رواية ابني ابنك
الفصل السادس والعشرون26
بقلم امينة محمد
«بصيص الأمل»
كم الصدمات أدمتني وأنهكت القوى،
فصرت غريبًا عن دنياي أبتغي الهدى،
أمشي دروبًا تاهت الأنفاس في مداها،
أطارد طيفًا في الظلام أتبع خطاها،
أراها ثقيلة، كأنها جدران من وجع،
أحملها وحدي، والحزن يمضي بي متسع!
يا وحشة الطرقات، يا عتم الليالي..
ماذا أرجو من درب قد أضاع مجدافي وسد سبيلي،
كلما ضمدت جرحًا نبت ألف جرح جديد،
وكلما أغلقت بابًا فتحت ألف بابٍ من الحديد..
أكابر وأمضي رغم ضياعي وانكساري،
فليس للضائع ملجأ سوى غيم احتضاره.
«بعد مرور يومين»
يطالع اللاشيء بعينين تائهتين، كأن الكون من حوله انطفأ وصار فراغًا بلا ألوان، يبحر في صمتٍ عميق، لكن في داخله ضجيج، عواصف لا تهدأ.
تختبئ في عينيه حكايات لا تُحكى، وصور لأيام تلاشت، وأمنيات ترنحت في مهب الريح، هو هناك ساكن كالصخرة، لكن داخله يتزلزل كبحر غاضب.
يُطالع اللاشيء، وفي قلبه ألف شيء؛ همس مشاعر لم يبح بها، صدى كلمات لم يقوَ على قولها وجراح خفية لا يراها أحد، يلبس وجهًا هادئًا، صامتًا، بينما روحه مثقلة بآلاف التفاصيل التي تكاد تمزقه.
هذه السيجارة الثانية على التوالي الآن في جلسته هنا في شرفة منزله وأمامه القهوة التي يحتسيها علها تعيد إتزان عقله حتى يُكمل يومه الطويل، فهو أعتاد على أن يومه سيكون لا محالة مليئًا بالأحداث القوية والثقيلة أيضًا..
استمع لرنين الجرس فتحرك صوب الباب يفتحه ليجد أمامه «زين» مبتسمًا بخفة:
_ماما فين؟
_ماما؟ أنت هتستعبط يالا، لا ماهو أنا مش عشان سيبتك تحضنها تيجي تقولي ماما فين!
قالها الآخر بحنقٍ وشعر بنيران الغيرة تجتاحه، ليلكمه «زين» في كتفه هامسًا:
_احترم نفسك وخِف عشان معايا ضيوف مش هيحبوا يشوفوا البلطجة دي!
تنحنح يحرك رأسه بفضولٍ نحو الباب فلمح «وتين» تقف خلف «زين» بابتسامة واسعة، والتي لم يتوقع رؤيتها هي.. «سامية»!
«بالأمــس»
دخل «زين» و«وتين» الغرفة بهدوء يشوبه الحذر، وكأنهما يخشيان أن يحركا تلك السكينة المشبعة بالحزن، الغرفة كانت غارقة في الظلام، ووسط تلك العتمة كانت «سامية» جالسة على طرف الفراش، تمسح دموعها بيد مرتعشة، ووجهها الحزين كان كأنه لوحة حزينة تحمل آثار السنين ومرارة الأيام.
اقتربت «وتين» منها بحنو، وجلست بجانبها وأحاطتها بذراعيها، كأنها تمنحها مأوى من أحزانها العميقة وتميل عليها كعصفورة تلملم ريشها حول حضن دافئ همست بنبرة حنونة:
_بتعملي في نفسك كدا ليه يا ماما، أنا هنا و«زين» كمان جنبك، وإحنا كلنا معاكِ والله..
جلس «زين» بهدوء على الجانب الآخر من أمه، عينيه تعكس دفء الطمأنينة وصبر الانتظار لتقبلها للأوضاع، نطق بصوت خافت، عميق كأنه آتٍ من أغوار قلبه، نبرة جمعت بين الحنان والقوة:
_يا أمي ليه كل الدموع دي؟ أنتِ لازم تفرحي… أنتِ مش لقيتِ ابن تالت وبس أنتِ لاقيتي سند جديد، ومهما حصل أنا مش هسيبك… ده وعد، أنا طول عمري ابنك ومهاب كمان مش هيتخلى عنك ولا عن هاجر، زي ما ربتيني وكبرتيني، عمري ما هنسى فضلك، ولا سهرك جنبي ولا خوفك عليا في كل لحظة في حياتي..
كانت «سامية» تنظر إليه وملامحها تعكس امتزاجًا بين الحب والألم، عيناها تحملان ألمًا يشبه سحابًا كثيفًا من الذكريات يمر بين زوايا روحها، همست بصوتٍ مخنتق من كثرة البكاء
_مش عارفة يا زين… قلبي مش مرتاح، حاسة إن الدنيا عمالة تتكركب فوق دماغي وأنا متعودتش أشيل كل ده وأبوك مش جنبي، أبوك وحشني أوي وأنا محتاجة لسنده دلوقتي!
هنا اشتدت ضمة «وتين» لها التي انهمرت دموعها بقهرٍ على والدها، وحينها فقط أتى ببالها صاحب تلك الأحداث الثقيلة التي مرت عليهم مؤخرًا، «يامـن الجمّال»، والذي ترك لها وعدًا بأنه سيكون كما اللاصق في حياتها، مهما حاولت نسيانه لن تفعل؛ فكل شيء حولها سيذكرها به..
بينما «زين» مد يده بحنان ووضعها فوق يدها، وكأن لمسة يده تقول كل ما لم تنطق به الكلمات، نبرته كانت دافئة وواثقة:
_بابا مش هيطول والله وعد مني، المحامي بيحاول يخفف الأحكام عليه وهندفع فلوس تتخفف ويطلع على طول، وأنا هنا يا أمي… وكلنا هنا علشانك، انتِ مش لوحدك، «مُهاب» يستحق منك فرصة، يستحق حتى تتكلمي معاه وتقوليله إنك عاوزة وقتك، هو شخص كويس والله..
همست وتين بجوارها، ونظرتها تحمل طمأنينة عميقة:
_إحنا هنفضل عيلة واحدة مهما كان، وده مش هيتغير يا ماما..
حاولت أن تؤكد لوالدتها أنهم سويًا وسيكونوا جميعًا هكذا، ولكن لا مانع من إضافة فرد.. لربما يصبح هو الحياة بأكملها..
«عــودة للحــاضــر»
كان الترحيب حار من «هاجر» التي استقبلتهم في منزلها، بينما هو ظل بعيدًا يقف عند أعتاب غرفته التي تطل على غرفة الجلوس وينظر لهم يجلسون هنا، أخفض بصره للأرض ولكنه لمح طيفًا أمامه فرفعه مجددًا ليجدها تلك الرقيقة «وتين» تبتسم في وجهه:
_عامل إيه؟
تلبك!
تسارع نبضه، واعتلت تعابير وجهه ملامح متلبسة، لا يدري ما الذي يسيطر عليه من مشاعر كلما تحدثت إليه، تلك الحماسة المتوهجة في قلبه تطغى على سكون روحه، لكنه حاول بكل ما يملك أن يحتفظ بمظهره الهادئ، لينبس بهمس خافت، وكأنه يخشى أن يسمع أحد نبضات قلبه:
_الحمدلله، وأنتِ كويسة؟
_الحمدلله كويسة، دي أوضتك!
ابتسمت «وتين» بحيوية، مستفسرة بنظرة فضولية وهي تُشير بعينيها نحو باب الغرفة.
أكملت بنبرة مرحة والابتسامة تزين ثغرها:
_ممكن أشوفها.. آه صحيح أنت خاطب وعندي مرات أخ زي «ماسة» كدا ولا لسه هندورلك؟
بهدوء، ورغم خفقان مشاعره، أجاب بحزمٍ دافئ:
_أنا متجوز، كاتب كتابي يعني على «غِـنى»
عرّفها باسم الحبيبة التي تسكن قلبه، فابتسمت ابتسامة عريضة، عاكسة اندهاشها وسعادتها:
_الله اسمها جميل، عايزة أبقى أشوفها بقى اوك؟
حاول أن يواكب اندفاعها الطفولي بحذر، دون أن يطفئ تلك الشرارة المتقدة فيها، فردّ بابتسامة مؤكدة:
_ده أكيد طبعًا، اتفضلي الاوضة تحت أمرك لو تحبي تشوفيها..
فتح لها الباب لتقابلها غرفته المرتبة، خطت بقدميها فيها وكانت خطواتها بطيئة وكأنها تقتحم عالمًا صامتًا مليئًا بالذكريات البسيطة، لكن كل زاوية في هذه الغرفة البنية كانت تحمل دلالات أعمق مما يبدو عليها.
كان اللون البني يطغى على الأثاث بتدرجاته الدافئة، وكأنه يحاكي صلابة «مُهاب» وعمق أفكاره التي تخفي الكثير خلف هدوء ملامحه.
أول ما جذب انتباهها كان السرير الخشبي البسيط بلونه البني الداكن، كأنه جذع شجرة عتيقة، متين رغم بساطته، وكأنه يقول بأنه يتحمل أثقاله وأوجاعه بصمت.
بجوار السرير، طاولة صغيرة تحمل مصباحًا برونزيّ اللون، له وهج خافت يضفي على الغرفة لمسة دافئة، وكأنه ينير أعمق زوايا أفكار «مُهاب» المخبأة، ليحاكي جانبًا خفيًا من شخصيته، ذاك الجانب الذي يفضل الاحتفاظ به لنفسه.
وفي الجوار هنا وجدت بعض الأشياء العتيقة التي يحتفظ بها ويتركها كذكرى في غرفته.. كل شيء في الغرفة معبر عنه هو فقط، عن «مُـهاب»..
_واو بجد أوضتك تحفة
قالتها «وتين» بحماسٍ كبير ليبتسم هو فورًا شاكرًا إياها بأدبٍ:
_شكرًا أوي، ده من ذوقك..
شخصية جديدة ظهرت منه لتجعل الجالس هناك يبدو حانقًا منهما، تقدم لهما ينبس بسخطٍ:
_اومال إيه الأدب بتاعك ده!
لكمه «مُـهاب» في ظهره وهمس بصوتٍ بالكاد وصل «لزين»:
_حاسس إني متوتر ومؤدب زيادة عن اللزوم وأنا متعود عليا سافل والله، بس خايف أجرحها وهي كتكوتة يعني..
_لم نفسك دي أختي!
نبهه «زين» وبدى عليه الغيرة على أخته، لينهره الآخر:
_ما هي أختي يا معتوه..
_قولت يا إيه؟
ارتفع صوت «زين» ليوقعه بالخطيئة هنا حينما اقتربت منهما «وتين» ولكن الآخر مثّل الأدب قائلًا:
_أخلاقي تمنعني اشتمك بس النية موجودة والله...
_يا جمال أخلاقك يا شيخ «مُـهاب»
رد عليه «زين» ساخرًا فضحكت «وتين» على تلك المشاكسات قائلة:
_في إيه مالكم!
_بيستفزني وأنا خلوق بصراحة
قالها «مُهاب» ومازال ثوب الاحترام متلبسه، حتى هو نفسه لا يعرف كيف مثل ذلك الدور باحترافية هكذا..
استهزأ «زين» بصوتٍ تهكمي خرج من فِيهه وهو يطالعه من أعلاه لأسفله كتقييمٍ ربما أو محاولة لتكذيبه..
وعلى حين غرة قطع هذا الحديث الذي لربما كان يمتلئ بمشاعر خفيفة على قلبه وروحه لصوت المرأة التي قسمت قلبه لأشلاء:
_أنا.. أنا جبت النهاردة «زين» و«وتين» وجاية عشان نتكلم شوية عشان سوء التفاهم اللي حصل من يومين..
مرر بصره من على أمه عليها، على أمه الحقيقية هذه المرة، يطالعها بنظراتٍ تشبه خاصتها، رأتها هي وكأنها ترى نفسها في مرآة..
يمتلك نفس الأهداب الكثيفة التي تمتلكها،
بعينين كَلون القهوة،
حتى أن قسمات الوجه كأنها منسوخة منها.
أردفت «هاجر» بعدما تنهدت بعمقٍ:
_أكيد طبعًا اتفضلي..
ابتلعت غصتها وطالعت ابنتها ثم «زين» تستمد منهما الطاقة ثم نبست بترددٍ:
_أنا بس من الصدمة مقدرتش أتمالك نفسي، إنه اللي ربيته 28 سنة يطلع في الآخر مش ابني، أنا أصلًا كان في بطني توأم جه منهم يعني «زيـ.. أقصد «مُـهاب» والتاني مات وهو بيتولد ولحد دلوقتي زعلانة وبتأثر عليه، فالصدمة كانت تقيلة على قلبي وكأن حد جاي يقولي هناخد ابنك اللي ربتيه وحضنتيه وسهرتي جنبه من حضنك..
كان صوتها مهزوز، حزين!
علمت أنه ليس ابنها ولكنها لم تجرؤ على كُرهه..
تحركت من مكانها وتوجهت تقف مباشرةً أمامه، حيث قربها جعل أنفاسه تُكتم بداخل رئتيه وهو يتابعها تتحدث برجفة وعينين لامعتين:
_معلش حقك عليا أنا بس محتاجة وقت، بس أنا مصدقة إنك ابني.. زي «زين» كمان.. و
لم تستطع أن تكمل حديثها ولا أن تكمل تبريرها له، بل بكت؛ بكت بحرقة وهي تخفض عينيها مما جعله يشعر بحرقة شديد بقلبه، حاول رفع يده المرتجفة ليمسح على كتفها ولكنها فاجئته بجذبها له لأحضانها:
_حقك عليا يابني، حقك عليا!
توسعت حدقتيه بصدمة لتلك الحركة المفاجئة والتي لم يكن يضع أي احتياطات لها الآن، تضمه لصدرها وتمسح على ظهره بينما هو لم يقوَ للآن على رفع يديه ليبادلها العناق..
لمح نظرة «هاجر» التي أشارت له بأن يبادلها، فهم تلك النظرة وفهم الإشارة جيدًا ولكن نظراته كانت تحمل الخوف.. القلق!
غير قادر على إخراج تلك المشاعر القوية الآن، مشاعر فياضة لم يشعر بها سوى وهو بين أحضان «هاجر»، ولكنه يشعر بمثلها الآن بين أحضان «سامية»..
رفع يديه وحاوطها وهو يهمس بصوتٍ أجش مبحوح:
_طب أهدي متعيطيش، أنا مزعلتش منك.. بس متعيطيش وعارف إنها لحظة حساسة واتصدمتي..
أومأت برأسها وقاطعته بينما يديها مازالت تربت على ظهره:
_بس مش ذنبك يابني مش ذنبك كنت تقابل رد فعلي ده..
أبعدته عن أحضانها ووضعت كفيها حول وجهه تتأمله بحنانٍ طاغي على عينيها ووجهها بابتسامة واسعة:
_حاسة نفسي شيفاني في المرآية وأنا بصالك..
_هو أنا عيني زيتي لمين؟
قاطع اللحظة المؤثرة صوت «زين» الذي تذكر للتو أن عينيه لونها زيتية ولا أحد هنا لونها يُماثله مما جعل «هاجر» تردف بضحكة:
_لجدك.. أبويا.
هز «زين» رأسه بتأثرٍ:
_ياحبيبي ياجدو..
_يا روح أمك يا جدو!
تفوه بها «مُــهاب» بحنقٍ لأن الآخر قطع اللحظة المؤثرة تلك بينه وبين أمه، مما جعل «وتين» تشهق من كلماته ليعض على شفته السفلى وحاول أن يمسك «زين» الذي أضاع كل محاولاته بأن يظهر مؤدبًا أمامهم!
_قولتلك اسمها مامتك، وبعدين أمي بقت مامتك ومامتك بقت أمي..
قالها ضاحكًا وهو يركض من بين يديه في الشقة حتى جلس جوار «هاجر» ليحتمي بها بعدما جعل الآخر يُخرج شخصيته الحقيقية التي لن تختبئ أكثر من ذلك لأنه سريع الانفعال..
_خلاص أنتو عاملين زي القط الفار كدا ليه!
قالتها «سامية» بمزاحٍ ليطالعها «مُهاب» سريعًا يبرر:
_هو اللي بيستفزني والله، أنا مشوفتش في حياتي شخص مستفز زيه..
_ولد عيب أنا أخوك!
قالها «زين» يوبخه بمشاكسة لتقول «هاجر» بابتسامة حنونة وهي تربت على فخذ «زين» بحنية:
_كان عندي ابن واحد دلوقتي بقوا تلاتة، تلت أخوات زي القمر زيكم يابختنا بيكم..
ضمها «زين» بابتسامة واسعة واقتربت «سامية» ورفقتها «وتين» نحوهم حيث وقفت «وتين» جوار «مُهاب» تبتسم له بخفة وكذلك أراحت «سامية» رأسها على كتف «مُهاب» الذي ضمها له هو الآخر بتنهيدة حارة..
**********
يختلط بردُ الشتاء بهواء إيطاليا الرطب، لتصبح الحديقة التي يقف فيها «يامن» كلوحة من رمادٍ وضبابٍ، كأن الطبيعة نفسها تشاركه تلك القسوة الصامتة التي ترتسم على ملامحه.
يقف شامخًا كصخرة واجهت موجات لا حصر لها، متماسكًا ومُثقلًا في آنٍ واحد، وجهه قاسٍ كصقيع الفجر، وكأن الزمن قد نقش عليه ندوبه الخاصة.
عيناه لا تُظهران أي شيء سوى برودٍ داكن، نظرة ثاقبة تلتهم الصمت من حوله، وشفته ترتجف بالكاد وهو يأخذ آخر نفسٍ من السيجارة؛ يرفعها إلى شفتيه ببطء وكأنه يتذوق طعمها الأخير بمرارة عميقة، ثم ينفث الدخان كأنه يُنفس عن أوجاعٍ مطمورة، يراقب السحاب الرمادي يتلاشى في الهواء، وكأن أجزاءً منه تتبعثر وتتلاشى مع كل خيط دخان يخرج من صدره..
يشد على معطفه الثقيل الذي يحتضن جسده كدرع يحميه من البرد الخارجي، بينما داخله يغلي كجحيمٍ مستعر.
ينتهي من السيجارة، ثم يرفع يده ليحكم إغلاق ياقة المعطف، ويهمس لنفسه بصوت مبحوح بالكاد يُسمع:
_رحلة جديدة... شكلها مش هتبقى سهلة يا شبح
خطى ببطء نحو الباب الذي يوجهه نحو عيادة خاصة، خطواته واثقة لكنها مشبعة بثقل التجربة، وكأنه يواجه طوفانًا جديدًا.
صوت حذائه يُحدث ضجيجًا خافتًا على الأرضية الرطبة، ويترك خلفه آثارًا كأنها شظايا من ماضٍ مشوب بالغموض، دخل إلى المبنى ووجوه المارة تمر بجانبه كأشباح؛ لا يرى أحدًا منهم، ولا يكترث أن يلتقي أحدهم بنظراته، كأنهم محض صور متلاشية من حياته.
يصل إلى باب الغرفة حيث ينتظره طبيبٌ نفسي، وقف أمامه للحظة يستجمع شتات نفسه وكأنّه على وشك دخول معركة جديدة؛ معركة لا تحتاج عضلات أو سلاح، بل شجاعة الاعتراف والبحث عن إجابات دفنها عميقًا داخل روحه.
_مساء الخير يا «يامـن»!
رحب به الطبيب بحرارة والذي كان مصري هو الآخر، بل كان يعرفه جيدًا من الترحيب الحار الذي بينهما، مما جعل «يامن» يبتسم بخفة له قائلًا:
_مساء النور يا «شريف»، ليك وحشة!
_وأنت ياعم والله، حنيت علينا أخيرًا..
ابتسم الآخر بتهكم ثم استند على الكرسي، وترك جسده للراحة قليلًا وتنهد بعمق، وانطلقت كلماته ببطء، كأنها تحاول عبور جسرٍ مهزوز:
_كل حاجة بقت تقيلة... كل حاجة بقت مشحونة بشكل ميتصدقش، بحس إن جوايا حرب مالهاش نهاية... وكأن أي لحظة هتهد كل اللي قدرت أبنيه جوايا، عايز أخلّص... أخلّص من الصراع اللي جوايا ده... بصراحة يا «شريف» أنا تعبت.. «يامن» تِعب
نظر إليه «شريف» بعينين لا تخلوهما الحكمة، وكأنه يعرف بعمقٍ ما يعانيه «يامن» دون أن يحتاج لكلمات إضافية.
صمت للحظة وهو يضع يده على دفتر صغير أمامه، ثم بدأ بالحديث بصوتٍ هادئ ولكنّه مشحون بنبرةٍ صارمة:
_«يامن» اللي إنت فيه ده طبيعي بالنسبة للي مرّيت بيه، جسمك وعقلك هما الاتنين قاعدين في حالة طوارئ مستمرة، خايفين تنسى أو تتجاوز، وكأن الوجع ده بقى زي سجن حابس نفسك جواه، اللي محتاج تعمله هو إنك تدي لعقلك فرصة يعيد التوازن..
مال «شريف» بجسده قليلاً للأمام، يحاول جذب انتباه «يامن» بمزيد من التركيز، ثم أكمل:
_عايزك تبتدي تشوف الدنيا من منظور تاني، فيه تقنيات ممكن تساعدك، زي العلاج السلوكي المعرفي، نقدر نعمل جلسات نتكلم فيها عن كل حاجة، نحلل أفكارك اللي بتشدك لتحت، أو حتى تمارين خفيفة كدا هعلمك تعملها، هي اللي هتديك فرصة تخرج من دوامة الصراع ده، ولو لوقت بسيط...
شعر «يامن» وكأن كلمات «شريف» تتسرب بداخله، تلامس زوايا مهملة في روحه، أضاف الآخر بهدوء كأنه يعرض خريطة لخروج آمن من المتاهة:
_كمان فيه حاجة تانية، محتاج تقبّل اللي مرّيت بيه، مش تهرب منه.. محتاجين نشتغل على تغيير نظرتك لنفسك، وتعرف ليه شايف نفسك بالشكل ده، الصراع ده جزء من إعادة بناء داخلك، كأنه طين محتاج وقت عشان يتصلّب ويبقى قوي...
مرر «يامن» أصابعه على حافة المكتب، ثم نظر إلى «شريف» وكأنه يرى بصيص أمل في وسط العتمة التي تملأ حياته
تنفس بعمق وشعر وكأن ذاك الأمل البسيط يتسرب إلى صدره، يملأه بدفء خفيف رغم كل الثقل.
همس بابتسامة باهتة:
_تفتكر فعلاً ممكن أتحرّر من اللي جوايا ده؟
رد «شريف» بلهجة صادقة مليئة بالإصرار:
_أكيد، مفيش حاجة بتفضل على حالها، وطول ما إنت بتحاول، فيه دايمًا فرصة إنك تخرج من دوامة الألم دي... بس الموضوع محتاج صبر، واستعداد إنك تواجه اللي جواك، بدل ما تهرب منه.
وكأنّ روحه قد أُغرقت في بحر من الظلال؛ تلك الظلال التي تنخر في داخله بلا هوادة، يشعر وكأن كل فكرة في رأسه تُسافر عبر زوايا مظلمة لا يُدرك نهايتها، تتشعب داخله كأغصان متشابكة، كل منها تُقيّده أكثر مما تتركه، أيامه تمر كحلم ثقيل، وصراعاته تعانق ليله ونهاره، حتى صار الصمت ملاذه الوحيد.
هو الآن كعابرٍ أرهقه الطريق، يحمل على كتفيه جبالًا من ذكرى وندم، وكأن العالم كله بات يحيطه بسورٍ من الوحدة، فلا يسمع إلا صدى صراعاته.
يسأل نفسه: "إلى متى أظل أسيرًا لهذا الألم المتربص؟ وكيف أهرب من ظلّي الذي يطاردني بلا رحمة؟"
يتمنى لو يذوب كقطرة ندى في صباحٍ هادئ، يتلاشى بهدوء تاركًا خلفه وجعه المتكدس، كأنه لم يكن.
يُحدث نفسه:
لو كنت أملك طيّ تلك المشاعرِ
لجعلتُ قلبي للسلامِ معابرِ
لكنّ وجعي ظلّ حبلًا يقيّدُ
روحي، كأنّي في الظلامِ مسافرِ..
*********
بهدوءٍ شديد خرجت من الباب الخلفي للمنزل، تكاد قدماها تلمسان الأرض بخفةِ الظلّ الهارب من عيون الزمن ولكن رغم حذرها، كان قلبها يخفق كطائرٍ محاصر، كأنها تسمع صوت خطوات «محمود» خلفها تلاحقها في الظلام، تجمعت الدموع في عينيها لكنها ضغطت على نفسها كي لا تستسلم، وتابعت طريقها.
بعد دقائق من السير وسط الأزقة المظلمة، لمحت ضوء مركز الشرطة البعيد كنجمة تُبشر بالنجاة، لم تعد قدماها تقوى على المسير، وكأن وزن الذكريات والخوف قد قيدها بسلاسل غير مرئية، لكن إيمانها بضرورة مواجهة الظلم أعطاها القوة.
في داخل المركز وقفت أمام الضابط تحديدًا تطلب مساعدته، عيناها مبللتان بذرات خوف وشرر تحدٍ مكتوم بسبب تهديدات «محمود» وابنه لها خلال اليومين الماضيين، مدّت يديها المرتعشتين، وقدمت التسجيلات تمتمت بصوتٍ مخنوق:
_ده ... ده كل اللي عندي يا باشا ... دول ما بيرحموش، ولا فيهم ذرة رحمة، دا هو اللي قتل جوزي وعاملين مؤامرة عشان يخطفوا بنتي.. ارجوكوا، احموني أنا وبنتي.
نظر الضابط إليها بعينٍ حازمة، لكنه شعر برعشة خوفها فنبس بلطفٍ:
_هدي أعصابك يا مدام، هنا انتِ في أمان، احنا معاكِ وكل كلمة منك هتساعدنا نوصل للحقيقة.. متخافيش.
حاولت أن تبتسم رغم ارتجاف صوتها:
_أنا ... أنا مش خايفة غير على بنتي، مش عايزاها تضيع زي جوزي، ياريت تلحقونا قبل ما يفوت الأوان.
أشار لها الضابط بالجلوس، وقال بهدوء:
_من النهاردة، كل شيء تحت السيطرة، أنتِ عملتِ الصح، واللي جاي خير بإذن الله.
أغمضت «سلوى» عينيها في لحظة راحة كأنها للمرة الأولى منذ سنوات ترى بصيصًا من الأمل.
******
كان الشارع هادئًا تغمره الأضواء الخافتة، حينما وقف «زين» بجوار «ماسة» أمام محلها هي وأخته ممسكًا بيدها يحاول أن يبث في عروقها طمأنينةً متماسكة رغم اضطراب مشاعرها.
التفتت إليه بعينيها المثقلتين بالتردد والخوف، وكأنها تنظر إلى عالم مجهول ينتظرها خلف أبواب المستشفى التي سيذهبان لها الآن..
أمسك يدها بقوةٍ ثابتة ثم قال لها بصوتٍ حنون يتسلل إلى أعماق قلبها المتوجس:
_«ماسة» إنتِ مش لوحدك، أنا معاكِ ومش هسيبك، كل خطوة هناخدها سوا، اللي فات خلاص واللي جاي ليكِ أحسن والله، أوعدك..
أومأت برأسها وهي تحاول كبت دموعها، التي كانت تجتاحها كسيلٍ في صمتٍ مؤلم، قاد بسيارته نحو المستشفى، كأنهما يمشيان في دربٍ طويلٍ نحو أملٍ جديد.
في غرفة المستشفى، جلست «ماسة» على السرير بملامح خافتة، جسدها هزيل لكن عينَيها تُظهران بريقًا من التحدي، دخل الطاقم الطبي وبدأوا أولى خطوات علاجها من الإدمان.
تم تجهيزها لعملية سحب السموم، تلك المرحلة الشاقة التي ستخضع فيها لمراقبة دقيقة، حيث يراقب الأطباء تفاعل جسدها وتحديها لأوجاع الانسحاب.
كان «زين» بجوارها يضمها لصدره، يداعب شعرها برفق، يتمتم كلماتٍ لم تسمعها لكنها شعرت بها، كأنها نورٌ يشق الظلام.
وبهمسٍ مكسور سألته:
_هو ... هو مش دايم صح؟ يعني عمري ما هارجع زي الأول؟
ضمها بقوةٍ وقال بصوتٍ مليء بالإصرار:
_متخافيش يا «ماسة»، وعايزك قوية، كل حاجة هتتعدل، إنتِ أقوى من أي حاجة، وأنا معاك لحد النهاية.
بعد انتهاء مرحلة سحب السموم، جاء الطبيب النفسي ليبدأ معها جلسات العلاج النفسي.
جلس الطبيب أمامها بحذرٍ، وألقى عليها نظرةً مطمئنة، قائلاً:
_المرحلة الجاية هتكون مهمة، هنشتغل سوا على تحسين حالتك النفسية، هنبدأ نشتغل على إنك تتحكمي في انفعالاتك، ونشتغل كمان على إحساسك بالأمان، اللي اتأثر بسبب اللي مر بيكِ، هنحاول نتعلم مع بعض إزاي نتخطى اللحظات الصعبة ونبني لحظات جديدة تديكِ استقرار نفسي.
ابتسمت بإحراجٍ واضح وتمسكت أكثر بيد «زين»، وكأنها لا تزال تخشى أن تنكشف بداخلها كل تلك الندوب التي حاولت إخفاءها طيلة عمرها..
تابع الطبيب:
_هناخدها خطوة خطوة، هنشتغل كمان على التفكير الإيجابي، وهانستخدم العلاج الجدلي السلوكي اللي بيساعد في إدارة المشاعر والتعامل مع التقلبات النفسية، وهنبني ليكي أساليب تساعدك تواجهي المواقف الصعبة من غير ما تتأثري بيها جامد، وافتكري طول الوقت أن جوزك «زين» هنا جنبك وافتكري اللي بيحبوكِ، إنتِ مش لوحدك.
هزت «ماسة» رأسها وهي تمسح دموعها، شعرت للمرة الأولى أن هناك من يمد يده ليأخذها إلى طريقٍ جديد بعيدٍ عن الظلام، وأن الحياة قد تمنحها فرصةً أخرى لتبدأ من جديد.
كأنّ في صدرها جبالًا من الأسى تنهال، تتكسر فوق قلبها كأمواجٍ لا تعرف الراحة، تعب يثقل عينيها وألمٌ يسكن بين أضلاعها.
تجد نفسها أسيرة ذكرياتٍ موجعة، تحاول النهوض لكن الجراح تجذبها للخلف، ومع كل هذا الألم تجد بداخلها شعلةً صغيرةً لا تنطفئ، تُذكّرها بأن الحياة -وإن قست- لا تزال تمنحها الفرصة لتمضي قُدمًا.
"سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري
وأصبر حتى ينظر الله في أمري"
_علي بن أبي طالب
