رواية ساهر الفصل السادس عشر16والسابع عسر17 بقلم داليا السيد


 رواية ساهر بقلم داليا السيد
رواية ساهر الفصل السادس عشر16والسابع عسر17 بقلم داليا السيد
انهيار
تحرك الطبيب له بمجرد خروجه من غرفتها فنهض وهو يشعر بأن أقدامه لا تتحمله، توقف الطبيب أمامه وقال "من الجيد أنك أحضرتها سيد ساهر، هي تعاني من انهيار عصبي شديد نتيجة صدمة لا أعرف هل صدمة عاطفية أم ماذا؟ هل سبق ومرت بشيء مماثل؟"
رفع شعره بيده للخلف وهو يشعر بألم بصدره وهو يبتلع ريقه الجاف كي يمكنه أن ينطق بأي كلمات ليجيب "نعم، منذ عدة سنوات تعرضت لواحد وظلت بالمشفى اسبوعين"
هز الطبيب رأسه وقال "تمام هذا يعني أنها لا تتحمل الضغوط النفسية"
نفخ وقال "بل على العكس هي تحملت الكثير بالفترة الأخيرة"
هز الطبيب رأسه وقال "هذا إذن نوع من التراكمات الداخلية تفاقمت داخل عقلها الباطن ومع الصدمة الأخيرة انفجر كل شيء داخلها فلم تتحمل"
كان يعلم أن هذا هو التفسير المنطقي لما حدث، هي حقا تحملت الكثير منذ قتل عزت وحتى اليوم لذا قال بعصبية "وماذا؟ هل ستكون بخير أم لا؟"
تراجع الطبيب من حدة ساهر وقال "ليس بيوم وليلة يا سيد، هي بحاجة لطبيب نفسي لو شئت تولينا الأمر أو افعل أنت"
نفخ وهو يعلم أن جنونه لا يقدم له أي شيء فقال "افعل ما تراه صواب أنا لا يهمني سوى عودتها سالمة"
هز الطبيب رأسه وقال "تمام سأتواصل مع طبيب معروف ليأتي لرؤيتها ومتابعة حالتها"
هز رأسه وقال "هل يمكنني رؤيتها؟"
قال الطبيب بلا تفكير "ليس هناك ما يمنع ذلك فقط لا تطيل البقاء فهي مجهدة جدا"
لم يرد وكل الكلمات ضاعت منه، لم يعد يسمع أو يرى شيء، لا هو يرى، يرى انهيار يحل به لو لن تصدقه، يرى حلمه بالبيت والزوجة والأولاد يضيع وينساب من بين أصابعه وهو يشاهده ولا قدرة له على إنقاذه
ارتد للحائط وضغط ظهره عليه وأغمض عيونه وهو يكاد يفقد الشعور بكل ما يدور حوله وفقط لا يرى سوى نظرات الألم بعيونها بتلك اللحظة وباللحظة التالية كانت تسقط متهاوية على الأرض بلا حركة
صوت عامر أعاده للحياة "ساهر ماذا حدث؟"
فتح عيونه وتلألأت دموع بهم مسحها وهو يخفض وجهه ويقول "آسيا انهارت وبحاجة لطبيب نفسي"
لف عامر وجهه بعيدا لحظة ثم عاد له وقال "ما الذي حدث؟" ظل ينظر بعيون عامر وهو يذكر تلك الليلة القاتلة بحياته 
ظلت صامتة لم تتحدث مع أحد، متعبة جدا، ألم بجسدها لا يتركها ولكن الألم الأكبر بقلبها، هي بالأساس كانت تتوقع ذلك الألم، لا، هي وثقت به وصدقته ولم تفكر أبدا بالخيانة فهل سقطت بها؟
صوت عامر كان هادئا وهو يقول "آسيا كيف حالك؟"
هي لا تريد رؤية أحد ولا الحديث مع أحد، لم لا يتركوها وحدها؟ الحياة أفضل بلا أشخاص حولها لا يفعلون شيء سوى زرع الشوك بطريقها وهي لم تعد تستطيع التحمل، لم يعد هناك مكان داخلها ولا خارجها لم يصاب بالأشواك
لم تلتفت لرؤية عامر ولكنه تحرك حتى وقف أمامها وقال "آسيا هل تسمعيني؟"
وماذا لو كانت تسمعه؟ لماذا عليها أن تسمع للمبررات وبالنهاية لابد إن تغفر وتسامح، لن ترد ولن تسمع، ظلت كما هي لا تتحرك ولا ترمش حتى فانحنى ليقترب منها وقال "آسيا لابد أن تسمعيني"
لا أريد أن أسمع، فقط اتركوني وابتعدوا عني، تجمد ملامحها جعل عامر يرتد واقفا وهو لا يعرف ماذا يفعل عندما انفتح الباب ودخل رجل يقول "مساء الخير، دكتور محمد عيسى، طبيب نفسي"
ابتعد عامر للرجل وقال "عامر دويدار أخو زوج المدام، متى سنعرف حالتها؟"
قال الرجل بهدوء "أرى المريضة أولا ثم نتحدث سيد عامر"
استأذن عامر بالخروج وسمعت الطبيب يجذب مقعد ليضعه أمامها، مرة أخرى، الشريط يعيد نفسه مرة أخرى، طبيب نفسي، جلسات طبية، كلمات لا معنى لها تحاول رفعها من القاع ولكن من قال أنها تريد العودة؟ ربما البقاء بالقاع أفضل من القمة مع بشر لا تعرف سوى الألم
الطبيب لم ييأس، صمتها لم يردعه والجلسات استمرت، الزيارة لم يعد لها أي داعي، كل من زارها لم تنظر له ولم تسمع لأحد، تسمع ماذا؟ هي بالأساس نست ما أتت بسببه كل ما تريده هو أن تترك ذلك العالم ولا تعود له
"هي ترفض العلاج سيد ساهر وهذا يزيد الأمر تعقيدا"
كان يقف أمام غرفتها، اسبوع تقريبا لم تتقدم حالتها خطوة واحدة وكل من رآها أدرك أنها لا تشعر بأحد ابتلع غضبه وقال "وماذا؟ هل سنتركها هكذا؟"
قال الطبيب بهدوء يقتل ساهر "لا سيد ساهر، المريض بتلك الحالة يحتاج فترة أطول ليستجيب للعلاج، أنا  افهم جيدا القلق الذي تعيش به لكن عليك بالصبر لأن هذا هو بداية العلاج"
أبعد وجهه وقال "أنا لا أفهم شيء، زوجتي لها اسبوع هنا وهي حتى اليوم لا تستجيب لأي شيء"
هز الطبيب رأسه وقال "هذا بحد ذاته أمر جيد سيد ساهر فهي طوال الاسبوع لم تحاول إنهاء حياتها"
تراجع بذهول وصدمة فأكمل الطبيب "الأمر ليس مجرد انهيار يا فندم، هو اكتئاب تطور معها لمرحلة متقدمة جعلها ترفض المجتمع من حولها وتختار العزلة وبناء مجتمع خاص بها مع من يصوره لها عقلها وأحيانا يرغب الشخص بإنهاء حياته لينهي تلك المشاعر السلبية التي تتحكم به، سيد ساهر المرض العقلي أمر معقد ويصعب شرحه كما يصعب علاجه"
الخوف زاد داخله هل يمكن حقا أن تنهي حياتها بلحظة وتتركه؟ نطق بصعوبة "والحل؟"
ابتسم الطبيب وقال "الصبر، أعلم أنك قلق من أجلها ولكن صدقني ستعود ولكن لنمنحها الوقت الكافي لتتغلب على حزنها وألمها ونحن معها ونساندها"
لم يرد وهو لا ينظر للرجل الذي ارتد له مرة أخرى وقال "أنت لم تراها حتى الآن أليس كذلك؟"
رفع وجهه للطبيب وهز رأسه فقال الطبيب "لماذا؟ أقصد أنها قد تستجيب لرؤيتك وتخرج من حالة الصمت لكن لا تفعل وأنا لست موجود كي يمكنني متابعة رد فعلها"
جف حلقه وهو يسأله "ظننت أن بعدي أفضل"
اقترب منه الطبيب وقال "بالنهاية ستتواجهان سيد ساهر وهي ستدرك كل شيء وربما بعدك بالفترة الماضية كان تجربة وفشلت دعنا نهاجم العقل وننتظر النتيجة"
الخوف عليها كان يؤلمه فقال "متى تريد ذلك؟"
ظل الطبيب صامتا يفكر ثم قال "لم لا نفعلها الآن؟ ادخل وأنا سأتبعك بهدوء كي لا تشعر بي"
وكأنه تمثال من حجر لا يتحرك، ثقل غريب كان يلف ساقيه ويثبه بالأرض، محاولاته كانت فاشلة حتى لمس الطبيب ذراعه وقال "أعلم مدى قلقك وأخبرك أن النتيجة لن تكون بصالحك ولكن عليك التحكم بنفسك من أجلها هل نفعل؟"
وأخيرا نطق "حسنا"
وجذب ساقه بكل ما امتلك من قوة وتحرك للباب وظل يقبض على المقبض لحظة حتى تنفس بقوة وفتحه وبتردد تقدم للداخل تاركا الباب للطبيب الذي دخل خلفه مغلقا الباب وابتعد بمكان خفي بالغرفة وساهر ثبت نظراته على جسدها الراقد على الفراش، كانت تنام على جانبها الأيمن ولم يعرف هل مستيقظة أم نائمة فتحرك حتى وصل لنهاية الفراش، جسدها كان ضئيل جدا، هل فقدت كل ذلك الوزن؟ 
رأى عيونها مفتوحة وتحدق بالنافذة التي أمامها، ضوء النهار كان ممتع، أخيرا تخلصت من الطبيب لم تعد كلماته تمنحها أي راحة الصمت رائع جعلها تتخلص منهم جميعا وتبقى مع نفسها، راشيل تأتي لرؤيتها والتحدث معها أحيانا وجورج، جورج حبيبي عملك يوقفك عني كم أحبك حقا، عزت لا يأتي كثيرا ولو فعل يظل بعيدا ينظر لها بلا كلمات وهي لا تريد الحديث معه
ضوء النهار اختفى رغم وجود نافذة أخرى بعيدة قليلا، جسد أخفاه عنها، مرة أخرى؟ تلك الأشخاص لا تتوقف و..، صوت "آسيا"
تعرفه، لا، لا تعرفه، بل تعرفه، لا، لا تعرفه، بل تعرفيه، أيتها الحمقاء ألا تعرفيه؟
"آسيا أنا ساهر"
لا، أخرجيه، لا نريده هل تسمعين؟ سيأخذنا من عالمنا الجديد، ابعديه من هنا، سيدمر عالمنا هذا كما دمر عالمك من قبل، أخرجيه من هنا
"آسيا أنا.."
التفتت عيونها له فتوقف ولم يكمل وكاد يقترب عندما هتفت فجأة "ابتعد عني"
تجمد مكانه من نبرتها وشحب وجهه وهو يحاول أن ينطق "آسيا اسمعيني"
هتفت بقوة أكثر والصوت يعلو داخلها كي تخرجه "ابتعد عني، اخرج من هنا"
لكنه لم يفعل وهو يبعد صدمته ويتذكر كلمات الطبيب فاقترب من الفراش لكنها كانت تسمع للصوت الداخلي "إن لم يخرج سيدمرك فلا تنتظري أن يفعل، انهي حياتك قبل أن ينهيها هو وينتصر"
خطوته قابلتها بأنها نهضت من الفراش للخلف مبتعدة وبدت غريبة أمامه ووجها نحف جدا وعيونها تحولت لبقعة خضراء تحيطها هالات سوداء، شعرها لا معالم له، كانت تنظر له بكره وهو يهتف "اهدي آسيا وأنا سأخرج"
هتفت "كاذب، أنت كاذب أنت لن تتركني، أنت تريد تدميري"
تألم من كلماتها وقال بحزن "لا آسيا صدقيني أنا.."
لم تكن تسمعه وعيونها ترحل للنافذة البعيدة وبلحظة كانت تسرع بكل قوتها للنافذة الأخرى وترفع قدمها برغبة منها في أن تلقي نفسها منها لولا أنه لحق بها بالطبع وأحاطها بذراعيه من الخلف وهي تتلوى بين يديه وتصرخ به ليتركها بل وتضرب يداها وقدماها بالهواء وهو يحيطها من الخلف ويصرخ بها "آسيا اهدئي، آسيا توقفي"
الطبيب هتف به "ضعها بالفراش ولا تتركها حتى أعود"
لم تعد ترى شيء فقط أرادت القفز من تلك النافذة والبعد عن كل ما حولها، ها هي تعود للواقع الذي رفضته والآن كل ما حدث لها يضربها بقوة فصرخت "لا أريدك، اتركني، أنت خائن، خائن، ابتعد عني"
كان يتألم من أجلها ودمعت عيونه للحالة التي وصلت لها ولم يجد كلمات والطبيب يعود ويدفع بحقنة بذراعها والممرضة تتبعه وما زالت آسيا تدفعه وتقاومه وتهزي بنفس الكلمات حتى ثقلت عيونها وشعرت بالنعاس ففضلت النوم عن الألم الذي كانت تعيش به منذ قليل
خرج من الغرفة وهو يمسح دموعه وواجه الحائط كي لا يلتقي بأحد، نيران كانت تتأجج داخل صدره، نيران تحرق كل جميل عاشه معها والسبب ماضيه الذي تسرب لحاضره كالحامض المحرق وأكل كل شيء 
الطبيب قال "هذا جيد"
مسح دموعه مرة أخرى والتفت للطبيب الذي ابتسم فهتف ساهر بقوة "أي جيد الذي تتحدث عنه؟ لقد كادت تلقي نفسها من النافذة"
هز رأسه وقال "كنت أتوقع ذلك وأعلم أنك لن تتركها، أنا أتحدث أننا بذلك أعدناها للواقع سيد ساهر، أنت الوحيد الذي استجابت له ونطق لسانها معه، اسبوع كامل صامتة لا تنظر لأحد ولا تتحدث حتى معي لكن الأمر اختلف عندك، العقل تفاجأ بك ومنحها أوامر عشوائية جعلتها تتخبط بين الحياة والموت حتى انتزعناها من العالم الذي رسمه لها عقلها واستعدناها"
أشاح بيده وقال "استعدناها وهي بالداخل فاقدة للوعي ولا تشعر بشيء حولها؟ ما الذي تتحدث عنه دكتور محمد؟ زوجتي تضيع مني ولا أعرف ماذا أفعل لها"
أبعد الطبيب وجهه لحظة ثم عاد له وقال "هل تهدأ، لن نحكم عليها الآن، عندما تستيقظ سنعرف نتيجة ما فعلناه"
نفخ بقوة وقال "وهل سأكون معها كي لا تعيد الكرة وتلقي نفسها وتنفذ ما أرادت؟"
هز الطبيب رأسه وقال "لا، من الأفضل ألا تراك اليوم مرة أخرى، الممرضة فقط هي من ستبقى معها وهي تعرف ما عليها فعله لو شئت ابقى هنا ولكن لا تدخل لها اليوم"
لم يجادل فقد شعر بالتعب مما عاناه بالأسبوع الماضي واليوم وهو تقريبا لا ينام ولا يأكل ولا يعرف ما يدور خارج المشفى، إخوته لم يتركوه لكن لا أحد يخفف عنه ما يحمله داخله
تناول القهوة بالكافيتريا وكانت المغرب تقريبا عندما نهض عائدا لغرفتها ليرى هدى تتحرك تجاهه، هي أتت من قبل ولكنها لم تراها فقد كانت نائمة واليوم ها هي هنا، توقف ولكنها لم تتوقف إلا عندما وصلت له وقالت 
"تبدو متعب"
قال بهدوء "أنا بخير، لماذا أتيت متأخرا هكذا؟"
قالت بهدوء "رفيق كان لديه عمل، تركني هنا وسيعود ليأخذني عندما ينتهي، كيف حالها؟"
أبعد وجهه وقال "ليست بخير، كادت تلقي نفسها من النافذة بالصباح"
رفعت هدى يدها على فمها وهي تقول "يا الله! والطبيب"
عاد لها وقال "أنا لا أفهمه هو يرى أن ذلك تقدم بحالتها ولكني أراها تضيع مني"
رفعت يدها لوجهه ولكنه أبعد وجهه، هو أبعد ما يكون بحاجة للشفقة الآن، هو بحاجة لها هي، لابتسامتها، ضحكتها، لمستها وحتى صوتها، هو يريدها هي، هدى تفهمت ابنها فقالت "اهدأ حبيبي، ستكون بخير إن شاء الله هي فقط مرت بالكثير مؤخرا وما رأته كان فوق طاقتها"
عاد بوجهه لأمه عندما انفتح الباب ورأى الممرضة تنظر لهما فقال بلهفة "ماذا حدث؟ هل أصابها شيء؟"
أجابت الفتاة "لا يا فندم هي بخير، هو موعد الدواء وأنا سأحضره"
قالت هدى "سأراها حتى تعودي"
وأخيرا الظلام يرحل ويدفعها للنور، النوم كان هادئ تلك المرة، فتحت عيونها لحظة ونور الغرفة الخافت يضيء لقد رحل النهار، فتحت عيونها كلها لترى ابتسامة تعرفها ووجه أيضا تعرفه، هدى
اقتربت المرأة منها وهي لا تتحرك بالفراش وهدى تقول "تبدين أفضل حال اليوم يا ابنتي"
استعادت نفسها وما يدور حولها ولكنها لا تجيب، جلست هدى على المقعد المواجه للفراش وقالت "أعلم أنك تسمعيني"
أبعدت وجهها ولكن هدى لم تتوقف وقالت "ساهر لم يخونك آسيا"
لم ترد والآن هي تستعيد ما كان، تذكر كل شيء، غرفتها، الباب الذي فتحته لتفاجئ زوجها وتضحك معه ولكنها بدلا من ذلك تلقت صفعة جعلتها ترتد للانهاية، أغمضت عيونها بألم وهدى تكمل "تلك المرأة انتهت علاقتها به منذ سنوات آسيا وهي من تلاحقه الآن"
لفت وجهها لهدى وقالت "كفى"
توقفت هدى بالفعل وهي تعلم انها لن تسمعها، هي أمه وبديهي ستدافع عنه، مدت يدها وأمسكت يد آسيا وقالت "حاضر سأتوقف الآن ولكن لابد من أن تسمعيه من أجلكم حبيبتي، لن يتركك أحد منا كلنا نحبك آسيا وأولنا ساهر هو لا يحبك فقط هو مجنون بك"
أبعدت وجهها، كانت تصدق ذلك بالفعل بل وكانت تطير به بلا أجنحة من شدة سعادتها بحبه لكن الآن لم تعد تصدق أي شيء
عادت هدى تقول "لم تكوني ضعيفة بأي وقت ولن تكوني الآن، كل ما عليك فعله أن تنهضي وتشفي وتواجهيه وتطالبي بالقرار الذي تريديه"
ونهضت لتتحرك ولكن آسيا قالت "الطلاق"
التفتت هدى لها ورأتها تواجها بوجه شاحب ظهرت عظامه تقريبا فأكملت "هذا هو قراري "
الصمت لف هدى وهي تتحرك للخارج لتراه ينتظرها وتحرك لها وقال بلهفة "كيف حالها؟"
ابتسمت بهدوء وقالت "بخير حبيبي لقد تحدثت معي وتعرفت علي"
سأل وهو يعلم الرد "هل سمعتك؟"
ذهبت ابتسامتها فهز رأسه وقال "حتى لو فهي لن تصدق إلا ما رأت"
ربتت على ذراعه وقالت "دع جاسم يخبرها"
قال والألم يمزقه بلا رحمة "وما الفارق ماما هي لن تصدق أحد"
لم تجد المرأة كلمات لتواسيه وبالطبع لم تخبره عن أمر الطلاق وظلت معه حتى هاتفها زوجها فرحلت له وهو تحرك خارجا لا مكان يذهب له، الشقة باردة وميتة لا حياة بها، الشركة ليست أفضل
ركب سيارته وظل يقود بلا هدى حتى توقف أمام النيل ولكنه لم ينزل وأطفأ الموتور وظل ينظر للفراغ بالخارج ثم ارتد بالمقعد وأسند رأسه على المقعد وهتف "ماذا أفعل لتصدقيني آسيا؟ أنا لا أعرف كيف أعيش حياتي وأنت لست معي، آسيا آه آسيا أقسم أني أحبك ولم أحب سواك أنا لم أعرف للحب معنى إلا منذ عرفتك ولكن كيف ستصدقينني الآن؟ أشعر بفراغ وبرودة ببعدك حبيبتي ليتك تعودين لي، ليت كل ذلك يصبح حلم وأستيقظ منه لنعود لحياتنا سويا فأنا تعبت آسيا أقسم أني تعبت من بعدك والخوف من ضياعك وضياع حبنا وحياتنا، تعبت آسيا من الوحدة بغيابك، أرجوك عودي لي، عودي لي، أرجوك آسيا، أرجوك"
وعندما انهارت الدموع من عيونه رفع يداه لوجهه ولم يوقف الدموع ولم يرفض البكاء وكأنه يبكي نفسه الضائعة قديما والآن، هو يستحق فهو من فعل ذلك بنفسه باتخاذ تلك الحياة سبيل كان عليه أن يدفع الثمن وها هو يفعل
الجلسات لم تعد مزعجة لها بعد ذلك اليوم بل على العكس أرادت أن تستعيد نفسها وقوتها والخروج من هنا ورؤية راشيل وجورج، بانتهاء الاسبوع الثاني كانت أفضل كثيرا والطبيب يقول "لا أظن أنكِ بحاجة للبقاء هنا بعد اليوم لقد تحسنت حالتك كثيرا"
كانت تجلس على المقعد المواجه للنافذة والطبيب بجوارها فلفت وجهها له وقالت "هل تظن أن لدي القوة الكافية لمواجهة.."
أبعدت وجهها فانحنى تجاهها وقال "آسيا أعلم أن كلماتي لن تغير شيء بالنسبة لكِ ولكن لابد أن أنطق بها، ساهر لا يبدو لي كزوج خائن كما حدث"
الغضب تحرك لعيونها فأكمل "اسمعيني للنهاية، أنا سمعت القصة واقتنعت ببراءته فلماذا لا تفعلين المثل؟ فقط اسمعيه أو حتى اسمعيني، من حقه أن ينال فرصة للدفاع عن نفسه"
نهضت والغضب لا يتركها وهي تهتف "ومن أخبرك أني سأصدقه؟ لقد صدقته مرة وخان ثقتي وسامحته ثم عاد وخانني ورأيته بنفسي فكيف تريدني أن أصدقه؟ فقط يتركني لأعود لبلدي، لم أعد أريد البقاء هنا، أريد رؤية أمي وزوج أمي"
اعتدل الطبيب ورأى الإصرار بعيونها فتأنى قبل أن يقول "هذا يجب أن يكون قراركم معا آسيا لا تنسي أنه زوجك"
أشاحت بيدها وهي تبتعد وقالت "لم يعد الأمر يهمني"
نهض وتحرك لها وقال "مرة أخيرة آسيا، تصرفات ساهر طوال وجودك هنا لم تعني أبدا أنه رجل خائن ولا يهتم بزوجته، هو تقريبا لم يكن يترك المشفى وكان يثور بوجهي لعدم تحسن حالتك، هو حقا يحبك"
التفتت له وما زال الغضب هو المسيطر عليها وهي تهتف "من فضلك لا تتحدث عن الحب فهو لم يعرفه بأي يوم"
لم يمكنه أن يجادلها أكثر ربما لأنها لن تقبل وربما لأنه يخشى عليها، تركها وخرج ليجد ساهر يتحرك تجاهه وقد استبدل ملابسه التي منذ يومين لم يبدلها، توقف الطبيب لرؤيته حتى وصل ساهر له وهو يقول "كيف حالها اليوم؟"
أجاب الطبيب "هي بخير وربما يمكنها الخروج ومتابعة الدواء بالخارج والعودة للحياة"
تراقص قلبه من الفرحة وقال بحماس "حقا؟ هل يمكن أن تخرج معي اليوم؟"
ظل الطبيب صامتا لحظة فتجهم وجه ساهر وهو يشعر باقتراب العاصفة فقال ببطء "ماذا؟ ماذا حدث؟"
كان على الطبيب أن يتحدث لذا قال "هي لا تريد الخروج معك"
جمد مكانه وجف حلقه وظل يحدق بالرجل لحظة ليستوعب ما كان يتوقعه حتى أبعد وجهه ورفع يده لشعره فقال الطبيب "هذا أمر متوقع بالطبع لكن هناك ما هو أهم"
لف وجهه للطبيب الذي أكمل "هي تريد العودة لوالدتها، تحدثت عن العودة لبلدها وعدم رغبتها بالبقاء هنا"
أخفض يده وهو يشعر بلا شيء، كأنه يتهاوى من ناطحة سحاب وما زال يرى العالم يتهاوى معه قبل أن يرتطم بالأسفلت ولا يشعر أيضا بأي شيء
الطبيب أدرك ما يشعر به ساهر فعاد وقال "أنا أرى أنه حل جيد ربما فترة من النقاهة كما نقول تهدأ بها وتستعيد نفسها وربما وجودها مع والدتها يعيد لها ثقتها بمن حولها"
كان لابد أن يتحدث لذا قال "قبل أن تسمعني؟"
الطبيب كان يعلم بما يقول فقال "من حقك أن تفعل حالتها الصحية تسمح لكم بالتحدث لكن كطبيب لها أخبرك أنها قد لا تصدقك ولكنك لابد أن تفعل"
وتركه وابتعد دون انتظار أي كلمات أخرى وهو رفع وجه لباب غرفتها ويحاول إيقاف نفسه عن الدخول فهو يعلم أنها لن تصدقه ولكن عليها أن تسمعه لذا تحرك ودق الباب وفتحه ودخل ليراها ما زالت واقفة أمام النافذة بنفس الجسد النحيل وشعرها المربوط للخلف 
أغلق الباب وتحرك حتى توقف خلفها ونطق أخيرا "آسيا"
اسمها دائما ما يكون مختلف عندما ينطق هو به، رقيق، ناعم مما جعلها تحبه أن يناديها به لكن اليوم لم ترد أن تسمعه ينطق به لذا لم ترد وظلت تنظر للخارج فعاد يقول "آسيا لابد أن نتحدث"
لكن هي لم تكن تريد أي حديث فقالت بهدوء "وأنا لا أريد أي حديث"
تحرك حتى وقف بجوارها، قامته الطويلة تذكرها بالكثير؛ جمال جسده، وسامته وجاذبيته، ثقته بنفسه وغروره سمعته يرد "الأمر لا يخصك وحدك"
التفتت له أخيرا ورأته، متعب؟ لا، عيونه تعني عدم النوم؟ وماذا يعنيها بذلك؟ هي عليها إنهاء الأمر والآن لم يعد هناك مجال للهروب والتأجيل لذا قالت "وهل تظن أن أي كلمات ستنطق بها سأصدقها؟ نحن وصلنا للنهاية ساهر، النهاية التي كنت أخبرك بها دائما أننا لن نلتقي أبدا لأننا مختلفان لذا دعنا لا نضيع وقت بالحديث الذي لن يقود لشيء"
لم يهتم بما قالت وهو يقول "عليك بسماع الحقيقة أولا قبل اتخاذ قرارك"
ابتعدت من أمامه وقالت "وما أدراني أن ما تخبرني به سيكون الحقيقة؟"
ظل ثابتا لحظة قبل أن يقول "لأنها الحقيقة آسيا، أنا لم أخونك أبدا، أخبرتك مرارا أني تركت النساء وتلك الحياة منذ رأيتك بلندن فهل سأعود لها بعد أن أحببتك وتزوجتك؟"
التفتت له بغضب وقاطعته "لا تنطق بتلك الكلمة مرة أخرى فأنت حتى لا تعرف معناها، أنا لن أصدق كلمة واحدة مما ستقول، أنا وثقت بك مرة وخنت ثقتي وسامحتك ولكن لن يمكنني مسامحتك تلك المرة ساهر، أنت خائن، ارجع لها فهي تحبك وربما بقرارة نفسك تجد أنك تحبها أيضا، عد لها لأنني لم أعد أريدك بحياتي لم أعد أريدك، فقط طلقني واتركني أعود بلدي وافعل ما شئت بحياتك فلم يعد الأمر يهمني"
كانت الدموع قد وصلت لتشاركها كلماتها وتألم هو مما قالت وهي تبعده عن حياتها هكذا بلا تفكير لحظة بما كان بينهم، تحرك لها وأمسكها من ذراعها ليعيدها له وهو يقول "آسيا اسمعيني"
نفضت يده بقوة وهتفت "أنا لا أريد أن أسمعك أنا أريدك أن تخرج من حياتي، أنا أريد أن أستعيد نفسي التي ضاعت منذ عرفتك، أريد حياتي الهادئة بلا ألم ولا دموع ولا أحزان، أنا تعبت، وجودك بحياتي دمرني فماذا تريد مني أكثر من ذلك؟ ابتعد عني أنا أكرهك، أكرهك"
والتفتت تمنحه ظهرها والبكاء يسيطر عليها وهو يحدق بها ولا يعرف ماذا يفعل أو يقول ومحاولاته لا تفيد وهي لا تسمعه حتى ومع ذلك قال "ولكني أحبك وحبي لك صادق وليس كذب"
التفتت له والدموع تغرق وجهها وهي تهتف "بل كذب، أنت كاذب، كاذب، خائن وغشاش وأنا لن أعود لغشاش وخائن مثلك ولن أصدق كلمة واحدة تنطق بها، لن أصدقك فارحمني وابتعد عني ودعني ربما أستعيد نفسي التي ضاعت بسببك"
كان يعلم كما قال الطبيب أنها لن تصدقه بل هي لا تريد أن تسمعه من الأساس فشعر بألم قلبه يزداد وهو يراها تدمر كل حياته لأنها كل حياته ورحيلها يعني أنه سيضيع فعاد وقال "لنخرج من هنا أولا ثم نتحدث فيما بعد"
رفعت وجهها الباكي له وقالت "أنا لن أذهب معك لأي مكان، أنا أريد العودة لبلدي لم أعد أريد البقاء هنا هل تسمعني؟ لا أريد أنا بالأساس لا أريد رؤيتك، اخرج من هنا، اخرج ودعني أعود لحياتي أرجوك اخرج، اخرج"
لم يمكنه تحمل كلماتها أكثر من ذلك ولا الألم الذي كانت تسببه له لذا تحرك خارجا وهو لا يعرف ماذا يفعل أو يقول وهي لم تجد سوى البكاء ليكون رفيقها


الفصل السابع عشر
ألم
كانت تجلس بتلك الحديقة التي شهدت أوقات كثيرة سعيدة بحياتها وظنت أن بعودتها لها ستجد تلك السعادة مرة أخرى ولكن لا شيء تشعر به سوى الألم، كانت تتألم بكل لحظة بعاد عنه، حبها له يؤلمها، لم تستطع أن تكرهه لحظة واحدة، نعم رفضته ورفضت أن تسمعه لأنها تعلم أنه كان هكذا، عاش حياته يلهو مع النساء فلماذا يتبدل الآن؟
صوت راشيل جعلها ترفع رأسها لها وهي تقول "جورج اتصل ويقول أنه سيأتي على الغداء، كل يوم يأتي من أجلك ولا يعود للعمل"
بحثت عن ابتسامتها وهي تنظر لوالدتها وقالت "ألا يرضيك هذا؟"
جلست بجوارها وقالت "بل على العكس لكن هذا لا يتناسب مع طبيعته"
لفت وجهها للشجر والزهور ولم ترد فلمست راشيل يدها وقالت "ألم تعيدي التفكير بالأمر حبيبتي؟"
عادت بوجهها الغاضب لراشيل التي أكملت "لقد أتى هنا وحاول معك مرة أخري ولكنك حتى لم تسمعيه، الرجل أتى من مصر إلى هنا من أجلك وأنت.."
قاطعت أمها بقوة وهي تقول "أنا ماذا ماما؟ هل أصبحت أنا الآن الجاني وهو المجني عليه؟ هل تريديني أن أعود لخائن ووقتها سيكون علي تحمل خيانته مرة أخرى وأخرى؟ لا ماما أنا لست تلك المرأة"
قالت راشيل بهدوء "بل أريدك أن تبعدي هذا الغضب جانبا لحظة واحدة وتسمعي من أي واحد منهم ما حدث ربما"
عادت تقاطعها "كلهم يريدون محو أخطائه فلن أصدقهم"
صمت حل بينهم قطعته راشيل "وطفله، هل نسيت أنك حامل بطفله ومن حقه أن يعرف به"
لفت وجهها لوالدتها وتذكرت الحمل الذي لم تعرف به إلا بعد أن وصلت هنا وبدأت أعراضه بالظهور عليها ووقتها بكت كثيرا لأن الحمل كان يمثل الحلم الذي كانا يحلمان به سويا وهو بالأخص فقد رأت كيف يعامل أولاد أخيه وكم أخبرها أنه يريد أسرة وأولاد مثلهم
أبعدت وجهها وقالت "ليس الأمر جديد، كثير من الأمهات حاليا تتولى طفلها وحدها"
لكن راشيل قالت "ويصبح ممزق بينكم كما كنت أنت؟"
ضربتها الكلمات بقوة من شدة صدقها فالتفتت وحدقت براشيل فهي لأول مرة تتحدث هكذا، أكملت "هل ظننت أني كنت سعيدة عندما أخفيتك عن عزت حتى عثر عليّ وعرف بأمرك مما دفعه للغضب وشن الحرب عليّ ليقتلعك مني كما فعل؟"
ظلت تنظر لأمها ولا تجد كلمات للرد "هل تضمنين ألا يفعل ساهر المثل لو عرف بطفله ووقتها أنت من سيتمزق قلبك لأشلاء، أنا كنت أبكي بالأسابيع لفراقك آسيا وربما يجد هو امرأة أخرى تمنحه ما لم تمنحيه أنت إياه وتحكمي على طفلك بنفس المصير، هل هذا هو ما تريديه آسيا؟ لك ولطفلك؟ أن نعيد الكرة مرة أخرى لأني لو ارتد بي الزمن للخلف فلن أفعل ما فعلت، نعم أنا لست نادمة لحظة واحدة على زواجي من جورج لكن نادمة على كل لحظة ألم سببتها لك حبيبتي"
الدموع كانت تتساقط من المرأتان وهي أدركت أن أمها على حق، هي لا تريد تمزيق طفلها كما عاشت حياتها ممزقه بينهما، لا تريد له أب يكره وجوده بالحياة، لا تريد لامرأة أخرى أن تدمر سعادة طفلها
رن هاتفها بذات الوقت ورأت اسم هدى واندهشت فالمرأة لم تهاتفها منذ أتت هنا فقالت "إنها هدى!"
ربتت راشيل على يدها وقالت "ردي حبيبتي، المرأة كانت رائعة معك"
هي تعلم بذلك لذا أجابت "أهلا حضرتك"
صوت هدى الهادئ يريح القلب وهي تقول "أهلا بابنتي التي لم تسأل عني ولا مرة واحدة"
تورد وجهها وقالت "آسفة ماما سامحيني"
ردت هدى "بالطبع سأسامحك لكن بعد أن تفعلي شيء من أجلي"
صمتت وخشيت أن تحدثها عنه رغم أنها كانت تفكر بمهاتفته فقط لإخباره عن الحمل ليعرفوا كيف سيتعاملون معه ولكنها قالت "ماذا ماما؟"
قالت المرأة "ربما لم يخبرك أحد أني كنت بالمشفى وأجريت جراحة بالقلب مؤخرا" 
هتفت "لا!؟ وكيف حالك الآن؟ هل ما زلت بالمشفى؟ هل الجراحة جيدة؟"
ضحكت هدى بهدوء وقالت "نعم حبيبتي، الجراحة كانت جيدة وأنا بخير ورفيق يقيم لي حفل بمناسبة عودتي وأردت رؤيتك معي بتلك المناسبة، حضورك سيغفر لك عدم سؤالك عني أم لا تريدين وجودي بحياتك؟"
ارتجف جسدها من فكرة عودتها مصر بل والتواجد معه بمكان واحد مرة أخرى، ليس لديها قوة كافية لتفعل فقد استنفذ ما حدث لها كل قوتها، هدى نادتها فأجابت "ماما حضرتك تعرفين أن الأمر ليس بسهل"
قالت هدى "نعم أعلم ولو على ساهر هو لا يعرف شيء عن اتصالي ولا أظن أن رؤيته تهمك فقد أنهيت كل شيء أليس كذلك؟"
كلمات هدى كانت غريبة ولكنها قالت "ما زلت زوجته ماما هو رفض الطلاق"
قالت هدى "لا معنى للطلاق حبيبتي فهو مجرد أمر شكلي فأنتم بالفعل منفصلين والآن هل ستسعدين قلبي المتعب بحضورك؟"
كلمات هدى تدق على القلوب برقة وبلا ألم فقالت "سأحاول ماما"
وأنهى الأثنان الاتصال وحكت لراشيل التي قالت "هي فرصتك لرؤية ساهر وإخباره بالحمل وتحديد مصير طفلكم لابد من إبلاغه"
وتركتها ونهضت وهي لا تعرف ماذا تفعل والأفكار تخلت عنها وقلبها انكمش على نفسه حزين متألم يفرض سيطرته لكن ليس فيما يخص طفلها، لحظة ورأت جورج يتحرك تجاهها بابتسامته التي تملأ قلبها بالراحة
قبل جبينها وقال بمرح "أيتها الكسولة ظننت أنك ستأتين لمساعدتي لا البقاء هكذا ليل نهار"
أخفضت وجهها وقالت "آسفة جورج حقا لا أستطيع حتى الشركة بمصر أتابعها بصعوبة وأعلم أنك لست بحاجة لي"
ظل ينظر لها حتى قال "لا يمكنك الاستمرار هكذا للأبد، ذلك الطفل له حقوق عليك"
هل اتفق الجميع عليها اليوم؟ لم ترد فعاد يقول "أعلم أن راشيل تحدثت معك ولكن هل اتخذت قرار؟"
هزت رأسها بالنفي فقال "اسمعي آسيا، ربما كان ساهر رجل مختلف عنك كما قلت لكن بالحقيقة هو أفضل رجل مر بحياتك، نعم، هو الرجل الذي ساعدك بالشركة وقت انهيارها ورحيله كان متوقع كرجل نساء لم ترفضه امرأة من قبل وشعر بالإهانة من رفضك له ولكن ما أن عاد ورآك بعد سنوات حتى تمسك بك وبدا كما لو كان يعرفك منذ الأزل، لم يتخلى عنك رغم جنونه وتهوره وربط حياته بك بزواج لم يخطو له أبدا بل ولم يفكر به، ولن أتخطى لميشيل وما حدث بعده لذا من الصعب تصديق أن رجل مثله يخونك خاصة وأنه اعترف لك بحبه وبماضيه وأبلغك أن تلك المرأة تريد تدمير حياتكم فكيف لم تفكري ولو مرة واحدة بأنه قد يكون بريء"
كانت تستمع له بتركيز بكل كلمة ينطق بها، لم ترتب الأفكار هكذا كما فعل هو ولم ترى الصورة بتلك الطريقة رغم إنها الحقيقة، لكن لا أحد يعلم ما فعله بها وقت صدق ميشيل لذا أبعدت وجهها وقالت "لم يعد لكل ذلك داعي جورج لقد وصلنا لطريق سد"
قال بنفس الهدوء "ولكن ذلك الطفل يفتح ألف طريق، لا تكوني أنانية حبيبتي وفكري بطفلك، من حقه أن يكون له أب ومن حق ساهر أن يعلم بابنه"
نظرت لجورج وكلماته تنضم لكلمات راشيل وهي تشعر بصداع من كثرة الأفكار التي غزت رأسها التي كانت مليئة بالكثير غيرها
الحياة كانت معتمة أمامه، لم يعد يرى أي نهار فكل شيء أصبح ظلام، بآخر تجمع عند عامر كان صامتا طوال الوقت حتى الأولاد لم يلعب معهم كما اعتاد، إخوته حاولوا معه ولكن بلا فائدة، كان يذكر رؤيتها وهي تقف مع زوجة أخيه هناك وهي تضحك وضحكتها كانت تأخذ عقله، لماذا لم تسمعه؟ لماذا لا تصدق أنه بريء؟ ليس خطأ واحد ارتكبه مرة يجعلها تعاقبه وتحكم عليه بالإعدام
صوت جاسم أخرجه من الذكرى وهو يقول "ألا توجد أخبار جديدة؟"
تناول البيرة التي كانت بيده منذ وقت طويل وقال "جديد بأي شيء جاسم؟"
كان جاسم  يقف أمامه محاولا إخراجه من حالته وهو يقول "آسيا"
التفت لأخيه بغضب وقال "ألن تتوقفوا عن الحديث عنها؟"
جاسم كان يعلم أنه يرفض الحديث لذا قال "ساهر نحن جميعا نريد رؤيتك بخير"
هتفت "وأنا بخير جاسم فهل تتوقفون عن التدخل بحياتي وتتركوني؟"
تحرك عامر لهم وقال "هل تهدأ؟ كلنا نحاول مساعدتك لكنك ترفض ساهر والمشاكل لا تنحل وحدها" 
دار بنظراته لعامر وقال بنفس الغضب "وأنا أخبرتكم أني لست بحاجة لأحد والموضوع انتهى بالنسبة لي ولا أرغب بالحديث عنه بل ولا رغبة لي بالبقاء من الأساس"
وتحرك خارجا وعامر يناديه وهو لا يسمع والغضب يعميه والألم يحرق صدره وجرح كرامته منها أكبر خاصة وأنه سافر إليها محاولا إصلاح ما بينهم لكنها رفضته أيضا وها هو يعيش الحياة بلا معنى، فراغ يملأ كل شيء ولا معنى لأي شيء وتمر الأيام بلا رغبة منه بالحياة
دق باب مكتبه فلم يلتفت بل ظل واقفا أمام النافذة وتقريبا هو يحاول أن يستعيد نفسه بالعودة للعمل ولكن حتى عقله لا يريد أن يلبي له طلبه
"هل انتهيت من التصميمات؟"
التفت لعامر الذي اقترب منه وقد توقف الجميع منذ ذلك اليوم ببيت عامر عن العودة لمنطقته محاولين الاحتفاظ به قريبا منهم، هز رأسه بالنفي وقال "لا، ليس بعد"
وقف عامر أمامه وقال رغما عنه "متى ستعود لنفسك؟"
عيونه اخترقت عيون أخيه وبدا أن عامر لا ييأس من المحاولة، ابتعد وقال "أنا بخير عامر والتصميمات ستنتهي بعد يومين"
لم يتبعه عامر وهو يقول بلا تراجع ولا خشية من عودة غضبه "كان عليك ترك جاسم يتصرف"
كان يصب لنفسه كأسا ويتناول بعضه وهو يجذب الهدوء ليوقف الغضب فلن يتهور مرة أخرى على عامر لذا رد "لم يعد هناك فائدة عامر، هل لديك عمل جديد لي؟"
كان يريد أن ينهي المحادثة بطريقة أفضل، لقد انتهى الأمر وعليهم استيعاب ذلك خاصة بعد أن رفضته مرة أخرى ببيت راشيل ورفضت أن تسمعه وطردته بلا تردد، ربما هو لم يتخذ قرار الطلاق بعد ولكنه لم يفكر بإجراء أي محاولة أخرى معها فقد أهانته بما يكفي وشككت بحبه لها ومهما قال أو فعل فلن تصدقه 
عاد عامر له وقال "حفل هدى؟"
رفع وجهه لأخيه وتذكر اتصالها به بالأمس ومحاولته الرفض لكنها أبت أن تسمع لأي حجج لذا قال "أنت تعلم أنها لا تسمع كلمة لا"
هز عامر رأسه وقال "نعم وحقا كلنا كنا خائفين عليها وقت الجراحة والآن بحاجة لنراها بيننا كما اعتادت"
رد بصدق "نعم، سأكون موجود لا تقلق"
تركه عامر وذهب فجذب جاكته وتحرك للخارج، أدار سيارته وتحرك بلا هدى والراديو يعمل وفجأة علت أغنية تامر حسني "وأنت بعيد"
“يا حبيبي ليه مشيت وسبتني للذكريات.. كنت خايف من الفراق وافتكرت أني اتنسيت.. وقت صعب ما يتحكيش زي أي حد مات من عذاب الاشتياق والكلام زي السكات"
نظر للراديو وشعر بدموع تنجمع بعيونه وهو يشعر بالكلمات كالخنجر ينغرز بقلبه بل بكل جزء بجسده، فهي حقا رحلت وتركته للذكريات التي تقتله، أوقاتهم معا تمر أمامه الآن وبكل لحظة، أحضانهم، قبلاتهم حتى خلافاتهم كانت وهي معه ولم تتركه وهو الآن يمر بوقت صعب نعم صعب ولا يمكن لأحد الشعور به وعادت الكلمات 
"وانت بعيد.. وأنت بعيد قلبي اتوجع وتعبت منه" 
انسكبت دموعه وهو يرفع شعره بيده وهو حقا يشعر بألم قلبه، ألم لم يعرف له مثيل 
"عدى الي ضاع بعد الوداع وانا بين ايديك عوضني عنه" 
أغمض عيونه وهو يعلم أنها لن تعود لتضمه بين يديها وكم افتقد ذلك وتمناه، عاد وفتح عيونه الباكية 
وعادت الكلمات "كل ما اسمع سيرة ليك كنت بحضن في الكلام من حنيني للي كان كنت بمشي انده عليك" 
وهو ما يفعله الآن وهو يسير بلا هدى يبحث عنها قد يرى وجهها بين المجهولين من حوله
كان يتمنى لو قال كما قالت الاغنية "اوعى تاني في يوم تروح صعب أعيد نفس الآلام، اوعى تاني تغيب عشان انت بالنسبة لي روح" زاد الالم لأن لا هي هنا ولا الروح له ستعود "وانت بعيد.. وانت بعيد قلبي اتوجع وتعبت منه.. عدى الي ضاع بعد الوداع وانا بين اديك عوضني عنه.. عدى الى ضاع بعد الوداع.. آه"
وافترشت الدموع مقلتيه أكثر وأكثر وبنفس الوقت كانت هي تجلس بغرفتها القديمة ببيت راشيل بنفس اليوم وكلمات جورج تهزها بقوة، فتحت التلفاز ربما يبعدها عن التفكير وهي تدير القنوات توقفت عند قناة مصرية للأغاني فتركتها ولكن ما أن بدأت المغنية كلماتها "اذتني كتير" للمطربة شيرين، حتى انتبهت لها ودموعها أسرعت لها مع الذكريات المؤلمة
"اذتني كتير.. أنا مش خايفة من حاجة.. إيه بعدك ممكن أخسر أيه"
الدموع تكورت كثيرة وصورته تقف أمامها "أنا مبقتش محتاجة أداوي جرح دوست عليه"
نعم فجراحها أصبحت كثيرة منه "أذتني كثير ولا أذيتك.. غلط إزاي وحبيبتك"
وانهارت أكثر بالبكاء وهي تسأل نفسها هل كان يمكن ألا تحبه؟ حبها لها هو الغلطة التي تدفع ثمنها كل يوم بل كل لحظة "آه ملاحق صوت عنادي سكوت.. في نبض كإنها نهاية.. يضيق نفسي كإني بموت"
ضربت وسادتها بيداها وهي تدرك أن الألم الذي بداخلها كمن يعاني من الموت "وروحي معافرة جوايا.. أذتني كتير.. غلط إزاي وحبيبتك"
كل الذكريات بحلوها ومرها كانت تتحرك أمامها وهي لا تتوقف عن البكاء وهي تسقط على الأرض "أذتني كتير ولا أذيتك.. غلط إزاي وحبيبتك.. سنين وأنا عايشة معمية.. بشوف كذب في عنيك الاتنين.. علشان كذبت أنا عنية"
دفنت رأسها بالفراش المجاور من الألم والبكاء، هل حقا كان يكذب وهي لم ترى كذبه؟ نعم وهي رأته معها "خلاص مش عارفة أصدق مين.. أذتني كتير ولا أذيتك.. غلط إزاي وحبيتك"
البكاء تعالى داخلها حتى شعرت بيد تربت عليها وصوت راشيل يحاول تهدئتها ولكن ماذا يمكن أن يوقف الألم ويطفئ النيران داخلها؟؟
تحرك داخل الفيلا التي تشاركوها سويا، بها بدأت علاقتهم وبها انتهت، ألقى بجسده على المقعد ودفع رأسه للخلف وهو يحاول وقف الذكريات والألم والحزن ولكن بلا فائدة، لكان نجح طوال الشهر الماضي، رحيلها تركه بالظلام، رفضها له يؤلمه يكسر قلبه وكرامته، يدمر كيانه، كل حياته اختفت ولم يبقى سوى تلك اللحظة التي دمرت حياته وكلماتها التي تنهي كل شيء
كم مر من الوقت وهولا يستطيع أن ينسى ولا أن يخرجها من حياته، الآن والآن فقط أدرك ما كان عامر يعانيه برحيل ليل وكذلك حمزة، الحب مؤلم، مؤلم جدا ليته ما أحب، كان يعيش حياته حرا بلا قيود واليوم هو لا يستطيع الحركة من قيد الحب والذكريات والألم ولكن يبدو أن هذا هو حكم القدر عليه ولا مجال لأن يفلت من العذاب، ضم يداه على وجهه من التعب والصداع وعندما أبعدهم رأى دبلة زواجهم وظل يحدق بها وهو يتساءل هل ما زالت ترتدي خاتمه أم ألقته بعيدا كما فعلت معه؟
وصلت الفندق الذي حجزت به وأنهت إجراءات الاستقبال وتحركت لغرفتها، كانت قد حجزت لتصل بيوم الحفل وباليوم التالي تعود، لن تبقى هنا أكثر من ذلك كما طلب منها جورج وبالحفل ستراه وتخبره بأمر الطفل وبالغد سترحل بلا جدال
أخرجت الفستان الذي ستحضر به، كان أسود، لم ترغب بأي لون خاصة وهو سيخفي جيدا بطنها الصغيرة التي بدأت بالظهور فقط صدره مغلق كي يخفي صدرها الذي بدأ يكبر بسبب الحمل، معالمها كانت متعبة والدموع تترك أثر رائع بالعيون 
تناولت الغداء وشردت بالشرفة بذكرياتها بتلك البلد التي شهدت كل أحزانها ومع ذلك هي أيضا شهدت أيامها السعيدة معه
استعدت للحفل وارتدت فستانها وعدلت ياقته وشبكت يدها به ففكته عندما أدركت أنه الخاتم، خاتم الزواج الذي لم تخلعه من يدها وتساءلت هل ما زال يذكرها؟ هل ما زال يضع خاتمها أم نزعه من يده منذ خانها؟
صورة تلك المرأة غطت رؤيتها فعاد الغضب لها فأكملت زينتها البسيطة كالعادة ومع ذلك لم تختفي معالمها الباكية، شعرها استقر فوق رأسها بلا خصلات وأخرجت هدية هدى فقد اشترت لها حقيبة يد وهي قد ميزت النوع الذي تفضله، كيس الهدايا كان مناسب، نظرة أخيرة لنفسها بالمرآة وتنفست بقوة ثم تحركت لتنزل
بهو الاستقبال بالفندق كان مزدحم وهي تتحرك بأناقة ولكن فجأة توقفت وهي تصطدم بتلك المرأة تقف أمامها بلا إنذار وهي لا تفهم كيف أتت هنا ولماذا؟



تعليقات