رواية ابني ابنك الفصل الخامس5بقلم امينة محمد


 رواية ابني ابنك

 الفصل الخامس5

بقلم امينة محمد

«أطفال»

قيل عن فراق الأحبة أشعار وأقاويل مؤلمة، يتقطع لها القلب وتتعذب لها الروح، صدمة الفراق تلك هينة في حينها، ولكن.. بعد الفراق، أصبح كل شيءٍ يسير ببطءٍ قاتل، وكأن الساعات متوقفة، كأن الدقائق تتلذذ في تعذيب روحي، وأجد نفسي أحتمل لهيب آلامها في كل الثواني التي تمر، حتى أن دموعي توقفت، وبدى كل شيء جافًا قاحلًا كصحراء ناهشة، تفتقر إلى أي أثر للحياة أو العاطفة.
ظل بعض الوقت صامتًا يحاول استيعاب ما يقوله «متولي» ونظره مثبتًا عليه، وجد نفسه يستنكر قوله:
_هو أنت واقف مستنيني أجي من برا الساعة 11 بليل عشان تقولي بنتي مبقتش من نصيبك وخد دهبك، وأنا حاضر هاخد الدهب واقولك حاضر يا عمو «متولي» اللي تشوفه والله.
وبعدة محاولاتٍ من داخله بأن يتماسك وألا ينفعل عليه في ظل كل ما رأه اليوم من ضغوطٍ شديدة سأل بجمودٍ:
_من حقي أعرف أكيد ليه خطوبتي دي هتتفسخ كدا، أصل مش هقول للناس أبوها جالي 11 بليل يقولي خطوبتك اتفسخت.
لوى «متولي» شفتيه يعايره بما لا يخصه ولكنه يمسه من جميع النواحي:
_هو يعني الناس أول مرة هتتكلم عليك، ماهما جايبين في سيرتكم كل يوم في الحارة
تقدم خطوة أخرى منه وبدأت ملامح الضيق تظهر على وجهه الذي كان خالٍ من كل الملامح قبل ثوانٍ، وأظلمت بُنيتاه في حدة بالغة بقوله:
_«غِنى» دي لو مكنتش ليا مش هتكون لحد، ولو حابب افهمها زي ما تحب بقى، إني اخطفها اقتلها هعمل اللي وقتها يجي في دماغي، خد الدهب وأرجع يا عم «متولي» حطه في ايد بنتك وقولها «مُـهاب» هيجي خلال يومين تكتبوا الكتاب، وبالنسبة لكلام الحارة أنت عارف مافيش كلب يسترجي يجي يقول الكلام ده فـ وشي، هما عشان كلهم جُبنة فبيقولوه من ورايا ياعم «متولي».
صاح هذه المرة «متولي» بحدة وهو يضع الذهب أرضّا:
_أنت مش هتغصبنا على خطوبة وكتب كتاب، قولتلك بنتي متنفعكش خلاص فضيناها سيرة.
طالع الذهب الذي وضع أرضًا متذكرًا معه كل تلك الأيام الثقيلة التي مرت عليه ليُجمع حقه ويشتريه لأجلها، تلك الليالي التي عمل بها حتى ليلٍ مُتأخر رفقة صيادين السمك، وتذكر تلك الأيام التي كان يعمل رفقة عُمال البناء ونقل الأسمنت على كتفه لطوابق عديدة، حتى وصل للعمل في ورشة نجارة رفقة نجار يهينه ويعامله بكل قساوة، فأنهى فترة تعلمه في النجارة وفتح ورشته هذه الآن، مصدر رزقه الأول وليس الأخير.
أهذه هي النتيجة التي ينتظرها كل شاب عافر في حياته ليبني بيتًا وأسرة تحتويه؟
فقد الكثير والكثير من ذاته في هكذا حياة، ولكنها فُرضت عليه ليكون بها وهو لم يعتاد على الهرب أبدًا.
_عم «متولي»، الكلام عالسلم كدا مينفعش، أنا من حقي أعرف أنا عملت إيه عشان تيجي ترمي في وشي حاجتي بالشكل المُهين ده، وتبعد عني بنتك وأنت عارف إني بحبها.
أتخذ الطريق الذي في نهايته عقله، خالطًا بينهما القلب بعاطفة قد تدلف لقلب «متولي» وتجعله يهدأ، ولكن الثاني لم يعلق سوى على كلمة "أحبها" تلك التي نبس بها «مُـهاب» وأجابه بحدة:
_معدتش تجيب سيرتها على لسانك، وعشان أريحك وميكنش فيه بينا اي مقابلات وحوارات تاني، أنا فركشت الخطوبة عشان انت خونت العهد اللي بينا وقولتلي إنك هتحترم رغبتي فإنك متشوفهاش، وخدتها وروحت شوفتها وقعدتوا برا بعيد عن عيني، حقي إني أجي افركش من غير ما أقولك أسبابي واسيبك تولع زي ما عملتوا كدا من ورايا.
أغمض عينيه يسحب نفسًا عميقًا عندما استمع لأسباب «متولي» التي أزعجته هو الآخر، وما كاد أن يتحدث إلا أن والدها قاطعه بحدة مرةً أخرى:
_ده آخر حاجة عندي يا «مُـهاب»، ربنا يرزقك ببنت الحلال، وأبعد عن بنتي ومتجبش سيرتها على لسانك.
أولاه ظهره وغادر، لماذا لم يعطه فرصة ليُبرر فعلته أو لأنه لماذا قابلها بالأساس منذ البداية.
لماذا لا ينال ما يُحب كما يرغب ويتمنى،
ولماذا تنال منه الحياة قبل أن ينالها؟
تلك الكلمة الاستفهامية التي ليس لها إجابة تؤلم أكثر من تواجد الإجابة لها؛ «لماذا» التي تُعيد معها كل الأوجاع عند طرحها.
لا يعلم كم مر عليه هنا واقفًا في بنايته ولكن يبدو أنه مر الكثير لدرجة أن قدميه ألمته، تحرك رفقة الذهب الذي تعب لأجله ولم يحظى بها.
وصل لغرفته بسبب هدوء المنزل وعلم أن والديه ناما الآن، جلس على طرف الفراش وفتح العُلبة يخرج منها الخاتم الذي كانت ترتديه يتفحصه ويقلبه بين كفيه، ابتسم بسخرية مغمضًا عينيه، ثم تنفس، تنفس كأن أنفاسه تلك حُبست لسنين طوال، أخرج من داخله ذلك الضجيج الذي يؤلمه ويوجعه، ولكنه لم يخرج بل ظل عالقًا في قلبه وروحه.
أخرج هاتفه من جيبه وولج لتلك المحادثة التي باسمها هي «زلابية مُهاب»، وكأنها ملكية خاصة به وحده يلبقها بأكثر حلوى هي تحبها، ودوّن لها رسالة بدت وكأنها عادية ولكنها كُتبت بجوارحه.
«مش هسيبك حتى لو أبوكِ عاوز كدا، أنتِ ربنا خلقك عشان تكوني ليا، ولولا إن الوقت متأخر والوقفة في الشارع مكنتش هتنفع كان الموضوع اتحل في وقته، بس ملحوقة يا بنت متولي، ملحوقة يا «غِنى» عشان مش هسيبك"
وضع الهاتف جواره وتحرك من الغرفة للمرحاض ينعم بحمامٍ دافئ في هذا الطقس البارد، ثم استلقى على فراشه وغفى بتعبٍ شديد والإرهاق باديًا عليه...
يظهر عليه خارجيًا التعب،
ولكنه داخليًا يحترق بلهيبٍ لا ينطفئ.
****
حينما تتسلل الدموع إلى عيني، أشعر وكأن غابة من الصبار الوعر تنمو في أعماق قلبي، وقلبِي الهش لا يحتمل أن يستوعب حتى شوكة واحدة من أشواكها.
أشعر وكأنني أسقط من سماءٍ سابعة دفعة واحدة، ولا أستطيع تحمل صدمة الاصطدام بألم تلك الصلابة.
وكأن الحزن ينقض على قلبي وروحي مُقيمًا عزاءًا كبيرًا يُثقل كاهلي، بينما أنا لا أُحسن البكاء على الأطلال وفنونها.
جوهرة يسعى العديد من الناس لنيلها،
لم تجد من يحميها،
ولكن هنالك متحف واحد،
بذل مجهودًا وقدم الكثير للحصول عليها وحمايتها داخله، ووضع عليها الحراسة الشديدة التي لن تجعل من أحدٍ يتقدم لها حتى يراها؛ فهي جوهرة غالية ليست للمطالعة، هي جوهرة سيُدوّن قريبًا منها «ممنوع الاقتراب والتصوير».
تناطقت شفتيها وأخيرًا بعد مدة من اغمائها بأنينٍ متوجعٍ خرج من أعماقها المحترقة وقلبها النابض بقوة بخوفٍ شديد، شعرت بيدٍ دافئة تربت على ذراعها وتناديها وكأنها بعيدة تمام البعد عنها:
_«مـاسة» سامعاني؟ أنا «وتين» يا حبيبتي، أهدي أنتِ كويسة أهو.
اعتدلت في نومتها بصرخة فزعة دوّت في الأرجاء لعدم شعورها بالأمان حتى الآن، فالضغط الذي تعرضت له قبل قليلٍ لم يكن بهينٍ على قلبها المسكين وكيانها المتذبذب:
_أنا فيــن، أنا مش معاه.. صـح؟
كان بالغرفة كلًا من «وتين» ووالدتها التي جاورت «مـاسة» هي الأخرى وربتت على ظهرها بيدها الحنونة وبنبرتها الحنونة أيضًا أردفت:
_أهدي يا بنتي أنتِ هنا في بيتنا، مافيش حد هنا وأنتِ في أمان يا «مـاسة»، إيه حصلك؟
هنا استوعب عقلها وطالعت كلًا من صديقتها ووالدتها للحظاتٍ وكأنها تحاول إراحة قلبها وإدخال بعض الأمان فيه، سمعت نفس السؤال من «وتين» بنبرة قلقة:
_مالك يا «مـاسة»، إيه حصل عشان تيجي بالشكل ده واغمى عليكِ في ساعتها؟
بكت عندما رمت عليها السؤال مجددًا وتذكرت كل ما حدث في لحظات، حينما حاول الاعتداء عليها، ولأنها ليست المرة الأولى ولكنها كانت الأولى أن يكون بذلك القرب منها.
_«فادي»
نطقت باسمه فقط وكأن الاسم يعبر عن كل شيء، وكأنه يعبر عنه وعن أفعاله القذرة، مما جعل من «وتين» تبتلع غصتها بخوفٍ أن يكون قد فعل لها شيئًا حقًا هذه المرة، نظرت «لسامية» ثم «لمـاسة» مجددًا وسألت بتوجسٍ:
_عمل إيه؟
كان جسدها بأكمله يرتجف، حتى لا تقابلهما بنظراتهما لها أغمضت عينيها بقوة وهي تقول بحرقة:
_مكنش فيه حد في البيت ودخل اوضتي وحاول يقرب مني، وأنا كسرت الفازة على راسه وطلعت أجري، أنا خوفت أوي إن مقدرش أبعده ويعملي حاجة، خوفت أوي.
_و«سلوى» كانت فين؟
سألتها «سامية» بصدمة لتُجيبها بنبرة ساخرة متوجعة:
_هي «سلوى» فاضيالي يا طنط، من بعد بابا الله يرحمه وجوازها من الراجل ده وهي مش فاضيالي، كل حياتها بقت متكرسة عشانهم ورمت بنتها هما يربوها، بنت «أدهم عزام» في الآخر يكون ده حالها يا طنط عشان أمها مبتقولش مينفعش كدا دي بنتي..
لا شيء يفسر خذلان أم،
ولا شيء يوجد ما يصف معنى ذلك،
كما أنه لا يوجد أقسى من خذلان أقرب الناس لنا خاصةً إن كانت -الام-.
لذلك أنهت حديثها ببكاءٍ شديد، ضمتها «سامية» لأحضانها وهي تطالع ابنتها بحسرة على تلك المسكينة التي تحمل الكثير، بل تحمل القسوة في داخلها، تتزايد يومًا بعد يومٍ ولكن دون أذية الآخرين.
تحدثت بتنهيدة قوية وهي تواسيها بنبرة تحمل الاطمئنان:
_طب أهدي يا حبيبتي عشان نعرف نفكر هنعمل إيه في الموضوع ده، أوعدك إني هلاقيلك حل قريب وأخلصك من العذاب ده.
تدخلت «وتين» بكلماتها ونبرتها تحمل الحزن على صديقتها:
_قولتلها تبلغ يا أمي، قولتلها تبلغ عنهم إنهم بيعنفوها، ده اسمه تعنيف أسري، واللي عمله «فادي» ده اسمه تحرش ومينفعش كدا، ولو مشيت من الصبح من بيتهم ده محدش فيهم هيتعرضلها تاني.
هزت «سامية» رأسها بالنفي وهي ترد على حديث ابنتها بحكمة بالغة:
_لا طبعًا مينفعش الغباوة دي يا «وتين»، الصح إنهم يتواجهوا بأعمالهم ويتكشفوا بيها قدام الكل، وإلا حتى «ماسة» هتروح في الرجلين عشان أمها، وأمها سكتت عن كل اللي حصل فـ ليها عقاب هي كمان، مينفعش ده يحصل، لازم نفكر بحكمة.
_يعني حضرتك عاوزة نعمل إيه يا ماما، ماهو لو ممشيش معاهم بالشكل ده مش هيمشي بشكل عاقل عشان دول ناس مش محترميـ..
قالتها هذه المرة بإنفعالٍ حتى قطعتها أمها بقولها:
_«وتين»، لو سمحت أهدي خلاص، «ماسة» حبيبتي أهدي وهنلاقي حل ان شاء الله، مش عاوزاكِ تقلقي من أي حاجة ولا عايزة إنك تاخدي طريق الهرب منهم، هما هيتعاقبوا بس مش بغباء.
أومأت برأسها «لسامية» ومسحت دموعها بيدها المرتجفة، وهمست بضعفٍ لهما:
_ممكن «زيـن» ميعرفش حاجة، عشان خاطري..
تشكل الاستغراب على ملامح «سامية» ولكن «وتين» سرعان ما فهمت ما ترمي له صديقتها فأومأت برأسها وأشارت لوالدتها بأنها ستحكي لها، لذلك تحركت «سامية» من مكانها تاركة الفتاتين سويًا وخرجت لزوجها وابنها تجلس رفقتهما وهي تقول بتنهيدة:
_متخانقة بس مع أمها ومقدرتش تستحمل وجت «لوتين»، بس كانت تعبانة شوية يعني عشان كدا أغمى عليها..
أومأ «سليمان» برأسه بتنهيدة ولكن ابنه العنيد لم يُصدق لذلك طالع أمه بشكٍ ولكنها تهربت من نظراته وهي تقول:
_أنا هقوم أنام، إحنا تعبنا النهاردة وأنا أعصابي تعبت من الصبح لما وقعتوا في المشكلة دي، تصبحوا على خير.
ثم تحركت من مكانها نحو غرفتها وهو تحرك لغرفته حتى لا يقتحم جلسة أخته وصديقتها ولكن عقله لم يتوقف عن التفكير لأنه لم يصدق كلام والدتها، بل ظل يحاول تخمين أي شيء ولكنه لم يفلح وغلبه النوم.
*********
بعض الجراح تظل تنزف بلا ضمادات، وبعض الخسائر لا تُعوَّض مهما نلنا من مكاسب. أما بعض الأماكن، فتظل فارغة كأنها تشتاق لأرواحٍ غادرت.
الأوجاع تُزهق أرواحها في صمت، دون أن تُعلن عن غيابها أو تُعطى حق العزاء.
وبعض الجروح تبقى محفورة في ذاكرتنا، تترك ندوبًا عميقة في أعماقنا، لتكون تذكيرًا دائمًا بمآسينا وما شهدناه، وتكمن المشكلة في أننا نتماسك ونتظاهر بالقوة، رغم ما فقدناه وعمق البلاء الذي يعصف بنا.
كانت تجلس في غرفتها فجرًا تضم لأحضانها صورة والدتها الميتة، وتبكي بحرقة منذ ساعاتٍ وحدها هنا في الخلوة هنا، نظرت لصورة أمها بحرقة وحسرة:
_وحشتيني أوي، أنا من غيرك ضعيفة أوي يا ماما والله، خسرت كل حاجة ومبقتش عارفة أنا عايشة ليه وعشان إيه، خسرت حياتي وخسرت شخصيتي وخسرت اللي بحبه، عاوزة إشارة توجهني للصح يا ماما بالله.
ضمت الصورة مجددًا لها ورفعت بصرها ليقابلها والدها الذي كان يقف عند باب الغرفة يتابعها، مسحت دموعها سريعًا وهمست بضعفٍ تسأله:
_ بابا، حضرتك عاوز حاجة؟
هز رأسه وأقترب نحوها جالسًا جوارها متسائلًا بتنهيدة:
_شوفتك بتشتكي لأمك، ربنا يرحمها يارب كان وجودها في حياتنا عكس دلوقتي، كانت منظماها وكانت شمعة البيت زي ما بيقولوا، بس هو أنا مش مكفي يا «غِنى»؟
ابتلعت غصتها لذلك السؤال الذي أوجعها كما خرج متوجعًا من قلبه لها، أقتربت سريعًا جواره وجذبت يديه بين يديها وهي تنفي ما قاله:
_مكفي ونص يا بابا، أنا والله ما قصدي كدا يا حبيبي حقك عليا وعلى راسي، أنت سندي ومن غيرك أنا هموت والله، متزعلش مني بالله عليك، بس أنا ماما وحشتني أوي..
ضمها من رأسها نحو صدره وهو يقول بتنهيدة قوية خرجت من أعماقه لأجل ابنته:
_أنا عارف انك ممكن تكوني شيفاني قسيت عليكِ في حوار «مُـهاب» بس أنا خايف عليكِ يابنتي، وخايف على مشاعرك وعلى قلبك وخايف يحصل نفس اللي حصل أنتِ تعبتِ كتير لحد ما بقيتٍ دلوقتي قادرة تقفي على رجلك، وأنا مش هسمح إنك تقعي تاني الوقعة دي، مش هسمح أبدًا«غِنى»، وعمومًا متقلقيش، الواد ده لو بيحبك، هيهد الدنيا عشانك خلينا نختبره شوية
ابتسم وقبل رأسها بحنوٍ وهو يمسد على شعرها بقوله:
_مش عاوزك تعيطي ولا تحرقي قلبك على أي حد مهما كان يا بنتي، مشاعرك ودموعك غالية على أبوكِ، وأنتِ غالية على أبوكِ، وأنا معنديش أغلى منك، إحنا ملناش إلا بعض.
ضمته أكثر وهزت رأسها وهي تجيبه من بين دموعها الحارقة على خديها:
_ربنا يخليك ليا وميحرمنيش منك أبدًا يا بابا، ربنا يخليك ليا يا حبيبي.
عناق أبوي، لن تغلبه أي مشاعر في العالم، حيث كل الدفئ والأمان هنا؛ في عناق الأب.
على الجانب الآخر كان يجلس في المسجد بشرودٍ وعقلٍ متعب مرهق، غادر منزله ليأتي لبيت الله حيث الراحة كلها هنا، يحاول أن يبوح بما داخله ولكنه يفشل في كل مرة، يحاول أن يشكو همه لله ولكنه يعجز كثيرًا.
ما يطمئن فؤاده أنه هنا في المكان الأكثر أمانًا، ويعلم أن الله يرى كل ما في قلبه.
وجد الشيخ «حسني» يقترب نحوه ويجلس جواره بابتسامة بسيطة:
_عساك بخير يا «مُـهاب» يابني؟
ابتسم له «مُـهاب» بخفة وودٍ وهو يقول بتنهيدة قوية:
_الحمدلله على كل حال يا شيخنا، بس مين في الدنيا دي مرتاح.
ربت الشيخ على كتفه وهو يقول بتلك الابتسامة التي تزين ثغره مع علامات الراحة التي تعلو وجهه:
_دي في الآخر اسمها الدنيا يابني، يعني مرحلة جايين فيها وماشيين تاني، وإحنا لازم نعمل للي ماشيين عشانه في الآخر وهو دار الآخرة، وما عند الله أفضل مئة مرة مما هُنا، هوّن على نفسك، قوم يلا عشان الفجر هيأذن وهنصلي وادعي ربنا كتير..
ابتسم له بعدما أرتاح كيانه وارتاح قلبه لكلامه، ثم وقف معه وصلى الفجر بقلبٍ خاشع متضرع، يدعو الله من داخله، يدعو الله كثيرًا علها تكون ساعة إستجابة وينال ما يود.
***********
حل صباح يومٍ جديد وهو يقف في شرفة منزله يشرب قهوته الصباحية وإدمانه في يومه، مع تلك السيجارة التي يراها تهون عليه الكثير والكثير ويخرج بها ضغطه.
كان يتابع هاتفه منتظرًا إتصالًا من أحدهم ليطمئن قلبه وبالفعل أتاه الآن عندما أجاب واضعًا الهاتف على أذنه:
_نفذت يا «شحتة»؟
وصلته الإجابة فتوسعت الابتسامة بتنهيدة قوية على ثغره وهو يقول:
_جدع يا «شحتة»، لو كملت هكمل وعدي معاك، يلا يابا شدة وتزول.
ثم أغلق الهاتف وجذب بصره خروجها من منزلها في هذه الساعة الباكرة ويعلم إلى أين ستتجه ولكن قلبه يحرقه ليتحدث رفقتها، قلبه يحترق ليأخذها بعيدًا عن هذا العالم بعيدًا تمامًا.
رفع بصره للسماء وأغمض عينيه يخرج تلك التنهيدة متذكرًا تلك الأنشودة التي لطالما وصفت حاله..
«فؤادي مُتعبٌ والليل طال،
فلا شمس لتشرق في ربانا،
ولا مطر ليروي كل جدبٍ»
*****
على الجانب الآخر في بيت «زين» كان يجلس جوار والده ورفقتهما ذلك الرجل الذي كان من المفترض أن يستلم من «زين» النقود في الحارة.
_طب دلوقتي الحل إيه، مكملش إجراءات طلب البضاعة دي ولا إيه؟
سأل ذلك الرجل المدعو بـ «صادق» ليجيبه «سليمان» بتنهيدة:
_لا كمل في الإجراءات أنا هجيبلك غيرهم ان شاء الله، ودلوقتي وضحلي ليه مسألتش على الفلوس، مكنتش أعرف إن فيه مشكلة في البضايع اللي بتيجي الفترة دي، وإحنا ماشيين في إجراءات برضو بنحاول نشوف مين سرقها.
_ربنا معاكم يا «سليمان» بيه، والاستيراد حاله هيمشي تاني خلال اليومين الجايين، ياريت الفلوس توصلني ان شاء الله، ولو حابب المرة دي نستلمها فالشركة عادي بلاش في الحارة، بس عشان حضرتك عارف هو مبلغ وأنا كنت هسلمها للراجل من هناك عشان أنت عارف الأمور دي مش عاوزين ناس كتير تسمع عنها خبر.
كان يتابع حديثه بعينين منزعجتين، لا يعجبه حديث ذلك الرجل وهو الآن في قمة استغرابه من اقتناع والده به، ولكنه تحرك رفقته عندما غادر ثم وقف في حديقته ولأول مرة يقرر أن يفعل هذا الشيء، مشاركة أحدهم في مشكلة له، ومن؟
«مُـهاب»
اتصل به وانتظر إجابته ثم بدأ يحكي له عما دار بين «صادق» ووالده وانتظر إجابة الآخر الساخرة:
_وهو أنتو مصدقين الراجل ده؟ هو ماشي عشان الأمور دي من ورا الدولة ومحدش يبلغ عنهم، بس اشمعنا ده في الحارة يعني يا «زين».
_معرفش، بقولك إيه أنا حاسس إن فيه رابط بين الحارة وبين الراجل، عشان كدا الرابط ده جمع ما بينا وبينك!
قالها «زين» وهو شارد يفكر بصوتٍ عالٍ ولكن رفقة «مُـهاب»، ليجيبه الآخر:
_وأنا مال أمي بقى، عمومًا إحنا اتحطينا في نفس الموقف سوا، وهنكمل للآخر ونعرف إيه السبب..
أنهى المكالمة واتفق معه أن يقابله بعد قليلٍ في ورشته، وظل واقفًا مكانه لبعض الدقائق يفكر في ذلك الأمر الذي يدور الآن في حياتهم، ولكن ولجت لعقله تلك التي تسكن قلبه أيضًا، ها هي الآن في منزلهم وهو يشعر وكأنه مقيد تجاهها لأنها تحاول ابعاده عنها.
ولكنه آبى الابتعاد بل تحرك نحو الغرفة التي تجلس بها هي وأخته وطرق الباب حتى سمع سماحهما له بالدخول، ابتسم في وجههما:
_صباح الخير، وأنا أقول بيتنا منور كدا ليه؟
ابتسمت بخجلٍ على تلك المغازلة الصباحية التي ألقاها في وجهها هكذا دون سابق إنذار، ابتسم هو الآخر يبادلها تلك الابتسامة ولكن هنالك تدخل عفوي خرج من فم اخته:
_اتنين لمون يا أخويا ليك أنت وهي ولا إيه، ولا اسيبلكم الاوضة.
طالعها شزرًا لتصمت فنظرت له بحنقٍ:
_إيه بهزر، صباحك فل.
ضحكت عليهما «مـاسة» بتنهيدة وأردفت هي الأخرى:
_صباح الخير يا «زين»
ابتسم مجددًا، مثل لصة تسللت نحو قلبه وتملكته، ولا يعرف متى وكيف فعلت ولكنه الآن مسروقًا حتى من نفسه.
_قولت أعدي أشوف الاستاذة اللي جت لقيتها وقعت بين أيدي امبارح، ان شاء الله تكوني كويسة؟
سأل بتوجسٍ عله يستنبط إن كانت ستكذب هي الأخرى أم لا، وبالفعل تلبكها ذلك أكد له المعلومة بقولها بارتباك:
_لا لا أنا كويسة أنا بس كنت برا وحسيت إني تعبانة فجيت على هنا أقرب من بيتنا، ومن الضغط بتاع الشغل يعني..
همهم وهو يقوس حاجبه الأيمن بخفة:
_اه ضغط الشغل قولتيلي، ألف سلامة عالشغل وربنا يقويكم يارب..
لم تقل أمه هكذا، إذًا الكذب يدور بينهن.
وهو كان ذكيًا كفاية ليوقع من أمامه في فخ الحقيقة التي يجب أن يعرفها.
رفع أصابعه يداعب ذقنه وهو يقول بابتسامة ساخرة:
_مسيرك يا ... ولا بلاش أنتو بناويت، يلا أنا همشي عشان شغلي وEnjoy
وتحرك بالفعل خارجًا من الغرفة بوجهٍ عابس حانق، ود لو تخبره مابها وكان سيقدم لها الكثير والكثير..
وعلى جانبٍ آخر كانت تسير ناحية المدرسة ولكن جذب نظرها شيء غريب يتجه لداخل الحارة، خاصةً تجاه مكانٍ مهجور لا يزوره أحد.
اختبأت سريعًا عندما لاحظت شخص ما يُخرج رأسه من نافذة السيارة ويرى إن هنالك من يراهم أو لا، وعلى غفلة لمحت في صندوق تلك الشاحنة الصغيرة أطفال عدة، أطفال كثيرين مقيدين اليدين وأعينهم معصبة.
وفضولها اللعين جعلها تسير خلفهم نحو ذلك المكان، وجدتهم يخرجون الأطفال نحو مصنع تم إعادة بنائه بشكلٍ لا يمكن لأحدٍ أن يقتحمه، وقفت خلف حائط وتابعتهم، هم كعصابة.. كتجار أطفال.
تعليقات