رواية ابني ابنك الفصل الاول1بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك
الفصل الاول1
بقلم امنية محمد
«ضدان لا يلتقيان»
حرب الحياة إن فُرضت عليك فسيكون أمامك حلّين؛ أولهما أن تترك سيفك وتخسر وتغادر إما خاسرًا مخذولًا، وإما ميتًا، وإما أن تُمسك سيفك وتحارب برغم الدماء التي تنزف من جسدك بأكمله وبرغم الجروح التي في روحك.
لا تخف من الغدر عزيزي فحتمًا ستناله مرة أو مرتين في حياتك، ثم ستقوى بعدها لتقف أمام العدو بكل شموخٍ، والآن تنفس بعمقٍ واسحب سلاحك فلدينا حرب نهايتها بلا شك يجب أن تكون رابحة.
هنا حيث البشر أشكالًا واختلافًا في الهيئة والظروف، فلا يوجد أحد مثل الثاني على هذا الكوكب، جميعهم يملكون الندوب ولكن بإختلاف أنواعها وعمقها.
حارة شعبية تواجدت في مدينة الإسكندرية عروس البحر المتوسط، يوجد بها الضعيف والقوي، الشجاع والجبان ويوجد بها ... «مُـهاب الجـزار».
وعلى ذكر اسم ذلك الرجل الذي استيقظ من نومه بجفلة على صوت صراخ والده الذي ملأ المنزل:
_فين الفلوس يا ولية، انطقي!
تحرك بسرعة من فراشه من عز نومه في هذا الصباح الباكر على تلك الشجارات التي لا تنتهي أبدًا بين والده ووالدته الغالية:
_في إيــه على الصبح، الناس بتصبح في وش بعض بصباح الزفت وأنت بتصبحها بعلقة، عاوز إيه يا حاج!
يبغضه!
يكره وجوده هنا رفقتهما، فهو دومًا كان سببًا في أذى وانكسار أمه التي لا ترغب بتركه وهجره لأنه وحيدًا لا أحد له.
كان يقف أمامها يحميها بجسده الضخم وعلامات النعاس مازالت على وجهه قمحي اللون بعينين بُنيتين واسعتين، صاحب أهداب كثيفة كان يرمش بها عدة مرات مُنتظرًا الإجابة من والده:
_خليها تطلع فلوس الشغل اللي معاها دلوقتي!
_ليه؟ عشان تروح تجيب بيها اللي بتشربه صح؟ تقعد هي تشتغل وضهرها يتكسر ونظرها يضعف وأنت قاعد كفاية عليا تروح تجيب حشيش وتديها أحلى اصطباحة.
قالها بضيقٍ وبصوتٍ عالٍ نسبيًا، في كل مرة يُخرجه والده عن أعصابه ويجعله يتهور في حديثه السام ثم يتراجع خطوة لأن والده سيظل والده مهما كان، تحرك لداخل غرفته صغيرة الحجم في شقتهم الصغيرة، وأخرج من جيب بنطاله نقودًا وخرج يضعها في يد والده:
_اشبع يا سيدي، وأقسم بالله يا بابا لو مديت إيدك عليها تاني لأخدها وامشي واسيبلك البيت وما تعرفلنا طريق!
كانت تذرف الدموع قهرًا وببكاءٍ حارق للقلوب، التفت يطالعها بحزنٍ شديد وآسف..
ليته يستطيع أخذها والذهاب بعيدًا ومعاملتها كملكة فقط!
ضمها له وهو يسير بها نحو غرفته وأجلسها على فراشه وجلس أمامها أرضًا محاوطًا كفيها بكفيه وقبلهما بحنانٍ:
_حقك عليا يا حبيبتي، قولتلك نمشي يا أمي وأنتِ مش راضية تسيبيه، ده خلاص عقله مبقاش غير فالشُرب والسهر والقمار ودي كلها عيشة حرام في حرام!
هزيلة الجسد، شاحبة الملامح، متعبة الروح!
تنهدت بعمقٍ وهي تمسح دموعها التي ساعدها هو الآخر بمسحها لها بابتسامة حنونة، ونبست بصوتها المرتجف:
_ متحرمش منك يانور عيني، ربنا يرضى عنك دنيا وآخرة يا «مُـهاب» يابني، وأنا قولتلك قبل كدا مينفعش نسيبه أبوك اتجر في الطريق ده وهو في زمنه مكنش كدا يابني والله مكنش كدا، أنسى كل اللي عمله عشان مبقاش في وعيه.
كاد أن يتحدث ولكنه استمع بوجهٍ مصدوم لتلك لكلمات الأغنية تلك التي صدحت في أرجاء شقته!
"بوس الواوا ليك الواوا خلي الواوا يصح"
طالع والدته ونبس بصدمة وفمه كاد يصل للأرض من شدة صدمته:
_أبويا هيفضحنا في الحارة يا «هاجــر»!
تحرك سريعًا وهو يستمع لضحكات والدته وأغلق المسجل وطالع والده بينما يعض على شفتيه بضيقٍ كبير، بينما الآخر كاد أن يندمج ولكن ابنه أنهى كل ذلك بلحظاتٍ، ليهدر به:
_في إيه يالا، بتقفل المسجل ليه!
_بقفله ليه؟ لا حقك فعلًا حقك، ده أنا وعهد الله يا «عادل» لو أبوك لسه عايش لكنت هشتكيله ويجيلك.
سحب سلك المسجل ولفه عليه وحمله بين ذراعيه بينما والده -«عادل»- طالعه بسخطٍ قائلًا:
_أنا هسيبهالكم وماشي أصلًا
تابعه «مُـهاب» بسخرية وهو يقول بتشدقٍ:
_لا متمشيش يا جدع، بس لو مُصر اتفضل.
هكذا دومًا الحال،
شجارات بعضها ساخرة وأخرى عنيفة، وينتهي بهم المطاف هم الثلاثة كل منهم في حياته.
غادر «عادل» الشقة بينما ولج «مُـهاب» لغرفته مجددًا واقترب يُقبل رأس أمه بحنانٍ ووضع في حجرها المسجل قائلًا لها بتوصية حارة:
_بالله ما تظهريه قدامه تاني عشان أنا حاسس إننا اتفضحنا فالحارة، ساندوتش بقى وفنجان قهوة من إيدك الحلوين دول عشان أنزل الشغل.
ربتت أمه على يده بحنانٍ مبتسمة وهي تتحرك من مكانها:
_عيني ياحبيب عيني.
ثم غادرت غرفته بينما هو تحرك يُخرج ملابسه الخاصة بعمله -كنجارٍ- بورشته الخاصة، وهندم غرفته وأغلقها بالمفتاح الذي كان يضعه دومًا بجيبه.
_أنت نزلت الفجر صليت؟
سألته والدته ليومئ برأسه وهو يطالعها باستغرابٍ لذلك السؤال المُفاجئ، بينما هي جلست جواره وأعطته الطعام والقهوة لتتنهد فقط دون أن تلبي نداء فضوله.
فقرر هو السؤال هذه المرة بتنهيدة:
_خوفتِ ولا إيه يا «هجورة»؟
أومأت برأسها فقط مرة أخرى ليتنهد قائلًا بصوته الدافئ الذي يبُث الطمأنينة بداخلها:
_متقلقيش يا أمي، الليلة دي مش هتتكرر تاني والله واللي حصل يومها استحالة يحصل تاني، أنا في ضهرك ومش هسيبك إلا لو مُت بقى يعني ..
_بعد الشر عنك ياحبيب قلب أمك، متقولش كدا.
قالتها وهي تضربه برفق على قدمه ليبتسم بتوسعٍ:
_والله مراتي لو ما قالتلي حبيب قلبي وحبيب عيني زيك كدا فأنا مش عاوز اتجوز.
ضحكت بخفة وهمست بدهاءٍ عهده عليها:
_بس هي بتقول
ارتشف بقية القهوة وقام من مكانه ضاحكًا بخفة:
_ياما نفسي تقول بقى بجد، أما نشوف اخرتها مع الهانم.
تحركت معه والدته تدعو له وتودعه عند الباب:
_هتكون من نصيبك غصب عنهم كلهم متقلقش، ربنا معاك يابني.
ابتسم وأقبل على الحياة ساعيًا،
فياحظه من يسير طريقه بدعوات أمه.
خرج من باب البناية وهو يشعل السيجارة التي بفمه، وتوجه ناحية ورشته التي كانت في محلٍ أسفل البناية، رفع بابها لأعلى وهو ينظر حوله بنظراتٍ ذات مغزى، ليرى إن كان هنالك عيون تراقبه فيخرسها بنظراته القوية.
برغم من أن والده كان صاحب سُمعة سيئة، إلا أنه يَهابه الجميع هُنا، بل بعضهم يأخذه قدوة لهم ولأبنائهم، فهو كان بأخلاقٍ حسنة، جيد الطباع، رجل والرجال قليل.
رأى المطلوب منه اليوم ليبدأ به حتى يأتي من يعمل معه من رفاقه هنا، ولكنه لمح أمامه من هي أفضل من كل شيء رآه، أخرج صفيرًا من فمه وكأنه ينبهها لوجوده برغم معرفته أنها بالتأكيد رآته ولكن تجاهلت..
_ده حتى بيقولوا السلام عليكم، صباح الخير، صباح الغِنى يا «غِنى».
قالها وهو يخرج من ورشته راميًا تلك القماشة التي مسح بها يده لتكون نظيفة، وقفت تطالعه بسخطٍ:
_بتتقال للناس الغالية بس!
_وهو أنا مش غالي يا «غِنى» ده أنا هبقى جوزك حتى، يعني أغلى الناس.
غمزها بطرف عينه بينما رمى كلماته في وجه النار لتنفجر به بملامحها الغالية على قلبه، صاحبة العينين العسلية والبشرة البيضاء، ترتدي حجابها الذي كان يغطي شعرها بالكامل على ملابسها البسيطة المكونة من جيبة وسترة زهرية:
_جوزي؟ يا «مُـهاب» اتقي شري عالصبح أنا رايحة شغلي..
زفر بضيقٍ وكادت أن تتحرك ولكنه وقف أمامها يمنعها من التحرك مجددًا وأخرج من جيبه علبة السجائر يشعل الثانية اليوم بقوله:
_كل ده عشان كنت بكلم البت امبارح بوصفلها الشارع؟ والله أنتِ ظالمة على فكرة، كانت تايهة وبرشدها.
_يا حنين!
نبست بها متشدقة بسخطٍ وهي تلوي شفتيها، فابتسم غامزًا إياها:
_بس حنين عليك أنت بس، وبعدين أنا فيه حوار وربنا استني...
تذكر ذلك الأمر الذي نساه عندما رآها وهي تخطف أنظاره للمرة التي لا يعرف عددها..
وجدته يرمي السجارة من فمه ويضغط عليها وملامحه تبدلت للحدة:
_المُدرس اللي اسمه سامح ده، ظروف أمه إيه قبل ما أعلم عليه!
تلبكت!
كيف يضعها بتلك الأمور التي تجعلها ترتجف أمامه وهي في بعض الأحيان تكون على حق، رفعت يدها أمام وجهه تُريه الخاتم الذي يزين إصبعها البنصر:
_بحط في وشه ده، كله عارف إني مخطوبالك اكتبها على وشي!
_لا متكتبيش، بس متزعليش لما أنا اللي اكتب على وشه قريب عشان أنا خلقي ضيق وأنتِ عارفة!
قالها بحدة أكثر جعلت من المارة يطالعهما وهما في تلك الشحنات الغاضبة.
لا يفهمها ولا تفهمه وكان ذلك من وجهة نظرها،
يفهمها ويحفظها عن ظهر قلبٍ وكان ذلك من وجهة نظره.
فما باليد حيلة سوى المحاولة مرارًا وتكرارًا لتثبيت تلك العلاقة المتزحزحة على أرض صلبة.
_كفاية يا «مُـهاب»، أنا عندي حصص ومدرسة ولازم أمشي، سلام.
غادرته يقف بقلبٍ يشتعل نيرانًا من الغيرة عليها، لو بيده لحبسها بثناياه حتى لا يراها أحد.
تنهد بثقلٍ وهو يتابعها تغادر بقوله:
_ماشي يا «غِنى» يابنت «متولي» أما نشوف قلبي هيجيب آخره معاكِ أمتى.
مر على خطبتهما ستة أشهر ووالدها يعارض وجوده أحيانًا ثم يرضى عنه في الأحيان الأخرى، وهي بين أنها تحبه وأنهما غير متفاهميّن.
ويجمع بينهما نيرانٌ لا تنطفئ،
مشتعلة في الروح المتمسكة بالروح الأخرى.
*******
لكل شيء وجه آخر، ولكل وجه آخر أوجه متشابهة!
انتقال ملحوظ، واختلاف كبير في مستوى المعيشة والتعامل، حيث هنا في منطقة بها البيوت الغالية للأثرياء، حيث منزل كبير الحجم تحديدًا بتلك الغرفة التي ينام بها بكل راحة بال، ولكن الراحة لم تدم حيث حل محلها الازعاج الصباحي..
_«وتيـن».. أنا نايم بعد الفجر اقفلي الستاير.
صاح بها بإنزعاجٍ واضح واضعًا ذراعه على عينه وجذب عليه الغطاء بشكلٍ أكبر، اقتربت نحوه تقول ببساطة:
_بابا قالي أصحيك عشان فيه شغل ضروري عاوزك فيه، قوم يا كسول قوم.. وبعدين عاوزاك توصلني النهاردة عند «ماسة».
زفر بضيقٍ وأبعد الغطاء بشكلٍ بطيء وهو يطالعها من طرف عينه:
_رايحة «لماسة» ليه؟
_هكون رايحة ليه يا «زين» عندنا شغل يابابا، قوم يلا بلاش كسل عشان بابا ميزعقش!
قالتها وهي تتحرك من مكانها ليزفر مجددًا بقوله:
_حتى يوم اجازتي هصحى من بدري، مش أجازة دي والله مخدهاش أحسن.
كان يعترض بوجهٍ ممتعض، يملك عينان مختلفة باللون الزيتي، ببشرة قمحية قريبة للسمار الجذاب، قاطع اعتراضه قدوم والده للغرفة قائلًا بصوته الجامد:
_بتقول حاجة يا«زين»؟
تنحنح سريعًا ووقف عن الفراش مُنتفضًا بابتسامة مرتبكة:
_لا ياحبيب قلبي، بقول good morning عليك.
_طب يلا عشان فيه شغل ضروري لازم تعمله، ومش هضمن حد يعمله غيرك!
قالها وتحرك دون أن يسمع رد الآخر، وما إن غادر حتى عاد الآخر ينبس بكلماتٍ غير مفهومة تحت ضحكات أخته الساخرة التي غادرت غرفته لأمها، ولج ينعم بحمامٍ دافئ وارتدى ملابسه التي كانت قميصًا باللون الأزرق وبنطال باللون الأبيض وغادر غرفته بعدما رأى نفسه بالمرآة ألف مرة ليتأكد من أناقته، يهندم من قميصه، ثم ذقنه الخفيفة، وشعره الناعم الذي كان يمشطه للخلف فتعود منه غرة على جبينه، ويضع مرات عديدة من المعطر ليتأكد أنه غارقًا به.
_صباح الخير.
قالها وأقترب يشاركهم طاولة الطعام بابتسامة خفيفة، أجابوا جميعًا عليه وتحدث والده بجدية:
_هتروح الفندق تشرف على كل حاجة يا «زين» عشان الشغل مش عاجبني وطاقم الإستقبال كله عاوز يتغير، وبعدين فيه حاجة تانية هقولك تعملها..
تنهد وهو يضع بفمه اللقمة ليبدأ وجبة الإفطار ثم تسائل بفضولٍ:
_حاجة إيه؟
_فيه مبلغ كبير هخليك توديه مكان بعيد شوية عن هنا، بس أنا مش هضمن حد يوديه، نُص مليون جنية لحارة كدا بعيدة عن هنا شوية.
قالها والده «سليمان» وهو يصف له مكان الحارة، ليقول «زين» باعتراض وهو يترك الطعام:
_حضرتك عارف العربية مش هتستحمل الطريق ده ولا أنا هعرف أدخل الحارة دي، ما تشوف ...
وقبل أن يكمل حديثه كان كلام والده الحاد يخرج بقوله:
_قولتلك مش هثق في حد غيرك يا «زين»، وبعدين العربية ابقى رجعها عالميكانيكي عادي..
طالع والدته ثم زفر بضيقٍ خفي، بينما هي تنهدت وحاولت أن تتحدث ولكن زوجها قاطعها هو الآخر:
_«سامية» مافيش داعي لأي اعتراض، الموضوع مش هياخد منه ساعة زمن.
صمتت ولم تجد ما تقول، هو حنون على أولاده وعليها ولكن يفصل دومًا بين العمل والحياة الشخصية، خاصةً أن «زين» شريكه بكل أعماله.
لم يمر سوى عشر دقائق حتى قام «زين» من مكانه يوجه حديثه «لوتين»:
_قومي يلا عشان أوصلك وأنا في طريقي للفندق..
أومأت له وتحركت تجلب بقية أغراضها بينما والده تحرك هو الآخر نحو مكتبه وخرج بحقيبة ظهر بها النقود، وضعها أمام «زين» الذي حرك رأسه فقط وغادر رفقة أخته والنقود..
وصل بها نحو الفندق بعدما غيرا وجهتهما حيث أن «وتين» قررت أن تلتقي بصديقتها «ماسة» هناك ويجلسان سويًا في فندق والدها الذي يملك له فرعين في إسكندرية.
كان يضع النظارات الشمسية التي تغطي عيناه وتابع قدوم الأخرى بشعرها المنسدل على ظهرها بلونه الأسود الفحمي الطويل، كانت تمتلك عينين واسعتين يرى بهما الضحكة التي ترسمها على ثغرها فتظهر بعينيها تلقائيًا، عيناها سوداء واسعة برموشٍ كثيفة، كانت جذابة، جذابة للغاية..
_hello يا جماعة
اتأخرت عليكم؟
سألت بابتسامة عريضة على فمها، ليقول هو سريعًا:
_ولو اتأخرتِ، نستناكِ يا «ماسة»!
ضحكت بخفة وهي تشكره بخجلٍ قائلة:
_مرسي خالص يا «زين»، ربنا يخليك.
قلب عيناه أسفل النظارة وهمس بسخرية:
_ربنا يخليني آه..
ثم رفع صوته وهو يبتسم بخفة ويلقي نظرة عليهما:
_طب enjoy بقى، مضطر أمشي عشان عندي شغل، لو فيه حاجة رني عليا
وجه حديثه لأخته التي أومأت برأسها قائلة:
_حاضر ياحبيبي.. باي
تحرك من جوارهما لداخل الفندق ليشرف على كل شيء كما أمره والده، بينما تحرك كلًا من «وتين» و«ماسة» ناحية الداخل وجلسا سويًا يتحدثان عن أمور العمل:
_الطلبات ماشاء الله بتكتر، محتاجين نوظف حد يشتغل مع البنوتة اللي ماسكة بيدج الانستغرام، الوضع بقى تقيل عليها..
نبست «وتين» بتلك الكلمات لتضيف على حديثها «ماسة» بقولها:
_تمام أنا معنديش أي مانع ويارب إجراءات المحل تخلص عشان نفتتح بقى، ويبقى محل الحلويات الخاص بينا زي ما كنا بنحلم، واسيب البيت وامشي
ابتسمت «وتين» على فكرتها ثم تنهدت على نهاية حديثها بقولها:
_أنا عاوزة أفهم أنتِ ساكتة ليه، ده حقك يا حبيبتي وحقك المفروض تاخديه من عينيهم يا «ماسة»، اللي بيعملوه ده تعنيف أسري..
_تعنيف أسري إيه استهدي بالله، مش أوي كدا، أنا بس ممشية حالي لحد ما الدنيا تفتح في وشي عشان أنا هخاف أمشي وابقى لوحدي يا «وتين».
تحدثت «ماسة» بحزنٍ بالغ غلف نبرتها تلك المرة، كل ما تمر به قاسٍ منذ أن مات والدها وتزوجت أمها بآخرٍ حقير ولديه ابن مثله.
_ياحبيبتي ربنا يعينك والله، ومتنسيش إني معاكِ، و«زين» من الصبح عنده إستعداد يكون معاكِ، وبابا وماما أنتِ عارفة إنك زيي فالغلاوة.
أضافت «وتين» بابتسامة واسعة وهي تطمئنها، لتبادلها الأخرى الابتسامة بشكرٍ كبير وإمتنان.
********
حفظتك سرًا في قلبي، فكشفني الحب وأصبحت حبيبتك علانية، ولم يغادرنا الشر الذي لطالما حاوطنا ونحن رفقةً بعضنا ونحن بعيدان أيضًا، فكيف أحافظ عليك في ظل الظروف المُحيطة المملوءة بالثعابين والعقارب.
_وأنتِ يا أختي إيه مصبرك عالهم ده، سيبيه ويجيلك سيد الرجالة كلهم.
نطقت بها تلك الفتاة التي تمدغ العلكة بشكلٍ مقزز، ترمي النيران في قلب «غِنى» حتى تترك «مُـهاب»، ولكن صوتًا آخر قاطعها وهو يولج لتلك الغرفة التي تجمع المعلمات:
_وهو «مُـهاب» مش سيد الرجالة ولا إيه يا عسل أنتِ، مابلاش لأحسن أنتِ بتخافي منه أصلًا ولو وصله الكلام ده هيزعلك.
اجابتها الأخرى بسخرية وهي تضرب كف على الآخر:
_ومين هيوصله يعني يا «مـروة»، أنا بنصح صحبتي اللي شايلة الهم دي من صغرها كدا.
_أنا اللي هوصله ياقلبي، وماشاء الله على اللي بتنصح، ملكيش دعوة، طلعي عينك بس منها وهي والله هتسلك كدا زي الحلاوة.
ردت عليها «مروة» هذه المرة بينما تلقي بكلماتها الظاهرة كما وضوح الشمس في معانيها لتلك الحاقدة التي ترغب بسرقة ما ليس لها.
هنا تدخلت «غِنى» بقولها بتنهيدة وهي تنظر لهما:
_ماخلاص يا حلوين، أنا كبيرة على فكرة وعارفة مصلحتي مع مين، وعارفة أمتى أكمل وأمتى اسيبه.
ابتسمت لها «مروة» بانتصار، ثم وجهت بصرها للأخرى بشماتة واضحة، حتى غادرتهما وجلست «مروة» جوار صديقتها بتنهيدة:
_فكك من الصفرا دي، وبعدين قولتلك مليون مرة متحكيش مشاكلك قدامها، دي ما بتصدق تصطاد عشان أنتِ عارفة إنها عينها من «مُـهاب»، متسبيش لحد فرصة يا«غِنى» ومتضيعيش من إيدك واحد بيحبك وبيعمل كتير عشانك ياصاحبتي.
طالعتها«غِنى» بتنهيدة كبيرة وأردفت بتنهيدة حارة تحمل الأسى:
_والله يا «مروة» أنا زهقت، مبقتش عارفة إحنا صح ولا غلط، كل يومين ماسكين في بعض أنا وهو والمفروض إننا خلاص هنتجوز، أنا شخصيًا مبقتش فاهماه ولا فاهمة نفسي، ولا عارفة مين فينا الصح ومين فينا الغلط، بس بحبه!
ربتت «مروة» على كتف صديقتها المقربة وهي تقول بمواساة لها:
_مش هقولك اللي بيحب حد بيبلعله الزلط عشان دي إهانة لنفسك، بس هقولك إن «مُـهاب» بيحبك وشاريكِ، والمشاكل دي عشان أنتِ وهو مش سايبين لبعض فرصة تقعدوا وتتعرفوا.
_ما أبويا مش عاوز «مُـهاب» يدخل ويخرج عشان ميتقالش دي اتخطبت وخطيبها كان علطول عندهم ولو جه حد تاني هيقول ده فيه راجل كان علطول هنا وعارف أسرار بيتهم، وكفاية كلمتين فالتلفون، وأنتِ عارفة التلفون لا بتشوفي فيه مشاعر اللي قدامك ولا طريقة كلامه حتى، ولا عاوزانا نخرج وناخد حماتي معانا في أي مطعم، أعمل إيه أنا تعبت.
هدرت بضيقٍ شديد، ضاق بها الحال وتوغل القهر لقلبها في بدايات خسارتها لحبيبها، أردفت «مروة» بكلماتها التي أتت في موعدها تمامًا:
_وهو ذنب «مُـهاب» إيه فـ كل ده؟ بيعمل اللي أبوكِ عايزوا عشان ميخسركيش، يبقى متمسك بيكِ وبيحبك، وإن كان على غيرته عليكِ فهو راجل وأنتِ عارفة مُهاب وطباعه عاملة إزاي، وعرفاه أكتر واحدة يعني، متسيبيش لحد فرصة يبعدكم.
مسحت الأخرى وجهها بقوة وأردفت بضيقٍ شديد:
_الفرق بينك وبينها -الصفراـ إنها بتفضل تذم فيه وأنتِ بتفضلي تكبريه في عيني!
_بس ياحبيبتي أنتِ مش محتاجة حد يكبره في عينك، لازم يكون كبير لوحده!
قالتها «مروة» وتحركت من مكانها تودعها:
_يلا عشان عندنا حصص ونبقى نرغي بعدين.
********
_الحق أبوك يا «مُـهاب» مرمي في السكة!
نطق بها شخص من معارفه في الحارة ليجعله يترك كل ما بيده ويفر على الدراجة النارية خاصته للمكان الذي وصفه له ذلك الرجل، لا يعيي كيف يقود ولا حتى أنه كاد ينقلب عدة مرات.
وصل لهناك ليجد والده ثملًا وجواره ثلاثة رجال يحاولون افاقته، اقترب منه سريعًا وسانده بتنهيدة كبيرة ولكن الغضب داخله يأكل بصدره وينهش به كحيوانٍ ضاري، غاضب على هذا الحال الذي يصل لها والده كثيرًا فيتصلون به ليأتي له.
_معلش يابني، متقل عليك ومشيلك هم أبوك اللي المفروض يشيل هو همك، معلـش، دُنيا يابني دُنيا..
قالها والده وهو لا يعي بماذا يتفوه، بينما هو تنهد بثقلٍ على هذا الحال، وأردف:
_متقولش كدا أنا اديك عيني لو عاوز يا بابا، ربنا يتولانا ياحاج.
أسنده يجلسه على صخرة كبيرة في جانب الطريق، ورفع هاتفه يتحدث مع رفيقه بحزمٍ:
_ولا هات «مالك» وتعالالي عشان محتاج حد معايا عالموتسيكل لمشوار مهم وحد يركب مع أبويا التوكتوك لحد البيت.
وصف له المكان ثم توجه هو يجلس جوار والده ويطالعه بتأنيب، بينما الثاني كان يتحاشى نظراته بخزي كبير:
_حاسس بإيه يابابا، نروح المستشفى؟
هز والده رأسه بنفي ليردف «مُـهاب» بإصرار وجمودٍ:
_أول ما تروح خد دش ونام، و«هاجر» لو قربتلها يابابا هنزعل، خلينا ممشين حالنا وسلكانين، أمي تعبانة نفسيًا وجابت آخرها ومش عايزة تسيبك عشان أنت مسيبتهاش في عز ماكانت محتجاك.
_وأنت عندك إستعداد تسيب أبوك؟
سؤال لم يكن بمحله هذه المرة وهو خارجًا صريحًا بتلك الدرجة، جعل من عقل ابنه يتأرجح بين الصدق والكذب، ولكنه لم يتفوه سوى بالصدق بتنهيدة:
_مقدرش، أنت أبويا.
تهرب من نظرات والده الآسفة، حتى لمح صديقيه وصلا وأخذ واحدًا منهم والده ثم تحرك هو رفقةً «مالك» على الدراجة.
_رايحين فين؟
سأل «مالك» ليجيب هو بحدة:
_رايحين «لشِحتة».
توسعت حدقتي «مالك» وهو يردد الاسم ثم يسأل بفضولٍ:
_«شِحتة»، أنت هتضرب حشيش ولا إيه؟
_هضربك أنت لو مخرستش وسيبتني أركز في الطريق.
رمى كلماته بحدة ليصمت صديقه حانقًا، وعلى نفس الطريق كان يقود ذلك صاحب السيارة الغالية التي كانت تسير بصعوبة في هذا الطريق الوعر مما جعله يزيد من سرعته حتى ينجز الوقت.
_يا ماما الطريق كله مطبات وانا قولت لـبابا بلاش أنا أروح المشوار ده بس هو مصمم، يعني كدا الفلوس في الحفظ أوي بأني امشي في الحارة أودي فلوس لواحد!
قالها «زين» بتأفف وهو يحاول أن يتجنب تلك المطبات الموجودة في طريقه سواء كانت الحديثة منها أو القديمة، كان يضع بإذنه السماعات ويتحدث مع والدته بالهاتف.
استمع لحديثها المواسي له:
"معلش ياحبيبي، بس هي الفلوس مهمة للراجل ده وباباك مكنش هيعرف يروح يديهاله بنفسه، أنت عارف الدنيا يعني يا «زين»
تحدث الآخر بحنقٍ وهو يزيد أكثر من سرعته:
"آه طبعًا طبعًا، anyway أنا هقفل عشان أركز، يلا ياحبيبتي see you"
ودعته هي الأخرى بينما هو انشغل بتشغيل الأغاني بسيارته وغفل عن المطبات التي تظهر له فجأة ومع زيادة سرعة سيارته انقلبت السيارة في الطريق ليصطدم رأسه بالمقود أمامه وينزف الدماء التي خرجت من السيارة.
بعد دقائق من حادثه وعندما شعر بالوعي مجددًا والإفاقة من صدمته حاول الخروج منها وهو يحاول فتح بابها ولكنها أبت أن تفتح، ولحظه بأنه بطريقٍ مجهول لم يمر به شخص حتى الآن، يشعر بالدوار الشديد الذي يقتحم رأسه.
نظر حوله يبحث عن هاتفه وهو ينطق الشهادة على لسانه بثقلٍ، تمر عليه ذكرياته كلها مع حبيبة قلبه أمه ووالده وأخته، كل طفولته وشبابه أيضًا كأنه يودع الدنيا بأكملها، ولم يستطع الإتصال بأحدٍ بسبب فقدانه للوعي المفاجئ أو قد يكون ... موته!
تعليقات