رواية احببتك حتي انطفائي
الفصل الثامن8
بقلم ماسه الحريري
في باريس، كان كل شيء يُشبه الحلم الذي تمنته لمى يومًا، المعرض ناجح، اللوحات تتحدث عن الأمل والوجع، عن البدايات والنهايات، عن آدم… كل تفاصيله.
كانت ترسل له رسائل صوتية كل ليلة، تحكي له عن يومها، عن الغرباء الذين وقفوا أمام لوحاتها وبكوا، عن طفلة صغيرة قالت لها:
"في لوحتك دي، في حزن حلو… زي حزن ماما لما بتفتكر بابا."
وكان آدم يرد دائمًا برسالة قصيرة، يطمئنها، يضحكها، ويخبرها:
"كل يوم بعدك بيفكرني أنا بحبك قد إيه."
لكن شيئًا في صوته بدأ يختلف.
كان خافتًا… مرهقًا.
"أنت كويس؟"
"آه يا روحي، شوية برد بس… متقلقيش."
"آدم، صوتك مش طبيعي."
"ما تكبريش الموضوع… ارجعي بس بالسلامة، وأنا هستناكي في المطار."
لكن آدم… لم يكن بخير.
كان يُخفي عنها زياراته للمشفى، فحوصات الدم، الكدمات الغريبة التي تظهر على جسده، والتعب الذي لا يرحل.
الطبيب قال له:
"لازم تبلغها… الوقت مش في صالحك."
لكنه هزّ رأسه وقال:
"مش عايزها ترجع علشاني وتموت أحلامها… خليني آخر حاجة تكسرهاش."
وفي ليلة باردة من ليالي باريس، لم يصلها صوته.
انتظرت، قلِقت، حاولت الاتصال مرارًا. لا رد.
وفي اليوم التالي، استقبلت مكالمة لم تفهم منها شيئًا في البداية…
كان صوت ريتا يبكي بشدة:
"أنا آسفة يا لمى… بس آدم… تعب أوي. حالته خطيرة… مش قادرين نوصله… قال ما يتقالكيش، بس أنا معرفتش أسكت."
تسارعت نبضات قلب لمى. سقط الهاتف من يدها، وجلست على الأرض تبكي كمن سُحب منه الهواء.
سافرت في أول طائرة، وكل مشهد في الطائرة لم يكن سوى صورة واحدة: وجهه.
وجهه وهو يقول: "لو بعدتي عن عيني، افتكري إن قلبي مايعرفش يسافر."
حين وصلت، ركضت إلى المشفى، ومن بعيد، رأت ريتا تبكي أمام الباب، والأنوار خافتة.
ركضت نحو الغرفة… فتح الطبيب الباب.
كان جسد آدم ممددًا… أنبوب الأكسجين قد أُزيل.
وجهه… ساكن، نائم، وكأن روحه اختارت أن تطير لحظة وصولها.
صرخت لمى:
"آدم!!! آدم اصحى… أنا رجعت… خلاص… كفاية غياب… كفاية!"
سقطت على ركبتيها، وضعت رأسها على صدره، تبحث عن نبض…
لكن القلب الذي أحبها أكثر من نفسه… قد سكن للأبد.
في يده… كانت ورقة صغيرة، عليها كلمات مكتوبة بخطه المرتجف:
"أنا حاولت أستناك… بس المرض كان أسرع.
سامحيني إني سبقتك، بس أنا هافضل جنبك… حتى لو مش شايفاني.
لوحة النهاية، كانت دايمًا صورتك…
بحبك…
آدم."
بكت لمى حتى جفّ صوتها، حتى شعرت أن قلبها سقط في صدرها ولا ينوي العودة.
احتضنته بصمت، وسط الزهور البيضاء، والذكريات…
وهمست:
"مفيش بعدك يا آدم… مفيش أبعد منك في الموت… ولا أقرب منك في القلب."
في جناح المستشفى، كانت عقارب الساعة تدور ببطء، كأنها ترفض الاعتراف أن الحياة تمضي بعده.
لمى جلست على الأرض بجوار سريره، ترتجف، ترتعش، عيناها جمرتان من البكاء… قلبها لم يعد ينبض بالشكل ذاته، كأن كل نبضة أصبحت كسرة.
ظلت تكرر بصوت مبحوح، متقطع:
"ليه… ليه ما استنيتني؟ كنت جاية… كنت راجعة علشانك… ليه سبقتني؟"
تحسست كفه البارد بأصابعها المرتجفة، وضغطت عليه، كأنها ترجوه أن يعود… أن يردّ… أن يفتح عينيه، يضحك كعادته ويقول: "بهزّر يا حبيبتي."
لكن آدم لم يزِفّ الخبر هذه المرة…
آدم هذه المرة صدق في الرحيل.
كانت ريتا واقفة عند الباب، تبكي في صمت. أرسلت نظرة مكسورة نحو لمى وقالت:
"في آخر يوم، قال لي لو شُفته قبل ما أموت، قوليله: بحبك… حتى لو ما رديش… أنا عارف إنها بتحبني."
انهارت لمى، شهقت، تشبثت بجسد آدم كما يتشبث الغريق بخشبة مكسورة.
صرخت:
"أنا بحبك يا آدم… كنت بحبك من أول لحظة… بس أنت ما سبتليش وقت أعترف… ما دتنيش فرصة أقولك وأنا ف حضنك… مش على جثتك!"
صوتها ارتطم بجدران الغرفة، لكن لا مجيب…
الوحيد الذي كانت تخاف فقده، قد صار الآن ذكرى…
ورائحة باهتة على وسادة مشفى.
بقيت هناك ساعات طويلة… لا تتكلم، لا تتحرك. فقط تبكي بصوت خافت، ترسم بأناملها على يده حرف "ل" من اسمها، وحرف "أ" من اسمه… كما اعتادا أن يفعلا على الزجاج المبلل بالأمطار.
في الجنازة…
كانت السماء تمطر كأنها تبكي معها.
وقفت بين الحاضرين، بثوب أسود بسيط، ووجه كالحزن نفسه، تقرأ من دفتر صغير، رسالة لم تُكتب يومًا، لكنها خرجت من قلبها المحطّم:
"كان حلمي أرسمك دايمًا… بس دلوقتي، كل لوحة هارسمها هتكون ناقصة، لأنك مش جنبي تقوللي رأيك…
كنت بحب صوتك وانت بتقرا لي، دلوقتي أنا بقرا لك وانت مش هنا تسمعني.
بس هافضل أتكلمك، هافضل أكتبلك، يمكن توصل رسائلي للسماء…
هتوحشني يا آدم… في كل نفس، في كل لوحة، في كل مساء برد، في كل قهوة سادة من غيرك…
هتوحشني… لآخر العمر."
ثم وضعت بجانب قبره ريشته القديمة، التي كان يخبئها ويقول:
"دي اللي بدأت بيها، وهاختم بيها رحلتي ف الفن… بس نفسي تكون في إيدك يوم ما أموت."
وها هي الآن…
في يدها، تودعه كما أراد.
وفي الليل، جلست على سريرها، تفتح هاتفه القديم، الذي أعادته ريتا لها…
كان فيه تسجيل لم يُرسل لها قط، بعنوان: "لو ما شوفتكيش تاني..."
ضغطت تشغيل…
وجاء صوته متقطع، ضعيف… لكن واضح.
"لو اليوم ده جه، وأنا ما كنتش قادر أشوفك، عايزك تعرفي إني كنت كل يوم بصحى على حبك، وأنام على صوتك ف خيالي…
أنا يمكن أمشي، بس حبي ليكي عمره ما هيموت…
إنتي حياتي اللي ما كملتش، وإلهامي اللي هيفضل ف لوحاتك…
ابكي عليا، بس ما تنسيش تضحكي كمان… علشان أنا كنت بحب ضحكتك أكتر من عمري."
انفجرت لمى في بكاء، بكاء من النوع الذي يُفقدك القدرة على التنفس.
صرخت في الغرفة:
"بحبك… بحبك يا آدم… بس وجعتني… أوي."
وفي تلك الليلة، نامت وعيناها مفتوحتان… تحدّقان في السقف، حيث كانت تتخيله دائمًا يراقبها ويبتسم.
