رواية ابني ابنك الفصل الرابع والعشرون24بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك
الفصل الرابع والعشرون24
بقلم امينة محمد
طعنة الهوية»
وسط سكون اللحظة وكثافة المشاعر، كان يقف أمام قلبه الذي انتظر طويلًا حتى يناله، بعد سنواتٍ من الوحدة والخذلان، أخيرًا حصل على ما لا تشتريه الثروات ولا تداويه السنين؛ أحبّ، وحصل على من يحب. لم يكن المشهد كما تخيله كلّ أحد، لا في بهاء الفرح ولا في سعادة مبتذلة كما يرسمها الجميع، بل كانت السعادة هنا في جوهرها الخالص، في رضى قلوبٍ أنهكها الطريق الطويل والليل الثقيل.
عرف «زين» لأول مرة، أن الحب الحقيقي لا يأتي مع الزينة والمظاهر، بل في اللحظة التي تجد فيها عيونًا ترى داخلك، وتشعر بكلّ ضعفك دون أن ترحل.
كان المأذون يعقد قرانهما وسط ضوء خافت وأعين أمه وأخته، واتى المأذون باثنين ليشهدوا على هذه الزيجة أيضًا، لم تكن المناسبة عظيمة ولا الزينة مبهرجة، لكنها كانت لحظة من نور، تُضيء عالمًا بُني على الصبر والتحمّل..
أمسك زين بيدها بعد انتهاء كلماتٍ المأذون:
_بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
فتلاقى النظر بينهما بمشاعر عدة جميعها فياضة، ولكن كان هنالك نظرة أقوى تخرج من عيونهما، نظرة الحب نظرته عليها بعدما حصل على مبتغاه، وكأن بوصلة قلبه استقرت أخيرًا مشيرة نحوها هي فقط.
حينما غادر المأذون وباركت له أخته بعناقٍ قوي تربت على ظهرها وتهمس لها بكلماتٍ كانت بمثابة شفاء لروح صديقتها:
_ربنا يباركلك ويراضيكِ يارب يا «ماسة»، كل حاجة هتكون كويسة زي ما اتمنيتِ ويمكن أكتر.. متقلقيش.
كذلك باركت لأخيها وأيضًا فعلت المثل أمه، ولكن بهدوءٍ تام فالحزن سيطر على قلوب الجميع أسفل سقف هذا المنزل، حزن شديد وقوي معبرًا عما أصاب رب الأسرة..
وحينما انتهيا جذبها معه نحو غرفته ليتحدث رفقتها ولو للحظاتٍ، عندما أغلق باب الغرفة خلفه، لم يترك يدها بل زاد من إحكام قبضته عليها، كأنها الحبل الوحيد الذي يربطهما بالحياة.
نظر إليها بعيون امتلأت بالمشاعر، وقال بصوت يكاد يكون همسًا يخفي خلفه سنوات من الاشتياق والحاجة:
_أنا عارف إن اللحظة تقيلة عليكِ، وعارف إن كل حاجة بنمر بيها سوا صعبة، بس مافيش حاجة هتعدي من غير ما نكون سوا وايدنا في إيد بعض، مش طالب منك أي حاجة ولا طالب منك تقدميلي حاجة غير وأنتِ كويسة وقادرة.
اقترب منها، وكأن كلامه قد صار خيطًا يصل روحيهما، وأكمل:
_أنا مش هسيبك، مهما كترت همومي أو زادت متاعبي، انتي مش مجرد حب، انتي زي الحلم اللي صحيت منه واتمنيت لو يرجع تاني.. مكنتش فاهم يعني إيه قلب ينبض بحد، لحد ما شوفتك..
يعرف جيدًا مدى احتياجها لكلامٍ مثل هذا، فلم يبخل عنها بالبوح عن مشاعره إطلاقًا.
ابتسم وهي ما زالت تشاهد عيونه التي تكشف عن حياة أخرى، حياة لم تعرفها من قبل.
_انتي أجمل حاجة حصلتلي، ولو الدنيا كلها اتقلبت، هفضل أحبك ومتمسكِ بيكِ، مهما الناس قالوا ومهما حصل، هتفضلي أنتِ الدفا اللي كنت بدور عليه..
ظل ممسكًا بيدها وكأنها قد صارت جزءًا لا يتجزأ منه، لا يتصور لحظة دون أن تكون بجواره، شددت الإمساك على يده كما اعتادت في تعبيرات الحب خاصتهم..
في احتضانِ الأيادي ينسابُ الدفء بلا كلمات،
تفيض منها أنهار الطمأنينة لتسكن قلوبًا أنهكها الطريق وفَقدت البصيرة.
تَلتفُّ الكفوف كَنجمٍ يحضن السَّماء في ليلٍ طويل،
تغرس في الصدور صرحًا يقول:"هنا موطنك، هنا أمانُك"
هي لغة الحُب المُطلقة، حينما تستكين الأيدي وتصبح عناق الأبدية.
كانت نظراتها إليه تحمل حبًا عميقًا يتجاوز حدود الكلمات، عيناها تفيض بسلام لم يجده إلا في حضرة بريقهما، وكأنهما نافذة يطل منها على عالم هادئ لا يعرف سوى السكينة.
ابتسامتها الرقيقة تستقر على شفتيها كزهرة تفتحت على مهل، وملامحها المرتاحة تشع بهدوء يُغمر به قلبه، كأنما تجد في وجوده الأمان الذي ظلّت تبحث عنه.
تطالعه بمحبة تشبه حنان الأمواج حين تعانق الشاطئ، وكل لمحة منها تهمس بسرٍ دفين، سرّ أنها وجدت فيه وطنها وملاذها الأخير:
_لو الدنيا كلها هتكون مسكة ايدك ليا بالشكل الحنين ده فأنا مش عاوزة حاجة من الدنيا تاني، ساعات كتير بتمنى لو الدنيا تقف وإحنا جنب بعض وأنت ماسك ايدي بالدفا ده، كل رفض كان مني وكل قبول كان منك، ومزهقتش يوم من محاولاتي في البُعد..
عبَّرت هي الأخرى بكلماتٍ طالما كافحت لتفصح عنها، لكنها اليوم انطلقت أخيرًا من بين شفتيها لتستقر كوشمٍ في عُمق شرايينه، تتغلغل في أوردته وتلامس قلبه كنبض جديد، كأنها بريقُ أملٍ استقر داخله ليضيء ظلماته.
كلماتها لم تكن مجرد حديث عابر، بل كانت صيحةً تُلهبُ روحه وتحثّه على المضيّ قدمًا، ليُحارب من أجل عينيها وحدهما، وكأنها جعلته يرى في كُل صراعٍ معنى، وفي كُل مواجهةٍ هدفًا؛ وهو الوصول إليها، والعيش في ضوءِ ابتسامتها، مهما اشتدت عليه الظُلمات.
شدد إمساكه ليدها كأنما يجيب على كلماتها في هكذا لحظات كان ينتظرها منذ زمن، لحظات تشابك الأيادي..
لغة الحب حين تتشابك الأيادي،
هي قصيدة بلا حروف،
نبضها يختصر المسافات،
هي همس الأصابع في خجل،
تبوح بدفءٍ عميقٍ
في عناق الأيادي تكمن حكاية لا يدركها إلا الصامتون،
شريان من السكينة يجري بين الكفين،
يطفئ برد الوحدة، ويُشعل وهج الألفة،
كأنما الكونُ كله صار نقطةً دافئةً بينهما.
هنا الحب بلا قيدٍ ولا صوت،
تترجمه اللمسات حين يضع كل قلب ثقله في الآخر،
فيصير هذا العناق البرئ خريطة سرية، لا يعرفها إلا من حمل الحب برفق، وآمن أنّ الأيادي حين تلتقي، تشيّد وطنًا من سكون.
*********
في صباح جديد، تنسدل أشعة الشمس الذهبية برفق على الأرض، وكأنها تعزف لحنًا من الأمل والتفاؤل، يستيقظ العالم من سباته العميق، وتتفتح الزهور لتتراقص برفق في نسيم الهواء العليل، كل شيء يبدو وكأنه يبتسم، حتى السحاب الذي يمر بهدوء يعكس شعاع الفرح.
في زوايا النفس، تتجدد الرغبات وتزهر الأحلام، كأنما كل تجربة مضت، سواء كانت حلوة أو مُرة، قد تركت بصمة في الروح، مُحفزةً على الانطلاق نحو ما هو قادم.
يوم جديد بمعنى فرصة جديدة، فرصة لنبدأ من جديد، لنصلح ما تم كسره، ونحقق ما طالما حلمنا به.
في دروب الحياة المتعرجة، تتجلّى القسوة أحيانًا كأنّها جزء من طبيعتها، تحملنا من اختبار إلى آخر، ومن ألم إلى آخر، وكأنها تقول لنا:"لا راحة هنا، لا أمان بلا ثمن."
كل خطوة تُقابل بتحدٍّ، وكلّ علاقة قد تزرع فينا جراحًا بقدر ما تمنحنا الدفء وسط تلك الوحشية المبطنة، علينا أن ندرك أنّ النجاة ليست بانتصار دائم أو براحة متواصلة، بل في ذلك السلام العميق الذي نصنعه لأنفسنا، السلام الذي ينبع من قبول حقيقة الحياة كما هي، بآلامها وبأفراحها العابرة.
العبرة ليست في تجنّب الألم، بل في تحمّله دون أن يُكسّر أرواحنا، كلّ خيبة هي درس، وكلّ جرح هو وعيٌ جديد؛ وفي النهاية، وحده من يحافظ على قلبه نقيًا وسط هذا الزحام، وعلى روحه مشتعلة بالأمل رغم خيباته، هو من يستطيع أن يمضي وهو مدرك أنّ الحياة على وحشيتها، تحوي جمالًا خفيًّا لأولئك الذين يعرفون كيف ينظرون بعين القلب.
جلس «مالك» بجوار «فيروز» في حديقة صغيرة، تحت شمس بدت وكأنها تضيء براءتها البادية على وجهها، بينما في قلبه كانت تتلاطم أمواج القلق والخوف.
عيناه لم تفارقا نظراتها، ثم سألها بصوت يحمل ثقل المسؤولية:
_ها يا «فيروز» هتعرفي تودينا للمكان اللي كنتِ فيه تاني؟
أومأت له الصغيرة بينما تأكل المثلجات التي اشتراها لها وهي تجيبه:
_آه أعرف، بس مش هتسيبني معاهم أبدًا صح؟ رجعني البيت اللي كنت فيه مع طنط المسؤولة «عبير»!
قوس حاجبه باستغراب وهو يمرر بصره عليها بتساؤل:
_مين طنط المسؤولة دي، هو أنتِ مكنتيش عايشة مع ماما وبابا؟
هزت رأسها بنفي وأكلت من المثلجات بانشغالٍ عنه، فتنهد ومسّد على شعرها بحنانٍ بالغ، ثم أخذها نحو الحارة مجددًا بعدما أتصل «بمُـهاب» يخبره بذلك وحينها أخبره الآخر أنه سيخبر شخصًا ما دون تدخلهم هما.
وبالفعل رفع الآخر هاتفه يتصل «بيامن» لا غير، فهو لا يعرف غيره ليخبره بما عرف...
_أنا في المطار مسافر برا مصر، هبلغ القوات يتحركوا ومتدخلش نفسك يا «مُـهاب» خلاص!
نبس بها «يامــن» بصوتٍ خافت يحمل الثقل الذي فوقه، ليجيبه الآخر بحدة ثم أغلق الإتصال:
_متقلقش أنا مش مدخل نفسي تاني في حاجة حتى لو هيولعوا كلهم كفاية كل اللي خسرته، سـلام!
وبعد لحظات قليلة، بتوجيه «فيروز» التي تعلقت في عنق «مالك»، وكانت أقدام الشرطة تقتحم المكان كالإعصار، ودوّى صوت خطواتهم كنبضات واثقة وهي تقترب من النهاية..
صدمة اجتاحت العصابة، كأن الزمن قد توقف للحظة؛ بينهم كان يقف «حسني.»
أخرجوا الأطفال كلهم تحت مرمى «مالك» المصدوم، وأخرجوا منهم الميت المأخوذ منه اعضائه، ومنهم المتعب والمريض، منهم المثقل بالهموم، وحينما تحركوا وخرج بعدهم «حسني» كانت الصدمة أكبر على «مالك» الذي ردد بملامح مشدوهة:
_الشيــخ حُسـني!
ولحظه كان يقف يتابع كل شيء بدراجته النارية من بعيد، وحينما لمحه صُدم هو الآخر وتقدم سريعًا ليفهم ما الذي يجري هنا وأي ترهات تدور هنا!
وقف أمامه، ملامحه تجسد صدمة عميقة، عينيه اتسعتا كأنهما تبحثان عن إجابة مستحيلة، وفمه انفتح قليلاً كأن الكلمات توقفت في حلقه، ولكنه جمعها بعد ثوانٍ قائلًا:
_أنت بتعمل إيه هنا؟
_أنا أساس كل اللي بيحصل هنا!
ابتسم حسني ابتسامة شاحبة، وحملت بين طياتها السخرية.
سأل الآخر مجددًا وكأنه يعلم أن الإجابة كما توقع:
_وبنتك!
_اتاخدت مكان مراتك!
كل كلمة منه كانت كسكين في قلب «مُـهاب»، والأرض تحت قدميه بدأت تهتز كأنها تنسحب منه، كيف يمكن لرجل كان يمثل الأمان أن يكون جزءًا من هذا الظلام الذي ألقى بظلاله على حياتهم؟
لم يشعر بنفسه إلا وقد وجه له لكمة قوية، ارتطمت بفمه فأدميت شفتيه وسالت الدماء، كان يعلم أنه يستحق تلك الضربة، بل يستحق كل إهانة تلحق به في تلك اللحظة، لكن الضباط تدخلوا سريعًا، مانعينه من متابعة انتقامه.
ووسط عاصفة الغضب التي اجتاحت قلبه، صرخ بوجهه بصوت عالٍ، تعبيرًا عن مشاعر لا يمكن احتواؤها، وكأن كلمات الغضب كانت تخرج منه كالسيل الجارف:
_حسبي الله ونعم الوكيــل فيـك، أنت معندكش قلب، أنت شيطــان، ربنا ياخدك ويكون مصيرك جهنم، حسبي الله فيك!
ولم تكن إجابة الآخر سوى نظرة شيطانية لم يهدأ حتى، ولكنها لم تكن النهاية تمامًا..
بدأت الشرطة بلم شتات الأطفال وتوجيههم إلى الأمان، وكان من بينهم «فيروز»، التي تبين أنها اختُطِفَت من الملجأ، بلا عائلة أو مكان تنتمي إليه.
**********
«بعد مرور أربع أيام»
كان غارقًا في نومٍ عميق، كأنما أُخِذ إلى عالمٍ من الراحة طالما كان بعيدًا عنه، أخيرًا استطاع أن ينال لحظات من السلام النادر، لكن شيئًا غريبًا لمس وجهه، زفر بتململ وهو يحاول إبعاد ما أزعجه، إلا أن الإحساس لم يختفِ.
فجأة شعر بيدٍ تُلامس بشرته، فانعكست ابتسامة حالمة على شفتيه، كمن يهمس لعطر الصباح بحبٍ بالغ، نبس بصوت خافت، وكأنه في حلم سعيد:
_«غنى»، ده أحلى صباح عامةً.
لكن صوتًا خشنًا، عميقًا، اخترق سكون اللحظة، فأعاد إليه وعيه كالصفعة:
_لا.. أنا «زين»!
انتفض «مُهاب» كأن الكهرباء سرت في جسده، وإذا به يسقط عن سريره فجأة، عيناه متسعتان وفكه مشدود بفزع لرؤية هذا الشبح الرجولي جالسًا إلى جانبه بلا مبالاة، كأن الأمر طبيعي!
تلاعبت عينا زين بتفحصٍ غريب، وهو يهمس ببراءة تامة بينما يداه تتشابك بارتخاء على ركبتيه:
_رموشك طويلة أوي زي أمي، شكلك ورثتها منها!
كلمات «زين» تلك كانت كشرارة أشعلت عروق «مُهاب» فاستعاد وعيه بسرعة وتدفق الدم في وجهه بغضبٍ كأنما يستشيط من داخل أعماقه.
تقدّم إليه بخطواتٍ ثقيلة ووجهه متجهم، ليقبض على تلابيبه بقوة، وعيونه تضيق بغضبٍ مستعر، ونبضت أنفاسه بشكلٍ متسارع، كأن كلماته تأتي من عمق صدره، غاضبة، نارية:
_أنت دماغك مهوية يالا ولا إيه، أنت بتعمل إيه على سريري على وش الصبح؟
لم يتحرك «زين» سوى ليميل برأسه ببرودٍ، وكأنه لا يبالي بنوبة الغضب التي تحاصره، نظر إليه نظرة ساكنة وبرودٌ جليدي يغمر ملامحه، ثم تنهد بلامبالاة قبل أن ينطق بهدوء مميت، كأنه يروي حكاية عابرة:
_جاي أشوفك ونقعد نتكلم شوية، وهنتكلم يعني هنتكلم، أنا خبطت وطنط فتحتلي قالتلي أدخل صحيه هو نايم، وجيت اصحيك، غرضي شريف على فكرة!
ازدادت ملامح «مُهاب» صلابة، كأن غضبه تحول إلى حجر، واحتدت نظراته لدرجة كادت تنفجر منها الشرر.
ضغط على أسنانه وهو يحدق في زين بعينين مشتعلتين، ثم همس بوعيد خطير:
_شريف ده أنا هخلص عليه هو وغرضك وأنت ذات نفسك لو ممشتش من بيتي، أنا قولتلك مافيش بينا كلام!
ظل على بروده، ينظر إليه بثقة لا تتزعزع، وبنبرة هادئة كأنما يسرد حقيقة ثابتة، قال:
_مش همشي عمومًا وهنقعد!
حينها تحرك «مُهاب» بعنفٍ ملتهبًا كالإعصار، وصوته الصارخ يهدر:
_على جثتي يا «زين»!
بعد قليل
_ها عاوز تقول إيه؟
كانا يقفان معًا في الشرفة بينما «زين» ينظر إلى «مُـهاب» بابتسامة منتصرة تلمع في عينيه، بينما ارتسم الغضب على ملامح «مُـهاب» وكأنما وجهه يشع بالاستياء المكبوت.
أخرج علبة السجائر، وحين مد يده ليأخذ واحدة، لمح يد زين تمتد بخفة، متوسلًا بلطف مستتر:
_هات واحدة!
ضاقت عينا «مُهاب» بنظرة ازدراء، وهو ينظر إلى العلبة كمن يودعها، قبل أن يرد بتهكم مرير:
_بوزع بونبوني، عارف العلبة بقت بكام؟
ضحك «زين» بقهقهات خفيفة، بدت وكأنها تنساب بلا اهتمام:
_خليها عليك، ربنا يرزقك..
تنهد وكأنه يحاول انتشال نفسه من بئر الانزعاج، صمت للحظة، ثم انطلق يتكلم بنبرة تخفي تحتها ثقلًا من الأفكار العميقة:
_إحنا لازم نعرفهم الحقيقة يا «مُهاب»، من حقهم يعرفوا كل حاجة هنبقى بنظلمهم لو خبينا، وبعدين لو ربنا مش رايد إننا نعرف مكناش عرفنا طول عمرنا، بس طالما عرفنا هما لازم يعرفوا
زفر الآخر زفرة ثقيلة كأنما تحرق صدره قبل أن ينطق بصوت خفيض ومهزوم:
_«هاجر» مش هتستحمل الكلام ده، ولا أعتقد أمك تستحمله!
تعلقت نظرات «زين» به، وعيناه تعكسان ثقلًا يعجز عن الهروب منه، أومأ برأسه قليلًا، وقال بتنهيدة عميقة كأنها تأتي من أعمق نقطة في قلبه:
_هي فعلًا مش هتستحمل بس هنحاول، صدقني الموضوع صعب أوي علينا كلنا بس لو فضلنا سوا هيعدي ان شاء الله والله.
ارتخت نظرته، ورفع عينيه نحو الأفق كأنما يتأمل المصير، ثم تابع بنبرة تعكس لوعةً مزيجة بالحيرة:
_يعني كل حاجة فحياتنا المفروض تتعكس، المفروض أكون أنا هنا وانت هناك!
رمق «زين» بنظرة مليئة بالدخان المتصاعد من سيجارته واكتفى بالايماء برأسه، ليكمل الآخر بهمسٍ به بعض السخرية:
_أنت ابن «رشوان» وأنا «الجزار»!
_سبحان الله حاجة مكناش نعرفها فعلًا!
نطق بها «مُهاب» بسخرية مليئة بالدهشة، فابتسم زين ببلاهة، ونطق كأنه يكتشف الأمور لأول مرة:
_أنت اسمك «زين» وأنا اسمي «مهاب»!
قاطعه لأنه لم يتمالك نفسه، رفع يده محاولًا قمع هذه الدعابة الجادة بنبرة أكثر جدية وهو يقول:
_لا صلي عالنبي، «زين» يكون اسمي إزاي، أنا خليني فاسمي وأنت خليك فاسمك الله يراضيك!
ضحك «زين»، وتفوه بامتعاض متصنع كأنه يكشف خدعة مدروسة:
_وقعتك في الفخ، كنت حاسس إنك مبتحبش اسمي!
أردف بها «مهاب»ساخرًا بخفوت:
_وأحبه ليه هو أنا كاتب عليك يالا ولا إيه، فوق كدا وبطل تقول كلام مش منطقي أصلا شكل دماغك لسعت، أنا داخل البس عشان نروح أنا وأنت و«هاجر» عندكم البيت نقول الكلمتين اللي هنقولهم..
حملق زين فيه ببعض الضيق، وقال بحاجبين معقودين ونبرة معترضة:
_ممكن متقولش عليها «هاجر» كدا وتناديها بلقب عشان بدأت اتضايق؟
قوس «مُهاب» حاجبيه وبابتسامة ماكرة وكأن الغضب صار له لعبة بالنسبة له، مال نحو الداخل ورفع صوته قليلًا كمن ينادي من أعماق قلبه:
_«هاجـر» البسي عشان رايحين مشوار!
كانا مستفزَّين بقدر ما كانت صداقتهما دائمًا، كأن هذه الدعابات الملتهبة تحافظ على تماسك قلوبهما.
ورغم ذلك، كان هنالك ثقل في الأجواء، إحساس بالقلوب المثقلة بالألم، وكأن كل دعابة لم تكن إلا غطاءً لمحاولات البقاء صامدين في هذا الطريق الطويل الذي ما زال يمتد أمامهم.
**********
كأنما عصف بنا القدر في لحظةٍ خانقة، فتحنا أعيننا على صدمةٍ تقطّع نياط القلب وتتركه كريشةٍ في مهب الريح.
من أين جاء هذا الألم الذي يمزق الصدر كسهام غادرة؟ من أين جاءنا هذا الخبر الثقيل الذي ينسف ما حسبناه يومًا يقينًا؟
أين تلك القلوب التي احتضنت ووهبت وأحبت دون شرطٍ ولا مقابل؟
كيف صار لها أن تُجرح وتُدمي،
وهي التي وهبت الحنان والدفء في أبهى معانيه؟
تاهت نظراتنا في هذا الفراغ البارد،
كأن أرواحنا تُنتزع منا، وكأن شيئًا في داخلنا قد تكسر للأبد.
الجرح عميق، عميق حتى لم يعد له نهاية، وتلك الدموع التي كانت تسكن عيوننا وتنتظر السقوط في لحظات الانكسار، أبت الآن إلا أن تنهمر، كأنها آخر ما تبقى لنا من لسانٍ نعبّر به عن قهرٍ وحرقةٍ لا تُحتمل.
أهٍ من الألم حين يكون قاسيًا،
ومن القهر حين يكون عميقًا،
ومن الصدمة حين تأتي لتنسف السكينة في لحظة واحدة،
تتركنا بلا ملامح،
بلا صوتٍ،
وبلا وطنٍ نستند إليه.
في غرفة تجمعت فيها الأرواح المحطمة، وقف «زين» وسط الجميع، يقاوم اهتزاز صوته وعينيه تحملان بؤسًا عميقًا، بينما التوتر يشد أطراف وجوه الحاضرين.
حدق في ملامحهم المتعبة، ثم أخذ نفسًا عميقًا وبدأ بالكلمات التي تهتز بحقائق ثقيلة:
_فيه خبر لازم كلكم تعرفوه، ممكن يكون تقيل شوية بس لازم يتقال لأنه مش هينفع يتدفن سنين تانية كتير.. يوم ما اتولدت، ويوم ما «مُهاب» اتولد 15/10، وقتها كان فيه عصابة في المستشفى بتتاجر في الأطفال واللي بسببها بابا دلوقتي في المستشفى، حاولت تخطفنا بس محصلش ده ...
ثم يغمض عينيه يستجمع قوته، ثم نطق مجددًا:
_واتبدلنا أنا وهو وقتها، يعني هو «مُـهاب سُليمان رشوان» وأنا «زيــن عادل الجزار»!
صمتٌ غطى الغرفة كستار من الحديد، وعيون تتراقص بين الشك والذهول، تبحث في وجهه عن كذبة تمسك بها.
ابتلعت «هاجر» ريقها بصعوبة، وبدت كمن انهار الجبل على أكتافها، ثم تدفقت دموعها بهدوء كدمع شجرة تنزف من جرح خفي.
نطقت بصوت خافت، كأنها بالكاد تستطيع حمل هذه الكلمات على لسانها:
_يعني إيه يابني الكلام اللي بتقوله ده، أهدى كدا أنا ضنايا جنبي أهو وفي حضني طول السنين، اللي بتقوله ده مينفعش..
هنا تدخل «مُـهاب» قائلًا بحنانٍ بالغ على أمه:
_أنا ابنك يا أمي متقلقيش، التقارير للأسف أثبتت ده، وأبويا قبل ما يموت اتكشفت قدامه الحقيقة، وكمان الأستاذ «سليمان» عرف، أهدي أنا معاكِ وابنك حتى لو الكل قال لأ..
في تلك اللحظة شهقت «سامية»، وكأن صدرها ضاق بالحقيقة التي تحاول دفنها، ومدت يدها نحو «زين» الذي استقبلها في احضانه بتردد كأنها تحاول الإمساك بذكرى من ضباب.
ثم نطقت بصوت يرتجف بالغضب، وحاجباها معقودان كأنهما يسدّان بابًا على شيء لا تريد أن تراه:
_لا، لا، دي مش حقيقة! انت ابني يا «زين»، انت ابني، إزاي تقول الكلام ده؟!
ثم انقلبت عيناها على «مُهاب» نظرتها كالسهم الذي خرج يبحث عن هدفه، وفي لحظة سادتها العصبية، انفجرت بصوت مرتجف بحدة:
_وأنت؟ أنت جاي تلعب بالعيلة.. بتلعب لعبة جديدة عشان تضحك علينا وتكسب ملايين؟ أنا معنديش ابن غير «زين»
ارتبك «مُـهاب»، انكمشت ملامحه وكأنها تحاول مقاومة شيء ينهار في داخله، لكنه لم ينطق؛ عينيه متجمدتان من الصدمة، وكأنه يتجرع كلمات «سامية» كعلقم.
كان يشعر بوزن كل حرف، وكأن قلبه يشتعل لكنه مجبر على التماسك أمامهم.
أما وتين، فبقيت تقف إلى جانبهم، ملامحها جامدة، ويداها ترتجفان بخفّة كأوراق شجرة هزتها ريح قوية، حاولت أن تلتقط أنفاسها بينما تحدق في «زين»، تبحث عن تفسير لهذا الكابوس.
نطق «زين» بصوت أثقل مما كان عليه، بصوتٍ يحمل أملًا مكسورًا، محاولًا إخماد النار التي اشتعلت في قلب أمه:
_ماما... أنا مش بلعب ولا بهزر، كل دا حصل من زمان، ولو مش مصدقانا التقارير معايا تثبت كل حاجة!
_لا، مش عايزة تحاليل! انت ابني، انت زين ابني! دي مجرد كذبة من حد عايز يضيعنا!
في تلك اللحظة
«زين» و«مُهاب» تبادلا نظرات خافتة، نظرات لم تجد كلمات تعبّر عنها، لكنهما شعرا بتلك الطعنة، طعنة الهوية التي تخلخلت بينهما، وتركت ندوبًا لن تمحوها الأيام.
أيا قلبًا شقيًا قد تلاعبت به الأقدار،
وقلب أم تألمت، واشتدّ فيها النار،
أهذا حقٌّ يُقال الآن في لحظةٍ عمياء،
ونحن خُدعنا في الدنيا، وغاب عنّا الأسرارُ.
تبدّل طفل بطفل، دونما علمٍ أو وداع،
وصار الدمع ملجأنا، فكيف يكون المآبُ؟
تغيرت الوجوه، وتبدلت بين الأيادي..
والخوف صار رفيقنا، وعمّ فينا الصداعُ!
يا ليلًا طويلًا لا يجفّ فيه الجراحُ،
غدونا ندرك أنّ في العتمات أحزانًا،
وأنّ كلّ ما عشناه بات من سرابٍ،
وكلّ ما قد خفي اليوم جاء عيانًا.
أواه من قلبٍ قد مزّقه الحنين،
وذاك الحضن يبحث عن يقين،
كيف يحتمل الصدر، وكيف يصبر،
حين كل شيء صار دون أنين.
تعليقات



<>