رواية ابني ابنك
القصل الثاني2
بقلم امينة محمد
«صدفة»
في المدن الواسعة،
وفي الازقة الخالية، والأخرى المزدحمة،
حيث الجموع هنا من يعرف الآخر، ومن لا يعرف،
فربما صدفة واحدة تجمعنا قد تكون أفضل من أي ترتيب، صدفة تُغير مجرى الحياة بشكلٍ جذري؛ كأنها ريحٌ تعصف بمسار السفينة نحو وجهات جديدة.
لكل صدفة تدابير من الله، وكان مرور«مُـهاب» بدراجته النارية وخلفه صديقه لمشوارهما، هتف «مالك» بصدمة:
_الحق يالا ده فيه حادثة هنا!"
وقف سريعًا وهرولا ناحية السيارة وهما يحاولان إكتشاف من بها، تحدث «مالك» بقلق:
_حاول تفتح الباب من عندك، وأنا هفتحه من هنا ونشده
حاولا فتح أبواب السيارة ليخرجا المسكين ذلك الذي لا يعلمان إن كان على قيد الحياة أم لا، وبعد محاولات فُتح الباب من جهة «زين»، نبس«مُهاب» بزفيرٍ مرتاح:
_الحمدلله
جذبه هو و«مالك» وحاول «مُـهاب» جس نبضه إن كان حيًا أو ميتًا، ثم رفع بصره بسرعة لصديقه وهو يقول بتوتر ونبرة عاجلة:
_فيه نبض، ده عايش، شوف في عربيته إيه عشان ميتسرقش وهاته وهات تلفونه وانجز عشان ننقله المستشفى
وبالفعل ظل به ارضًا والدماء غطت ملابسه هو الآخر، بينما كان «زين» ذاهبًا في سباتٍ بين أحضانه بلا حول ولا قوة، أخرج «مالك» كل شيء من السيارة قد يكون مهمًا ووقعت يده على حقيبة النقود التي جعلت عينيه تلمع بطمعٍ، فكل البشر لديهم غريزة الطمع التي قد تعمي عيونهم والتي من الممكن أن يستيقظوا منها قبل فوات الأوان ثم وضعها على كتفه وأقترب نحو «مُـهاب» يسند رفقته ذلك الغريب عنهما إلى الدراجة حيث كان في منتصفهما يسنده «مالك» بجسده بشكلٍ جيد، قاد «مُـهاب» دراجته سريعًا نحو المستشفى لعلهما يكونا سبب بعودة الحياة له.
ولم تكن أقرب مستشفى له سوى واحدة خاصة وكبيرة، والتي عندما وصلوا عندها هرول الممرضين بالعربة الناقلة نحوهم لرؤية صاحب الدماء التي تسيل وفاقدًا للوعي، وساعدوهم بوضعه على العربة وتوجهوا به سريعًا للطوارئ.
وقف «مُـهاب» يطالع الدماء التي على قميصه بصدمة لقليلٍ من الوقت، كان بين يديه الآن شاب يصارع الموت ويطالب الحياة بأنفاسه الأخيرة فرصة أخرى
اقترب منه «مالك» وهو يهمس له بهدوء:
_هو أنت ملقتش غير المستشفى الخاصة دي؟
تنهد «مُـهاب» وهو يزفر بسخطٍ:
_ياعم إحنا مالنا، إحنا هنتصل بأهله نسلمهم الحاجة ونمشي وهما يتصرفوا يدفعوا يطلعوه هما أحرار!
أخرج «مالك» من الحقيبة التي معه الهاتف وهمس مجددًا «لمُهاب» الذي أمسك الهاتف يعبث به يحاول فتحه:
_ولا بقولك إيه، أنا جبت كل حاجة كانت في العربية وكان فيها شنطة فيها فلوس كتير أوي
_اممم وبعدين!
قالها «مُهاب» أثناء انشغاله بالهاتف في محاولة لاستكشاف أي شيء، ليجيبه صديقه بحنقٍ:
_وبعدين إيه، دول شوية وشويات ماتيجي ناخدهم ونقولهم ملقناش في العربية حاجة
رفع رأسه يطالعه بحاجبين مرفوعين وملامح تحولت لشكلٍ مخيف أكثر وهو يؤنبه بحدة:
_أنت عبيط يالا في دماغك، إحنا من أمتى بنسرق أصلًا، وبعدين إن مكنش حال جايبين معانا واحد شبه بيموت أو أصلًا ميت، يعني آخرتنا كلنا زيه يا أخويا.
طالعه الثاني بحنقٍ بالغ ولكن سريعًا ما استوعب عقله ما يحاول فعله، هو حقًا ليس بسارقٍ ولكن الطمع يعمي القلوب قبل العيون، صمت تمامًا بينما استطاع «حاتم» الوصول لمكالمات الطوارئ بالهاتف الحديث الذي بين يده، واتصل بأخر رقم تحدث معه «مالك» وانتظر إجابتها التي أتته:
_إيه يا «زين» ياحبيبي، وصلت الفلوس للراجل؟
همس بصوتٍ هادئ ليأتي على مسامعها دون فزع لها وهو يقول:
" أنا مش «زبن»، ابن حضرتك عربيته اتقلبت بيه وأنا نقلته للمستشفى .. ممكن بعد إذن...."
صمت بعدما أستمع لصراخها الذي وصله والولولة التي هبطت على مسامعه بشكلٍ متكرر وحاول التحدث ولكنه لم يفلح إلا بعد وقتٍ:
_ياست الكل ان شاء الله ابنك هيبقى كويس، احنا في مستشفى اسمها **، ممكن حضرتك تيجي عشان تستلمي حاجته عشان أنا ورايا مصالح وعايز أمشي!
_جاية حالًا .. حالًا..
قالتها من بين بكائها وأغلق هو الإتصال وهو يزفر بضيقٍ، وجلس على أقرب كرسي ومازال يطالع الدماء التي على ملابسه بنظراتٍ وجلة وفزعة لمنظرها، تعارك كثيرًا مع آخرين ورأى الدماء أمامه ولكن هذه المرة الأولى التي يراها تخرج من شاب بحادث سير بذلك الشكل المفزع، وكأن الحياة ترسل له رسالة تذكره دومًا بأنها فانية، يبدو أن هذا هو رد الله على ما يصيبه في حياته بمشاكله العائلية والعاطفية..
رفع بصره يطالع «مالك» بتيهٍ، الحالة المادية التي وصلوا لها هو ورفاقه جعلت من صديقه يفكر في سرقة أموال ليست لهم، الأيام لا تدعهم بل تنصب لهم فخٍ وراء الثاني ليقعوا به على غفلة من أمرهم، لم يجد نفسه سوى وهو يدعو الله بأن يُحسن من حالتهم من كل إتجاه.
مر ربع ساعة كاملة حتى وجد امرأة ورجل قد يكونا في عمر والديه يقتربان منه بفزعٍ شديد، وقف في مكانه يتابعهما حتى وقعت أنظاره على «سليمان» المتسائل بقلقٍ شديد يأكل قلبه:
_ابني «زين» فين؟ هو كويس؟
كان يسأل وهو يطالع الدماء التي على ملابسه ليومئ له «مُهاب» بنبرته الهادئة:
_هما الدكاترة خدوه جوا ياباشا، ان شاء الله يكون كويس ويقوم بالسلامة، العربية اتقلبت بيه في طريق **، يُفضل تبعت حد يشيلها وفيه أمانة معانا.
ثم سحب من يد «مالك» الحقيبة وأعطاها له بابتسامة خافتة:
_دي لقيناها فالعربية وإحنا بنطلع منها «زين»، وكل حاجة في الحفظ والصون، الحمدلله إننا كنا معديين ولحقناه!
تناولها منه «سليمان» بتنهيدة قوية وهو يربت على كتف «مُهاب» وتحدث بدوره بصوته الخافت:
_حقيقي متشكر جدًا ليك، وأنا حابب يعني لو مافيهاش إزعاج اراضيك أنت باين عليك ابن حلال و..
كان يفتح الحقيبة ليخرج منها النقود ولكن وضع «مُـهاب» يده فوق يد «سليمان» بقوله بجمودٍ مع ابتسامة بسيطة زينت ثغره:
_مافيش أي داعي لكل الكلام ده يا بيه، إحنا عملنا خير والخير بنعمله ونرميه في البحر.. شدة وتزول إن شاء الله..
كان آخر شيء فعله هو إلقاء ابتسامة لهما وغادر رفقة «مالك» لخارج المستشفى ثم لوجهتهما مجددًا.
بينما خرج الطبيب من الغرفة التي كان بها «زين» وهو يطالعهما بساؤله:
_مساء الخير.. حضراتكم أهله؟
أومأ له «سليمان» وهو يعرفه على نفسه قائلًا:
_أنا والده؛ «سليمان رشوان»، طمني عن حالته يا دكتور؟
_الحمدلله هو دلوقتي نقدر نقول إنه عدى الخطر ولحقتوه، كان محتاج نقل دم وبالفعل عملنا كدا، ومافيش أي كسور غير بعض الرضوض في دراعه فـ هيحتاج يعلقه لفترة كدا ان شاء الله، ويصحى بالسلامة ونشوف نعمله إشاعة تانية ونطمن على كل جسمه، تقدروا تشوفوه بس على طول عشان هو يعتبر لسه مش في وعيه
تحدث الطبيب بكل التفاصيل التي قد تفيدهما وهو يطمئنهما مع ابتسامة بشوشة، ثم غادر وولج كلًا من «سليمان» و«سامية» لابنهما الحبيب..
يقال أن العقل عندما يقع في ضغطٍ شديد؛ لا يُفكر بتاتًا..
وكان ذلك هو ما ينطبق عليهما عندما تركا حقيبة الأموال في الخارج على المقعد ودلفا بشكلٍ عجول، وللحظ السيء أنه كان هناك من يراقب الأوضاع، يراقبهما تحديدًا.. وكان نتيجته سرقة الحقيبة والاختفاء بها.
***********
لكل فعل رد فعل، فلا تلمني عن تصرفاتي التي كان سببها أنت!
مثير للشفقة ذلك الذي يرتدي لباس الضحية ويتقنه في محاولةٍ منه لإظهار بأنه مسكينٌ ضعيف، لا يستطع أخذ حقه بيده فيضع كل الملامة على من حوله، ثم يجعل الجميع يشفق عليه بوضعٍ مزري، وهكذا هو نجح!
ولكن الحقيقة أنه قلل من نفسه دون أن يعلم عقله المسكين الذي توقف وجعل من قلبه العاطفي أن يحركه.
لا تُظهر للناس ضعفك؛ فنقاط الضعف إن انقلبت ضدك، لن ترأف بك.
_«شِحــتة»!
هدر بها «مُـهاب» الذي وقف أمام ذلك المصنع المهجور الذي يتواجد به «شحتة» في هذه الأوقات لبيع المخدرات، خرج له الآخر وفي فمه سيجارة وهو يقول بضحكة عالية:
_«مُـهاب» ابن الغالي بنفسه، مش معقول والله.
_ماهو لازم يكون ابن الغالي، ما أنت عايش على قفاه يالا!
قالها «مُـهاب» بسخرية كبيرة وهو يلوي شفتيه، ثم تقدم أكثر من «شِحتة» يصافحه وأيضًا «مالك» الذي نبس ساخرًا:
_أنا لما قالي جايلك قولت ليكون هيحشش ولا حاجة!
طالعه «مُـهاب» شزرًا ثم أعاد بصره نحو «شِحتة» وهو يقول له بنبرته الواثقة مُخرجًا من جيبه علبة سجائره وأشعل واحدة:
_بص أنا جاي أعمل معاك إتفاق، قدامك حلين يا توافق يا ترفض، في الحل الأول لو وافقت أنا مش هعملك حاجة!
_ولو رفضت!
جس نبضه بسؤاله ليبتسم «مُـهاب» بتوسعٍ وبنظراتٍ مخيفة:
_مُفاجأة
وها هو يعلن عن مفاجأة قادمة، ولكنه عندما يقولها تكون كارثية بحق، أي أنه عندما يخطط لشيء ما قد يُهلك من أمامه يرمي له تلك الكلمة فقط حتى لا يتوقع الطرف الثاني ما الذي يُفكر به بعقله السام.
سأل «شِحتة» مجددًا مضيقًا عينيه قليلًا:
_طب عاوز إيه؟
_تنصب على أبويا، بدل ما هتديله مخدرات هتديله العلاج، أنت عارف إنه بيثق فيه أوي، هجبلك العلاج اللي المصحة هتقول عليه، هيجيلك ياخد منك الحشيش زي كل يوم بس هتديله العلاج بداله.
تحدث هذه المرة بجدية كبيرة جعلت من الذي أمامه ينصت له باهتمام، فحتى هو يعلم جيدًا من يكون «مُـهاب الجزار»!
ولكنه تفوه بإعتراضه المضحك بعض الشيء وجعل من «مالك» يقهقه عليه:
_أنا ببيع حشيش آه، بس حاشا لله أنا مش نصاب.
_ياحبيبي، معلش.. خليك المرة دي بس نصاب كمان، بس نصاب في الخير وان شاء الله شدة وتزول.
قالها وهو يضغط على كتف الآخر بيده الثقيلة كتهديدٍ ولكن غير مباشر، مما جعل الآخر يُبعد كتفه قليلًا بقوله بخفة:
_موافق طيب، وعمومًا يعني اللي «مُـهاب» عاوزه إحنا ننفذه يا سيدي، بس الموضوع ميضرنيش!
هكذا صرح في نهاية حديثه ليضع كل شيء عند حدوده في حديثهما مما جعل من «مُـهاب» يُلقي بكلماته وهو يلتفت ليغادر:
_لو نفذت اللي قولتلك عليه مافيش ضرر، ومتقلقش أنا مش غدار.
ثم ركب دراجته وأشار «لمالك» ليأتي خلفه هو الآخر، ولوح بيده «لشِحتة»مع ابتسامة خفيفة رسمها على ثغره:
_تشاو يا حبيب قلبي
وغادر من أمامه تاركًا الآخر يغلي في موضعه، لم يكن يعلم أن الأمور سترسى هكذا، وأن السفن التي يقودها ستأتي هواء عاتية تحركها كيفما تريد.
**********
الجروح جميعها تلتئم، إلا ذاك الجرح الذي أصابك من عزيزًا، أو بمعنى أوضح؛ من عائلتك.
استمعت لصفيرٍ تعرفه جيدًا، تحفظه عن ظهر قلب، التفتت تطالعه وهو يتحرك خلفها بينما هي متجهة نحو غرفتها:
_خير يا «فادي»؟
_خير يا«ماسة»، متأخرة ده كله برا ليه كدا؟
قالها وهو يقترب في خطواته لها أكثر، لتبتلع غصتها وهي تقول بحاجب مرفوع:
_وأنت مالك، متأخرة ولا لا حاجة متخصكش.
_«مــاسة»!
استمعت لصوت صراخ الآخر من خلف «فادي» لتعيد بصرها لذلك الصوت الذي تبغضه، صوت زوج أمها الذي تود أن ينتهي من هذه الحياة
أجابت بصوتٍ مهزوزٍ بعض الشيء، مع محاولاتها مرارًا وتكرارًا أن تكون أقوى أمامهم، بعينين قويتين لأنها صاحبة الحق هُنا.
استمعت لصوت الآخر المدعو «محمود» والد «فادي» اللزج:
_أنتِ بتتكلمي مع أخوكِ بالأسلوب ده ليه؟ مش قولتلك مية مرة تحترميه!
رفعت حاجبها وهي تقول بحدة:
_بس هو مش أخويا، ولا أنت أبويا عشان تكلمني بالأسلوب ده، محدش فيكم له علاقة بيا أصلًا اعتبروني عايشة في اوضتي بعيد عنكم وده اللي أنا عملاه أصلًا ومقربتش من حد فيكم.
لم تتلقى سوى صفعة، صفعة قوية من يد «محمود» هبطت على خدها على حين غفلة جعلت من جسدها يرتد للخلف قليلًا ومن قلبها يقف لثانية في مكانه ثم عاد ينبض، أنفاسها علت، وجسدها انتفض.
_أمك سمحتلي أكون هنا وأربيكِ، وأنا هنا عشان أربيكِ!
تلك لم تكن الصفعة الأولى منه، ولم تكن الإهانة الأولى، بل كان هناك الكثير والكثير خلفها، حاولت الهرب مرة فسمحت لهم والدتها بإعادتها ضربًا للمنزل!
والآن هي بين الخذلان والخوف،
الشعور بالأمان لا يحاوطها أبدًا.
كان لديها كامل الحق «وتين» عندما أخبرتها أن ذلك تعنيف أسري، ولكنها كذبتها لأنها تُكذب نفسها بالأساس!
هالة من اللاوعي أحاطتها وأحتلتها، والآن ليس الا الانفجار هو الحل الوحيد في هذه اللحظات المليئة بالاشتعال.
_أنا هوريكم على كل حاجة عملتوها معايا، من أولك أنت وابنك لكل واحد شارك في القسوة اللي بشوفها دي، بكرهكم.
صرخت بتلك الكلمات مما جعل والدتها تخرج مسرعة من غرفتها وهي تتسائل بفزعٍ:
_في إيه يا «ماسة»، بتزعقي كدا ليه؟
أتسأل حقًا لماذا تصرخ؟
ماذا عن الوجع المصحوب بالأنين المكتوم الذي يخرجه قلبها، ماذا عن الألم الذي تعانيه روحها المحتجزة الآن!
_ابعديهم عني، ابعدوا كلكم عني مش عايزة أشوف حد، ارحموني بقا!
نطقت بها بصوتها الذي اهتز في صراخها، مما جعل من «فادي» يمسكها من ذراعها بقوة:
_متصــوتيش كدا في وشـنا، ده أنتِ فعلًا مش محتــرمة!
لم تجد الردع من أمها،
خذلت للمرة التي لا تعرف عددها منها،
انتظرت ولم تجد منها أي حماية،
انتظرت ووجدت الخذلان يحاوطها!
جذبت نفسها من يد «فادي» وصفعته، صفعة تقابل الثانية، الأمور اشتعلت كما يجب أن تكون من ناحيتها، لتأخذ بثأرها من الأوغاد.
_حقير، وقح!
قالتها بوجه بإمتعاض وتحركت لغرفتها تغلق الباب عليها سريعًا، بينما التفت «فادي» يطالع والده بصدمة:
_عاجبك كدا، دي مش متربية و..
_«فــادي»!
قالتها أمها بتنبيه له، ولكنه لم يحترمها لأنه بالأساس لا يفعل، ونطق بوجهها بحنقٍ:
_ربي بنتك وبعدين اتكلمي، دي قلة أدب!
ثم تحرك من أمامها بينما هي طالعت زوجها الذي كان له نظرة تعرفها جيدًا، بمعنى أن الحق لم يعد لأصحابه، وأنه لن يصمت، فحاولت السيطرة على الوضع بقولها:
_ممكن تكون أعصابها تعبانة ويعني معلش عديها المرة دي!
أجابها بصرامة ثم غادر من أمامها:
_مش هعديها خالص يا «سلوى» خالص.
بينما هي طالعت أثره ثم وجهت بصرها نحو غرفة ابنتها بتنهيدة قوية حارة، بينما الأخرى بالداخل جلست على فراشها وبكت بحرقة، ليس لأجلهم، بل لأجل موقف أمها الضعيف أمام زوجها الذي تحبه، يقال أن مرآة الحب عمياء، ولكنها رأته بنفسها على أمها التي تتركهما يتعاملان معها بقسوة وتشاركهما، منذ أن كانت بالثامنة عشر حتى الآن، حتى وصلت الآن للثابث والعشرين.
وإلى أي مهرب تهرب،
وكان من المفترض أن يكون أمها،
ومن ذي الذي لن يخذلها،
وأتاها من أقرب الناس لها،
ومن سيتحمل صعوبات تقابلها،
والقريب لم يتحملها.
عقلها به ضجيج قوي،
مما جعلها تُمسكه بين يديها وتضربه عدة مرات حتى يكف عن تلك الأصوات الداخلية التي به،
تراها قوية، وبداخلها طفلة تود التحرر،
تراها مبتسمة، وخلف القناع حزن كبير!
***********
ما بين الحب والهوى وقعت،
وما بين الحنين والشوق سقطت
وفي الهوى هويت، وهوى الهوى على قلبي.
كانت تجلس رفقة والدها «متولي» على وجبة العشاء سويًا، ها هي عيشتهما التي كما يجب أن تكون، في منزلٍ بسيط وعائلة بسيطة مكونة منها هي ووالدها بعدما ماتت أمها منذ سنتين.
قررت هذه المرة أن تتحاور معه في هدوءٍ بالغ نظرًا لأن الأجواء الآن هادئة:
_بابا، كنت عاوزة أكلمك في حوار إن «مُـهاب» يجي يوم حتى فالأسبوع يقعد معايا ونتكلم وكدا ونتعرف على بعض.
طالعها بملامحه التي تحولت من الهدوء للحدة وهو يجيبها:
_قولت لا، أنتِ عارفة إجابتي عن الموضوع ده من زمان يا «غِنى»، مش هنكررها تاني!
_بس يا بابا «مُـهاب» مختلف، ابن حارتنا وعارفينه!
حاولت أن تتفوه بتلك الكلمات أمام والدها الذي تشعر بالخزي منه بسبب ماحدث مؤخرًا، ولكنه أجابها بصرامة وحدة قائلًا:
_«غِنى» أنا قــولت الموضوع ده إتـقفـل، مش هنعيد ونزيد في الحوار، وأنتِ عارفة ليه كويس!
تنهدت تنهيدة قوية حارة، مما جعل الذكريات تتقلب على بالها مجددًا، تلك الذكريات التي هي سجينة لها منذ زمن بعيد، لا تنساها أبدًا بل تأتيها في أحلامها.
تحركت بالاطباق بعدما انتهيا من تناول الطعام وتوجهت للمطبخ لتغسلهم، ووقفت هي وذكرياتها سويًا يحاربان بعضهما.
تعرضت للكثير من التنمر في صغرها مما جعل شخصيتها تضعف عندما يذكرها أحد بشيء، تشعر وكأنها تنتظر رأي الجميع حتى تكون راضية على نفسها بسبب إنعدام ثقتها بنفسها من تلك المدرسة التي كانت بها وهي صغيرة تحتوي على أطفال أصحاب سمعة سيئة!
وما ذنبه الحبيب في كل تلك الأمور؟
لذلك السبب هي تشعر بالتوتر عندما يكون معها، لأنها لم تعتاد عليه حتى الآن برغم الحب الذي بقلبها تجاهه، ولأنها تشعر بأنه يستحق الأفضل منها بمراحل، فهي مذبذبة القرارات، ضعيفة الشخصية، تخاف الجميع!
*********
كان جالسًا في ورشته لا يفكر في شيء سوى العمل، والده، أمه، حبيبته، الحياة!
إذًا بماذا لا يفكر؟
لا يعلم ولكن كل شيء موضوعٍ على عاتقيه دون رأفة.
وصله إتصال على هاتفه فأخرجه من جيبه يجيب بهدوء:
_الو.. مين معايا؟
_الفلوس اللي سرقتها ترجعها النهاردة أنت فاهم!
أتاه نبرة صوت قوية تخبره أنه سرق نقودٍ ما!
لذلك كانت إجابته تحتوي على الاستغراب والتعجب من ذاك الذي يهدده:
_مين معايا؟ وفلوس إيه اللي سرقتها!
_النص مليون اللي سرقتهم الصبح يا «مُـهاب»، وإلا قول على أحبابك يا رحمن يا رحيم، كلهم، أمك، أبوك، السنيورة، صحابك!
قالها بتهديدٍ صريح، ثم أكمل حديثه:
_ومعاك اللي هيعلم عليك، سلام!
أغلق بوجهه وتركه مكانه متسمرًا لا يقدر على الحركة، تركه لا يعرف كيف يفكر ويتصرف!
ولكن الحل واحد ووحيد!
******
على الجانب الآخر كان يجلس رفقة عائلته بعدما فاق من غيبوبته تلك، وتجلس جواره أمه تربت على كتفه بحنانٍ.
وسؤالٌ واحد طُرح عليها من «سليمان» الذي قال بجفلة:
_الفلوس فين يا «سامية»؟
_فلوس؟ ما أنا سيبتهالك
قالتها هي باستعجاب، ليزيد من صدمته التي تحولت لغضبٍ سريعًا، وتوسعت عينيّ كلًا من «وتين» و«زين» بصدمة.
وكانت الإجابة عندما فُتح باب الغرفة وولج «مُـهاب» على حين غفلة بمظهره الغاضب يُعلن إشارة الخطر وهو يقول بحدة:
_في إيه يا باشا، فلوس إيه اللي سرقتها وأنا مسلمهالك بكرا، هو أي تلفيق المصايب دي!
طالعه «زين» بحدة وهو يقول بنبرة عالية بعض الشيء:
_انت إزاي تتكلم بالأسلوب ده مع «سليمان رشوان»؟
طالعه «مُـهاب» من أعلاه لأسفله شزرًا وحانقًا، ثم تشدق بقوله:
_اركن أنت في جنب، شدتك كبيرة وشكلها مش هتزول، إنما أنا شدتي إني طلعت حرامي، ودي بالذات لازم تزول وإلا متعرفوش مين «مُـهاب الجزار»!
تدّخل «سليمان» بحدة كبيرة وهو يوقفه عند حده بكلماته:
_مش يمكن أنت فعلًا سرقتها وجاي تعمل علينا الحوار ده عشان منشكش فيك، أصل الفلوس فعلًا مش معانا!
_آه، مش معانا بقى والكلام ده مش عليا، لا ده أنا صايع وصايع أوي كمان، أنا سلمتك الفلوس الصبح وغورت من وشك، يارتني سيبت ابنك سايح في دمه ومشيت!
هدر هو الآخر ولم يخف من شخص، وأتاه الرد من تلك السيدة الجالسة جوار ابنها:
_بعد الشر عنه، أنت شكلك بيقول إنك غلط في غلط أصلًا وأكيد أنت اللي سرقتها بدخلتك الهمجية دي!
طالعها ثم طالع «زين» وهو يقول بحدة:
_مبردش على ستات بصراحة خصوصًا لو في سن أمي، قولتلك اركن وركن المرة دي أمك معاك!
_أمك؟
نبس بها «زين» بإمتعاض لتلك الكلمة البيئة التي تفوه بها «مُـهاب»، وما كاد يتحدث مجددًا بشخصيته الأخرى الحادة إلا أن صوت هاتف والده وهاتف «مُـهاب» صدحا سويًا وأجابا في نفس الوقت، وكان هو نفس الصوت الذي يتحدث من هاتفين معًا يقول بسخرية:
_تؤ تؤ تؤ، فكرتكم أعقل من كدا ومش هتشكوا في بعض، الفلوس في الحفظ والصون معايا، عايزينها يبقى تنفذوا اللي هقوله بالحرف...