
رواية الحقيقة المرة الفصل الثالث3 بقلم سالي سيلا
في تلك الليلة، كان النوم يتجنب جفوني بعناد شديد. كنت أتخبط كالذبيحة على سريري، أعدل وسادتي من حين لآخر، بحثًا عن الراحة على أمل أن يغمرني النوم. لكن الراحة كانت تكمن في نفسيتي، ونفسيتي كانت محبطة إلى حد بعيد في تلك الأثناء. كنت أعيد شريط الحديث الذي دار بيني وبين نجوى، والأغرب أن صورة ذلك الصبي بابتسامته الرائعة لم تغادر مخيلتي. عاودني الفضول حول معرفة اسمه، وبدأ يتملك عقلي أكثر فأكثر. لم أكن أصدق متى تشرق الشمس لأكمل استكشاف الحقائق الخفية التي تحيط بي.
قبل طلوع النهار، صليت الفجر وركعت ركعتين، طلبت فيها من الله أن يمنحني القوة لأكتشف ما تبقى من هذه القصة، علّه يعوضني عن صبري وفقدان الراحة والسلام الدائم. قد أكون قد بدأت أستهويني فكرة وجود ولد لي، رغم أنها تبدو كمعجزة بالنسبة لي إذا كانت حقًا حقيقة. وبما أنني لم أكن قادرة على القيادة بسبب التوتر الذي أصابني، طلبت من أخي أن يأخذني في طريقه إلى الوجهة التي كنت أعتزم عليها. وبالرغم من أسئلة أخي عن السبب في زيارتي لهذا المكان البعيد عن عملي أو أي أمور تتعلق بالتبضع، لم أكشف له عن حقيقة الأمر، بل أخبرته بأنها زيارة واجب لصديقتي المريضة فقط.
وصلني أخي إلى العنوان المذكور، أراد أن ينتظرني لكنني شكرته وطلبت منه أن يمضي لقضاء أعماله، حيث الأمور قد تطول. إذا احتجت لوجوده مجددًا، سأطلبه. بعدها ودعته وأخرجت الورقة ثانية لأتصل بالرقم المسجل أمام العنوان. بعد ثوانٍ، ردت نجوى على الهاتف قائلة:
"مرحبا أرين، كنت أنتظرك". سألتها: "وكيف علمتي أنني المتصلة؟" أجابت: "هههه ببساطة، لا أحد يمتلك رقم هذه الشريحة سواك... كما تعلمين، لم أعد أملك هنا في هذا البلد من يتصل أو يسأل عني". قلت: "هذا لا يعنيني يا نجوى... لقد وصلت للعنوان. ولكن كيف أجد المنزل؟" وعندما نظرت خلفي، وجدتها تلوح لي من النافذة، قائلة: "انظري خلفك يا أرين، ها أنا ألوح لك. ادخلي مباشرة، الباب مفتوح".
وعندما سألتها: "من فتح الباب لك، هل هو الصبي؟" أجابت: "ليس هو، بل الخادمة. فقد استأجرتها لتقوم بخدمتي وخدمة ريان، كما أصبحت تعلمين بوضعي الحالي". قلت لها بدون مقدمات: "يا نجوى، ادخلي في صلب الموضوع. ما حكاية هذا الصبي، وما قصدك بقولك اترحمِ على مازن؟ أين زوجك؟" ردت بابتسامة قائلة: "هههه، لقد كنتِ متحمسة يا أرين. لا تريدين مضيعة الوقت، وبدوري لن أطيل عليك . بل أشكرك لأنك منحتني الفرصة كي أفسر لكِ كل ما حدث." مازن توفي قبل عام في حادث مريع يا أرين، وهو رحمه الله، وأنا أصيبت بإعاقة بسبب ذلك الحادث.
كلما كانت نجوى تروي لي ما حدث لها ولمازن، شعرت بالألم العميق. برغم أنني كنت أعتقد أنني أحمل لهما الكراهية لما فعلاه بي، إلا أنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الشعور بالشفقة عليهما. لأنهما خسرا حياتهما، أحدهما بالموت والآخر في الحياة. كانت تفاصيل القصة مروعة، وسأحاول اختصار ما أخبرتني به نجوى، الجزء المشرق من الموضوع هو أن ذلك الصبي فعلاً هو ابني الحقيقي، وكل الأوراق والإثباتات قدمتها إلي مجتمعة في ملف واحد.
سأبدأ من البداية، من أيام صداقتي مع نجوى و زواجي بمازن:
كانت نجوى صديقتي المقربة، جمعتنا سنوات عديدة في الدراسة. بالرغم من أن تفكيرها كان مختلفًا عن تفكيري، إلا أنني أحببت فيها خفة دمها وحيويتها وتبسيط كل الأمور المعقدة التي كنا نواجهها. أحببت تلك السمات فيها لأنها لم تكن تشبهني، فقد كانت تقريباً عكس شخصيتي الخجولة غير المتفتحة على المجتمع. لم أتوقع أبدًا أنها كانت معقدة وتشعر بالنقص بسبب فقرها، هذا ما علمته مؤخرًا منها.
في تلك الفترة قبل تخرجنا بقليل، تعرفت على مازن بالصدفة، وأحببنا بعضنا البعض، أو على الأقل هذا ما كنت اعتقده حينها. كانت علاقتنا قصيرة المدى في جميع جوانبها؛ مدة التعارف، الخطبة وحتى الزواج. لم أتمكن من تجربة العمل في مجال اختصاص شهادتي، لأن مازن كان يرفض ذلك بحجة أنه لا ينقصني شيء، كونه ينتمي لعائلة تعتبر ثرية. بعد الزواج بخمسة أشهر، حملت على الفور، وكانت فرحتنا لا توصف. بدأت أشعر بالملل سريعًا. مازن بعد شهر العسل كما يُقال، لم نعد نلتقي كثيرًا بسبب كثرة عمله. مرت الأيام والشهور، وخلال كل هذه الفترة، لم تنقطع علاقتي بنجوى، بل كانت ملاذي للتنفيس عن الضغوط التي أواجهها. كانت تمد لي يد العون دائمًا، وهي من تواسيني وتصبرني على إهمال وهفوات مازن. كانت الشخص الذي ينقذني من الغرق في أيام العسر، حيث لا أخفي عنها أي تفصيل في حياتي مع مازن، حتى أصبحت أفضّلها على إخوتي.
تفاقمت مشاكلي مع مازن في شهوري الأخيرة من الحمل. كنت متعبة جدًا، وبطني كادت تزن طنًا، لا أستطيع الحراك، وضاقت أنفاسي في كثير من الأحيان. كنت غاضبة وساخطة عليه لأنه لم يدعمني في هذه الظروف الصعبة. حتى زياراتي للأطباء وخروجاتي للتسوق لأجل تجهيز غرفة الطفلة لم يكن يرافقني في أي منها، وعذر العمل كان يتكرر دائمًا، مشاغل العمل وسفره المتكرر. إلى أن اشتكيت لأختي من حالتي، وهي من فتح لي أبراج غبائي بتوجيهها لي إلى حقيقة التصرفات الغير عادية لزوجي: "افتحي عينيك يا أرين، فالرجل لا يتغير بسرعة إلا إذا غيرته امرأة أخرى". بهذا بدأت أتابع خطواته وأتصل به باستمرار، حتى أصبحت أزوره في مكان عمله رغم تأففه.
في يوم، طلب مني مازن أن أعد له حقيبة السفر المعتادة التي يأخذها دائمًا في رحلاته للعمل. لكن هذه المرة، لم أصدقه لأنني لاحظت أنه استبعد بعض الأغراض المهمة بحجة أنه لا يحتاجها في هذه الرحلة. طلبت منه تأجيل السفر لأنني أشعر بالضيق، ولولا أن الطبيبة أكدت أن ولادتي ستكون قيصرية، لكنت اعتقدت أنني على وشك الولادة. لم يهتم وأخبرني أنه لا يستطيع التأجيل بسبب اجتماع مهم مع كبار العمل. وفي المساء، عندما غادر مازن المنزل، كنت جاهزة للذهاب خلفه. لم أطلب من سائق سيارتي أن يتبعه، بل استأجرت سيارة أجرة كي لا يتعرف على سيارتي. وبالفعل، تابعت خطواته، والشعور الذي كنت أحس به للأسف بدأ يتحول إلى يقين عندما سلك طريقًا مخالفًا لما كنت أتوقعه، بدل أن يتوجه إلى المطار كما هو مفترض.
خلف ذلك الطريق رافقت خطواتي قلقًا متزايدًا، وما إن مرت عشر دقائق حتى توقفت سيارة مازن أمام منزل غير مألوف بالنسبة لي. ترجل من السيارة حاملًا نفس الحقيبة التي كانت حاوية على أغراضه الضرورية. كنت أتابعه بحذر من زاوية آخر الشارع، وفوجئت كثيرًا بدخوله إلى المنزل بمنتهى السهولة بعد أن استخرج مفتاحًا كان مخبأً في جيبه.
ارتعشت حينها من شدة الخوف، فعلى الرغم من رحلاته المتكررة، لم أتوقع أن مازن قد يكون كاذبًا معي طوال هذا الوقت. والآن، لم يبق لدي سوى جمع شتات نفسي ومواجهته لأتثبت ما مدى خيانته لي. حاولت لملمة انفاسي ونزلت من السيارة، طالبًة من السائق أن يبقى منتظرًا، بينما بدأت خطواتي المرتبكة تقودني نحو المنزل.
توقفت لوهلة أمام الباب لأستجمع أنفاسي مرة اخرى ثم ضغطت على الجرس. بعد ثوانٍ معدودة، انفتح الباب، ولم يكن لدي أي توقعات لمن سأراه أولاً...
كانت نجوى، نجوى وليس غيرها صديقتي المقربة، تظهر في أبهى صورة لها وقد تبعها مازن من خلفها.
يا لها من صدمة لم أكن أحسب لها أي حساب.