفع مروان حاجبه وقال بحزم:
– خلّص كل حاجة، وجهّز نفسك... هنسافر بعد الشغل على طول.
وقف أحمد يستعد للخروج، وقال بابتسامة خفيفة:
– حاضر، بعد إذن حضرتك.
رمقه مروان بنظرة جانبية وقال بملل:
– برضه!
ضحك أحمد وهو يرد:
– معلش... مسألة تعوّد.
********
رنّ جرس الباب.
قام خالد بفتح الباب، ليجد أمامه أحمد ومروان.
ابتسم خالد بسعادة وهو يفتح ذراعيه:
– أهلاً برجالتنا.
وقام باحتضانهما بحرارة.
وفجأة، ركضت حنين نحو الباب وهي تهتف بلهفة:
– بابي! وحشتني!
انحنى مروان وحملها بين ذراعيه، و قبّلها :
– و إنتِ أكتر يا حبيبة بابي.
بينما كانت عيناه تبحث عنها... عن نسمة.
سلّم على الجميع، وهو لا يكف عن الدوران بعينيه في أرجاء المكان، و كأنّه يفتّش عن ظلها.
فاجأته والدته بقولها:
– نسمة في أوضتها بتصلي... تعال أوريك.
نظر إليها باستغراب... كيف علمت بلهفته؟
كأنها قرأت قلبه، لا وجهه فقط.
أشارت له إلى إحدى الغرف:
– دي أوضتها.
ثم أخذت حنين وعادت، تاركة له المساحة... والفرصة.
وقف خلف الباب يتنفس ببطء، محاولًا تنظيم ضربات قلبه.
ماذا حدث لك مروان لماذا كل هذا التوتر هل انت مراهق
يشعر كأنه يعيش مراهقه متأخر وهو على وشك لقاء حبيبته للمرة الأولى.
هو لم يختبر هذا الشعور من قبل، لا في مراهقته، ولا حتى مع شاهي.
ماذا يحدث له؟
هل أحب شاهي حقًا من قبل؟
لم يعد متأكدًا من شيء.
دلف إلى الغرفة بهدوء...
وفور دخوله، شعر بالذهول.
كانت أمامه، تجلس، كأنها خارجة للتو من حكاية خرافية.
بشرتها البيضاء، وشعرها الأسود الحريري،
ترتدي جيب قصيرة فوق الركبة، وبلوزة بيضاء مفتوحة قليلاً عند الصدر، تظهر منها سلسلة رقيقة على هيئة قلب.
كانت مثل فراولة شهية... تدعو الناظر إليها دون استئذان.
سمعت الباب يُفتح، لكنها لم ترفع نظرها عما بيدها.
لا أحد غريب في المنزل، فاعتادت أن تكون على راحتها.
لكنها صُدمت حين رأته واقفًا أمامها... وهي بهذا اللباس.
فمنذ زواجهما، لم يرَها يومًا دون الإسدال.
لكن ما صدمها أكثر... كانت نظراته.
يتأملها... بعين رجل يرى امرأة يحبها لأول مرة.
تقدّم مروان نحوها، كالمسحور، و كأن قدميه تتحركان وحدهما.
وقف أمامها، وهمس بصوت أجش، بإغراء قاتل، و أنامله تتحرك برقة على ذراعها العاري:
– وحشتيني... يا نسمة.
ثم مال على شفتيها، و قبّلها بنعومة، بشوق ولهفة مكبوتة.
نسيت نسمة كل شيء...
وبادلته قبلة خجولة، زادت من عمق إحساسه بها، فزاد هو في تقبيله لها.
حتى قاطع اللحظة صوت طرقات صغيرة على الباب...
ابتعد عنها، يعطيها ظهره محاولًا السيطرة على أنفاسه المضطربة، وعلى مشاعره التي أثارتها فيه فجأة.
وفي تلك اللحظة، دخلت حنين بعفويتها الطفولية وهي تقول:
– بابي، أنا هربت من تيته... علشان مش عايزاني أجي أقعد معاكم.
ابتسم مروان محاولًا استعادة هدوئه:
– كنت بس بسلّم على مامي.
أما نسمة، فلم تصدق ما حدث...
كيف استسلمت له بتلك السهولة؟
لقد كانت تحت سحر عينيه، وهيبته الرجولية الطاغية، ووسامته التي أربكت عقلها.
اقترب منها مروان مرة أخرى، محاولًا تسريب حنين بعيدًا:
– بصي يا حنون... روحي لتيته، وقوليلها بابي جعان.
– حاضر يا بابي!
ركضت الصغيرة، وأغلق مروان الباب من خلفها بهدوء، ثم عاد إليها، يقترب منها بخطى ثابتة.
كان يريد أن يطفئ شوقه المتأجج، ذلك الشوق الذي لم يدرك وجوده من قبل... إلا عندما لامس شفتيها.
لكن نسمة تراجعت خطوة للخلف، ورفعت يدها لتضعها حاجزًا بينهما، وقالت بصوت مهزوز لكنه حازم:
– اللي حصل بينا... ما كانش المفروض يحصل.
أنا مراتك... على الورق بس.
أنت بتحب شاهي... وده يعتبر خيانة ليها.
تجمّد مروان في مكانه، ينظر لها باستغراب...
هل ترفض اقترابه؟! هل جُنَّت؟!
هو الذي تركض خلفه النساء، وتنتظر منه نظرة... تُقابل الآن بالرفض من فتاة صغيرة؟!
أخذ نفسًا عميقًا، يحاول أن يلمّ بقايا كبريائه المتناثر.
ثم نظر لها بسخرية باردة:
– عندِك حق... كانت غلطة.
تركها، بل وترك المنزل بأكمله، وهو في قمة الغضب، لا يدري هل هو غاضب منها... أم من نفسه.
*********
ظل قلبها يعاتبها...
"إيه اللي انتي عملتيه ده؟!
أنا ما صدقت إنه حس بيا..."
لكن العقل كان حاضرًا، يقاطع تلك النغمة الدافئة بصوت بارد واقعي:
"لأ... هو حب الشكل الجديد اللي شافه، مش أكتر."
يرد القلب بتحدٍ خافت، لكنه نابض بالثقة:
"أنا شفت في عيونه حب ولهفة... مش ممكن تكون تمثيل."
ضحك العقل بسخرية:
"تبقى عبيطة... ده جرحك من شهرين لأنه كان بيحب واحدة تانية.
مش ممكن يتغيّر في الفترة القصيرة دي."
القلب، وكأنه يحاول التمسك بآخر خيط من الأمل:
"طب... طب جه ليه؟
مش ده الحب؟ لما مايقدرش على بعدي؟
ده إيه؟"
رد العقل بحدة:
"ده اسمه تعوّد... مش حب.
لو كانت شاهي موجودة، عمره ما كان هيجيلك.
أعقلي، عشان لو جي في يوم مجروح، أنا مش هسأل فيك."
*******
فاقت من صراعها الداخلي على صوت سهير، الذي جاء متلهفًا:
– إيه اللي حصل يا حبيبتي؟! مروان نازل غضبان ليه؟ أنتي منعتي نفسك عنه؟
نظرت إليها نسمة بذهول، وقالت بصوت خافت:
– حضرتك بتقولي إيه؟!
قالت سهير بهدوء وهي تقترب منها:
– أنا عارفة كل حاجة، ومروان حكى لي اللي حصل بينكم.
ويوم الصباحية... أنا تعبت، والإسعاف جه وخدني.
شهقت نسمة:
– وأنا كنت فين؟
– كنتِ فوق... مجروحة من أفعال ابني،
واللي بسببها... كانت أول مرة أخاصمه بالأيام.
ثم أكملت سهير حديثها بحنان أم:
– بصي يا نسمة...
ابني مروان، جوزك، مش هو نفس مروان اللي نزل النهاردة.
ده شخص تاني... عيونه كلها لهفة وحب،
بيدوَّر عليكي بقلبه.
مروان... بدأت نبتة حبك تكبر جواه.
همست نسمة بحزن:
– بس مروان بيحب شاهي...
ردّت سهير بثقة:
– لا، مش بيحبها.
أنا كنت فاكرة زيّك كده، بس بعد اللي حصل النهارده، عرفت الحقيقة.
هو كان "فاكر" إنه بيحبها...
لحد ما ظهرتي، وبدأ يعرف يعني إيه حب.
وتابعت بإصرار:
– قلبه حبك... لأن الحب أفعال، مش أقوال.
وابني... لو كان بيحبها، كان اتجوزها من زمان.
سكتت لحظة، ثم أكملت:
– جات له فرص كتير يتجوزها،
وبصرف النظر عن خوفه عليّ،
كان ممكن يتجوزها من غير ما نعرف.
ثم نظرت لنسمة نظرة مليئة باليقين:
– أنتي عارفة إن شاهي كانت بتسافر بالأسابيع؟
وهو كان عادي عنده!
رغم إنه كان سهل عليه يسافر لها في أي وقت...
لكن أنتي... ما تحملش غيابك يوم.
*********
ابتسمت سهير وهي تتأمل نسمة، وقد أذهلها مظهرها الخلاب. سألتها بنبرة خفيفة ماكرة:
– هو شافك باللبس ده؟
هزّت نسمة رأسها بخجل، تتهرب من نظراتها.
عندها، بدأت سهير في تجهيز عدّتها... إنها الحرب، كما تسميها، حرب ستشنّها على ابنها حتى يفيق من أوهامه.
وأول نصيحة وجّهتها لنسمة في معركة الأعصاب القادمة كانت حاسمة:
– خلاص، من النهارده مفيش غير اللبس ده... ولو عندك أصعب منه، يبقى أحسن!
اتسعت عينا نسمة، وقد زاد احمرار وجهها، ورمقتها باستغراب:
– هو حضرتك عايزاني... أغريه؟
انفجرت سهير ضاحكة، وقالت بخبث:
– أنا عايزاكي تشعّليليه تخليه مش عارف يقعد على بعضه!
هتفت نسمة بحزن:
– بس أنا مش عايزاه يبص لي كده... أنا عايزاه يحبني، أنا... مش جسمي.
لو كنت عايزة أغريه، كنت قلعت الإسدال من زمان.
رمقتها سهير بغيظ:
– إنتي عبيطة يا بنت! ده جوزك... ومن حقك تحافظي عليه، و تحاربي عشانه.
وأنا وإنتي هنعلن الحرب عليه!
إنتي بالإغراء... وأنا بالغيرة.
لما نجنّنه و نخليه يقول: "حقي برقابتي!"
ضحكت نسمة بمرح، وقالت:
– أنتِ أم؟ أنت ..؟
هتفت سهير بأمومة حقيقية:
– آه يا حبيبتي، أم... دوري آخد بإيد ابني لما ألاقيه هيقع في حفرة.
ثم أكملت بصوت أكثر حزمًا:
– لو كنت عارفة إن شاهي بتحبه حتى بنسبة خمسين في المية...
كنت وافقت.
بس هي بتحب فلوسه، ونفوذه، واسمه اللي بيفتح لها كل الأبواب.
ساعة ما يخسر ده كله... هتدور على غيره!
ثم أشارت لها بابتسامة واسعة:
– يلا، انزلي شوفيه راح فين، وكلمتين حلوين كده عشان ييجي يأكل وينام.
وشوفي حاجة "روشة" كده... إلبسيها، واتدلّعي،
بس... لمس لأ! فهماني؟
احتضنتها نسمة بعاطفة، وهمست:
– ربنا يخليكي ليا يا أمي.
ضحكت سهير بخبث، وقالت:
– بس نسيتي تقوليلي... كان عايز إيه؟ عشان كان نازل بيدخّن!
احمرّ وجه نسمة خجلًا، وأشاحت بوجهها.
قهقهت سهير وهي تمازحها:
– ردي يا ناني، أنا صاحبتك!
ردّت نسمة بصوت خافت مرتبك:
– لا يا سوسو... كده عيب.
أجابت سهير بمرح:
– طيب، لو ما قولتيش... هجوزه لشاهي!
هتفت نسمة بفزع:
– لااا... إلا دي!
هو... كان عايز يـبـوسـني!
