رواية ابني ابنك الفصل التاسع والعشرون29بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك 

الفصل التاسع والعشرون29

بقلم امينة محمد
 

«عودة الشبح»

الحياة كالشجرة العتيقة، قد تسلبك غصنًا تظنه أمتن ما تملك، لكنها تمد جذورها في أعماق الأرض لتغذيك بثمر لم تتوقعه يومًا، إنها المعادلة السماوية التي لا تخطئ، إذ تأخذ لتمنح، وتُعريك لتكسوك بحُلل لا تشوبها خيوط الوهم.
أحيانًا تأخذ الحياة ما نُحب، فنقف على أعتاب الألم كمن ودّع وطنه دون وجهة، لكن سرعان ما تفتح أبوابًا أخرى، تنبت فيها زهورًا من أمل، وكأنها تقول:
"لا تأسَ على ما فقدت،
فالأفق يحمل غيمًا محملًا بمطر الخير."
فقدانك ليس إلا كالفجر حين يسحب وشاح الليل؛ يُذهب عتمتك ليملأ قلبك بضياء، ويهبك رؤية أوضح للطرق التي كنت تهاب عبورها، تُجردك الحياة من زينة اعتدت عليها لتعلمك أن البذور التي زرعتها في قلبك ستنبت أشجارًا تعطيك ظلًا أبقى، وثمرًا أطيب، فلا تجزع إذا أُخذ منك شيء، بل امنح قلبك يقينًا أن ما ينتظرك يفوق كل ما رحل.
كان الطريق إلى السجن كطريق في غياهب الليل، مليء بالضباب والظلام، يحجب الأمل في كل زاوية، بينما «مهاب» يقود السيارة بهدوء، عيناه على الطريق كما لو كان يحاول أن يهرب من أفكار ثقيلة تلتصق برأسه، إلى جانبه كان «زين»، وجهه شاحب، عيونه غارقة في صمتٍ ثقيل، بينما في المقعد الخلفي كانت «وتين»، التي تلتصق بنوافذ السيارة كمن يحاول الهروب من الواقع الذي يحاصرها.
وصلوا للسجن وعبروا الممرات بثقلٍ شديد وهم الثلاثة جوار بعضهم البعض يضغطون بأقدامهم على الأرض وكأن الأرض نفسها تُعزيهم، وصلوا إلى غرفة الزيارة وهناك كان «سليمان» جالسًا بوجهه مرهق كصورة باهتة، وعيناه تعتذر قبل أن ينطق.
«مهاب» كان أول من جلس عينيه الداكنتين تحملان مزيجًا من التيه والحزن، بينما اكتفى «زين» بالوقوف خلفه، كتفاه مائلتان تحت ثقل الحزن، أما «وتين» فقد جلست بجانب «مهاب»، يدها تمسك بذراع الكرسي وكأنها تتشبث به لتمنع انهيارها.
مرر «سليمان» بصره عليهم واحدًا تلو الآخر ثم ابتسم برضا بينما صوته كان واهنًا مليء بالندم:
_إزيكم؟ عاملين إيه؟
رد «زين» بصوت عميق، نبرته تحمل هدوءٍ ممزوجة بشيء من الحنان المكسور:
_احنا كويسين، المهم أنتَ؟
_كويس يابني، الحمدلله
كان يجيبه ولكن عينيه مثبتة على ذلك الذي يطالع كفيه المتشابكين ببعضهما بصمتٍ بالغ، لا يعلم كيف يتحدث ولا حتى كيف يشاركهم أي شعور من هذا..
_أنت كويس يا «مُـهاب»؟
سأله «سليمان» بتنهيدة ليرفع رأسه ناحيته سريعًا وأجابه بعد أن حاول أن يلملم شتات نفسه:
_الحمدلله، كويس.. شكرًا لسؤال حضرتك..
_حضرتك؟ مش مشكلة أنا راضي بكرا تتعود..
قالها «سليمان» بينما نظره كان مثبتًا في عيني «مُهاب»، وكأنهما مرآتان تعكسان وجعهما المشترك، وأكمل بصوت مبحوح:
_طول الفترة اللي عرفتك فيها كنت شاب كويس مسؤول، أنا عارف إني جرحتكم، ظلمتكم كتير بعمايلي في الماضي بس كنت بفكر إني بحميكم، سامحوني يا ابني، سامحوني علشان أقدر أعيش هنا ولو ليا عمر أقدر أخرج على خير.. أنتو دلوقتي التلاتة أخوات وسايب معاكم أمانة مراتي و«وتين»، ملهمش أي ذنب فأي حاجة حصلت أو بتحصل..
نظر إليه «مُـهاب» طويلًا، ثم قال بصوت منخفض لكنه حمل كل ثقل العالم:
_أنا مسامحك متقلقش، اللي خسرناه مش هيجي حاجة فكل اللي بيحصل وإن شاء الله تخرج بخير عشان هما لسه محتاجينك، مهما حصل..
_وأنت كمان هعوضك والله، أخرج بس على خير.
قالها بأملٍ مع ابتسامة خفيفة بينما «وتين» لم تتمالك نفسها، دموعها انهمرت بغزارة وغطت وجهها بكفيها، فتحرك «سليمان» من مكانه وضمها لصدره يغرقها بحنانه وأمانه وهو يهمس بتنهيدة حارة:
_متزعليش والله حقك عليا، أنا عارف إنه مش ذنبك تعيشي وتشوفي كل ده، ومش ده الوعد اللي وعدتهولك إني أخليكِ علطول كويسة مش محتاجة لحاجة ولا تشوفي حزن أبدًا..
تمسكت به،
هو درع الأمان خاصتها،
والدها وحبيبها الأول.
_هتخرج على خير تاني ياحبيبي وهفضل في حضنك علطول، متزعلش أنت نفسك يا بابا عشان صحتك، وهفضل أزورك علطول، أنا وأخواتي وماما وكلنا هنفضل علطول نزورك وحواليك هنا.
نبرتها الرقيقة التي غلفت قلب والدها جعلت من روحه تنقبض لأجلها، لحزنها، أسفًا على الحال الذي وصلوا له.
ربت «زين» على ظهر والده بتنهيدة، ونبس بابتسامة خفيفة يهون عليهم مرار هذه اللحظات:
_كفاية عياط بقى وإن شاء الله كل حاجة هتكون كويسة، نقضي السنة دي بالطول والعرض وتطلع على خير على فرحي أنا و«مُهاب»، وهيكون فرح كبير أوي.
ابتسم «سليمان» لطرح تلك الفكرة التي راقت له، مما جعل «مُهاب» يبتسم بخفة ويومئ برأسه:
_إن شاء الله، ده لو عم «متولي» رضي يكون بعد سنة فعلًا عشان هو ممكن ميطولش المدة، وأنا بصراحة مكنتش حابب أعمل فرح كبير عشان أبويا الله يرحمه يعني..
ربت «سليمان» على كتفه ببساطة وأردف قائلًا:
_افرحوا ومتأجلوش فرحتكم لما أخرج، أنا خروجي من هنا حي وأكون وسطكم هي فرحتي الكبيرة.. اتجوز وابقوا تعالوا وروني الصور وورويني ابني وهو عريس ومراته.
أومأ له «مهاب» مبتسمًا بخفة ونظف حنجرته بتلبكٍ واضح لتلك المشاعر الغريبة التي تدور حوله من جميع النواحي..
بعد قليل انتهت الزيارة وخرجوا هم الثلاثة، كانت «وتين» ما تزال تبكي بصمتٍ بالغ، و«زين» يسير بجانبها بهدوء، وكذلك «مُهاب» الذي وقف فجأة أمامها، وقال بلطف بينما يضع يده على كتفها:
_كفاية دموع، أنا هنا، و«زين» هنا، وهو زي ما قالك هيخرج وهيكون جنبك ان شاء الله، دموعك غالية..
مسح دموعها بكفيه لتبتسم بامتنان له وهو الآخر بادلها الابتسامة، همست بصوتٍ مختنق أثر البكاء:
_هو بس مش كويس وأنا صعبان عليا إنه كدا، متعودتش أشوف بابي بالشكل ده قبل كدا..
_لا متقلقيش إن شاء الله بابي هيكون كويس.
كان يتحدث بجدية رفقتها، بالرغم من معرفة «زين» بأن بين طياته سخر ولكنه لن يظهره أمامها حتى لا يحرجها أبدًا، فكتم ضحكته وقوس حاجبه قائلًا:
_على فكرة أنا كمان زعلان، راضيني وقولي معلش عشان بابي فالسجن..
_لا اتفلق أنت.. تعالي يلا يا «وتين».
لف يده حول كتفها فحاول «زين» إنزالها بإمتعاض:
_إيه ياسطا، بتعمل إيه!
_ياسطا، إيه يا «زين» الكلام البيئة ده بتجيبه منين؟
اعترضت «وتين» بسخطٍ منه فردد خلفها «مُهاب» يقول «لزين» بنفس نبرتها:
_في إيه يا «زين» ما تحسن ملافظك يا جدع!
_يا جدع؟ وملافظك إيه ده إيه ده، too much بجد بتجيبوا الألفاظ دي منين!
نظرت نحو «مُـهاب» بصدمة هي الأخرى ليلف بؤبؤتيه في المكان قبل أن يجيبها:
_بكرا أنتِ كمان تتعلمي، ونشتري تكاتك نسوقها بقى!
ضحك «زين» بخفة وحاوطها هو الآخر بذراعيه مثلما فعل «مُهاب» وساروا تجاه السيارة يُقنعها بوجهة نظره:
_يابنتي أنا كنت زيك بقول عالكلام ده بيئة، بس والله لما تجربي تقوليه هيبقى له طعم كدا تاني تحفة، حاجة فخمة فخمة..
_no no eww, أنا أقول الألفاظ دي؟ استحالة..
«بعد مرور أسبوع»
_وهو ده كل الحوار ياسطا!
كانت تقص على «ماسة» بعض الأمور التي جرت في المحل مؤخرًا:
_ياسطا؟ إيه الكلام ده، اوعي تستخدميه في الشغل هتطفشي الزباين مننا.. أوف «زين» بقى بيقول كلام زي كدا..
_ماله يعني الكلام ده، «مُهاب» أخويا هو اللي علمني أقول كدا، بجد حاجة فخمة فخمة!
قالتها مجددًا بإعتراض وكأنما الأخرى تسب من تُحبه، تنهدت «ماسة» واستندت بظهرها وحركت عينيها بعيدًا في الفراغ، تتذكر قبل ثلاثة أيام حينما أتت والدتها لهنا تطلب السماح بعدما تم القبض على «محمود» وابنه وحُكم عليهما بالسجن المؤبد.
«عودة للذكرى»
كانت تقف أمام أمها وعيناها تائهتان، تحدقان في اللاشيء، تحملان ثقل ذكريات نُقشت على قلبها كجراحٍ لا تندمل، بينما «سلوى» كطيف منهك، تحني رأسها كمن يبحث عن ظلٍ يحميه من حرارة الذنب.
صوت «سلوى» كان مرتعشًا وكأن الكلمات تُنتزع من أعماقها بمخالب الخوف:
_أنا... أنا جاية أطلب منك السماح، أنا غلطت، غلطت كتير في حقك، سامحيني، يمكن ده يخليني أعيش مرتاحة ولو شوية.
رفعت «ماسة» رأسها ببطء، وكأنها تستجمع قواها لتحمل وزن المواجهة، وجهها جامد، لا يظهر عليه شيء سوى التعب الذي أكل ملامحها، تحدثت بصوت بارد كأنما تُلقي الكلمات من على حافة قلب مُثقل:
_أسامحك؟ حاضر، هسامحك بس سامحيني كمان أنا... مش هقدر أرجع أعيش معاكِ تاني، أنا هنا دلوقتي في بيتي مع جوزي، وبحاول أتعالج من كل حاجة كسرِتيني بيها أنتِ وهما.
كانتا على طاولة المواجهة بعد أن اشتعلت كل الجسور بينهما؛ الأم التي حملت على كتفيها عبء الغياب وذنب الهروب، وقفت أمام ابنتها كظلٍ يحاول أن يجد موطئًا تحت شمسٍ لم تعد تُرحّب به.
والابنة التي تعلّمت من صقيع الوحدة كيف تحنو على نفسها، كانت كالوردة التي قاومت عواصف الخريف، لكن أشواكها ما زالت شاهدة على ما مرّ بها.
أخفضت «سلوى» رأسها وكأن كلمات "ماسة" كانت صفعة هادئة، لكن صداها اخترق عظامها، فقالت بصوت مخنتق:
_عارفة... عارفة إنك مش عايزة تشوفيني كمان، أنا بس كنت عاوزة أقولك... أنا بحبك والله يابنتي، مافيش أم بتكره بنتها بس مقدرتش أعبر عن الحب ده، غلطت لما بعدت عنك، لما اخترت الفلوس عنك وأخترته هو، بس كنت فاكرة... فاكرة إني بعمل ده علشانك..وعلشاني.
نظرت إليها نظرة طويلة، نظرة تحمل كل صراخ الماضي، لكنها لم ترفع صوتها، فقط قالت بهدوء أقرب للجمود:
_حبتيني؟ الحب ده معناه حماية، مش هروب، معناه أمان، مش خيانة، كل حاجة حصَلتلي كانت بسببك... من الإدمان، لحد المرض النفسي، حتى الصدمات اللي علمتني إني لو مكنتش ضهر لنفسي، عمري ما هكون دلوقتي واقفة على رجلي، بقيت عارفة لو فضلت ألومك هضيع أكتر.
كانت الكلمات بينهما كأمطارٍ خجولة تسقط في صحراء؛ صوت الأم مرتعش كأوراقٍ تائهة في مهب الريح، ومعاتبة الابنة كجدارٍ من الجليد لا يكسره إلا دمع يتسلل بصمت.
الحب بينهما كان موجودًا،
لكنه كحب الشمس للقمر؛
قريبٌ في الصورة،
بعيدٌ في الواقع،
يفصل بينهما أفقٌ من الألم.
دموع «سلوى» بدأت تسيل دون إرادة، وهي تقول بصوت متقطع:
_طب أنا أعمل إيه؟ أنا مش هعرف أعيش من غيرك، إنتِ بنتي، دمي، مفيش يوم فات من غير ما أتمنى أرجع بيه وأغير كل حاجة.
رفعت «ماسة» يدها وكأنها تطلب منها التوقف، وقالت بصوت حازم لكنه مليء بشيء من الألم المكتوم:
_مش هينفع ترجعي بالزمن، اللي حصل حصل، أنا مسامحاكِ، بس مش هقدر أعيش معاك تاني، هنا مكاني، حياتي، ده البيت اللي بحاول فيه أعيد بناء نفسي، مش هرجع لبيت كسرني.
لحظة من الصمت ثقيلة خيمت على المكان، وكأن الكلمات نفسها انهارت تحت وطأة الحقيقة، ثم قالت «ماسة» بنبرة أهدأ، لكنها لا تزال تحتفظ بحزمها:
_لو بتحبيني زي ما بتقولي... سيبيني هنا، سيبيني أحارب وأكسب حياتي من أول وجديد، لو عايزة تصلحي اللي فات، خليكي بعيدة، بس متبطليش تحاولي تكوني أم أفضل، حتى لو من بعيد..
أومأت لها أمها برأسها ببطء، وكأنها تسلمت حُكمًا لم تكن تجرؤ على مواجهته، قامت بخطوة للوراء ثم قالت بصوت خفيض:
_هعمل كده... بس هفضل أصلي وادعي ربنا إنك تسمحيلي أكون في حياتك يوم ما تبقي مستعدة، وإن ربنا يسامحني ويغفرلي
لم تُجب "ماسة"، فقط أمالت رأسها قليلًا وكأنها تُقر بأنها سمعت، خرجت «سلوى» من المنزل، تاركة خلفها ثقلًا خفيفًا لأول مرة، وكأن اعترافها بالذنب حررها من قيود الماضي، ولو للحظات.
أما "ماسة" أغمضت عينيها، وهي تُحاول أن تتنفس بين شقوق قلبها المكسور، كان الألم لا يزال قائمًا، لكنها لأول مرة شعرت بأنه قد يكون يومًا ما مجرد ذكرى بعيدة، تحاول أن تُلملم شتات نفسها كطائرٍ كسر جناحه، لكنه يصر على التحليق من جديد.
لقد كانت المواجهة بينهما درسًا قاسيًا للحب؛ أحيانًا الحب لا يكفي لترميم ما كُسر، لكنه يملك قوة العفو، سامحت الابنة، لا لأن الوجع انتهى، بل لأنها أدركت أن الغضب لن يعيد لها ما فقدته، وأن السلام يبدأ من الداخل، لا من الخارج.
وكانت تلك أولى خطوات علاج «ماسة» النفسي، والجسدي!
«عـــودة»
بعد برهةٍ من الصمت، كانت تجلس أمام «زين»، ذلك الرجل الذي يحمل في ملامحه طمأنينةً نادرة، بابتسامته الخفيفة التي لا تظهر إلا في وجودها، نظر إليها وهو يمد يده بالدواء، ذلك الشيء الذي تنساه دومًا بينما هو لا ينسى أبدًا أن يحضره لها.
كان نظرها مثبتًا عليه وبصوت خافت وكأنها تسرق اللحظة من الزمن، سألته:
_مزهقتش مني؟
رفع عينيه نحوها بنظرة حانية تُكمل حديثه قبل كلماته، ليجيب بعفويةٍ صادقة دون حتى التفكير في الرد:
_عمري ما أزهق منك!
ابتسمت تلك الابتسامة التي تحمل في طياتها حبًا يفيض عن حدوده، ومالت نحوه لتتعلق بعنقه، تشبثت به كأنها تلوذ به من كل وجعٍ عرفته الحياة، وفي الحقيقة هي كانت تفعل ذلك بكل جوارحها.
احتواها بذراعيه وربّت على ظهرها برفقٍ يشبه دفء الشتاء، وقال مازحًا:
_إيه ده، هتعود كدا عالدلال والرومانسية دي منك، وأنا ما بصدق بصراحة!
ضحكت بخفة، تلك الضحكة التي تحمل نغمة طفولية رغم كل ما عاشته، ثم لكزته بيدها على ظهره قائلة:
_عيب.
ردّ بعبثٍ مرح وهو يرفع حاجبيه:
_أنتِ مراتي ومافيش عيب بين الراجل ومراته بصراحة..
دفعت جسدها للخلف سريعًا، وهي تتظاهر بالاستياء:
_«زيـن» اتلم!
زفر بسخطٍ مُتصنع وهو يميل برأسه وكأنه يذعن:
_حاضر حاضر، اديني ملموم ياستي أما نشوف آخرتها حلاوة ولا لقمة ناشفة.
نظرت إليه من طرف عينها، وابتسامة صغيرة تتراقص على شفتيها وقالت:
_بتعترض ولا إيه يا حبيبي؟
هز رأسه بسرعة نافيًا:
_هو أنا أقدر برضو، أنا معاك فالحلاوة واللقمة الناشفة، بس يعني اسبوع لقمة ناشفة، ويوم حلاوة وأنا هرضى علطول..
ضحكت وهي تُشيح بوجهها في تمثيلية تفكير، قبل أن تقول بمرح:
_ماشي هفكر..
_اذا كان كدا هاتي بوسة كضمان حسن النية
أدار وجهه يعطيها خده لتبتسم واقتربت تلثمه على خده برقة، وحينما ابتعدت كانت وجنتاها تلتهب بلونٍ وردي خجول، بينما هو أطلق ضحكة رجولية، وكأنه ملك العالم لتوّه، وقال بمرحٍ مزهو:
_ده أنا اقعدلك أسبوع أكل لقمة ناشفة بعد البوسة دي والله..
أومأت برأسها فقط، وقد بدا الخجل كأنه عقد لسانها، تركت اللحظة تسير بلا كلمات، واكتفت بهمسات القلوب التي لا تحتاج ترجمة.
وكأن قلبه لها المحراب،
يحيطها بذراع كالغيم رقة،
فتشعر أن الكون صار يجاب.
هو النور إذ يغشى ظلام مخاوفها،
وضحكته كالماء حين يذاب،
يعانقها كالأرض تحتضن المطر.
عقدا عهدًا من الورد والعمر،
وسيكونا معًا حيث لا يخشى العتاب.
*********
في مساء دافئ، حيث كانت الشمس تودع السماء بلونها الذهبي المتسرب بين زهور الحديقة، جلس «مهاب» و«غنى» مع «مروة» وزوجها «مالك» على طاولة صغيرة مزينة بالزهور البيضاء والنباتات الخضراء.
كانوا أربعة أصدقاء تجمعهم سنوات من الألفة والمشاعر الصادقة، ولم يكن في تلك اللحظة شيء يمكن أن يعكر صفو هذه الجلسة.
بينما كانت «فيــروز»، الصغيرة التي تكفل بها «مالك» و«مروة»، تجلس في حضن أمها «مروة»، تلتصق بها كما لو كانت هي الحبل الوحيد الذي يربطها بعالم من الأمان، كانت عيون «فيــروز» اللامعة تنظر إليهم بحذر، وكأنها تلمح في وجوههم أملًا ربما تلمسه لأول مرة في حياتها.
_ها يعني هتتجوزوا أمتى؟
سأل «مالك» بفضولٍ بينما ابتسمت «مروة» بحماسٍ تنتظر الإجابة التي أتت من «مُهاب»:
_شوية كدا، لما حمايا يقول أتى الفرج
اعتلى اليأس بمزاحٍ ملامح «مالك» وهو يجيبه:
_يبقى مش هتتجوزوا كدا
ضحكا بخفة بينما «غنى» أمسكت من أمامها علبة ورمتها به موجهة حديثها «لمروة»:
_لمي جوزك
_ماهو عنده حق هو غلط يعني، أبوكِ مش عاوز يطلعك من البيت!
قالتها «مروة» بامتعاض، لتجيب الثانية بحزنٍ دفين:
_حبيبي مش عاوز يقعد لوحده.. أنا حتى بفكر نأجل شويـ..
أعترض «مُهاب» سريعًا وهو يجيبها بصوتٍ مرتفع نسبيًا:
_شـ..إيه؟ متخليناش نغلط بقى ونقول كلام ميصحش قدام الناس
زفرت هي بحنقٍ وهي تشيح بوجهها بعيدًا عنه:
_فيها إيه ما تستنى كمان سنة، ما أنت استنيت ولا خمس سنين..
رفع اصبعه السبابة في وجهها وسألها بسخرية:
_بالله ما مكسوفة من نفسك وأنتِ بتقوليلي خمس سنين دي، يا شيخة ده أنا لو مخلل كان زماني خللت!
هنا تدخلت «مروة» بسخرية مازحة:
_وأنت الصادق.. المخلل مبيقعدش خمس سنين كدا..
_اسكتي أنتِ!
أسكتتها «غنى» وهي تطالعها بطرف عينيها وكأنها تمنعها من أن تقف بصفه:
_دافعي عني مش عنه!
غيّر «مالك» مجرى الحديث وهو يُخرج الزجاجة الحرارية التي تحتوي على الشاي من الحقيبة:
_بصوا حل كل مشاكلكم شاي «مروة» مراتي، اشربوا واخرسوا شوية..
وضع لنفسه في كأسٍ ليحتسي منه بمزاجٍ ووجه بصره ناحية «فيروز» المبتسمة وهي تطالعهم جميعًا:
_عالم نكد ياحبيبتي، تيجي نقوم أنا وأنتِ نلعب؟
_استغماية؟
سألته ليومئ لها برأسه موافقًا، فتحركت سريعًا معه بضحكاتٍ طفولية عالية، بينما تنهدت «مروة» بحرارة:
_ربنا يعوضها خير ويعوضنا بيها.. ويرزقكم يارب..
وفي تلك اللحظة، التقى نظر «مهاب» و«غنى»، وتلاقيا في أعينهم تعبير واحد؛ حب وأمل يجري في العروق وكأنها تعويذة تهدف إلى جعل الحلم حقيقة.
ابتسم «مهاب» وقال بصوت خافت:
_اللهم آمين
كانت هذه اللحظة هي تلك اللحظة التي تسقط فيها كل الأفكار الثقيلة، وتبقى بعيدًا، وفي هذا المكان، «مهاب» و«غنى»، قلبًا واحدًا.
******
«بعد مرور ستة أشهر»
كانت تنقل بعض الأشياء بنفسها والتعب باديًا على ملامحها، زفرت بضيقٍ ووقفت واضعة يدها بخصرها وهي تهمس:
_إيه الشغل ده كله بس ياربي..
_مُساعدة.. يا قطة؟
تصنمت في مكانها حينما استمعت لصوته العميق خلفها، وحتى أن جسدها لم يقوَ على الاستدارة لتقابله!
تعليقات



<>