رواية اببني ابنك
الفصل الثاني والعشرون22
بقلم امينة محمد
«في أحضان الفقد»
الفقدان..
كالظلال التي تلاحقني في كل خطوة، كنسيم بارد يتسلل إلى قلبي ليبث فيه شجونه، وكأن الحياة أصبحت شجرة بلا ثمار، حيث تتساقط أوراق الأمل واحدة تلو الأخرى، تاركتني في أرض قاحلة من الذكريات والحنين.
_بابـا
كلمة رددها الإثنين في نفسٍ واحد ترددت في الفضاء كصدى مأساوي ولكن يد واحدة فقط احتضنت الجثة، جسدًا كان يومًا ما عمودًا من أعمدة الحياة، ووالدًا حاملاً مسؤولية ثقيلة على كاهله لسنينٍ ثم انجرف نحو الهاوية، والتي قد ورثها ابنه بلا اختيار حينما حمل المسؤولية كرجلٍ وليس كمراهق طائش
الآن..
والده يرقد بين ذراعيه، كأنما الزمن قد سلب منه كل شيء، وتركه مع ذكرى مظلمة تُصارع الموت..
وفي تلك اللحظات العصيبة، كان يُراقب والده وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، والذي كانت عينيه تعكسان ندمًا عميقًا.. واعتذارًا ربما
_متــزعلـش.. سامحني، مش عاوز أكون خِصم ابني يوم القيامة.. بالله تسامحني، افتكرلي ولو حاجة واحدة.. واحدة بس حلوة.. وخلي «هاچـر» تسامحني
لم يكن يعلم متى تساقطت دموعه من مُقلتيه، لكن فاجأته تلك اللآلئ المالحة وهي تتدحرج على وجنتيه، تنحدر لتختلط بجسد والده.
لسانه، كأنه مقيد بسلاسل من الحديد، كان عاجزًا عن التفوه بكلمات الإنقاذ: "تحامل معي، أبي، سأنقذك."
وكأن العالم من حوله قد توقف..
توقفت الساعات،
تجمدت الدقائق،
انحسرت الثواني،
وحتى حركة البشر ودقات قلوبهم تلاشت في ذلك السكون الرهيب.. كان المكان فارغًا مملوءًا بالغياب،
كأن الموت نفسه قد أحاط بهم، يراقب بحضور خفي..
حتى أنه لا يعلم كيف وصلت الشرطة للمكان، وحاصرته، ولا يعلم شيء سوى أنه يمسك بوالده كأنما يخشى رحيله بقلبٍ يرتجف، لم يساعده سوى شخصين شعر بهما يحاولان ان يجعلوه يقف على قدميه، وحينما رفع بصره عليهما وجدهما كما توقع عقله؛ «يامن» بنظراته التائهة، و«زين» بعينيه الحمراء الدامعة..
فقط ظل كلًا من «فرحات» أو كما كان يُعرف بـ«صادق» بين يد الشرطة، وأيضًا «سُليمان» وتوقف أمامهم رجل يبدو عليه الوقار، وتحدث بنبرة خافتة بعد تنهيدة قوية:
_أنا اللواء «حمدي ربيع» المسؤول عن القضية دي، طبعًا أنا بتأسف جدًا للخسارة اللي اتعرضتوا ليها، وإن شاء الله والدك يكون كويس، الحقيقة إحنا هنقدم شكر كامل من النيابة ليكم على مساعدتكم ومجهودكم معانا خلال الفترة، أولكم «يامن» اللي حط أيده في إيدنا عشان نقدر نقبض على العصابة، للأسف لسه أماكن الأطفال متحددتش ولكن خلال يومين هتكون متحددة وهنقدر نرجعهم لأهاليهم، وبكل أسف «سليمان رشوان» هيتحقق معاه بسبب اللي حصل وكان متغطي عليه كله..
غادر اللواء تاركًا وراءه ثلاثة أرواح تائهة، لا يعرفون إلى أين يتجهون، كانوا أشبه بسفن متلاطمة في عاصفة.
تحمل آلام المخدوع، والمصدوم، والمجروح، وكل واحد منهم يحمل عبئًا يثقل كاهله.
أخيرا، قرر أحدهم كسر صمت الألم الذي اجتاحهم، وكأن جروح روحه فتحت لتنفث عما يختلج في صدره:
_مش هكدب لو قولتلكم إني كدبت عليكم في حاجات كتير، بس أنا كنت ماشي بواسطة الشرطة كل الفترة اللي فاتت دي، أنا فعلًا تعاملت مع المخابرات بس أنا مش ظابط مخابرات، وقت ما قررت انتقم دَلني ظابط إني اتفق معاهم بدل ما أروح في داهية أكون قدرت أضرب عصفورين بحجر، يمكن الحاجة الوحيدة اللي غلطت فيها إني أديت نفسي أمل إن كل حاجة هتكون كويسة..
تنهد بعمق، وكأن كل هموم العالم تتجمع في صدره:
_روحت في داهية، والأمل مبقاش موجود..
صمت وكأن صمته كان قيدًا يثقل روحه، ثم عاد ليحدث نفسه في صمت:
_أنا مغلطتش عشان دخلت «سليمان» في الحوار، كان لازم يتعاقب زي ما أبويا اتعاقب وكان في تخيلي «فرحات» اتعاقب، هو كمان كان في الموضوع وأطفال كتير بسببه اتخطفوا وأهاليهم اتحرموا منهم، أنا مغلطتش، أنا عايش نتيجة غلطهم هما زي ما أنتو الاتنين عايشين نتيجة اغلاط اهاليكم..
ألقى نظرة نحو «مهاب»، وكأن عينيه تحاولان نقل شعور من الأمل المتكسر:
_أتمنى «عادل» يكون كويس، ويستدرك إن ابنه «زين» اللي اتحرم منه سنين يقدر يعوضه، ويعوضك أنت كمان، و«سليمان» هيعوضكم أكيد لأنه آخره سنتين وهيخرج يعني..
أبعد نظره عنهما وكأن الهموم أصبحت عبئًا لا يطاق، أحس بأن زفرته كانت كجرح ينزف، وشعور الحزن اجتاح أعماقه كغيمة مظلمة تظلل سماء حياته:
_وأنا هكمل في سكتي لوحدي، الحزن صايبني، والوحدة وطني..
وكأن الوحدة أصبحت وطنه الذي لا يفر منه، حيث كانت الجدران تئن بصدى وحدته وتغفو تحت وطأة ذكرياته المؤلمة.
لم يكن هناك من يسأله عن حاله أو يشاركه ثقل أفكاره، كان يبدو كغريب في بلدته، مشدودًا إلى المجهول مثل قارب يتلاطم به الموج في بحرٍ هائج.
أحس أن صمته صار نغمة حزينة تعزف في أوتار قلبه، ومثل عصفور فقد عشه، شعر بأنه عالق بين عتمة الحزن وضوء الأمل البعيد، لكنه اختار أن يسير في طريقه وحده، مثابرًا رغم الآلام التي تُعصر روحه.
غادر من أمامهما تاركًا خلفه الصدمة التي غلفت كيانهما، ولكن لا وقت للتفكير أو تأنيب الضمير..
الوقت الآن ليس سوى إلا للركض من كلًا منهما ليُنقذ والده..
_عرفني أول ما «عادل» يكون كويس..
نبس بها «زين» وهو يتجه لسيارته، ليردف الآخر بايجاب:
_ولو عرفت إيه هيحصل مع «سليمان» عرفني..
لم يجرؤ أي منهما على التفوه بذلك اللقب مجددًا، ولكنهما تحركا كل منهما بوسيلته يسابقان الريح نحو مصير غير معلوم..
********
في عمق الليل، حيث تتجمع الهموم ككائنات ضارية،
أشعر أن زفرتي تنفجر كبركانٍ يُخرج أحشائه،
جرح ينزف من روحي، دمي سائلٌ عالقٌ بين آمالي،
وحزني يجتاحني كعاصفةٍ تعصف بأطراف الذاكرة،
تسحبني إلى ظلماتٍ لا يُرى فيها ضوء.
كل همٍّ يتراكم على صدري كأحجارٍ في سلةٍ مهترئة،
أحملها كجنديٍ مُنهكٍ في معركةٍ بلا نهاية،
والشوق يحرقني كلهيبٍ في صحراءٍ قاحلة،
يستنزفني، كدمعةٍ تسقط في بحر من الدموع،
تتلاشى وتختفي بلا أثر، كالأحلام المُحطمة.
يراقبها ويعلم أين هي الآن لذلك أتجه نحوها لوداع نهائي، وداع لن يكون بعده لقاء، متوجهًا نحوها وهو يرى آماله تتناثر كأوراق الشجر في عاصفةٍ شديدة، تتساقط على الأرض وتتلاشى تحت أقدام الألم، وكأن الحياة صارت سجنًا من الجدران، تحيط به كالكآبة، وتنبض في شرايينه، والقلوب من حوله تذبل كأزهارٍ في شتاءٍ قارس.
شعرت بيد قاسية تضغط على يدها وهي تقف أمام المحل خاصتها حتى تغلقه بعد إنتهاء يوم العمل لتعود مجددًا نحو صديقتها التي تركتها رفقة أمها لتنهي الأعمال هنا.
أخرجت من فمها شهقة فزعة ووجهت بصرها سريعًا نحوه لتجده هو، ليس غيره!
_«يامــن»؟
نطقت باسمه بصدمة ومازال الفزع يحاوطها، لم ينبس بأي كلمة.. هو يحتاج لنسمةٍ تخترق هذا الضباب الكثيف، تهبّ كالعلاج على جرحٍ لا يُرى..
فأين المفر من هذا السواد الذي يلازمه،
أين البهجة، وقد أطفأت الدموع كل الأضواء؟
فتح باب السيارة حيث المقعد الذي ستجلس عليه وهي تراقب كل ما يفعله بصدمة وحاولت الفرار ولكنه أشار لمسدس موضوع بين حزامه الجلدي وجسده:
_اركبي وإلا والله العظيم لأطلعه وافرغه في راسي دلوقتي.
توسعت حدقتاها بصدمة وارتجفت داخليًا بخوفٍ من تهديده، ركبت سيارته وهي تضم يديها لبعضهما وكأنها تواسي نفسها بذلك الشكل..
بينما هو توجه أيضًا نحو مقعده وقاد السيارة بسرعة جنونية جعلتها تتمسك في المقبض جوارها وخرجت منها صرخة تلقائية من الخوف:
_براحة يا «يامن» هنموت!
لم يستمع لما تقوله بسبب الضجيج الذي احتل عقله، مسكين هو، خُذل بطريقة بشعة!
وصل حيث بناية مكونة من طابقين وغادر السيارة وتوجه مجددًا نحو مقعدها وجذبها خلفه وكأنه يريدها أن ترى أنه هو المتحكم فقط اليوم، وللأسف سارت هي لترى إلى أين النهاية التي يرغب بأن يصل لها..
_«يامن» براحة هتوقعني..
قالتها تُنبهه حيث كادت أن تقع عدة مرات على الدرج الذي جعلها تصعده في سرعة كبيرة وكأنه يرغب في الإنتهاء سريعًا.
دلفا نحو الشقة لتستقر عينيها على اللوح المرسومة في كل مكان، شعرت وكأنها قد وطأت عتبة عالمٍ آخر، حيث كانت الجدران تتنفس بألوانٍ متداخلة، وكأنها تحمل قصصًا لم تُروَ.
كل لوحة كانت تروي حكاية خاصة، تعكس مشاعر شتى تعصف بقلوب من نظر إليها.
تأملت لوحةً مشبعة باللون الأحمر القاني، وكأنها انفجارٌ من الغضب المكبوت، تنبض بالحيوية مثل قلبٍ في خفقان، وكانت الزوايا المظلمة تُظهر آثار الدموع، تُمزج ببطء مع لون الفراغ، مما جعلها تشعر بالاختناق وكأن تلك الألوان تُخنق صدى الصرخات المدفونة.
وفي الزاوية الأخرى، لفت نظرها لوحة زرقاء، كان لونها يشبه ضباب الصباح، تعكس مشاعر الحزن والحنين، كانت الأشكال المنسابة فيها تُشبه أمواج البحر، تحمل معها أسرارًا قديمة، وكأنها تدعو الناظر للغوص في أعماق الآلام التي لا تُنسى.
أما اللوحة التي توسطت الغرفة، فكانت مزيجًا من الألوان المتناقضة؛ الأصفر المشرق يُصارع الرمادي القاتم، وكأنها تجسد الصراع الأبدي بين الأمل واليأس، كانت تشعر كأن الرسام قد مزج مشاعره في تلك اللوحة، لتصبح تجسيدًا لعالمٍ يعاني من انكسارات ولكنه يظل يبحث عن نورٍ في نهاية النفق.
تجولت بين اللوحات وكأنها تتبع خطوات الرسام في حديقة مشاعره، كل لوحة كانت مرآة تعكس بؤسًا وبهجة، وحدة وصداقة، خوفًا وشجاعة.
كل زاوية في الغرفة تحمل عبق الذكريات، كل لمسة من الفرشاة تُخبر قصة، ووجدت نفسها أسيرة في تلك الألوان، تسعى للغوص في كل شعور.
استقرت عينيها بعدها على خمس لوحاتٍ لها، وفي كل واحدة تحمل شكلاً مختلفًا، فقد رسمها من عشقه لها وهوسه بها.
الأولى كانت تجسد وجهها بملامح حالمة، عينيها اللامعتين كانتا كنجمتين في سماءٍ صافية، حيث تنبض البراءة في نظراتها، وتُظهر الإشراقة التي تُنير روحها، الألوان هنا كانت دافئة، كأشعة شمس الصباح، تحمل معها شعورًا بالسكينة والأمل، وكأنه أراد أن يُظهر أنها مصدر النور في حياته.
أما اللوحة الثانية، فكانت تعكس جانبًا آخر منها، حيث بدت أكثر تعقيدًا وعاطفية، كان وجهها مكسوًا بألوان داكنة، تُعبر عن لحظات الألم والتحدي، وكأنه قد التقط مشاعرها في تلك اللحظات الصعبة، التفاصيل الدقيقة في التعبير عن حزن عينيها كانت تُشعرها وكأنها تتلمس آلامها من جديد، وكان كل خطٍ في اللوحة يروي قصة معاناةٍ عميقة.
الثالثة كانت لوحةً مفعمة بالحيوية، حيث تبدو فيها كأنها ترقص في زهورٍ متفتحة، الألوان تنبض بالحياة، والفرشاة تنقل حركة انسيابية، تُظهرها مليئة بالمرح والحرية، كانت هذه اللوحة بمثابة احتفالٍ بروحها المُشعّة، وتذكيرًا لها بأن الحياة تحمل معها لحظات من السعادة والبهجة.
في اللوحة الرابعة، كانت تُعبر عن جانبها المظلم، حيث تم تصويرها في ضوءٍ خافتٍ، وكأنها تُواجه ظلالها الخاصة، الألوان هنا كانت قاتمة، وتداخلت الظلال مع النور بشكلٍ مريب، مما جعل الفتاة تشعر بأنها تُلامس عمق مشاعرها المعقدة، وتُدرك أن لكل جانبٍ من شخصيتها تاريخًا يُستحق التعبير عنه.
أما الخامسة، فكانت الأكثر غموضًا، حيث رسمها في شكلٍ تجريدي، لم يكن هناك وجه واضح، بل كان التعبير عن الشعور يتجاوز الشكل، كأن اللوحة تمثل العاطفة التي تشعر بها دون أن تُسجل تفاصيل واضحة، كانت ألوانها مختلطة في دوامات، تُظهر صراعًا داخليًا يتجاوز الكلمات، وكأنه أراد أن يُعبّر عن تعقيد علاقتهما بأسلوبٍ مختلف.
هي الآن تحت صدمة عميقة مِما رأته هنا في عالمه الغريب، والمخيف بالنسبة لها، كيف له أن يرسمها بتلك الطريقة الدقيقة والتي تنقل مشاعر بداخله هو فقط..
شعرت بأنفاسه المضطربة خلفها وشعرت وكأنها تود أن تختفي الآن من هذا الوجود، التفتت ببطءٍ لتجده يوجه المسدس نحوها..
توسعت حدقتيها بصدمة وانفجر فمها بشهقة، ولكنه قابلها بسخرية:
_أهلًا بيكِ في العالم بتاع «يامن الجمّال»يا قطة!
أقترب وأمسك يدها ووضع بها المسدس وهو يقول بنبرة تحمل الألم:
_أنا خسرت النهاردة كل حاجة، واتحسرت على كل حاجة، بس أنا دلوقتي مرتاح.. عشان عارف إن نهاية كل ده ضلمة كلنا هنعيش فيها، فعشان ننهي كل الضلمة دي ونرجع للنور، اقتليني.
لا تعلم كم عدد الصدمات التي تلقتها الآن، وهي المسكينة التي صدمة واحدة تُثقلها فكيف هو يفعل ذلك بها، فنبست بشفاهٍ مرتجفة:
_«يامن» أهدى.. أنا خايفة وعايزة أمشي من هنا
_هتمشي يا قطة متخافيش، قولتلك أنا عمري ما أئذيكِ، بس أنا دوري خلص خلاص، دوري خلص ولازم ننهي كل ده لحد هِنا.
نبس معبرًا عن أن الأمان سيحاوطها بعد رحيله وكأنه يحكي عن قصة حب وليس موت، ثم أردف بكسرة حاوطت كلماته:
_خلصي عليا يا «وتين» أنا مش هستحمل أفضل تاني في حياة لا أنتِ ليا فيها، ولا أقدر أقربلك، أبويا وأمي أكيد دلوقتي مرتاحين، وأنا لازم أرتاح زيهم.
جعلها تحاوط المسدس بكلتا يديها ورفعه على جبهته لترتجف بشكلٍ مفرط من أعلاها لأسفلها، وهمست تحاول جذب يديها التي بين يديه بقوة وترجته بقلبٍ مرتجف ونبرة خائفة، واتخذت الدموع مجراها على خديها بخوفٍ:
_ابعد عنــي يا «يامن» أنت بتعمل إيه، أهدى بالله أنا مافــيش فيا أعصاب بالله عليك متعملش فيا كدا، سيبني وخليني أمشي من هنا.
ترجته المسكينة التي لا تقوى على مواجهة كل تلك الأمور الثقيلة التي تم وضعها بها، كيف تهرب الآن من بين يديه ومن بين براثن غضبه وجنونه.
_«يـــامن»
خرجت بشهقة عالية تلاها صراخ.
******
كان «مُهاب» يتجول في ممر المستشفى الضيق كالضائع الشريد الذي فقد عائلته، يخطو بخطوات مترددة، والقلق يتصاعد في صدره كدخان ملبد يغلف الأجواء، كانت الأنوار الفلورية تتلألأ فوقه، تشبه نجومًا معتمة في سماء حالكة، بينما كان صدى خطواته يتردد في الممر كأنها أنفاس متسارعة، تتسابق مع دقات قلبه القلق.
مرات عديدة كان ينظر إلى الساعات المعلقة على الجدران، وكلما مرت لحظة كأن الزمن يتعمد إبطاء خطواته، وكأن كل دقيقة تطول حتى تصبح ساعة، عينيه تتجهان نحو باب غرفة العمليات، كأنها بوابة الجحيم، وأفكاره تتجول في دوائر من الشك والحيرة، ماذا لو حدث الأسوأ؟ ماذا لو لم يستطع إنقاذه؟
وأخيرًا، ظهر الطبيب من خلف الباب، وجهه شاحب، وعيناه تحملان عبئًا من الأحزان، اقترب منه كأنه يحمل رسالة الموت، قلب «مُهاب» توقف للحظة، وكأن العالم من حوله قد تجمد.
قال الطبيب بصوت منخفض، كما لو كان يتحدث عن مصير عابر:
_البقاء لله.
كلماته كانت كالرصاص الذي اخترق صدر «مهاب»، وجعلت أنفاسه تتعثر. احترقت دموعه في عينيه كأنها جمرة مشتعلة، تأبى النزول، ولم يكن هناك مكان للصدمة في قلبه المكسور.
شعر وكأن الأرض قد انزلق من تحت قدميه، وصُم عن سمع صوت الطبيب الذي تحدث بحزنٍ شديد:
_حاولنا بأقصى جهدنا ننقذه بس للأسف الرصاصة اخترقت جنب قلبه بشكل مباشر، ربنا يرحمه ويصبرك، هبلغ الإدارة تبدأ في الإجراءات عشان تستلم جثمانه..
ملامح الطبيب أصبحت ضبابية بالنسبة له، وكأن الواقع بدأ يتلاشى، تاركًا إياه في فراغٍ قاتل، جثا على ركبتيه، مثله مثل شجرة عارية في عاصفة، وسقطت أمامه كل آماله وأحلامه، تاركة خلفها دمارًا لا يمكن ترميمه.
_بـدري يا بابا بـدري، ملحقتش أعمل كل اللي بخططله وأعالجك وأقضي معاك سنين طويلة، قطمت ضهري يا بابا.
كأنما الليل قد انقضى على روحي،
وترك الفجر بدون نور، يتيه في أرجاء الكآبة،
كل زاوية في المنزل ستحكي عن غيابه،
وكأنني أسير بين أطلال ماضي، تتساقط كأوراق الشجر.
ذكراه، كظلٍ ثقيل، يلاحقني في كل خطوة،
كأنه سراب يحاوطني، ويكسر فؤادي المرهف،
أستمع لصدى صوته في زوايا البيت،
كأنما الحياة تتراقص حول غيابه، كراقص بلا لحن.
كل دقة قلب، تسجل ألم الفراق،
وكأنني أستمع إلى أصداء دموعي،
تتساقط على جدران الذكريات،
تُعيد مشهد رحيله، وكأنه نجم انطفأ في السماء.
أنتظر لحظة يعود فيها الزمن،
لكن الحياة تتقدم كالنهر الجارف،
والأمل يغرق في بحر من الحزن،
في حين يظل الألم عالقًا، كغيمة سوداء.
أنكر أنني فقدت أغلى ما لدي،
سأخاطب الصور المعلقة على الجدران،
كأنني أدافع عن قلبي المنكسر،
بينما يتجمد الوقت في جروح لا تُشفى.
******
وعلى الجانب الآخر
جلس «زين» في قسم الشرطة، محاطًا بجدران باردة تلتهم أمله المتبقي، بينما المحامي يجلس إلى جواره بهدوء، يلقي كلماته بحذرٍ ثقيل كوقع المطر فوق رماد محترق.
لم يكن «زين» يسمع إلا بضع كلمات تلتقطها أذنه كأنها أحجار تتساقط ببطء داخل بئر عميق، لكن حين قال المحامي:
_الموضوع مش مُبشر، باين كدا إن البيه هياخد سنتين إن الحكم مكنش أكتر، وهندفع مبلغ حلو برضو عشان نخفف الحكم ده..
شعر بأن العالم قد انقلب بعد سماعه لتلك الكلمات..
صُدمت ملامح «زين»، كأنها مرآة تحطمت فجأة، وظل ينظر إلى الفراغ بعيون زائغة، وكأن كل شيء يسير عكس ما خطط له، كأن الريح تعصف بسفينته وتلقي بها في أمواج من العجز، أحس ببرودة في عروقه، وبرعشة كأنها زلزلة تقتلع جذوره، وجسده لم يعد يستجيب لأي شيء.
بدا كأن الزمن قد توقف، وكأن الكلمات التي نطق بها المحامي كانت كصوت دقات ساعة الموت، تهبط عليه واحدة تلو الأخرى، وكل دقة تحطم جزءًا من أمله الضعيف.
لاحت في عقله صور والده خلف القضبان، كطيف ثقيل يلاحقه في كل زاوية من حياته، كان يحاول أن يستوعب، أن يفهم، لكن قلبه يرفض، كمن يحاول عبور نهر متجمد فيما تسحقه الرياح.
_عاوز أشوفه
نطق بالكلمتين فقط، ليومئ له المحامي وتحرك وهو خلفه حيث غرفة التحقيق وولجا سويًا، ثم انسحب المحامي ليتركهما هنا في لحظة صراحة وحديث لربما سيكون قاسٍ على المسامع..
وقف «زين» أمام «سليمان»، وجهه يكسوه الحزن والحيرة، بينما عينيه تعكس شتاتًا لا يهدأ، كان «سليمان» ينظر إلى ابنه بعينين تائهتين، وكأنهما تبحثان عن أثرٍ للغفران بين طيات الزمن، كانت كلماته تخرج متكسرة، كأنها اعترافات ثقيلة، تجر أذيالها على الأرض كأثقال من الخزي والألم.
قال «سليمان» بصوتٍ خفيض، كمن يعترف أمام نفسه قبل أن يعتذر لابنه:
_سامحني يا زين... على كل اللي عملته، عارف إني هكون سبب تعبك، وسبب شقائك... أنا استحق اللي حصل، وأيامي الجاية كلها جزا على اللي عملته، لكن… إنت أكتر حد هتعيش الذنوب اللي عملتها في حياتي، ومهما حاولت أعوض، عمري ما هقدر أرجع الزمن ومعملش الذنب ده..
كان «زين» ينظر إليه بعينين مليئتين بالتردد، وكأن مشاعر الألم والخوف تشتبك داخله كأمواج عاتية تتلاطم بلا هوادة.
أكمل «سليمان» بصوت متهدج، بينما يده ترتعش كأوراق الشجر العارية في وجه الرياح:
_وأختك... حافظ عليها يا «زين»، إنتوا اللي فضلتولي في الدنيا دي، واللي حاولت كتير إني احميكم ودفعت بكل عمري عشانكم... ومهما حصل، إنت ابني الحقيقي... حتى لو «مهاب» ابني، فمفيش حد غيرك في قلبي غيرك، إنت ابني الحقيقي اللي ربيته وكبرته، أوعدك لو خرجت حي هعوضك أنت وهو وهي على كل لحظة والله.
تدفقت الكلمات كأنها آخر اعتراف لرجل خسر كل شيء، ووقف بين يدي الحقيقة عاجزًا، مجرّدًا من كل قناع.
كان «زين» يشعر بثقل الكلمات ينساب عليه كصخر يتحطم على قلبه، وكأن كلمات والده تخترق كل دفاعاته، تصل إلى عمق قلبه، حيث تتلاقى مشاعر الحب بالغضب، والألم بالعجز.
أحس «زين» بدموعه تتجمع كأنها حبيبات ليل بارد تسقط في صمت.
حاول أن ينطق، أن يقول شيئًا، لكنه وجد نفسه عاجزًا، كأن الكلام خانه في لحظة الحاجة؛ فخرج من الغرفة غير قادرًا على التفوه، فتح الهاتف ليرسل رسالة «لمُهاب» ولحظه أن الآخر أرسلها بنفس الوقت..
«أبويا مات»
«بابا هيتسجن.. أقل حاجة سنتين»
بكيتُ والليل في عينيّ يغرقُ في السوادِ،
كأنني في بحرِ ألمٍ، غارقٌ بلا مرسى ولا أبعادِ.
صوت السلاسل يرنُ في أذني كأنه نواحُ الرياح،
يهمسُ بألمٍ، بأنَّ أبي خلف القضبانِ، بينَ الجراح.
يا ليتني كنت درعًا، أو جناحًا يحميه من هذا العذاب،
لكنني أقف عاجزًا، كطائرٍ مُقيد بلا سماءٍ ولا سحاب.
أُدير وجهي للفراغ، والليلُ يسكنُ صدري كالصقيع،
أحلامي تتكسر كأمواجٍ عاتيةٍ، وضوء الفجرِ يضيع.
كلُّ خطوةٍ تقودني إلى هاويةِ اليأسِ البعيد،
أبكي في صمتٍ، وقلبي كصخرٍ ينشقُّ ولا يُعيد.
أبي في السجن، وأنا أسير الحزنِ والوحدةِ،
كغصنٍ تاهَ عن شجرته، وتكسّرت فيهِ الحياة بعد الفقد.
*****
كان «مالك» جالسًا في غرفة المعيشة، يقلب أفكاره بعينين غائمتين، مثقلًا بأعباء لا حد لها، إلى جواره كانت «مروة»، تبدو وكأنها جسد بلا روح، نظرتها متسمرة على الأرض، وصوت الطبيبة ما زال يتردد في ذهنها كصدى حزين: "حملك مستحيل."، كانت الكلمات تتساقط في عقلها كصخر ثقيل، وكأن الحياة أغلقت أبوابها أمامها.
تذكرت أيضًا حديث والدة «مالك»، التي أشارت ذات مرة أن ابنها ترك فتيات الإسكندرية جميعًا، وأنه ذهب إلى القاهرة خصيصًا ليتزوجها بعد لقاء جمعهما في عمل ما..
شعرت باليأس يلتف حولها كحبل يضيّق على نفسها، أفكارها تغوص في ذكريات حلوة ومُرة، لم تعد قادرة على فصل الماضي عن حاضرها الكئيب.
أما «مالك»، كان يجلس شاردًا، وكأنه غريبٌ وسط أحزانه، كان يمر بأيامٍ ثقيلة، وكل لحظة تضغط عليه كأنها جبلٌ من الهموم.
لم يكن يعرف كيف يحل مشاكله أو حتى كيف يفتح قلبه ليخفف من عبء الصمت، فجأة، وصله إشعار على هاتفه، وكانت رسالة من «مهاب»: "أبويا مات."
تجمد «مالك» للحظات، مشاعر متداخلة من الحزن والألم والشعور بالعجز تهاجمه كريح باردة في ليلٍ خالٍ من النجوم.
_عمي «عادل» توفى
قالها لتشهق التي جواره بصدمة واضعة يدها على فمها، ثم نبست:
_لا حول ولا قوة الا بالله، ربنا يرحمه يارب ويسكنه فسيح جناته.. أقوم أروح لطنط «هاجر»
هز رأسه بالنفي قائلًا بتنهيدة:
_متتحركيش غير لما أقولك عشان أشوف عرفت أصلًا ولا لا
ثم نهض بسرعة، بينما كان قلبه ينبض بتوتر، كأن الحياة تتسارع في دقات متلاحقة لتلك الليلة المظلمة.
قبل أن يصل إلى الباب، لمح من زاوية عينه فتاة صغيرة تجلس عند زاوية المنزل، منحنيّة على نفسها، وهي تبكي في صمت، كانت أشبه بزهرة تائهة في عاصفة لا ترحم، فاقترب منها بهدوء وسألها بلطف:
_مالك يا صغيرة؟ اسمك إيه وبتعيطي ليه؟
رفعت الفتاة رأسها، وبدت عينيها المبللتين بالدموع كقطرات الندى على ورقة زهرة ذابلة، ثم همست بصوت مختنق:
_اسمي «فيروز».
نظر إليها «مالك» متأثرًا، شعر وكأن الفتاة تشبه حزنه المختبئ؛ حزنه على أمور لم يجرؤ على الحديث عنها، لحظات قليلة، لكن كأنها عبرت عن كل شيء؛ عن آلام لا تُقال، وأحلام تذبل، وحياة تجرّ خطواتها في ثقل.
_طب فين أهلك وقاعدة هنا ليه؟
سألها باستغراب وملامح وجهه مستنكرة، لتجيبه الصغيرة صاحبة السبعة أعوام:
_أنا أنا معرفش كنت فين، بس كنت في مكان ضلمة فيه أطفال كتير زيي، بس فجأة حصل دوشة عالية وبعدين الباب اتفتح وأنا جريت وجيت هنا ومش عارفة أروح فين!
أنهت حديثها ببكاءٍ طويل ليتنهد هو بثقلٍ بعدما علم أنها ضمن المخطوفين في حارته من الأطفال، ثم مد يده ليمسك يدها بحنانٍ:
_طب تعالي اطلعك فوق عند مراتي، عشان عندي مشوار مهم لحد ما أرجع ونتكلم نشوف مكان الأطفال فين وشكل الناس دي إيه.
اومأت له وتحركت بالفعل رفقته نحو الأعلى حيث فتحت الباب «مروة» باستغراب تطالعهما:
_مين دي؟
جعل الصغيرة تتقدم للشقة وهو يقول على استعجال:
_خليها هنا لحد ما أرجع، متخليهاش تمشي يا «مروة»..
ثم غادر قبل أن تنبس بكلمة أو حتى هو يضيف كلمة، بينما هي طالعت الصغيرة بعيونٍ حزينة، وتنهدت قائلة:
_تعالي غسلي وشك ياحبيبتي واعملك حاجة تاكليها
******
ولج للقسم بخطواتٍ متزنة والوشاح يغطي رأسه، ثم تقدم نحو الضابط ونبس بصوتٍ أجش:
_عاوز أشوف «صادق»
_مين حضرتك؟ وهات البطاقة
حدق الضابط في عينيه كمن يحاول اختراق عتمة روحه، ثم مد يده بتثاقل طالبًا بطاقته، فأخرجها ذلك الغريب بابتسامة غامضة دون أن ينطق، كأن الصمت لغة تكشف كل شيء وتخبئه في آن:
_تعرفه منين؟
ألقى سؤاله الضابط بحذر، فأجابه الرجل بلهجة ثابتة، كما لو كان يعلن تعهده لا مجرد معرفة عابرة:
_صديقي وحابب أشوفه عشان نوكل محامي وأساعده.
أومأ الضابط بخفوت، ثم قاده في ممر ضيق تنبعث منه روائح الماضي الخانقة، حتى وقف أمام باب معدني سميك حيث كان «فرحات»، الملقب بـ«صادق» مؤخرًا، قابعًا، فتح الباب ببطء، وصدى فتحه كأنه يقص فصولًا من حياة ضائعة.
تقدم الغريب نحو «فرحات» بخطوات بطيئة، تحدق في وجهه عينين مثقلتين بالرهبة والغضب، حين نطق بصوته المبحوح، كان الصوت أشبه بنار مضغوطة تكاد تشتعل:
_اخرتها سجن يا «فرحات».. هتخرج إزاي؟
_ههرب تاني!
رد «فرحات» ببرود يحاكي سكينة الموتى، وقد رفع عينيه بسخرية لم تفارق وجهه، ثم أضاف بضحكة مريرة، كأنها سكين يجرح الصمت:
_شكلك بقيت جبان بعد ما ماتت..
تجمد الغريب، صدره يتلاطم بريح صامتة، وزفر بحرقة كأن نيران الغضب تطارد أنفاسه:
_صوتها مبيطلعش من وداني!
لكنه لم يكن يعرف أن هذا الصدى هو الثقل الذي سيظل يجثو على صدره للأبد، كمن يحمل ذاكرة ملطخة بالدماء، ولا سبيل لغسلها أو نسيانها.
"تنويه هام
يحتوي هذا المشهد على عناصر قد تكون صادمة للبعض، بما في ذلك مشاهد عنف وتوتر نفسي..
يُنصح بقراءته بحذر لمن قد يتأثر بمثل هذه المواضيع."
خطواتها المتعبة تتثاقل خلفهم، تسير بجسد منهك تتأمل أرجاء المستشفى بعينين تعتريهما ظلال التعب الشديد؛ وجهها مرهق كزهرة ذابلة بعد جرعة الكيماوي.
وحين استلقت على الفراش، حاصرتها العتمة بين أيدي طاقمٍ يغطي وجوههم أقنعة باردة لا تحمل ملامح إنسانية.
تحدث أحدهم بنبرة تملؤها التماهي القاسي مع الشر، كمن ينفث سمًا باردًا:
_اسمك إيه ياحلوة؟
أجابت بخفوتٍ وحذر، وعيناها تبحثان في الزوايا بقلق:
_اسمي «فرحة حسني»، هو أنتو خدتوني من الأوضة اللي باخد فيها الكيماوي ليه، هو بابا فين؟
ابتسم الطبيب ابتسامة زاحفة كأفعى تتهيأ للانقضاض، مستلاً سكينًا بريقها قاتل، اقترب منها بنظرات تلتهم براءتها بفحيح خبيث، سألها وكأن الحياة لديها لعبة تحت رحمته:
_هيجيلك، خليكِ شطورة بقى واسمعي الكلام، عندك كام سنة؟
_18 سنة، هو حضرتك ماسك السكينة دي ليه، أنا عاوزة بابا!
ارتجفت الكلمات فوق شفتيها حينما رأت بريق السكين، فأكمل هو ضاحكًا بسخرية مفرطة، وكأن الألم بات تسليته:
_بابا إيه بقى، إحنا هنا هنلعب لعبة حلوة الأول وبعدين نشوف بابا فين!
حاولت الرفض، لكنها لم تنجُ من شره، إذ أسرع بوضع اللاصق على فمها، مقيدًا يديها فوق رأسها بحبال تمسكها كطائر مذبوح، تململت بجسدها المثقل بخوفها، باحثة عن مفر، ولكن بلا جدوى.
كشف الثاني عن بطنها وأمسك سكينه وبدأ يحركه ببطءٍ شديد، ثم شق بطنها لنصفين لتشهق هي بوجعٍ شديد مكتومٍ، صوت الشق يشق الصمت ويجعل الألم يفيض من كل ذرة في جسدها، بينما دموعها تتساقط بحرقة، كأنها تتودد لمنقذٍ لن يأتي.
أبي
أبي، أين أنت يا أبي!
وكلما ازداد الألم، شعرت وكأن روحها تتسرب من بين أضلعها الممزقة، نداءات استغاثتها باتت همسًا بعيدًا،
أحشاء المسكينة كلها خرجت، هنا جوار هذا الوحشي المُلقب بالطبيب، وأخرج مقلتيها التي غادرتا الحياة أيضًا، وقلبها الذي استلّه الجزار من جسدها بشكله الذي مازال ينبض، ولكن صاحبته روحها غادرت للحياة..
وفي الحقيقة لو أمكنه سلب وسرقة روحها لفعل، ولكن ليست بيديه هذه المرة..
وفي المشهد الذي يجسد قمة القسوة، تجلس جثتها بلا حراك، وقد أضحى الجسد هشيمًا باردًا أمام طبيب مزيف، قاسٍ، لا يحمل إلا ظلال الموت في قبضته، لم ترَ «فرحة» فرح الشفاء، وإنما كانت فريسة لعصابة تسلب الأرواح لتتاجر في الأعضاء.
مشهد قاسي، مُدمي،
وأشد قسوة حينما تعلم.. أن من وراء ذلك هو والدها بنفسه، رئيس العصابة لا غيره.. الملقب بالشيخ «حُسني»!
هُنا يجلس جوار شقيقه الذي أخرجه من أفكاره بقوله:
_أنت قولت إنها كدا كدا مودعة، راحت زي ما أمها راحت، ربنا يرحمهم!
