رواية ابني ابنك الفصل العاشر10بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك
 الفصل العاشر10
بقلم امينة محمد

 «من عاشر قومًا»
واسيتُ نفسي عدة مرات ولم أجد أحن من مواساة أمي لي، المرأة الوحيدة التي إن أرادت أن أضحي بعمري وبنفسي لأجلها سأفعل..
ركض نحو سيارة «زيـن» ولحقه الآخر ولكنه تولى أمر القيادة حتى يكون سريعًا كفايةً ليصل لمنزله في أسرع وقت..
تحمل «زين» تلك السرعة التي كانت جنونية وكاد «مُـهاب» أن يفتعل أكثر من حادثٍ بهما، حتى أوقف السيارة على غفلة أمام البناية وركض لأعلى وخلفه «زيـن».
منظر مهيب، مخيف، مرعب، جعل من قلبه الصغير يدق بعنفوانٍ في مكانه، أمه الحبيبة ملقاة على الأرض بلا حول ولا قوة، بعدما ضربها والده بكل عنفٍ وجعلها مغشيٌّ عليها هنا..
هرع نحوها رافعًا جسدها في أحضانه ويديه ترتجف، لأول مرة يشعر برجفته هكذا وهو دومًا عُرف قويًا متزنًا، همس باضطرابٍ وارتباكٍ متوجع:
_«هاجــر»، فتحي عينك وخليكِ معايا هاخدك حالًا المستشفى، ماما..
ابتلع «زين» غصته وهو يرى ذلك المشهد المؤلم أمامه، ابن متوجع وأمه الغائبة، حاول السيطرة على مشاعره الجياشة الآن التي خرجت دون رغبته، وتقدم جهة «مُهاب» يتحدث بنبرته الخافتة:
_قوم ناخدها الأول للمستشفى يا «مُـهاب».
أكد على حديثه «مالك» الذي كان جوارها حتى يأتي ابنها، بينما هو للحظة استوعب كل شيء حوله من دوامة عقله التي ولج لها دون أن يشعر وهو يفكر في ألف افتراضٍ بعقله الذي تقبل الصدمة بشكلٍ بدا وكأنه مُميت.
حملها بين يديه كالشريد مهرولًا بها رفقته، ولحظ والده الجيد أنه هرب بعدما فعل فعلته، ساعده كلًا من «مالك» و«زيـن» بوضعها في السيارة أمام أنظار المارة في الحارة وجلس ابنها جوارها يضمها في المقعد الخلفي، بينما في الأمامي صديقيه.
وصل «زين» أمام مستشفى خاص كبير، وغادر سيارته مُناديًا على الممرضين ليأتوا مهرولين بالنقالة وأخذوها من بين يد المسكين الضائع للداخل، تحديدًا للطوارئ بسبب النزيف الذي كان يخرج من أنفها بشكلٍ متكرر ووجهها المليء بالكدمات.
وقف بالداخل وعقله كما بندولٍ فقد السيطرة وراح يتأرجح يمينًا ويسارًا بقوة، هو الآن معرض لفقد أعز ما يملك، كل من يحارب لأجلها ها هي الآن في وضعٍ خطر لربما لن تخرج منه، وجهه شحب وعيناه اغرورقت بالدموع، شعر بيدٍ على كتفه وصوتٍ بث فيه الطمأنينة:
_هتكون كويسة، متقلقش ربنا يقومها بالسلامة!
رفع عينيه التي كانت كما الطفل الضائع، لم يراه يومًا هكذا وما دل أن نقطة ضعفه هي أمه الحبيبة!
ومن سواها سيكون نقطة ضعف لكل إنسان على قيد الحياة؟
_مش عاوز يحصلها حاجة، أحرق الدنيا كلها عشان أمي!
قالها بصوته المرتجف والذي حمل بين طياته الغضب، تقدم نحوهما «مالك» يقول بنبرة خافتة:
_مش هيحصلها حاجة يا عم، صلي عالنبي كدا والدكاترة هيطمنوا قلبك دلوقتي!
شعروا بالممرضة مهرولة للخارج تناديهم بقولها:
_محتاجين نقل دم للمريضة، حد فيكم فصيلته +B وميكونش عنده أي أمراض في الدم؟
ابتلع ريقه لأن فصيلته لا تتوافق مع أمه ولكنه استمع لصوت الآخر خارجًا بثباتٍ:
_أنا..
طالعه «مُـهاب» سريعًا بينما الآخر وجه بصره نحوه بابتسامة خفيفة قائلًا بمزاحٍ:
_بص أنا بخاف من الحقن وشكل الدم، هتبرعلها بالدم بس خليك جنبي!
هكذا عبر بكلماته بكل بساطة مع تلك الابتسامة التي شقت ثغره، ليومئ له «مُهاب» سريعًا برأسه وتحركا سويًا مع الممرضة تفحصه أولًا قبل أن تسحب منه الدماء، كان «مُهاب» يجاوره وما إن لمح «زين» الإبرة أمسك بيده سريعًا بقوة وأغمض جفونه ليجد عناق أخوي حنون يضمه، لم يشعر به من قبل ولن يفعل في الأساس لعدم تواجد شخص مثل «مُهاب» بحياته.
سحبت الممرضة الدماء وطالعتهما بابتسامة:
_ربنا يديمكم لبعض، هو بس هيحتاج يتغذى ويشرب عصاير عشان الدم ده!
أومأ له «مُـهاب» بشكرٍ:
_شكرًا، بس معلش تتطمنيني على أمي، هي حالتها عاملة إيه دلوقتي؟
_إن شاء الله كويسة، متقلقش..
طمأنته بابتسامة خفيفة وغادرت بالدماء سريعًا بينما هو وجه بصره ناحية «زين» المستلقى على الفراش ومازالت يده بين يد «مُهاب» الذي قال بشكرٍ:
_مش هنسالك وقفتك دي معايا، شكرًا بجد يا «زين»، هبعت «مالك» يجبلك عصاير وأكل يغذيك!
_خليه يجبلي عصير Orange!
قالها ببراءة مبتسمًا ليومئ له «مُـهاب» بضحكة خفيفة:
_لو مش راقد في السرير كنت هلخبط وشك، بس حاضر..
ثم تحرك تاركًا إياه مازال مستلقيًا وأخرج هاتفه يراسل «وتين» يخبرها عن مكان تواجده وعن سبب تأخره عن المنزل وكتب لها؛ «متقوليش قدام حد عشان ميقلقوش، قوليلهم سهران مع الشباب، أنا هخلص وأجي على طول»
ثم خرج من المحادثة التي تجمع بينه هو وأخته ليراقب تلك المُثبتة في الأعلى لتلك الحبيبة التي كان اسمها على هاتفه «الجــوهـرة»، والتي كان آخر مرة تحدث رفقتها هنا منذ أسبوعين، ضغط على المحادثة وبدأ يقرأ الحديث الذي كان بينهما.
«يا واحشني، معلش النهاردة مكلمتكيش كتير عشان كنت في النادي بعد الشغل بلعب كورة شوية»
_«ولا يهمك المهم تكون كويس»
«كويس عشان بكلمك»
ثم أكمل تقليب بها ليقف عند المرة التي صرّح بمشاعره لها بكل حبٍ ومن قلبه الدافئ ولكنها أخبرته بأنها غير مستعدة الآن للبوح بأي شيء أو تقديم أي مشاعر لشخصٍ.
«أنا بحبك يا «ماسة» ومعنديش إستعداد اتخلى عنك، أنا عاوز أجي اتقدملك وأنتِ مش راضية ومبقتش عارف أعمل إيه، طب أجي وأترفض؟ أنا بحاول عشانك كتير، وهفضل أحاول عشانك وعشان أشوفك كويسة»
_«معلش يا زيـن بس أنا مش مستعدة دلوقتي إني اتخطب واتحط في المشاعر الكبيرة دي، وهي مش فيا أصلًا، استحملني!»
«استحملك العُمر كله يا ماسة»
ويا ليتها أعطته فرصة ليثبت لها إنه بالفعل سيتحمل لأجلها، بل تخلت عنه لتفطر قلبه وهو لم يجد ما يقدمه لأجلها أكثر مما فعل، ولكنه يعلم من داخله بأنها تحبه وهو يحبها، وذلك ما يجعله ثابتًا حتى الآن في نفس مكانة الحب لها.
بينما على الجهة الأخرى كان يقف «مُـهاب» أمام الغرفة التي تقبع بها والدته، وأرسل «مالك» ليشتري للآخر العصير والطعام ليكون مقابلًا لما فعله معه حتى ولو كان بسيطًا.
خرج الطبيب ليهرول ناحيته بقلقٍ مُتسائلًا:
_أمي عاملة إيه يا دكتور؟
_الحمدلله، هي احتاجت نقل دم لجسمها لأنه ضعيف جدًا وفقدت دم كتير، بس هي دلوقتي كويسة وممكن شوية وتفوق، شوفنا كل الكدمات ومش خطيرة أوي بس هنكتبلها على مراهم تعالجها، ألف سلامة عليها.
ابتسم سريعًا ورفرف قلبه بسعادة غامرة لتلك الأخبار السارة، حمد الله بصوتٍ مرتفع وشكر الطبيب:
_الحمدلله الحمدلله، شكرًا يا دكتور!
غادر الطبيب من أمامه بينما هو توجه لغرفة «زين» وجلس جواره قائلًا بمرحٍ:
_أمي كويسة يالا، الحمدلله.
رمقه الآخر بحنقٍ بطرف عينه، وزفر بمزاحٍ هو الآخر:
_ما أنا لو قولتلك يالا زي ما بتقولي مش بعيد عليك ترقدني في العناية نفسها، احترمني يا أخي شوية إحنا طلعنا نفس السن ياجدع..
لم يكن يعلم بأن كلماته أصبحت مثل «مُـهاب» وحتى الطريقة نفسها الحانقة، ولم يكن يعلم بأنه سيتطبع بطباعه لتلك الدرجة وفي خلال فترة قصيرة كتلك...
«من عاشر قومًا أربعين يومًا صار منهم»
انطبق عليهما المثل بشكلٍ كبير، وأصبح «زيــن» متطبعًا بطباع الآخر لقوتها وطغيانها على تلك الصداقة.
_عندك حق لو قولتلي يالا هرقدك هنا، مش بالسن يالا بالخبرة والهيبة.
نبس «مُـهاب» ساخرًا وهو يجلس جواره على الفراش ليجعل المسكين على حافته حتى كاد يقع:
_على فكرة ده مش أسلوب تعامل بيه المرضى، وقعني من عالسرير بقى!
_مرضى إيه يالا أنت صدقت نفسك.. يا «زين» بقى متعصبنيش وترجع تقول إني عليا كخة، أنا لسه كنت بقولك شكرًا أهو وواخدك في حضني والحضن ده للحبايب بس..
هدأ في نبرته مبتسمًا له، كان يملك ابتسامة جذابة تجعل من أمامه يبتسم عليها، وقد كان بالفعل عندما ابتسم «زيـن» قائلًا:
_والله يا «مُـهاب» شكلنا في آخر المشوار ده هنتدفن سوا في حضن بعض فعلًا..
قهقه «مُـهاب» بخفة على ذلك التشبيه الذي ربما سيكونا به بالفعل لتلك المصائب الكبيرة التي وقعت عليهما، ولج لهما «مالك» وأعطى «زين» العصائر والطعام وجذب كرسيًا وجلس جوار الفراش يتسائل:
_كنتوا فين بقى؟
تنهد «مُـهاب» بخفة وهو يجيبه:
_كنا مع «يامـن»، وإحنا راجعين كان فيه جثة في شنطة العربية بتاعت «زيـن»، نزلنا نشوفها ولقيناه راجل بيطلع في الروح ومكتوب إنه ده الراجل اللي سرق النص مليون، والراجل مات قدامنا وكلمنا «يامـن» قال ادفنوه في المكان اللي أنتو فيه وهو هيتصرف..
_هيتصرف إزاي؟
سأل «مالك» باستغراب ليجيبه هذه المرة «زين» الذي يشرب العصير باستمتاعٍ:
_برجالته بقى، ملناش دعوة المهم إنه برا عننا!
_ليلبسكم مصيبة ويكون الجثة عليها بصماتكم!
قالها «مالك» دون هوادة ليطالعا بعضهما نتيجة كلامه لثوانٍ بصدمة، ولكن سرعان ما نبس «مُـهاب» ساخرًا:
_ابقى تعالى وقتها اقرأ علينا الفاتحة عند القبر.. فكك من الجثث وقولي عملت إيه مع «مروة»؟
أجابه بعدما تنهد:
_كانت رافضة بس اقنعتها، بس أنا متوتر من الحوار ده يا «مُـهاب»، أنت متخيل نجيب مأذون وندخل بيه على الحاج «متولي» ونقوله كتب كتاب بنتك؟
_نهاركم فُل!
قالها «زين» بصدمة وهو يطالع «مُـهاب» الذي لوح له بيده بلا إهتمام وقال بكل بساطة وكأن حديثه ليس كارثة بحق:
_فيها إيه؟ هبقى أول واحد في التاريخ خد المأذون وراح فاجئ العروسة وأبوها، عادي يعني ياجماعة كلها شكليات، المهم اتجوزها.
نطق «زين» وما زال تحت تأثير الصدمة من حديث المجنون الذي أمامه:
_لا ده أنت بجد رايحة منك خالص!
يعبر عما بداخله هذا المسكين وليته يكتمه بداخله أمام هذا الحانق الذي قرصه في ذراعه:
_ولو مسكتش هخليها تروح بجد عليك، يا تقول كلام في محله يا تقول حالو يا حالو!
_إيـه؟
نبس مجددًا بلا فهم، ليتنهد «مُهاب» وهو يربت على كتفه بقلةٍ صبر:
_اشرب العصير وأسكت يا «زين» لو خايف على شبابك.
مشاكسات لا تنتهي، ولن تنتهي فهي بالنسبة لهما أصبحت كالاكسجين تمامًا، يجب أن يمرحا سويًا في حديثهما حتى وإن كان الموقف لا يناسب هذا المزاح
*******
يأتي الليل لينام الجميع، بينما أنا لا أنام من تلك الكوابيس التي تحاوطني من كل إتجاه.
النعاس يغلبني والنوم لا يرأف بحالتي،
والتعب باديًا على ملامحي وقلبي جريح الذكريات.
كان يتقلب يمينًا ويسارًا في نومه وذلك الحلم يراوده ككل ليلة، صراخ والدته التي خرج بصوتها المبحوح تحثه على الهرب:
_اهـــرب يا «يامـن».
ذلك المنظر الذي لمحه قبل أن يغادر من منزله هربًا حيث مستنقع بشري وحشي، والده غارقًا في الدماء وكذلك أمه تعاني أسفل من يحاولون الإعتداء عليها أمام ناظريه، وقد فلح وهرب، هرب وعاد ليجد منزله بأكمله محروقًا وهو وحيدًا يتيمًا.
فاق من نومه بشهقة عالية وأنفاسه غير منتظمة، مسح وجهه المتصبب عرقًا وتحرك من فراشه للشرفة وهو يشعل الدخان، هذا ما أعتاد عليه كل ليلة، يتعبه قلبه الذي يرغب وبشدة في الانتقام، مملوءًا بالكراهية من الجميع وتجاه الجميع.
_اهرب يا «يامـن»..
تلك الجملة مازالت تتردد في أذنيه بلا رحمة، لا يستطع أبدًا إبعادها عنه ولا عن تفكيره ولا عن عقله المسجون منذ سنواتٍ لا يفكر بشيء سوى الانتقام وحسب.
وعلى حين غفلة ترددت لعقله.. سيدته الجميلة الفاتنة.
_وبعــدين، هنفضل بنحارب في دنيا كدا آخرها موت ولا إيه يا «يامـن»، متنساش إنك في آخر محطة وقربت، بس قربت لنهايتك ونهاية الكل، وحتى اللي حلمت تكون معاها مش هتستحملك ولا هتقدر تعيش معاك بعد ما تبوظلها كل حياتها بالشكل ده..
يؤنب نفسه يوميًا على ما هو قادم، وما مضى،
يوبخ نفسه على جرحٍ سيتركه بداخلها لن يشفى بمرور الأيام، ود لو تكن سيدته كما حلم ورغب، ولكن يبدو أن حلمه سيظل محبوسًا لن يرفرف.
تحرك من الشرفة للداخل وترك السيجارة بفمه وذهب نحو شيء ما مُغطى بمعطفٍ له، جذبه من عليها لتظهر رسمة..«وتين»، ها هي هنا تحتل اللوحة والتي رسمها بأنامله لتكون بذلك الجمال.
_طب أنا مبقتش عارف اخطفك وأهرب بيكِ وأريح دماغي، ولا أفضل كل ما يضيق بيا الحال أقعد ارسمك كدا، أنا مبقاش ورايا غير إني ارسمك يا قطة..
تفوه بكلماته بحزنٍ دفين، وجالت عينيه نحو اللوحات الكثيرة الموضوعة خلف هذه، ما بين ضحكاتها وعينيها، وحتى لوحات لوجهها بالكامل، لا يعلم متى زاره الحب بذلك الشكل لقلبه، ولكنه غفل عن إمساكه وإبعاده عنه، بل تركه يتوغل لقلبه ويحتله..
*******
في مرحلة التيه، يكاد العقل يجن، ولا تجد مرسى لكيانك بأكمله.
وهذا ما تمر به الآن خلال جلوسها هنا على طرف الفراش لا تعلم ما الذي أصابها في هذا الصباح الباكر، فقط تشعر بأنها غير متزنة على عكس الأيام السابقة.
عيناها البنية القريبة للسواد حمراء اللون، ووجهها شاحب تمامًا، وتشعر بأن جسدها متخدر بأكمله وعقلها ليس هنا معها، هي كانت ذكية كافيةً لتشك بعدة أمور، ولكن لا شيء يحدث هذه الأيام يثبت لها بأن هناك شيء يحدث لها وهي على غير دراية.
ذلك الضجيج بعقلها يخبرها بأنها السبب بكل شيء تمر به، حتى أنها أضاعت من تحب من يديها لإعتقادها بأنه لا يستحقها.
_ماهو ميستاهلش يكون مع مريضة زيك، واحد اتحرش بيها ولمسها، ميستاهلش، هو يستاهل الأحسن منك يا مريضة، حتى نفسك مش قادرة تسيطري عليها.
هكذا وبخت نفسها بقسوة، ثم عادت تقول بنبرة ضائعة:
_بس من غيره أنا ضايعة، من غيره مش عارفة أعيش، أنا بحبه ومكنتش عايزاه لغيري، كنت عايزاه يكون ليا وتكون الحاجة الوحيدة اللي حلمت بيها قدرت اخدها، بس هو ميستاهلش والله، يستاهل الأحسن مني ألف مرة..
أمسكت رأسها بين يديها بتعبٍ وإرهاقٍ شديد، وأتخذت دموعها الساخنة مجراها على خديها بحسرة وحرقة، أمسكت شعرها بقوة بين يديها دون أن تعيي لما تفعل، وما إن شعرت حتى وجدت بعض الخصلات بين يديها.
تحركت بسرعة من مكانها نحو المرحاض تمسك المقص بين يديها المرتجفة، ثم طالعت نفسها في المرآة بشكلها الغريب عنها، لا تعلم المسكينة بأن المخدرات والمواد السامة بدأت تتشكل في جسدها.
_يلا قصيه وغيري شكلك، وكرهي الكل فيكِ، أنتِ تستاهلي تكوني لوحدك لحد ما تموتي..
غلبتها نفسها وغلبتها ظروف الحياة
كانت هي وحيدة ضعيفة،
والحياة بأكملها ضدها.
رفعت المقص وقامت بقص خصلاتها حتى وصلت لأول عنقها بعدما كانت طويلة بالكاد تصل لأخر ظهرها، ابتسمت برضا عما فعلت وتركت كل شعرها أرضًا وتحركت أسفل المياه تنعم بحمامٍ دافئ، ثم ارتدت ملابسها وخرجت لغرفتها لتجد أمها برفقةً كوب القهوة التي بالكاد بدأت تدمنه وهي لم تكن تحتسيه بتلك الكثرة.
_النسكافية ياحبيبتي، ودي ساندوتشات كُليها الأول.. إيه اللي عملتيه في شعرك ده؟
ما إن لاحظت حتى عبرت بصدمة لتبتسم هي بلا مبالاة بقولها:
_عادي، ستايل جديد إيه رأيك؟
نبست «سلوى» بصدمة مجددًا وهي تقترب لأمامها لتأخذ من يدها القهوة تحتسيها ببرودٍ تام:
_رأيي إيه يا «ماسة» بوظتِ شعرك ومأخدتيش رأيي ليه أصلًا قبل المصيبة دي؟
_يــاه يا ماما؟ يعني كل قرارات حياتي المصيرية مباخدش رأيك وهاجي أخده في قصة شعر؟ حاضر ياحبيبتي المرة الجاية القصات جاية.
تفوهت باستهزاءٍ غير مقصود، ولكن مشاعرها خانتها في هذه اللحظة بسبب الوجع المحيط بقلبها، غضبت الثانية من أسلوبها وقالت وهي ترفع اصبعها بوجه «ماسة» بحنقٍ:
_أنتِ بقالك فترة مش مظبوطة، وأنا مبقاش عاجبني الحال ده ومش عاوزة أقول «لمحمود» ياخد رد فعل، فأهدي كدا يا «ماسة».
لماذا تخذلها كل دقيقة؟
ألا ترأف بحالتها الآن حتى؟ وملامحها المتعبة الشاحبة؟
ألا ترأف بوجع قلبها.
_لا ياحبيبتي وعلى إيه، متقوليش «لمحمود» ولا لحد، أنا ماشية أصلًا.
احتست المتبقي من قهوتها وأرتدت بنطال من اللون الأسود وعليه معطف أسود جلدي، وغادرت المنزل سريعًا قبل أن تتحدث رفقتها أمها ولا تعلم إلى أين ستذهب!
ولكنها وجدت قدميها تسحبها نحو المكان الذي كانت تجلس به دومًا رفقة «زين» هنا، أمام البحر.
تقدمت نحو المكان المطلوب ولم تكن تعلم بأن الحظ اليوم سيحالفها ليكن هو الآخر هنا، كانت لتقول أنها دعوات أمها لها ولكنها تشاجرت معها قبل أن تخرج، تقدمت وجلست جواره مع تنهيدة قوية:
_أزيك؟
وجه بصره لها وابتسم ساخرًا فأي الصدف تلك تجمعهما، أتى لهنا لأنه أشتاق لها، وتمنى من قلبه أن تكون هي الأخرى أتت لأنها مشتاقة له.
ولكن سرعان ما اختفت ابتسامته وهو يراها بهذا المظهر المختلف، وما جذب نظره أكثر هو وجهها الشاحب وعينيها الحمراء، لذلك تسائل بقلقٍ كبير:
_أنتِ تعبانة ولا إيه؟ وشك أصفر كدا ليه وعينك حمرا، مالك؟
اعتدل بهيئته ناحيتها لتبتسم رغمًا عنها بقولها بتجميلٍ للحقيقة المزيفة:
_مافيش ممكن يكون من الأرق، وعيني باين دخلها شامبو.
_وشعرك؟
سأل وهو يمرر بصره ويتفحص قصر شعرها بذلك الشكل، رفعت يدها تلقائيًا ووضعتها على شعرها بقولها:
_ستايل جديد، وحش ولا إيه؟
صمت لثوانٍ وقال بتنهيدة:
_أنتِ تحلي أي حاجة، بس أنتِ كدابة، وأنا مبحبش الكدب يا «ماسة»، مش عاوزة تحكي قولي مش عاوزة أحكي بس متكدبيش.. ده بالنسبة ليا هيكون أهون..
هو بالفعل أكثر صفة يكرهها هي الكذب، وهي تعلم ذلك جيدًا ولكن كل شيء الآن يخونها، وحتى الآن شعرت بأنها ثقيلة عليه في جلستها معه هنا، لذلك تحركت من مكانها لتغادر ولكنه أمسك يدها وتحدث بنبرة دافئة:
_ماتمشيش يا «ماسة»، حتى لو مش عايزة تتكلمي معايا اقعدي وشمي هوا نضيف، ولو عايزة تتكلمي أنتِ عارفة إن أنا مش هسيبك، ولو طالبة مساعدة أنا مش هتأخر عليكِ، وأتمنى إن أنتِ تتكلمي في أسرع وقت قبل ما الأوان يفوت.
اغرورقت عينيها بالدموع فهي بالنهاية أنثى تتغلب عليها مشاعرها، ضغط على يدها الباردة بيده الدافئة، وجذبها لتجلس وحاوط يدها بكفيه، يعلم أنها تحب وبشدة أن يبث لها أحدهم الأمان عن طريق لغة إمساك اليد، وإرسال لها الحنان والأمان بتلك الطريقة التي تلمس قلبها وتروقه.
_أنت إزاي فاهمني أكتر من نفسي؟
سألت سؤالًا بالكاد كان بسيطًا ولكنه عبر عنه بإجابة لم تكن بسيطة:
_عشان بحبك، وعشان عاوزك تكوني كويسة، ومش عاوز أشوفك زعلانة بالشكل ده ولا متضايقة، ولا عاوز أشوفك مهزومة، انا عاوزك قوية وكسبانة كل رهان أنتِ حاطة نفسك فيه، كنتِ عايزة تكوني لوحدك وتكسبي لوحدك، شاركيني يا «ماسة» وأنا مش هسيبك والله.
_حتى لو قولتلك إن «فادي» بيتحرش بيا؟ مش هتسيبني؟
*********
كان يجلس جوار أمه يضمها له بينما هي هادئة منذ خروجها من المستشفى ووصولها لهنا، يبدو أن الصدمة احتلتها بأكملها.
مازالت تتذكر عندما دفعها بقوة لتقع على رأسها أرضًا وأتى فوقها يسدد لها لكمة وراء الثانية بقوة في أنحاء جسدها وفي وجهها.
_مش هتاكلي يا حبيبتي؟
سألها «مُـهاب» بتنهيدة قوية خرجت من داخله لرؤيته لها هكذا، لتهز رأسها بنفي وظلت صامتة، حاول أن يتحدث ولكنها منعته بقولها:
_هنام يا حبيبي، هنام وكل حاجة هتكون كويسة!
تنهد بحرقة، لا يعلم أين والده حتى الآن فهو فعل فعلته وهرب!
تركها لترتاح وتحرك نحو الشرفة يقف بها ليدخن سيجارة يُخرج رفقتها الغضب الجامح الذي بداخله، وأخرج هاتفه من جيبه عندما صدح صوته ووضعه على أذنه يستمع بصدمة:
_«يامــن» مين اللي متقدم «لغِنى

تعليقات



<>