رواية ابني ابنك الفصل الثالث3بقلم امينة محمد

روايةابني ابنك
الفصل الثالث3
بقلم امينة محمد

«جثة»
أنا اليوم رجل شريد، أراد الحصول على حبك فخُذِل، وأراد أن يجعلك كأميرة متوجة فسُجِن، كما في الممالك وكما في الأعالي، يُسجن الشريد وينتصر صاحب النفوذ، ولكن ما ذنب قلبي الذي أحب وترعرع على المودة التي بيننا؟
ألا من المفترض أن آمن ويأمن قلبي رفقة من يُشبهني؟
أم أنه من المفترض أن أنزف الدماء وجعًا.
ها أنا عائد من حبٍ خاطئ، حاملًا على أعتاقي الذنوب التي اقترفتها ولم اقترفها.
في تلك الدائرة التي تجمع كلًا من الضدين معًا، ابن الذوات وابن تلك الحارة صاحب الشخصية القوية.
_إيه اللعبة الحلوة دي بقى، الكلام ده معناه إيه!
نبس ساخرًا وهو يطالعهم جميعًا بترتيبٍ، ليضع «سليمان» الهاتف بجيبه وهو يطالعه لبضع ثوانٍ ويتحدث باستغراب:
_معناه إنها فعلًا لعبة دايرة، يا إما اللعبة دي منك وبتحاول تنصب علينا، يا إما اللعبة دي من حد تاني!
أعاد خصلاته للخلف بقوة وتحول وجهه للأحمر الحانق وهو يهدر بوجوههم بقوله:
_حضرتك أنا ابن ناس ومعملش اللي بتقول عليه، أنا لو عاوز أسرق الفلوس كنت قلبت ابنك في عربيته وسيبته غرقان في دمه ومجبتوش لحد هنا وقولتلك اتفضل الفلوس أهي فأيدك، معرفتش تحافظ على فلوسك دي حاجة متخصنيش، تتهمني إني سرقتها يبقى اولعوا كلكم.
وقف أمامه «زين» يقابله بوجهٍ ممتعض غاضب هو الآخر، وهدر به:
_قولتلك أتكلم معاه بإحترام، مين يعني اللي هياخدها!
_ولا أنا مش قولتلك اركن عشان مزعلكش، أنا أصلًا كنت سيبتكم تولعوا كلكم ومجتش لحد هنا..
كاد أن يلتفت ليغادر ولكن أمسكه «زين» سريعًا من يده لينتج عن ذلك لكمة قوية في وجهه من يد «مُـهاب»:
_قولتلك اركن مسمعتش الكلام، قابل بقا يا حِدق.
للأسف كانت قوية من يده الثقيلة، مما جعل ذلك الجرح الذي توقف عن نزف الدماء صباحًا ينزف مجددًا، وتوجع على أثرها وكاد أن يرفع يده السليمة ليرد له اللكمة مع شهقات متتالية من أمه وأخته.. ولكن يد «سليمان» منعته وهو يطالع «مُـهاب» الذي يتنفس بعنفٍ، يُحزنه أنه بهذا الموقف، يُحزنه كونه مُلقب الآن بالسارق!
_خــلاص، أهدوا أنتو الاتنين عشان نعرف نفكر، خليني معاك للأخر يا «مُـهاب» وخلينا نقول إنك مسرقتش حاجة، ونشوف مين سرق لأننا الاتنين لابسين في الحوار، يعني اللي سرق الفلوس اتصل بيك زي ما أتصل بيا، يعني مصلحته معانا إحنا الاتنين.
قالها «سُليمان» بحكمة هذه المرة في محاولةٍ منه للسيطرة على نفسه وعلى أعصابه، فراوغه «مُـهاب» بنظراته شزرًا:
_مع إني مليش دعوة وأقدر أمشي ومحدش فيكم هيمسك عليا حاجة، بس أنا عشان راجل موافق.. لو حد رن عليكم تاني عرفوني وأنا لو حد كلمني تاني هعرفكم، لأنهم بيراقبونا وإلا مكنوش كلمونا إحنا الاتنين دلوقتي سوا.
ألقى نظرة خاطفة على «زين» بحنقٍ:
_شدة وتزول يابا، بعد كدا لما هلاقي حد عامل حادثة هسيبه وأمشي، خير تعمل شر تلقى بصحيح.
ثم غادر بهيبته كما دلف، ولكن...
هنالك عيون متربصة عليه منذ اللقاء الأول، عينيها التي لم تغادره في كل كلمة يقولها وفي كل حركة يفعلها، تشعر بالفضول تجاه معرفته ومعرفة تفاصيله!
جلس «زين» على طرف الفراش بتوجعٍ واضعًا يده على خده في المكان الذي تلقى به صفعة ذلك الثور الهائج، توعد له من داخله ولكن بعدما تنتهي تلك المهمة، تأوه بوجعٍ فأستند بظهره على الفراش وجواره أمه.
نتائج الحادثة على جسده كانت إصابة بذراعه التي عُلِق على كتفه، وبعض الجروح المتفرقة بجسده وأيضًا وجهه الوسيم!
********
في صباح يومٍ جديد، أشرقت شمسه الدافئة على مدينة الإسكندرية، تسير هنا جوار البحر وأصوات الأمواج المتلاطمة تضرب أذنيها في شرودها الذي لا تشعر بنفسها بسببه.
انتبهت لتلك الطفلة التي تبكي جوار الحائط مُمسكة ببعض الورود وبعضها واقعًا على الأرض بشكلٍ عشوائي، توجهت ناحيتها سريعًا بسبب تلك الفطرة التي داخلها تجاه الأطفال جميعهم.
_مالك يا حبيبتي بتعيطي ليه؟
سألتها «غنى» بقلبٍ مفطور، ونبرة مرتجفة لأجلها، لتنظر لها البريئة ذات الملامح المتسخة قليلًا من الأتربة، وأردفت من بين شهقاتها:
_العيال وقعوا الورد اللي ببيعه يا أبلة، أمي تعبانة وأنا ببيع الورد عشانها وعشان اجيبلها الدوا وهما فضلوا يتريقوا عليا وقطعولي الورد اللي جيبته!
دمعت عينيها، تعلم جيدًا ما الذي تُعانيه الصغيرة الآن من ذلك التنمر الذي رأته من الأطفال الآخرين، مسدت على شعرها بحنانٍ وفكرت مطولًا لتجد نفسها تُخرج هاتفها وتتصل به، تستنجده، تطلب مساعدته هو فقط:
_ممكن تجيلي؟ هبعتلك العنوان في رسالة بس بسرعة يا «مُـهاب».
تنهدت وأغلقت معه الإتصال وأرسلت له عنوانها وجلست جوار الفتاة الصغيرة تمسح لها الدموع بحنانٍ:
_خلاص متعيطيش، أنا هاخدك دلوقتي اجيبلك الدوا لماما وأروحك ليها كمان، حقك عليا ياحبيبتي بس هما عيال متربوش وأنتِ مفيش فيكِ غلطة، أنتِ زي الفل وكمان شجاعة عشان بتساعدي ماما عشان تكون كويسة، متعيطيش خلاص.
من بين شهقاتها ابتسمت بفرحٍ لمعت عينيها بالأمل بقولها:
_بجد يا أبلة هتجبيلي الدوا؟ تسلمي بجد والله، هقول لماما تدعيلك كتير أوي.
أومأت لها بابتسامة ضعيفة مهزوزة، وبصوتٍ مرتجف قالت:
_ياريت، قوليلها تدعيلي كتير.
وما إن أنهت جملتها كان لديها يُلبي ندائها، ومن سواها سيكون له الحق في قدومه بتلك السرعة، تحرك من على دراجته نحوهها وجلس القرفصاء يطالعهما بقلقٍ:
_فيه إيه يا «غِنى»، أنتِ كويسة؟
أومأت له بتنهيدة ولمح تلك اللمعة الحزينة بعينيها وهي تصرح له عن مشاعرها بتنهيدة:
_العيال ضربوها وقطعولها الورد اللي بتبيعه، هي عايزة تجيب دوا لأمها، اتصلت بيك عشان تيجي معايا نوصلها لحد بيتها.
تنهد هو الآخر، يعلم مدى حبها للأطفال وحنينها عليهم، لذلك أومأ برأسه بطاعة مبتسمًا:
_أوامرك يا «غِنى»، يلا.
تحركت خلفه وهي تُمسك بيدها تلك الفتاة حتى قطعوا الطريق متوجهين نحو الصيدلية، وأخذت الورقة المدون عليها الدواء وأعطتها للصيدلي وهي تطالع «مُـهاب» بطرف عينيها، بينما هو يبتسم للصغيرة ثم رفع بصره لها فوجدها تبعده سريعًا، أتهرب منه كما العادة؟
دفع حساب الدواء وتناوله بين يده، ثم خرجوا سويًا وأعطاه للصغيرة وهو يقول لهما:
_خليكوا هنا دقيقة وجاي.
ثم تحرك قبل أن يسمع من أي منهما كلمة متوجهًا لمطعم على بُعد أميال وطلب منه وجبة طعام كاملة لعائلة، وما هي إلا دقائق حتى عاد بها وسأل:
_بيتكم فين ياصغيرة؟
_خلاص ياعمو أنا هروح لوحدي، عشان هو بعيد شوية يعني..
قالتها الفتاة التي تبدل حالها البائس لأخر مُـبهج، لتسألها «غِنى» بقلقٍ:
_نوصلك أحسن حد يعملك حاجة تاني!
عرضت عليها ولكن الفتاة ابتسمت في وجهها بشكرٍ:
_لا يا أبلة أنا هروح، تسلمي أنتِ وعمو بجد، هقول لماما تدعيلكم.
وضع بيدها الطعام وابتسم بقوله لها:
_قوليلها تدعيلنا إن أنا والابلة نتجــوز، ونجيب عيال حلوة شبهك كدا..
توسعت بؤبؤتيها من السعادة لغزله، ونبست بابتسامة واسعة:
_يعني أنا حلوة ياعمو؟
أومأ برأسه مؤكدًا بابتسامة واسعة:
_حلوة أوي كمان، يلا يلا عشان متتأخريش على ماما.
لوحت لهما بيدها وغادرت تحمل الدواء والطعام بنفسٍ راضية، وقلب مطمئن، ها هي كعصفورٍ صغير حصل على حريته في حياةٍ قاسية، بعدما تعرض للتعذيب من الآخرين.
وضع يده بجيبه وأخرج زفيرًا قويًا ثم وجه بصره لها يعرض عليها بقوله:
_تعالي نقعد شوية عالكورنيش!
_لا لا ورايا شغـ..
عارضها بقوله بجدية:
_مافيش حاجة وراكِ، أنا اللي ورايا شغل وهسيبه يولع عشانك، يلا هجيبلك زلابية والله.
طالعته بطرف عينيه، لماذا تهرب الآن منه وهي من بحاجة للجلوس رفقته وليس هو، بحاجة لفهم مكنوناته وحياته بشكلٍ أكبر على الرغم من أنها تحفظه عن ظهر قلب.
_ماشي يا «مُـهاب».
تحرك نحو محل الحلويات واشترى لها تلك الحلوى -الزلابية- التي تعشقها وتود أكلها دومًا، يعلم أنه إن أراد كسب قلبها سيجلب لها منها، ثم تحركا سويًا مجددًا نحو الصخور التي على الشاطيء وجلسا جوار بعضهما.
_اتكلمي يا«غِنى»، سمعيني اللي عندك واللي مخبياه جواكِ!
كان بصره موجهًا للبحر ولكن عقله وقلبه وفمه وأذنيه معها، طال صمتها على عكس الضجيج الذي بداخلها، وطال انتظاره في أن تتحدث رفقته ولو لمرة عن طريق الخطأ، وما إن رغبت بالتحدث قالت:
_«مُـهاب»، أنا حاسة إنك تستاهل حد أحسن مني، حد تعرف تاخد وتدي معاه فالكلام، يعاملك كويس ويـ..
قاطعها في حديثها بقوله بجدية وداخله لهيب يحترق، لن يخرجه ولن يعبر عنه الآن حتى تكمل هي كلماتها تلك:
_وأنتِ بتشتكي من إيه عشان متكونش أنتِ!
ابتلعت غصتها ونبست بتنهيدة حارة، ويعز عليها قول أنها تود الإبتعاد عن الحبيب:
_حياتك باظت بسببي يا «مُـهاب»!
عارضها مجددًا بقوله ببساطة شديدة مُعبرًا عما بقلبه:
_حياتي كلها غِنى بيكِ يا «غِنى».
مسح يده وأدار جسده نحوهها بينما هي مازالت تنظر نحو البحر، وقال بابتسامة خفيفة:
_فمتقرريش عني إذا كانت بايظة ولا مش بايظة، أنا حياتي بايظة بعدم وجودك، ومتصلحة بوجودك، أنا عندي إستعداد أخدك دلوقتي ونروح لأبوكِ أحدد معاه معاد كتب الكتاب، وقولتلك قبل كدا، بس أنتِ اللي مش راضية وعايزة وقت بمزاجك هسيبلك وقت، بس تقرري تبعدي عنى مش بمزاجك المرة دي..
طالعته لثوانٍ ثم أبعدت بصرها عنه مجددًا، صوته الدافئ يتردد بمسامعها، وكيف لا وهو يملك نبرة صوت تُغلف قلبها بكل حنان العالم.
_بس أنا مش كويسة، ومش هقدر أكون كويسة وأنا معاك!
للمرة الأولى تُعبر عن حُزنها أمامه، فدومًا ماكانت تظهر بمظهر الفتاة القوية التي لا يهزمها شخص، أضاف على حديثها بابتسامة:
_مافيش حاجة هتكون كويسة طول ما أنتِ محبوسة وسط ذكرياتك دي، هتفضلي وسطها هتفضلي وسط الضلمة، هتطلعي منها هتشوفي النور، هتشوفي اللي بيحبك، الحياة عمومًا.... هتشوفيني.
_«مُـهاب» أنا..
عارضت مجددًا بنبرة حزينة ليقاطعها بأعترافه بجرأة:
_«غِنى» أنا بحبك، وأنتِ عارفة ده كويس من أيام خطوبتك الأولى، وعشان مكنتش وقتها جاهز عشان اتقدملك، وأبوكِ وافق عليه، وأبوكِ قرر قرار أنا محترمه عشان اللي عمله الواد الصايع ده، وقولت حقه يخاف بعد اللي حصل، بس متشيلنيش ذنب غيري وتحطيني معاه في نفس المكان، أنا مش هو، أنا «مُـهاب» اللي طول عمرك تعرفيه.
حبيبك أنا،
من يتوسط قلبك،
صاحب الروح،
رفيق القلب!
حبيبك أنا،
الذي إن طلبت فراقه،
سيصيبك الحزن،
ويؤرقكك النوم،
ويُعذبك الضمير؛
ثم تعود مُتسائلًا ألف سؤال:
لماذا تركته،
لماذا غادرته!
حسرة على القلب حينما يفقد من يحب بعد فوات الآوان، فلا حسرة بعدها قد تصيب الإنسان توجعه مثلها، ولا شفاء للجروح التي قد تسببها الأيام بعد الفراق.
عقلي الضعيف،
قلبي المسكين،
روحي الهائجة،
هذا الحبيب،
هذا حبيبكم؛ فلا تفرطوا به.
وبعد مجادلاتٍ من العقل والقلب والروح، نظرت له بتيهٍ عهده عليها، يتفهمه جيدًا ويحاول امتصاصه، ولكن محاولاتها في إبعاده عنها تُحزنه، ولكنها همست الآن:
_هحاول يا «مُـهاب»، هحاول عشانك.
ابتسم قلبه قبل ثغره، ثم أعاد نظره للبحر يسحب نفسًا عميقًا من هوائه، بالأساس لم يكن ليفرط بها.
واستمع لها تُكمل من بين شفتيها المرتجفة لتذكرها تلك الطفولة:
_وأنا صغيرة، العيال كانوا بيفضلوا يتريقوا عليا فالمدرسة، ويقولولي البت أم أربع عيون عشان وقتها كنت لابسة نضارة النظر، وإني كنت على طول لوحدي، كانوا يقولولي يا متوحدة، لما روحت للمس عشان أقولها.. قالتلي وأنا مالي هو أنا أمك، بقيت بكره أروح المدرسة وبكره أشوف العيال، وكنت بحس إني هعمل حاجة وحشة فيهم، وقتها خوفت أوي وبقيت أغيب كتير عشان مسمعش كلامهم مع إنه كان بيجيلي في الحلم، خلصت تعليمي وبقيت مُدرسة، بس مبقتش زيها، بقيت حد تاني حنون على الأولاد وبركز على كل شخص وبعاقب اللي بيغلط وبصالح اللي بيزعل، بس أنا جوايا جرح كبير من وقتها، مش عارفة اتخطى، مش عارفة أنساه.
تنهد وناولها زجاجة المياه لتشرب منها وهو يجيبها على كلامها الذي أنصت له بكل إهتمام:
_بس أنتِ فعلًا عالجتي نفسك بنفسك، مبقتيش النسخة اللي كنتِ بتكرهيها وأنتِ صغيرة، بقيتِ حد الأطفال بتحبه، يعني اتخطيتِ، لو الذكريات لسه عندك فطبيعي لأننا عايشين عليها، بس متخليهاش تأثر عليكِ بالسلب، خليها تديكِ دافع تكوني أحسن مُدرسة في عين طُلابها..
وأضاف بابتسامة واسعة:
_حقك على عيوني.. ياعيوني.
_أنت أحسن إختيار!
أضافت بابتسامة واسعة وكأنها تناست كل شيء، ليغمزها بطرف عينه:
_عارف!
**********
وصلا سويًا نحو المحل الذي سيُفتتح عما قريب لمشروعهما، كان وجهها شاحب اللون وعينيها متعبة، يبدو أن النوم كان عدوها والليل طويل عليها، مما جعل «وتين» تنتبه لها وسألتها عدة مرات عما تشعر ولكنها رفضت البوح.
_لا بقى، أنتِ مش كويسة يا «ماسة»، مالك؟ هو حد فيهم عملك حاجة تاني!
تنهدت «ماسة» وطالعتها بابتسامة بسيطة مزيفة حاولت إخراجها، ثم وجهت بصرها نحو المعدات التي اشتروها سويًا:
_لا أبدًا، أنا بس كان عندي أرق ومنمتش كويس يابنتي، لكن أنا كويسة أهو.
تنهدت «وتين» بقلة حيلة وربتت على كتفها بما تستطع أن تواسيها به من كلماتٍ حنونة:
_ربنا يقويكِ يا «ماسة»، المهم عندي إنك تكوني كويسة يا حبيبتي.
للحظة دمعت عينيها ولكنها لم ترغب بأن تذرف الدموع هنا.. والآن، لذلك ابتسمت فقط وعادت ترتب المعدات وبقية الأغراض الخاصة بالمحل في مكانها، تحاول أن تلهي نفسها بكل ما أوتيت من قوة في أي شيء، وأن تبتعد عن كل الناس وعن حديثهم.
تود عزلة، لربما تحاوطها ببعض الدفئ.
استمعت لصوت عجلات السيارة التي وقفت بالخارج ثم دخول صاحب النبرة التي تعرفها جيدًا، من أحبته من قلبها ولكن سرًا.
_مساء الخير، عاملين إيه؟
قالها «زين» ووضع الأغراض التي اشتراها لأجلهما، مثلت انشغالها في ما بيديها وأقتربت «وتين» نحو «زين» بابتسامة:
_مساء النور يا حبيبي، تسلم والله تعبناك معانا وأنت لسه خارج من المستشفى.
ابتسم لها ورفع بصره يمرره على «ماسة» وهو يقول:
_مافيش أي تعب، ازيك يا «ماسة»؟
التفتت له بابتسامة بسيطة وأجابت بكل هدوءٍ وبلا ملامح مرسومة فقط البرود:
_الحمدلله يا «زين» وأنت عامل إيه؟
_كويس الحمدلله!
قالها باختصار وهو يتابعها في حركاتها المتوترة، ثم أعاد نظره نحو «وتين» وسأل بملامحه عما بها صديقتها فهزت كتفيها بلا علم وتنهدت، طالع «ماسة» مجددًا وتقدم نحوها يسألها:
_دايمًا يارب، بس أنتِ تعبانة ولا حاجة؟ وشك أصفر!
بطبيعة حالتها التي تدخل بها في تلك الأمور، تقول عكس ما بداخلها حتى لو كان سيجرح من أمامها:
_أبدًا أنا فل، أنت مركز معايا كدا ليه أصلًا!
_مركز؟ لا أبدًا بس بطمن أنتِ واقفة مع أختي.. وزيها يعني فطبيعي لو حصلك حاجة إحنا هنلحقك!
قالها بسخرية نتيجة لكلامها لذلك، لتومئ له بابتسامة مزيفة:
_كتر خيرك يا «زين»، متقلقش عليا أنا كويسة جدًا ومش محتاجة من حد حاجة، أنا أقدر أعمل لنفسي كل حاجة على فكرة.
قوس حاجبه باستغراب لكل ذلك ما تفوهت به الآن، هل يحتاج حديثه كل مبرراتها تلك؟
طالعها لقليل من الوقت وأدار ظهره ليغادر فهو حقًا إن أتينا للحق لا يعنيه، ولكن كونها رفيقة أخته المقربة... من أحبها قلبه سرًا، فهو قلق عليها.
_«زين»؟
نادته مجددًا فألتفت لها دون أن يردف لتقول بندمٍ وتنهيدة قوية:
_مش قصدي اللي قولته، أنا متوترة عشان الإفتتاح بعد بكرا، وكام حاجة مخلية أعصابي بس تعبانة شوية.
ابتسم لها باقتضاب وقال:
_ولا يهمك!
هكذا فقط، ثم تخطى «وتين» وغادر، وما إن خرج ولجت هي لنوبة بكاء مفرطة!
أقتربت «وتين» لها سريعًا وضمتها لها بحزنٍ شديد، وربتت على ظهرها بحنانٍ بالغ:
_طب أهدي بالله وحقك عليا، أهدي طيب وبعدين نروح نقعد في حتة وتحكيلي مالك يا «ماسة»!
هي لم تكف عن البكاء، بل وجدتها حُجة لتكمله وتخرج ما بداخلها، بينما كانت تتحدث من بين شهقاتها:
_ راسي مش راضية تبطل دوشة يا «وتين»، راسي مش عايزة تبطل عايزة اخبطها في الحيطة من الوجع، هما ليه بيعملوا معايا كدا، فين أمي من كل اللي بيحصل، موجودة كأنها مش موجودة.
_طب حقك عليا والله، أهدي
قالتها «وتين» وهي تشدد عناقها لصديقتها المقربة، وظلت تربت على شعرها وظهرها علها تُهدأ من روعها وخوفها.
مر القليل من الوقت حتى بالفعل هدأت وجلست لعدم قدرتها على الوقوف أكثر من الآن، ابتسمت بودٍ «لوتين» وقالت:
_شكرًا بجد لوجودك، أنتِ أحسن صاحبة ليا، وأحسن حد يواسيني ويكون معايا أول حد، الأيام بترزق الناس بصحاب، وأنا ربنا رزقني بيكِ.
ابتسمت لها «وتين» بحنان بالغ، وأجابتها بنبرة شملت الحنان أيضًا:
_أنتِ أعز صاحبة ليا برضو يا «ماسة» ربنا يديمنا لبعض وميضرنيش فيكِ أبدًا، وكل ده هيروح والله، كل ده هيخلص قريب أوي متقلقيش، حقك عليا، بس والله ربنا هيعوضك قريب وعوض كبير هيخليكِ تعيطي فرح بدل الحزن.
_أنا طفشت العوض!
قالتها بضحكة ساخرة، لتضحك معها «وتين» التي تعلم ما بداخل قلبها لأخيها ثم أضافت وهي تنغزها بكتفها:
_بوقك بينقط سكر ياحبيبتي، بقى دي حمدلله عالسلامة يا «زين».
ضحكت الأخرى وهي تمسح دموعها وتجيبها بحنقٍ:
_بت مش عشان هو أخوكِ بقى!
ضمتها «وتين» مجددًا تشاركها الضحكات التي بعد البكاء المفرط، ضحكاتٍ عالية وابتسامة لن تغادر أبدًا لطالما هناك من نشاركه أوجاع الحياة.
********
ومن بر الأمان نجد أشخاص يشاركوننا،
فلا أمان دون شريك، ولا شريك دون أمان،
كلاهما عنصرين متصلين ببعضهما، إن فقدنا واحد، يُفقد الثاني.
كان يقف معه وهو يقول بكل إصرارٍ:
_والله والله، وكل اللي خلقه ربنا أنا ماسرقت حاجة، أنا اتضايقت بجد إنك تشك فيا يا «مُـهاب».
_أنا مشكتش فيك يا «مالك»، بس أنا كمان محطوط في موضع شك، ولازم أعرف مين عمل كدا عشان أنا الناس دي اتهموني بسرقة الفلوس.
قالها «مُـهاب» بضيقٍ شديد، ليومئ له صاحبه بتنهيدة وهو يضيف:
_والله ما أنا، ده أنا مشيت معاك وجيت هنا وقفت في الورشة عشان الشغل الكتير.
كانا سويًا في غرفة «مُـهاب» حتى يتحدثا بعيدًا عن الجميع لخطورة الأمر، وقبل أن يتحدث «مُـهاب» سمع صوت والدته تصرخ، فهرول سريعًا للخارج ليرى والدها يجذب منها الذهب الذي بيدها عنوة، جذبها «مُـهاب» بصدمة وهو يطالعه:
_في إيـــه؟
صاح بوجه والده ودفعه رغمًا عنه بعيدًا عن والدته، ولكن «مالك» أمسكه سريعًا قبل أن يترنح ويقع للخلف بسبب عدم قدرته على تمالك نفسه وأكمل من بين تنفسه السريع:
_خليها تديني الدهب ده، بتاعي أصلًا.
نطقت هذه المرة «هاجر» بصوتها المبحوح الكاره له، وبعلو صوتها صرخت بوجهه:
_أنت راجل، أنت راجــل باللي بتعمله ده، حسبي الله ونعم الوكيل فيك، حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا «عادل» عاللي بتعمله فيا وموريهولي، مش هسامحك أبدًا.
كاد أن يتقدم لها ولكن «مالك» أحكم القبض عليه بقوة وصاح هذه المرة «مُـهاب»:
_كفاية بقى، كفاية، وأهدى شوية يا أخي ده أنت كنت لسه هتموت وهتودع الدنيا، هتقابل ربنا إزاي وأنت كدا، هتقابله إزاي يا حاج يا كبير، قولي!
صفعة قوية هبطت على وجهه، كان حاضرها كلًا من «مالك» و«هاجر» وضيفهم الذي للتو وصل عند الباب بعد أن وصف له «مُهاب» العنوان، ولم يكن سوى «زين»!
أغمض عيناه يحاول السيطرة على أنفاسه، يحاول أن يكون شخصًا عاقلًا متفهمًا برغم من فوج الأعاصير التي بداخله وتود الخروج!
صفعة قوية، ولماذا؟
لأن الحق معه!
_ماشي يا «عادل» اللي تشوفه، أبويا وحقك تديني بالجذمة على دماغي لو تحب كمان، وأنا هكون بار بيك لحد آخر نفس فيا، بس متوصلناش للحظة ربنا يغضب عليا إني عاق، ومتوصلناش للحظة أدعي ربنا وأقوله ليا حق عند أبويا، ووقتها هيكون في ضغينة جوايا ناحيتك.
رمى كلماته في وجه المرتجف مكانه نتيجة ما فعل، ولكن أيفيد الندم بعد فوات الآوان!
ساند أمه معه لداخل غرفته وناولها كأس المياه وهو ينبس بنبرة هادئة
_اشربي ياحبيبتي!
_أنت كويس؟
_كويس يا أمي، كويس يا «هاجر»، ادعيلي كتير عشان أنا مكمل بدعواتك!
دعت له من قلبها، من أعماقها، فمال يقبلها على رأسها وتحرك يغلق عليها الباب وتركها كما العادة هنا في غرفته بعيدًا عن والده، ثم لمح «زين» في مكانه وتحرك معه وخلفه «مالك» دون أن ينبس أحدهم بكلمة.
غادر «مالك» نحو منزله وأخرج مفاتيحه وولج وهو ينادي حبيبة القلب التي عافر لأجلها ليتزوجها:
_«مـروة»!
خرجت له من المطبخ بابتسامة تُزين ثغرها مُرحبة به:
_حمدلله عالسلامة، «مُـهاب» كان عاوزك ليه؟
_شغل يعني، أنا جعان أوي عاملة أكل إيه؟
تقدم لها وهو يقول كلماته، لتبتسم له بخفة:
_شاورما، غسل عشان ناكل..
أمسك يدها وجذبها له:
_طب ما تيجي احكيلك على حاجة أحلى، وبعدين نبقى ناكل!
_«مالك»!
قالتها بتنبيهٍ له، ليقول بضجرٍ على خجلها المُفرط:
_قلبه!
يتعمد إحراجها مجددًا، فضحكت بخجلٍ ليضحك معها قائلًا:
_اوعى شكلها غمزت ولا إيه!
لعوب، وكم يعشق خجلها ذلك!
******
بينما على الجهة الأخرى، حيث هنا الشيء ونقيضه!
ركب رفقة «زين» السيارة للمشوار المطلوب، حيث المكان الذي أرسلت لهما العصابة عنه ليكونا هناك، وللصدفة إنه هنا بداخل الحارة ولكن بمصنع مهجورٍ!
_أنت كويس؟
سأله «زين» بهدوءٍ شديد ليومئ له:
_فيه من ده كتير، متقلقش متعود.. أنت متأكد إننا لازم نروح المكان ده!
حاول «زين» المزاح بقوله:
_أنت خايف ولا إيه؟
_مبخافش غير من اللي خلقني وبكرا تشوف، سرع شوية!
رمى كلماته بلا مبالاة ليقول الآخر بسخرية:
_لا عشان منعملش حادثة تاني!
وبسخرية مجددًا قال «مُـهاب» وبصره مُعلقًا بالخارج:
_شكلك أنت اللي مبتعرفش تسوق.
أنهى جملته مع توقف «زين» بالمكان المنشود، وتحركا سويًا للخارج وهما يسيران بهدوءٍ شديد جوار بعضهما، وقبل أن يدهس «زين» بالمكان الذي يسيران به أوقفه «مُـهاب» سريعًا وهو ينظر أسفل قدميه بصدمة.
جثة؟
جثة مقتولة تنزف الدماء من رأسها، حيث موضع الرصاصة في منتصف الرأس!
طالعه «مُـهاب» بصدمة وقال بفمٍ مفتوحٍ، وبملامح مشدوهة:
_إيه ده!
وبنفس الصدمة كان يتابع «زين» هو الآخر ذلك، وأجاب ببراءة على ذلك الموقف المرعب:
_وأنا إيه عرفني، بس إحنا، إحنا لازم نمشي حالًا.
_يخربيت معرفتك الهباب، إيه حدفك عليا؟
هدر بها بصوته الأجش بوجه ذاك الحانق أمامه ليجيبه بنبرة ساخطة:
_على فكرة أنا أبن ناس والبهدلة دي متلزمنيش، أنا «زين سليمان رشوان»!
طالعه الآخر شزرًا وهو يقترب منه مُمسكًا إياه من تلابيبه وصاح بغضبٍ:
_وهو أنا اللي ابن كلب يعني، ما أنا «مُهاب الجزار» ومتنططتش عالناس، والبهدلة دي أنت السبب إننا نكون فيها!
وعلى غفلة سمعا صوت إطلاق الرصاص الذي قطع شجارهما العنيف، نظرا لبعضهما بذهولٍ وهدرا بنفس الثانية بصوتهما المرتجف:
_إجـــري!
تعليقات



<>