الفصل الخامس والعشرون25
بقلم امينة محمد
«ظلال الآلام»
كل ما فيك يتحوّل إلى صمت، إلى دهشة، إلى صراع بين تصديق ما ترى، وإنكار ما تشعر. وتجلس في أوج وحدتك، تبحث في ذاكرتك عن أول خيطٍ لهذا الانهيار، فتكتشف أن الحبّ أحيانًا يعمي البصيرة، ويغشي على القلب حتى لا يرى علامات الخذلان قادمةً من بعيد.
يظلّ الألم متربصًا، لا يغادر، يذكّرك في كل لحظةٍ بأنك منحت قلبك لمن لم يكن أهلًا له، وتعلم في صميمك أن جراح الروح أعمق من أن تلتئم، وأن هذا الخذلان سيبقى ندبةً دائمة، درسًا من دروس الحياة، بأن الحب يجب أن يراقب العقل، وأن لا يُهدي الإنسان كلَّ شيء لمن قد لا يعطيه شيئًا
في تلك اللحظة الثقيلة، ساد الصمت وكأنما العالم كله انكمش ليتنفس ببطءٍ أمام الكلمات التي بقت عالقة في هواء الغرفة، وحينما تكلم «مُـهاب»، خرج صوته مبحوحًا بنغمةٍ محملة بالخذلان، وكأنه يجرّ معه كل ذرات الألم التي ارتسمت على ملامحه المتصلبة:
_طيب أهدي، أنا مقدر جدًا صدمتك وإنك مش متقبلة ده، ولا قادرة تتقبليه.
ثم طالع «زين» وقال بسخرية ملؤها الحسرة:
_قولتلك ندفن السر ولا كأننا عرفنا حاجة..
بدا تائهًا للحظة، وتلك الحيرة كساها دفء لمسة «هاجر»، التي امتدت نحو يده المرتجفة، صابغة وجهها بنظرة أمومةٍ مشبعة بالألم.
تنهدت وهي تنظر إليه بعينيها العطوفين كمن يروي جرحًا عمره سنوات:
_معلش يابني، دي مافيش أصعب منها على قلب أم شالت ورضعت وربت وتعبت لحد ما كبرت رجالة زيكم، معلش ياحبيبي..
اقترب «زين» بنبرة متعبة، تتسلل منها حسرةٌ وشغفٌ دفين بمعرفة الحقيقة:
_بس أنا عاوز الحقيقة تبان وكل واحد يعرف مين أهله الحقيقين، أنتِ مصدقة صح!
ابتسمت «هاجر» بخفةٍ، لكنها ابتسامة امتزجت بدموعٍ لم تستطع منعها، ومسحت دموعها بهدوء:
_ابني عمره ما كدب عليا في حاجة، ولو الكلام ده خايب وفيه كدب مكنش جابني لحد هنا عشان يقوله، وأنت ابني.. برضو عمرك ما هتكدب عليا في حاجة!
حينها اقترب منها وكأنما يسعى إلى حضنها كطفلٍ يريد التأكيد وكان بترددٍ خوفًا من رفضه، لم تتردد في استقباله ليختبئ بين ذراعيها، ملتحمًا بها في بؤسٍ وحنينٍ عميق، تمتمت بصوتٍ مرتجف:
_لما شوفتك معاه قولتلك حاسة إني أعرفك من سنين، واحساسي ميخيبنيش يا ضنايا!
بينما الآخر وقف بنظرة تحمل الهدوء، لكن بريق عينيه فضح اضطرابًا دفينًا، كمن يحترق بصمتٍ بينما يتظاهر بالثبات، تلك العينان اللتان طالما اعتادتا على الرفض، ترتجفان الآن بألمٍ لا يُحكى.
حاول جاهدًا ألّا ينظر إليها مجددًا، تلك التي انتظر منها قبولًا لم يأتِ، أحس كأنها عاصفة انسلّت بهدوءٍ، تاركة وراءها الدمار، وانسحبت من المكان دون أن تلتفت.
اكتفى بإلقاء نظراته على «هاجر» التي احتضنت «زين» بين ذراعيها، كأمٍ تفتح صدرها ليبتلع وجعه بالكامل.
كور يديه وكأنه يعبر عن صمته الآن بدلًا من الانفجار باكيًا، وفي خضم انكساره، شعر بيدٍ ناعمة تُطبق على كفه المتوتر، لمسة دافئة تسللت كنسيم الفجر، تحاول أن تُزيل عنه ثقل الانفجار الصامت.
رفع بصره ببطء ليقابلها بعينيها التي كانت تشبهان عيناه، وملامح كأنها مرآة لما يحمله داخله من ألمٍ وضياع؛ "أخته" التي لم يكن يعلم بوجودها، لكنها الآن صارت كالملاذ، تُعيد إليه تلك القطعة الناقصة من روحه.
لطالما تمنى في صمتٍ عميق لم يجرؤ على البوح به حتى لنفسه، لو كانت له أخت تلملم شتات قلبه المنكسر، تضمّه حين تتكسر الأمواج عليه، حين ينهار تحت ثقل أوجاعه.
هو الذي عاش متشبثًا بدفء أمٍّ تعانقه، الآن يُسلم نفسه لمشاعر جديدة، كمبحرٍ ضاع عنه الميناء، لكن الأقدار خبأت له نجاةً غير متوقعة هنا
عينان تنظران إليه بحبٍّ، يد لم تفلت يده، دفء لملمته هذه اللحظة، وكأن الله أراد أن يُعيد تشكيله مجددًا، أن يهبه بما تمنى ولم يكن ليتخيل بأن يرزق به بعقله المسكين، وها هو الآن يجد فيها سندًا لم يكن يعلمه، لكنه كان دائمًا ينتظره.
همست بصوتٍ متهدج، كأن الكلمات تتكسر في حلقها قبل أن تصل إليه، ودموعها تسيل من عينيها بحرقةٍ خفية، كنهرٍ يجرف معه قهر السنين المكبوتة:
_متزعلش من ماما، هي الصدمة صعبة عليها لأنها متعلقة أوي بـ «زين»، حقك عليا.
كانت نظراتها تعبر عن ألمٍ دفينٍ، كأنما يحمل بريق عينيها كُل ما يثقل قلبها من أحزان.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مترددة، كخيطٍ هش من نورٍ يشق طريقه وسط ظلامٍ دامس، وبدت في عينيه لمعة دافئة، كأنما المشاعر الحنونة تسللت إلى قلبه بحذرٍ تلامس جراحه بلطف.
تردد صوته كأنه يختبر قوة تلك الكلمات قبل أن يخرجها، ناعمةً، مشبعةً بالحنين:
_لو حقك عليا دي حاجة ملموسة بتداوي الجروح مكنتش هتداويني بالشكل ده دلوقتي..
ارتبكت هي الأخرى كأنما تواجه غريبًا تعرفه جيدًا، غريبًا يحمل ملامحًا ليست بغريبة تمامًا عنها، لم يكن كالشخص الذي ألفت حضوره طيلة حياتها، لكنه في النهاية دم من دمها، أخٌ ورفيق في الوحدة التي ستجمعهما هنا دون مقدمات.
مشاعر مضطربة ومتناقضة كانت تحيط بهما، كدوامة تجذبهما للغوص أعمق، لكن لم تجرؤ على الاقتراب لتحتضنه، ولم يمد هو يده ليطلب ذلك.
كانت يداها ترتعشان لكنها تماسكت وأبقت كفيها متشابكتين مع كفيه بحزم، كأنها تُثبت له في صمتٍ أنها لن تتركه، لن تسمح له بالشعور بالوحدة مهما كانت الجدران بينهما عالية، نظرتهما المتلاقية حملت وعدًا غير منطوق، كأنما بريق عينيها يقول له: "لست وحدك بعد الآن."
ولكن كيف وتلك التي من المفترض أن تكون أحن عليه من رمش عينه رفضته وتركتهم وغادرت المكان بأكمله!
خذلته...
بعثرت ما تبقى من روحه كأطيافٍ هشة في مهب الريح، مزقت بقايا قلبه الذي كان يتشبث بآخر خيوط الأمل.
جعلته يدرك أنه منبوذ في حضن الحياة، حتى من أمه الحقيقية التي ظنها يومًا ملاذه الأخير وملجأه الآمن.
*****
بينما في الأعلى، جلست على الأرض جوار الفراش، والدموع تتساقط من عينيها كالشلالات، تتناثر على وجنتيها، كل واحدة منها تحمل ألمًا أعمق من سابقتها.
كان قلبها يتقطع كأنما قد تمزق إلى أشلاء، وهي تجلس هناك عاجزة عن ضم ابنها الحقيقي بين يديها
تذكرت تلك اللحظة التي كانت تراقب فيها «زين» وهو في السادسة من عمره، حينما أصيب بعلة صحية مفاجئة كادت أن تودّي بحياته، كانت حينها تملك صديقة تعمل كطبيبة في المستشفى، تلك التي جعلتها تجرِي تحاليل شاملة للصغير، وكان من ضمنها فصيلة دمه، التي جاء الخبر منها كالصاعقة، والتي كان مختلفًا تمامًا، لا يتماشى معها أو «سليمان»، شيءٌ كان من المستحيل أن يتماثل.
_فصيلة دمك +A والأستاذ «سليمان» +O، استحالة يكون طفلكم +B..
تذكرت كلمات الطبيبة وكأنها سكين غُرس في قلبها، تلك الكلمات التي كانت بمثابة الضربة القاسية التي فتحت أمامها بابًا من الألم لا يُغلق.
ارتعشت شفتاها وأصابتها رجفة شديدة جعلت كل شيء من حولها يتلاشى لحظة، وكأنها غارقة في بحر من الصمت والصدمة.
تذكرت كيف كان الخوف يتسلل إلى أعماقها، وكيف كان قلبها ينفطر على الحقيقة التي عجزت عن مواجهتها، لو خرج هذا السر إلى العلن، لقالوا عنها خائنة، رغم أنها لم تكن كذلك.
ماذا لو اكتشف الجميع؟ ماذا لو علموا أنها لم تكن أمًا حقيقية له؟ كان هذا الخوف يطاردها. لكنها قررت أن تدفن السر بداخلها، وتستمر في حب هذا الطفل وكأنه ابنها، لأنها تعلقت به بشكلٍ كبير ولم يكن الدم هو ما سيميزه كونه ابنها بيولوجيًا، كان قلبها قد أخذ على عاتقه أن يحتضنه كأنه هو الذي أنجبته، وكل لحظة كانت تعيشها معه كانت بمثابة تعبير عن حبٍ غير محدود.
الآن ظهرت الحقيقة كاملة أمامها، كانوا يسلبون منها الطفل الذي أحبت، الذي رعته كما لو كان من لحمها ودمها، ورغم أنها كانت تعرف أنه ليس ابنها البيولوجي، إلا أن قلبها ظل يرفض أن يعامله بأي شكل مختلف.
*******
على الجانب الآخر وفي ذلك البيت الذي ضجت فيه الخيانة بين أفراد العائلة جميعهم، كل منهم حمل الأذى النفسي لتلك البريئة التي لم يكن لها ذنب في أي شيء..
بأي ذنب حملت أعباء أيام قاسية؟
بأي ذنب سُحقت نفسيًا؟
بأي ذنب جُلدت وحملت في قلبها آلام!
بأي ذنب سقطت في بحور الحزن العميقة؟
بأي ذنب دفنت أحلامها في التراب؟
بأي ذنب سلبتها الحياة ابتسامتها؟
بأي ذنب بقيت وحيدة وسط الزحام؟
بأي ذنب ذاقت مرارة الفقد والألم؟
بأي ذنب شُدت نحو الألم، دون رحمة؟
كانت تلك السيدة التي لم تعرف يومًا معنى الأمومة، لم يحمل قلبها سوى حب الذات، فأطفأت مشاعرها تجاه ابنتها في ظل شغفها بحياتها الخاصة.
تركت زمام الأمور لزوجها، الذي حمل عبء تربية ابنتهما وحده، عسى أن تُقدّر الحياة اختياراتها.
وبعدما رحل لم تجد في قلبها مكانًا لتعويض ابنتها عن فقدان والدها، بل اختارت أن تلتفت إلى نفسها فقط؛ تزوجت من "محمود"، وبدت كأنها تغرق في بحر من الأنانية، غارقة في تفاصيل حياتها الجديدة، تاركة خلفها طفلة تبحث عن أمل، وعينين تشتاقان لمسة حنان كانت تفتقدها.
كانت «سلوى» تجلس على الكرسي الخشبي في غرفة الجلوس، عينيها مليئتان بالتساؤلات والشكوك، أما «محمود» فقد دخل فجأة، وجهه يكسوه العبوس وكأن الدهر قد رماه بأثقاله.
خطواته ثقيلة، وكأن كل خطوة تسحب من روحه جزءًا من الضمير، اقترب منها بسرعة، وفي عينيه بريق غريب، قائلاً:
_امضي!
_إيه ده؟
جذبت الأوراق تقرأها وبدأت الصدمة تعتلي وجهها وهي تنبس:
_إيه الهبل ده!
_إمضي يا سلوى، الموضوع بسيط. عايزك تمضي على الورقة دي، وخلاص، هتسيبي كل حاجة ليا.
نبس بشرٍ ملىء صدره ونبرته، هزت «سلوى» رأسها، وزمّت شفتيها بغضب رافعة حاجبيها، ثم ردت بصوت مرتفع، يعلو في الغرفة كالموج:
_إيه اللي بتقوله ده؟ هو إحنا وصلنا للدرجة دي؟
استدارت تجاهه، وجعلت ملامح وجهها تتجمد، كأنها تحاول أن تفرز الكذب من بين كلماته.
_وصلت لدرجة إنك تمضيني على بيع كل أملاكي ليك، ليه يعني؟
كأن الصوت الذي خرج منها كان صرخة رعب في وجه الحقيقة، تنبثق من أعماق نفسها كما تنبثق الشمس من بين الغيوم.
تجاهل «محمود» تحدّي نظرتها، وبدلاً من أن يعترف،
تمادى في استعلائه:
_بلاش كلام فاضي! إمضي وخلاص، مفيش وقت!
قالها وهو يرفع يده بالأوراق كما لو كان يحاول طرد الظلال التي تتسلل إلى روحه.
لكن سلوى كانت قد اتخذت قرارًا، قرارًا لا رجعة فيه ألا وهو جعله ينبس بالحقيقة كاملة، تحركت من أمامه لتغادر المكان ولكن بداخلها نيّة ثانية مخادعة له كما خدعها هو لسنينٍ طوال، ولكنه جذبها من ذراعها صارخًا:
_على فين، أنا مش هسيبك غير لما تمضي!
صرخت بوجهه ساخرة بقولها:
_ليه هتعمل إيه، هتحبسني فالاوضة تاني ولا هتقولي مافيش خروج خالص برا البيت، اتفلق أنت وكل حاجة هنا أنا مش همضي، عاوز تعمل معايا زي ما عملت مع «عزام» الله يرحمه!
صمت في البداية وكأنه يحاول أن يخبئ الحقيقة وراء جدار من الأكاذيب المتناثرة، ولكن مع وقع كلماتها بدأ يضيق عليه الخناق فصرخ بصوت:
_يعني هو ده اللي عاوزة تسمعيه، آه هعمل معاكِ زي ما عملت مع «عزام» وهخلص عليكِ بعديه، هتمضي بالذوق أو بالعافية هتمضي، مش كفاية اللي بنتك لهفته من وراه، هو كان يستاهل الموت بالطريقـة اللي أنا خططتها، استكتر عليا رزق ونال جزاته..
كانت قد قررت أن تجرّ الحقيقة من أعماقه، ردت بكلماتها التي كانت كالرياح العاتية:
_تقوم تديله جرعة زايدة!
_مكتُوبله يموت كدا، وعمره انتهى!
قالها بسخرية ونبرة محملة بشرٍ لا يمكن اخفاؤه، عينيه تلتمعان كخنجرين مسمومين..
_خلينا متفقين إن أنا وأنتِ كان بينا مشاعر وقت ما هو كان عايش، يعني أنا انقذتك منه لو كان عرف إنك خاينة، وانقذتك من نفسك!
ضحكت «سلوى» ضحكة مريرة مليئة بالسخرية والخذلان، ثم قالت له:
_هتدعي إنك كنت بتحاول تنقذني؟! أنتَ مجرد حرامي كدب عليا وعيشني في وهم، وأنتَ أكتر شخص أعمى عن الحقيقة، أعمى عن قلبك، أنت وابنك اللي وصلتوا بنتي للادمان، ودمرتوها!
كانت كلماتها كالرماح التي اخترقت صمته، وبدون أن يقول شيئًا، كان يرى نفسه يغرق في الحفرة التي حفرها بيديه.
كانت تسجل كل كلمة، وكل حرف، كانت تراه يتحدث وكأن العاصفة التي كانت بداخله قد خرجت أخيرًا، ولكنها لم ترق لها كلماته، فهي تراه الآن بعد كل ما فعله شخصًا لا يستحق أي رحمة.
في الزمان الذي تلاشت فيه المشاعر، واندثرت الأحلام تحت وطأة الأيام، أصبح كل شيء بلا طعم ولا لون، كما لو أن الزمن نفسه قد فقد معناه.
في المكان الذي تكدست فيه الخيبات صار الهواء ثقيلًا، لا يُسمع فيه سوى صدى الوعود التي تبخرت، وأصداء الوجوه التي تلاشت من الذاكرة.
كل شيء يتحطم كزجاجة مكسورة في عاصفة من اللامبالاة. لا شيء يعود كما كان، فقط الحزن يتسرب ببطء إلى عروقها، يلتف حول قلبها ويغرقها في ظلامه.
*********
في الأمسيات حيث يلتقي الليل بالنهار في سكونٍ مهيب، باتت الهمسات تتناغم مع نسيم الهواء، وكأن الزمن نفسه قد قرر أن يوقف عجلة الحياة لبرهة، ويستسلم للموت البطيء للضوضاء اليومية.
كان السكون يلف الأجواء، لكن في أعماق قلوبهما كانت الضجة تتسرب، كأمواج عاتية تحت سطح بحر هادئ، لا يُسمع صوتها، لكن أثرها في الأعماق لا يُخطئه أحد.
في تلك اللحظات كانت الأرواح تغرق في متاهات من أفكارٍ لا تنتهي، متصارعة بين الماضي الذي يمزقها والمستقبل الذي يخيفها، وبين الحاضر الذي يهرب منها دون أن تقدر على الإمساك به، كل واحد منهم كان يحاول أن يرتدي سكون الليل في وجهه، ليخفي عن الآخرين فوضى الروح، تلك الفوضى التي لا تُفهم ولا يُفسرها شيء سوى الصمت الثقيل الذي يحيط بهم.
كانت كل نفسٍ تنفث داخله سحابة من الحيرة، وأصبحت أيديهما تبحث عن شيء غير موجود، كأنهم كانوا يلوحون في بحرٍ بلا شاطئ.
الأمسيات كانت هادئة، ولكن القلوب كانت صاخبة بالألم، مملوءة بالأحزان التي لا تنتهي، والندم الذي لا يكاد يهدأ؛ ضجيج داخلي يزاحم السكون الخارجي، فيصنع مشهدًا من التناقض العجيب، كما لو أن الكون نفسه قد قرر أن يلبس عباءة الصمت، ولكن في جوفه يصرخ من هول ما لا يُقال.
جلست «مروة» بجوار «مالك» في الشرفة، حيث النسيم العليل كان يداعب وجهها برفقٍ شديد، وتغيب عيناهما في الأفق البعيد، وكأن كل منهما يبحث عن مخرج من أسر الهموم التي أغلقت عليهما الطريق.
بينما هي كان وجهها غارق في بحور من الحزن، ثم بدأت الدموع تنساب دون رغبتها؛ فبدأت تبكي في صمت، دموعها تنزل وكأنها قطرات من مطر ثقيل، كل واحدةٍ منها تحمل معها أثقالاً من الألم.
نظر إليها برفق، قلبه ينفطر لرؤيتها هكذا ولكنه حاول أن يخفف عنها بطريقته الخاصة، مد يده إلى يدها، ثم قال بصوت هادئ:
_مروة، متفضليش حاطة نفسك دايمًا في الحزن ده، ده قضاء الله اللي منقدرش نعترض عليه، مافيش في ايدنا حاجة نعملها إلا وعملناها، خلاص إحنا راضيين الحمدلله!
صمت لثوانٍ وكأن هنالك فكرة قفزت لعقله ليردف:
_إحنا مش لوحدنا، في أطفال تانيين مش لاقيين حد يديهم الأمان والحب، وفي ناس زيّنا ممكن يبقوا أمهات وآباء ليهم، مش لازم تكوني أم بدمك علشان تحبي طفل..
رفعت رأسها ببطء ونظرت إلى وجهه بحزن عميق، وأجابته بصوت متقطع كما لو أن الكلمات تقاتل للخروج:
_عارفة... بس مش قادرة أستوعب... يعني ليه إحنا؟ ليه أنا؟ ليه مافيش فرصة؟
_لا حول ولا قوة الا بالله، استغفري ربك يا «مروة»، وأهدي كدا بلاش كلام زي ده يزعل ربنا منك!
استغفرت ربها بصوتها الذي كان يرتجف، وعيناها تلمعان بالدموع، كأنها تتحدث عن شيء أكبر من مجرد فقدانها للقدرة على الإنجاب، كانت تتحدث عن حلم ضاع في متاهات الأمل الضائع، وتخشى أن يكون واقعها قد سلب منها كل الفرص.
صوب عينيه بداخل عينيها تحديدًا، وزفر عميقًا قبل أن يجيب بلطف:
_«مروة» ربنا مابيديش حاجة لحد إلا وفيه حكمته، وبرضو مبياخدش حاجة إلا بحكمة، الأطفال دول محتاجين ناس زيّنا، ناس ممكن يحبوهم ويهتموا بيهم زي أولادهم، إحنا ممكن نكون أمّ وأب ليهم، دي مش نهاية الطريق، دي بداية شيء تاني، بداية حياة جديدة.. أنا شايف إننا ممكن نتكفل بطفل نربيه ونكبره ونهتم بيه كأنه ابننا.
لحظة صمت ثم نظرت إليه، وعينيها تائهة في مكان ما بين الحلم والواقع، قلبها مليء بالتحير، وكأنها كانت تكتشف لأول مرة إمكانية أن تجد معنى آخر للأمومة، بعيدًا عن الدم، ولكن بنفس القدر من الحُب.
_«فيروز»
قالت فجأة، وعينيها الآن تلمع بشيء من الأمل المكسور:
_أنا عايزة أتكفل «فيروز» الطفلة الصغيرة دي... كنت شايفاها شبهنا شايلة حاجات من اللي شايلينها جوانا، عيونها مليانة حزن، وفيه حاجة غريبة فيها... حسيت إني عايزة أديها كل حاجة.
شعر كما لو أن كلماتها قد أغرقت قلبه في بحر من التخيلات والأحاسيس التي شعر بها مؤكدًا على قرار أن«فيروز» هي التي يجب أن تكون بينهما، لحظات طويلة تَفجَّر فيها الزمن بينهما، لكنه لم يتركها تضيع في وحدتها، بل أكد لها بحب:
_نتكفل «بفيروز»، هتواصل مع النيابة وأشوفهم هيرجعوها الملجأ ولا فين ونجيبها نعيشها معانا، وربنا يقدرنا ونعوضها وربنا يعوض قلوبنا بيها..
كانت عينيها قد استبشرت ببعض النور في تلك اللحظة، شعرت بشيءٍ جديدٍ ينمو في قلبها، ليس شعورًا بالضعف أو الندم، بل شعورًا بالخوف المتجدد من القادم، والأمل الذي يتسلل إلى روحها بهدوءٍ.
ربما لم تَعُدْ تلك الفتاة التي تتمنى الإنجاب، بل أصبحت تلك التي تريد أن تصنع الحياة حيثما تَجِدُها.
********
في لحظات الاشتياق، يتسرب الهمس إلى قلبه كما تتسرب خيوط الشمس في صباح بارد، يضيء له الدروب المظلمة في نفسه، في تلك اللحظات، لا يكون للزمن قيمة، ويصبح كل شيء مجرد انتظار.
عينيه التي اعتادت على رؤيتها، تصبح متعطشة لرؤيتها مرة أخرى، كعطش الأرض للمطر بعد جفاف طويل، يتذكر ضحكتها، همساتها، حتى نظرتها التي تحمل في طياتها حبًا لا ينتهي، وحلمًا لا يشبه سواه.
وصل نحو منزلها راميًا كل الأثقال التي كانت على عاتقه ليكون معها فقط، هنا حيث هو وهي.. هما!
كان يحمل في يديه حقيبة تحتوي على عدة أشياء وباليد الأخرى ورود باللون الوردي الذي لطالما رآه مثلها، ولحظه أنها هي التي فتحت له الباب وحينما أبصرته توسعت ابتسامة خافتة على ثغرها:
_«مُـهاب»!
_«مُهاب» حبيبك..
أجابها بلهجة تحمل عبثًا خفيفًا، لكنه كان يراها أعمق من أي ضحكة عابرة، هزت خديها خجلاً، وتورد وجهها بحمرة خفيفة، تمامًا كما يورق الورد فجأة عند ملامسة الندى، ثم ابتعدت عن الباب ليتقدم هو للداخل، ثم وضعت الحجاب الذي كان موضوعًا على رأسها بعشوائية جانبًا واقتربت تجلس جواره ساحبة منه الورد:
_شكله حلو أوي.. وريحته انتشرت في المكان كله!
ابتسم لها بعينين تتراقص فيهما ألف كلمة حب، وأخرج من حقيبته طبقًا مغلفًا بعناية، حينما فتحه وهي تراقبه بعينيها كأنها تفتح بابًا لعالمها المفضل، ظهرت تلك الكرات الذهبية التي طالما أحبتها.
شهقت بحماس طفلة صغيرة، وجاءت كلماتها بريئة مثل زهر الربيع:
_زلابية! مكلتهاش من زمان وكان نفسي فيها أوي
_زلابية للزلابية ياحبيب قلبي، ألف هنا.
قالها ضاحكًا بخفة، وكأن الفرحة التي تجتاحه لا توصف، أما هي فوضعت الورود جانبًا، وتناولت الطبق ثم بدأت تأكل منها بشهيةٍ لا تُقاوم.
كان ينظر إليها بحبٍ عميق فقط كان يكتفي بالمتابعة، تفضحه عيناه التي كانت تعكس شدة ما يكنه لها من حب، كأن عينيه تُحكمان سطوة الحب عليها، وكأن المقولة الشهيرة «العاشق تفضحه عيناه» قد كُتبت له، هو الذي أصبح أسير نظراتها.
بعد لحظة من الصمت نبس ببعض الكلمات التي كانت تحمل الكثير بين حروفها، وهو يريح ظهره على الأريكة، متأملًا وجهها بحبٍ لا يمكن أن يُخفى:
_تتوقعي يكون فيه قانون للحب؟
نظرت إليه بتساؤل، بينما هي تبتسم، وكأنها تحاول فك لغزٍ يطوف حولها:
_هيكون إيه مثلًا؟
هز كتفه ببساطة، لكنه كان يحمل بين تلك الحركة شيئًا من أعمق مشاعره، وقال بابتسامة عاشقة عريضة تشرق على وجهه:
_ممكن لو فيه قانون هيكون أنتِ فيه القاضي، وأنا المُدان ليل ونهار، والحكم.. هو إني أفضل بحبك كل عمري.
ابتسمت بخجل بينما كلماته كانت تتردد في قلبها، نظرت إليه بعينين مخمورتين بحب وكأنها تحاول أن تترجم مشاعرها التي لا تنتهي إلى كلمات، لكنها في النهاية قالتها، همست بها بصوتٍ هادئ، يكاد يذوب في أجواء الغرفة:
_أنا كمان بحبك أوي.
كان الصوت منخفضًا لكنه كان يحمل معاني تفوق كل الكلمات، قلبها كان ينبض بتلك الكلمة وكأنها طوق النجاة الذي لطالما بحثت عنه في عينيه.
كانت الكلمات التي قالتها أشبه بنورٍ دافئ، يعانق ظلام الشك الذي كان يراوده أحيانًا، وجعلته يشعر بأنه لا شيء في العالم يساوي هذا الشعور الذي أخبرته به.
_ده إحنا يابختنا بالغنى ده كله والله
قالها بابتسامة واسعة، بينما ابتسمت هي الأخرى وحاولت أن تغطي خجلها بكلمات تخرج من شفتيها، ولكن لم يكن هناك ما هو أجمل من هذا الصمت بين قلبين، يتبادلان نفس العاطفة.
وبعد لحظاتٍ حاولت أن تزيل هذا الخجل بنبرة خافتة وملامح استكانت قليلًا:
_أنا عاوزة احجز عند دكتور نفسي وأتابع معاه!
*********
_أنا كلمت دكتور أتابع معاه جسمي كله واجعني من الزفت اللي كان بيتحطلي في النسكافية، وهشوف الثيرابيست اللي كلمته في المستشفى أكمل معاه..
كانت كلماتها تخرج منهكة، كأنها تُسكب من وعاء محطم لا يستطيع تحمل أوزارها، كانت شفتاها ترتجفان من التعب، وعيناها غارقتان في لون الدم، وكأن دمعها قد أصبح جزءًا من ذاتها، يتساقط بتكاسل ثم يختفي بين انكسارات وجهها الذي فقد كل بريق.
كلماتها كانت تؤذي أكثر من جسدها المتألم، وجدت نفسها تسقط في دوامة لا نهاية لها، تدور في فوضى صامتة، كما لو أن كل شيء حولها ينهار.
أما هو فكان يقترب منها، وقد امتلأ قلبه بهمومٍ ثقيلة، تلك التي جلبها معه من السجن حينما كان يزور والده، تلك التي حملها فوق أكتافه مثل جبال لا تنتهي.
كان المحامي قد غادر لتوه، محملًا بتفاصيل القضية التي لا يعرف كيف ستنتهي، بينما هو يسعى جاهدًا لإيجاد منفذٍ لهذه الهموم التي تغمره، لكن حينما اقترب منها، أراد أن يكون العون الذي تحتاجه، أن يكون اليد التي ترفعها عن هذا العبء الثقيل.. فلم تستجيب لمحاولاته بل حاولت أبعاده عنها وهي تنبس بضيقٍ:
_متلمسنيش يا «زين» عشان جسمي كله بيوجعني..
_طب أهدي مش هلمسك لو ده هيريحك، بس العصبية والنفخ وكل ده مش هيفيد بحاجة، تعالي أخدك نخرج شوية ونروح نقعد قدام البحر طيب..
قالها يحاول مواساتها وتهدئتها، بينما صوته كان مملوءًا بتنهيدة طويلة، وكأن كل آلامه خرجت معه في تلك اللحظة ولكنها انفجرت صارخة لذلك الضغط الذي يحاوطها:
_مش عاوزة، مش عـاوزة أخرج ولا أشوف حد
تنهد بعمقٍ وسألها في محاولات إيجاد أي حلٍ:
_طب بلاش منه الخروج، تعالي نقعد في بلكونة أوضتي..
شدت خصلاتها للخلف بقوة ونبست بضيقٍ شديد:
_مش عـاوزة برضو، أنا مش عارفة أنا عايزة إيه..
كانت كلماتها تنبض بالقهر، وكأنها تقول له أن كل شيء قد توقف، وأنه لم يعد لها من ملجأ سوى صمتها.
ثم انفجرت دموعها بحرقة، كانت مثل أنهارٍ جفت منذ زمن طويل، لكنها الآن تسبح بحرية، في تلك اللحظة لم يكن يعلم كيف يوقفها.
كان وجهها غارقًا في الحزن، والآلام قد تحولت إلى ماءٍ يجري دون توقف، بينما هو، بكل قوته، اقترب منها وأحاطها بذراعيه، محاولًا أن يسحب منها كل هذا السواد الذي يبتلعها، حتى استكانت بين ذراعيه كطفلة ضائعة تبحث عن حضنٍ دافئ.
تتمسك به بقوة كما لو أنها كانت تحاول أن تمسك بآخر خيطٍ يربطها بالحياة، انفجرت باكية بعنف، كان بكاؤها كالعاصفة يقتلع كل ما في الطريق، لكنه كان يضمها بقوة يحمل معها آلامها، ويفهم تمامًا أنها في تلك اللحظة كانت بحاجة فقط إلى شخص يحس بها، ويكون حاضرًا في معركتها مع نفسها.
أبكي بصمتٍ والدمعُ خائفٌ في عيني
وحُلمي مثل ورقةٍ سقطتْ في الرياح
لكنني أصرُّ على المضيِّ رغم الجراح
فكلُّ نبضةٍ في قلبي تعزفُ أغنيةَ الصمود رغم صعوبة المسار.
