رواية ابني ابنك الفصل الرابع4بقلم امينة محمد


 رواية ابني ابنك

 الفصل الرابع4

بقلم امينة محمد

«فراق»

وضع مأساوي لا نحسب له حساب ولا نضع له أي احتياطات، فنجد أنفسنا فجأةً في شيء لا يمكن الفرار منه..
إما المواجهة، أو الموت.
دعني أخبرك أن المشاركة في كل شيء مُوصىٰ بها، سواءً كان في العلاقات أو في الصداقات، فلا يمر المرء من صعوباتٍ إلا بيدٍ تساعده وتنجده، كما حال شخص مكبل الأيادي لن ينجده سوى غيره.
اثنان، متناقضان، رجلان؛ كلاهما يحملان اختلافات جوهرية، وهذا هو ما يتوجب وجوده.
ركضا سويًا بعدما فُزع كيانهما من تواجد جثة، ثم صوت إطلاق النار في أرجاء المكان، وعندما وصلا نحو سيارة «زيـن» استمعا لصوت صفير سيارات الشرطة.
_يا نهار حلاوة، البوليــس!
عبر «مُـهاب» بتلك الكلمات بصوته المصدوم، الآن توقف إطلاق النار، وهما هنا رفقة الجثة!
حاصرهتهما الشرطة وتحرك العساكر نحوهما يمسكون بالمتهميّن أمامهما، حاول «مُـهاب» التبرير بكل هدوء حتى لا يُشك بهما:
_ياباشا إحنا الموضوع ده متلفق لينا، والله دي مؤامرة علينا إحنا لسه واصلين.
_اتحرك يالا أنت وهو.
قالها الضابط بحدة ليطالعا بعضهما بنظراتٍ فزعة، ما القادم؟ هما الآن في جريمة قتل ويجب أن يكون الدليل واضحًا ليحصلا على البراءة.
_هتصل بـ بابا أكيد هيجيب محامي ويجي يخرجنا.
كان ذلك صوت «زيـن» وهو يعبث بهاتفه في محاولة للاتصال بوالده وهما في صندوق سيارة الشرطة، بيمما الثاني حاوط رأسه بكفيه مُتحسرًا على كل شيء.
وبعد وصولهما لمركز الشرطة تم تفتيشهما بنجاح وإخراج كل شيء معهما، ثم ألقى بهما العسكري في الزنزانة ليمرران بصرهما على المتواجدين بأشكالهما المُرعبة رُبما...
تحرك واحدًا يبدو كما المجرمين تمامًا ودار حولهما وهو يمرر بصره على كلًا منهما بتركيزٍ واضح:
_واقفين كدا ليه يا مسكر أنت وهو، اقعدوا يلا.
تنحنح «مُـهاب» وأومأ له برأسه وجذب في يده «زيـن» وجلسا رفقة بعضهما ومازالت الأنظار عليهما مما جعل تساؤل «زيـن» في محله عندما مال برأسه ناحية «مُـهاب» يسأله:
_هما بيبصوا كدا ليه؟ أنا عمري ما دخلت سجن قبل كدا
طالعه «مُـهاب» شزرًا وهو يقول على مضضٍ حتى لا يلفت الإنتباه لهما:
_هو أنا اللي مكتوب على وشي يعني دخلته قبل كدا، تلاقيهم بس بيفكروا إزاي يقلبونا أو يطلعوا مننا بمصلحة، فأخرس خلينا نشوف هنعمل إيه في اليوم ده.
أومأ «زيـن» برأسه ومازال يمرر بصره على الجميع، حتى وجد واحدًا منهم يلوح له، فقام بمبادلة التلويح أيضًا ليهمس له «مُـهاب» وهو يجز على أسنانه بضيقٍ شديد:
_الله يبتليك بمصيبة يابعيد، أنت بتعمل باي لمين يالا..
_اسمي «زيـن» مش ولا.
عقب «زيـن» معترضًا ليجيبه الثاني بسخرية وهو يرى من لوح له صديقه الغبي يتقدم منهما:
_طب قابل يا حيلتها... يالا
وقف ذلك الرجل الذي وجهه به عدة جروح ويبدو وكأنه من أهالي السجون، مرر بصره على ملابس «زيـن» المهندمة لتتوسع حدقتيه بصدمة وهو يراه يرفع كنزته ليضع يده مانعًا إياه بصدمة:
_كله إلا الشرف، أنت بتعمل إيه ياجدع أنت..
ضحك الجميع بينما «مُـهاب» كتم ضحكته وهو يرى ذلك في وضع مزري، وسمع الآخر يقول له بصوتٍ مخيف:
_شرف إيه يا حلوة، هات الهدوم دي، تلزمني.
_وأنا هلبس إيه حضرتك!
سأل «زيـن» بكل براءة ليجيبه ببساطة:
_هدومي
مرر بصره على ملابسه المتقطعة ذات الوضع المخزي، أسيرتدي تلك الملابس في النهاية، أتجه بحديثه لنقطة لم يكن ليتمنى أن يقولها لو فكر لثانية قبل أن يتحدث، بملامح مشمئزة وصوتٍ خافت:
_دي مش ماركة، وبعدين متقطعة وحالتها صعبة، وبعدين حضرتك أنا هلبس مكانك إزاي دي دلوقتي مليانة ريحة عرقك.
اشتعلت عينيّ الواقف أمامه مما جعله يخنق «زيـن» وهو يصرخ بوجهه:
_مالها ريحة عرقي يالا..
حاول «زيـن» إبعاد يديه وهو يلتقط أنفاسه، يعجز عن التحرك جيدًا بسبب يده المكسورة المُعلقة على كتفه مما جعل حركته مقيدة بعض الشيء.
ولكن طوق النجاة خاصته -من اليوم- وضع يده بقوة فوق يد السجين ذلك، وأبعدها على حين غرة وهو يقف أمام «زيـن» وبعلو صوته هدر في وجوههم بغضبٍ:
_لا بقولكم إيــه، هتتشطروا علينا فأنا أشطر منكم كلكم، كل واحد كلب دماغه هتوزه يقرب ناحيتنا هيزعل من «مُـهاب»، هنفضل قاعدين هنا لحد ما نطلع من المخروب ده، أي واحد هيعدي الخط الوهمي ده، يقول على نفسه يا رحمن يا رحيم، فاهمين يالا أنت وهو!
كان صوته عاليًا كفاية ومخيفًا أيضًا، مما جعلهم يجلسون في مكانهم دون حركة، هو يعلم أن ذلك تمامهم منذ البداية، يريدون من يصرخ بوجوههم ليجلسوا في أماكنهم، وإن وضحت لهم خوفك سيمارسون عليك الأمور السخيفة كلها..
مرر قدمه على الأرض مشيرًا لخط وهمي، ثم عاد يجلس جوار «زيـن» وهو يطالعه بتنهيدة:
_أنت كويس؟
أومأ له «زيـن» برأسه ووجهه كان حانقًا باللون الأحمر، لم يُوضع يومًا في موقف كهذا، ولم يتمادى عليه شخص ما أبدًا.
مر اليوم بأكمله عليهما هُنا دون جديد، يجلسان جوار بعضهما، وغفى «زيـن» من تعبه واضعًا رأسه على كتف «مُـهاب»، مما جعل الثاني يستند برأسه هو الآخر عليه، ليكونا كما الإخوة جوار بعضهما ينتظران حل مشكلتهما سويًا.
استيقظا على صوت العسكري يدخل للزنزانة ينادي على اسمهما بصوتٍ عالٍ:
_«مُـهاب الجزار» و«زيـن سليمان رشوان»!
_أيـوه.
نطق بها «مُـهاب» وقام من مكانه يمد يده للجالس أرضًا بتعبٍ واضح عليه، فهو الآن كان يجب أن يكون بفراشه لا بزنزانة.
_جرح رجلي مخليني مش قادر ادوس عليها.
نطق بها بألم بعدما وقف في مكانه ليسنده «مُـهاب» بتنهيدة وهو يقول بجدية:
_اسند عليا وامشي عليها شوية شوية لحد ما تفك تاني.
استند عليه بالفعل حتى وصلا لمكتب الضابط حيث يجلس «سليمان» ومعه رجل يرتدي عباءة رجالية يُمسك سبحة بيده.
وبملامح مستغربة تساءل «مُـهاب» الذي مرر بصره عليهم جميعًا:
_الشيخ «حسني»؟
أومأ له الشيخ برأسه بابتسامة عريضة ليتنحنح الآخر بإحراج، وساند «زيـن» نحو الأريكة يساعده في الجلوس وهمس له بتسائل:
_مين ده؟
_شيخ المسجد اللي في حارتنا.
قالها «مُـهاب» وجلس جواره وهو مازال يمرر بصره عليهم يحتاج لإجابة، وما هي إلا دقائق حتى نطق الضابط بتنهيدة:
_طيب يا «زيـن» أنت و«مُـهاب»، أنتو جيتوا هنا بالغلط للأسف، ونشكر الشيخ «حسني» اللي ساعد «سليمان» بيه لما راحله وكان وقتها الشيخ عارف المكان وعارف إن حصل فيه جريمة قبل كدا وكانوا حاطين كاميرات خفية، واتضح إنكم كنتوا لسه واصلين، بس القاتل رمى الجثة اللي قتلوها في مكان تاني ومشي وهو مخبي وشه ولابس أسود، بس هنجيبه ان شاء الله.. أنتو كدا براءة
اعتدل «مُـهاب» في جلسته وهو يسأل مجددًا:
_هو حلو أوي يا سعادة الباشا، بس معنى كدا إن الحوار ده ...
قاطعه «سليمان» بنبرته السريعة يشكر الضابط وهو يقول:
_فعلًا فعلًا الحوار ده غريب جدًا، شكرًا لحضرتك على تعاونك معانا، نستأذن إحنا.
طالعه «مُـهاب» وهو يقوس حاجبه بضيقٍ، لماذا يقاطعه ذلك الرجل؟ هل يُكمل حديثه ويغيظه الآن أم يسير رفقتهم للخارج ليعلم منهم كل شيء!
ولكن أتخذ عقله الإجابة وسار معهما دون أن يسند «زيـن» هذه المرة، بل كان أولهم كمهب الريح للخارج حتى وصل لأمام المركز وهو يسير ذهابًا وإيابًا يضرب بيده المكورة في كفه الآخر.
وقف الثلاثة أمامه فوجه بصره ناحية «سليمان» وهو يضع إصبعه في وجهه:
_أنت ليه مقولتش للظابط على الإتصال اللي جالنا نروح هناك، وليه مقولتش على حوار سرقة فلوسك دي، أنتو بتلعبوا لعبة إيه من ورايا عشان أقسم بالله أدخل دلوقتي أقول كل حاجة ولو فيها حبسي الليلة دي.
_أهدى يا «مُـهاب»، مافيش حاجة بتتحل بالعصبية كدا، فمن فضلك أهدى واركب هنروح عندي عالڤيلا نقعد نتكلم برواقة.
قالها «سليمان» بجمودٍ ليقهقه الآخر بسخرية:
_ڤيلا إيه يا باشا اللي نروح عليها، أنتو فاكريني عيل واخدينه دريم بارك هقولك يلا بليز خدني الڤيلا، أنا عاوز أفهم كل حاجة دلوقتي.
كان وجهه محتنق بالدماء، عروقه بارزة وجسده يشتعل غضبًا، ولكن صوت الشيخ أتى بهدوءٍ لهم جميعًا:
_أهدى يابني اهدوا ياجماعة وصلوا عالنبي، متخلوش الشيطان يدخل ما بينكم وروح يا «مُـهاب» مع البيه أفهم منه بدل العصبية..
صلوا جميعهم على النبي وجز «مُـهاب» على أسنانه مُحرجًا من موقفه أمام الشيخ، فنظر له يشكره بوضعٍ أهدأ في الحديث:
_تسلم يا شيخ على موقفك النهاردة، تعبناك معانا بجد.
ابتسم له الشيخ بودٍ وتحدث بدوره بخفة:
_مافيش شكر على واجب يابني، ربنا يجبركم يارب، استودعكم الله.
ثم غادرهم وتحرك «مُـهاب» يركب السيارة رفقة «زيـن» وأيضًا «سليمان» لينتهي من كل تلك الفوضى التي بعقله، عله يجد حلًا ويخرج من تلك المشاكل على خير كما يتمنى..
ولكن ليس كل ما يتمناه المرء،
يحصل عليه!
_________
من الغريب أن تجد نفسك في مواجهة شعور الأمان مع شخص ما، فتسري في أعماقك قشعريرة من الخوف! تخشى بشدة أن يُنتزع منك هذا الإحساس النادر، الذي سعت إليه طويلًا وجاهدت من أجله.
وفي لحظة واحدة، يأخذك هاجس الخوف نحو العودة إلى الزوايا المظلمة التي فررت منها سابقًا.
حيث الظلام المُخيف رفقة وحدتك، وحيث اللامبالاة من التواجد رفقةً أحبتك إن كان نهاية المطاف هو فقد.
_مافيش يا «مروة» أنا قعدت معاه الصبح واتكلمنا شوية، قولتله كل اللي عندي وقولتله إنه يقدر يسيبني لو حابب، بس هو مرضيش.
نبست بتنهيدة قوية وهي تستند بظهرها على الأريكة واضعة يدها على خدها، فأردفت «مروة» بابتسامة واسعة:
_عشان راجل، بيحبك وعاوزك في الخير يا بنت الناس، بطلي نكد عليه.
تنهدت بخفة مع ابتسامة خفيفة وأكملت بتوجسٍ وملامح خائفة بعض الشيء:
_بيني وبينك أنا عاوزة أقعد معاه قعدة زي دي تاني و..
_قعــدة زي دي؟ بتخوني ثقتي فيكِ يا «غِنى»؟
انتفضت في مكانها من صوت والدها فزعة وهي تطالعه بحدقتين متوسعتين أثر صدمتها من تواجده، وكان الحال كذلك هو ما أصاب «مروة» التي حاولت الدفاع عن صديقتها ولكنه منعها بقربه ناحية ابنته يمسكها من ذراعها بقوة وهدر بوجهها بغضبٍ:
_متتكلميش أنتِ يا «مروة»، ردي عليا يا «غِنى»، بتشوفيه من ورايا؟ اللي خان اتفاقه معايا وعهده ليا إنه هيحترم كلامي ومش هيشوفك من ورايا أقنعك تروحي تقابليه!
هزت رأسها بنفي سريعًا وهي تُقسم له بنبرة مرتجفة وملامح خائفة من محاولاتها لإيصال له المعلومة الصحيحة:
_والله لا يابابا، والله العظيم لا أنا شوفته النهاردة عشان كنت واقعة في مشكلة، هو مخانش عهده معاك هو بنفسه قال إنه محترم قرار حضرتك، صدقني يا بابا أنا مبكسرش كلامك.
دمعت عيناها في نهاية حديثها بضعفٍ، لماذا يجبرها على ما لا ترغب الآن.
نهرها والدها بعنفٍ مجددًا موبخًا إياها:
_عايزاه يعمل زي اللي قبله، كنا بندخله بيتنا وطلع فضحنا في الآخر وقال عنك كلام ميتقالش وغلط، عايزانا نعيــد نفــس اللي حصل والمرة دي مع مين؟ «مُـهاب» اللي عمال يلحق أبوه الحشاش من هنا لهنا، والله أعلم بكرا مسيره هو كمان هيكون زي أبوه ولا لا، أهو اللي قبله طلع قال عنك كنتِ بتخونيه وكان بيجي البيت ويلاقيكِ بتغريه، وأنتِ مش كـدا، ردي عليا انطقــي.
انهمرت دموعها عندما ذكرها والدها بكل ما فعله ذلك الحقير الذي خُطبت له لمدة أربعة أشهر فقط، وكان نتيجتها أنه خاض بعرضها وشرفها أمام الجميع.
توجعها السموم ولا تُميتها،
وهل هناك شيء أقوى من ذلك على جسد امرأة ضعيفة تلقت الكثير والكثير من صفعات الحياة والمارة في حياتها؟
أجابت بصوتها المُتعب وجسدها الذي تلقته الرجفة الشديدة:
_عشان خاطري افهمني، كل اللي حصل حاجة مش بأيدي إنك تعايرني بيها يا بابا، هو مكنش شخص كويس وللأسف وقعنا معاه، «مُـهاب» شخص كويس وبيحبني أرجوك متحطهوش في نفس المكان اللي التاني كان فيه، صوابعنا مش زي بعض، هو قالي يكلمك ونكتب الكتاب عشان يعرف يشوفني ونتعرف على بعض وأبقى مراته!
_لا كتب كتاب ولا غيره، أنتِ وهو خلاص مافيش حاجة بينكم تاني.
ثم سحب من إصبعها دبلته بشكلٍ عنيف جعل من حدقتيها الحمراء تتوسع بقوة، وشهقة عالية خرجت من فِيهه «مروة».
بينما «غِنى» تمسكت بيد والدها تقبله وهي تناجيه برجاءٍ وبصوتٍ مقهور:
_بالله عليك لا، أنا ما صدقت إني لقيت الشخص الصح، وهو «مُـهاب»، عشان خاطري يا بابا متعملش كدا، هو ملوش أي ذنب أنا اللي كلمته يجيلي عشان كنت بساعد طفلة صغيرة بنت ناس غلابة، عشان خاطري أنا والله هتكسر جامد لو سيبته بالشكل ده، وهو هيتكسر.
بصرامة وحدة قوية تملكته، صاح بوجهها بكل جمودٍ:
_لا يا «غِنى»، انتهينا، ومن البداية مكنش ينفعك «مُـهاب» ابن «عادل»، اعتبريه كان تجربة وانتهت.
ثم تحرك من أمامها دون أن يعطيها فرصة لتقنعه مجددًا، فجلست أرضًا تبكي حتى أقتربت نحوها صديقتها تضمها لأحضانها بشفقة كبيرة:
_حقك عليا ياحبيبتي، أهدي وهنحاول نقنعه تاني هو مش راضي يدينا فرصة نتكلم، أهدي يا «غِنى» متعيطيش كدا.
كان نحيبها عالٍ وموجع، وصوتها مقهورٍ ومُتألم،
ولكن هل الحريق الذي داخلها يمكن إطفائه في يومٍ من الأيام؟
أم أنه سيظل مشتعل حتى أبد الدهر؟
رفقة الأحبة لم تحظي بيومٍ،
ولم يعد لها حبيب يضمها،
ولم يعد لها أمان يحاوطها،
وبرغم البُعد -بالمسافات- لم تخف يومًا،
لأنها تعلم أنه قريبًا لها -بالمشاعر- أكثر من كل شيء.
بصوتٍ مهزوزٍ وبغصة مؤلمة في حلقها نبست من بين رجفتها:
_يا «مروة» مش عاوزة أسيبه والله ما عاوزة، أنا بحب «مُـهاب» أوي وهو كان أحسن إختيار ليا، هو اللي تقبلني بكل حاجة وبكل جوارحي وببرودي وبيقول اللي تعمليه أنا راضي بيه، تكون دي جزاته في الآخر، أبويا يبعتله الدبلة ويقوله كل شيء نصيب، مش عاوزة كدا والله ماعاوزة.
شددت «مروة» على أحضان صديقتها بقوة وربتت على ظهرها بحنانٍ:
_طب أهدي وهنلاقي حل، أهدي عشان نعرف نفكر بالله متقطعيش قلبي عليكِ.
ظلت جوارها حتى هدأت تمامًا واستكانت، ولكن النار التي بداخلها لم تنطفئ.
******
تطوي آلامها خلف ضحكة مزيفة،
تخبئ جروحها خلف قناع مزور،
لينعكس كل ذلك على جسدها المسكين.
تقف أمام المرآة تتابع جسدها الذي تزايدت عليه الكدمات الزرقاء هذه الفترة لكثرة الكتمان بقلبها، فهي عندما تحزن بشدة يظهر على جسدها هكذا علامات كأن هناك من ضربها عليه.
تنهدت بأسفٍ على حالها، ثم لحق التنهيدة ابتسامة ساخرة، تسخر من موضعها هنا وسط بيتها الآمن ولكنه في الحقيقة غير آمن.
ألف تساؤل يحاوطها،
لا تود إجابة لأي واحد،
تود الموت.
شعرت بمحاولة أحدهم لفتح باب غرفتها مما تزايد لديها الاستغراب المصحوب بالتوجس، تقدمت نحو الباب تتنصت على من بالخارج، ولكن هدأت الحركة ولم تستمع لصوت أحد مجددًا مما جعلها تهز رأسها لإعتقادها بأنها تتوهم، لذلك تحركت نحو المرحاض المتواجد بغرفتها لتغسل وجهها وأخرجت علبة بها مرهم وضعته على الكدمات التي على جسدها المكشوف لملابسها البيتية.
خرجت من المرحاض ورفعت بصرها لتجد أمامها آخر من توقعته؛ «فادي»، مع ابتسامة خبيثة وعينان تلتهمها بكل وقاحة.
حاولت الصراخ والتحرك من أمامه ولكن الحقير كان أقوى وأسرع بأن يتوجه نحوها ويمسكها من ذراعيها خلف ظهرها بيدٍ والثانية وضعها على فمها.
محاولة تحرش!
اغتصاب!
لا شيء يفسر ما يفعله الآن بها سوى هاتين الكلمتين.
حاولت التملص من يديه بقوة ودفعه ولكنه حاصرها على الحائط لتصبح أكثر ضعفًا من ابعاده، وهو لم يتوصى بحقارته في لمس جسدها هنا وهناك مما جعلها تغمض عينيها بقوة باشمئزاز وصوت أنينها يخرج من أسفل يده التي على فمها.
_إيه يا «ماسة»، ما تضربيني بالقلم تاني، وريني هتعمليها إزاي يلا؟
كانت تحاول هز جسدها بعنفٍ حتى يكف عما يفعل ويبتعد عنها، ولكنه آبى الابتعاد بل حاول التمادي أكثر، وعلى غفلة من شروده فيما لا يعنيه بجسدها، كانت الأسرع بدفعه وإمساك تلك المزهرية وضربه على رأسه بها.
كانت ترتجف داخليًا وخارجيًا، تتنفس بقوة في وضعها المزري، بينما هو صرخ بأعلى صوته ولكن للأسف لم يكن هناك أحد بالبيت، حيث استغل خروج والده ووالدتها وتقدم لغرفتها كاللص!
تحركت بسرعة تفتح خزانتها وتُخرج ملابسها التي ارتدتها برجفة شديدة، بينما هو وقع أرضًا يمسك برأسه بصراخٍ عنيف غير قادرٍ على التحرك لإمساكها مجددًا، سحبت حقيبتها وهاتفها وهربت..
تركت منزل والدتها -الأكثر أمانًا- وهربت.
*******
_يعني إيه برضو مش فاهم؟
قالها «مُـهاب» الذي مازال هنا يجلس رفقة «زين» وأيضًا «سُليمان»، أردف «زين» بصوتٍ أجش:
_بص الفلوس دي المفروض كانت رايحة للراجل اللي بابا قالك عليه، المفروض أنهم كانوا عربون يعني وهنسلمه بقية الفلوس بعد ما يجيبلنا البضاعة للفندق زي ما اتفقنا معاه وتمت الصفقة!
زفر «مُـهاب» بقلة صبرٍ وسأل:
_فهمت ده، مش فاهم ليه بتديله الفلوس بالسرقة كدا؟
استند «زيـن» بظهره على الكرسي وأجاب:
_عشان الراجل ده شغال في التصدير والاستيراد الغير شرعي، يعني الجمارك أقل والحاجات دي بتدخل البلد بشكل غير قانوني بس محدش عارف عنه حاجة يا «مُـهاب»!
_آه يا حرامية يا خاينين لبلدكم!
نطق بها «مُـهاب» باشمئزاز وهو يطالع «زيـن» شزرًا مما جعله يجيبه بحنقٍ:
_إحنا مش حرامية يا محترم، الفكرة إننا بنقلل سعر الجمارك عشان بتكون نص سعر البضاعة، المشكلة إن الراجل محاولش يتصل يسأل الفلوس مراحتش ليه.
سأل «زيـن» والده في نهاية حديثه ليجيب والده باستغراب:
_ده اللي فكرت فيه برضو، بس أنا كنت ناوي أكلمه، الفكرة دلوقتي فاللي سرق الفلوس من المستشفى وكان فعلًا بيراقبنا، وقاصد يحطنا سوا، أقصد «مُـهاب» معانا، نيته إيه وعاوز إيه؟
عم الصمت عليهم يفكروا، وخرج صوت «زين» ونظره مُعلقًا على «مُـهاب» بتوجسٍ:
_مش صاحبك مثلًا اللي بابا قال كان معاك؟
هز رأسه بنفي متنهدًا وهو يبرر:
_إحنا متربين عالعز يالا قولتلك، مش هو.. الموضوع ده أكبر من كدا وفيه حد قاصد زي ما الحاج أبوك قال يوقعنا سوا، هدفه إيه معرفش، بس هنعرف قريب وأنا النهاردة فصلت شحن ولازم أروح عشان أمي دلوقتي قلقانة عليا... شدة وتزول ان شاء الله.
_أنت بارد كدا إزاي؟
سأل «زيـن» بسخرية وضيقٍ، فطالعه «مُـهاب» وهو يزفر بضيقٍ:
_احسدنا بقى على شوية راحة البال اللي لسه موجودين عند الواحد، أنا غاير من وشك.
ثم تحرك بالفعل من المنزل وجسده كله منهمك، بينما «زيـن» أغلق خلفه الباب وكاد يتحرك ولكنه أستمع لجرس المنزل فعاد يفتح باستغراب، ولكن سريعًا ما تحولت نظراته لأخرى مصدومة وهو يراها بتلك الحالة المزرية أمامه تطالبه بالنجدة:
_الحقــنــي!
قالتها ووقعت مغشية عليها بين يديه، لا تعلم بالأساس كيف أتت لهنا ومجهودها وطاقتها كلها مفقودة.
**********
وصل لحارته محملًا بالهموم، طالع ورشته المغلقة وتنهد بخفة لإهماله لعمله اليوم كاملًا، ولكنه من الغد سيعود مجددًا للعمل.
وصل أمام بنايته وكاد يصعد الدرج ولكنه استمع لصوت «متولي» يُناديه، ولكن العجيب أن بيده عُلبة الذهب!
_في إيه يا حاج «متولي»، أنتو كويسين و«غِنى» كويسة؟
سأل بقلقٍ شديد ليومئ له الأخر بجمودٍ ووضع بيده العلبة قائلًا:
_هنكون كويسين وإحنا بعاد عنك، دهبك أهو وبقية حاجتك هتجيلك بكرا، كـل شيء قسمة ونصيب..
تعليقات