الفصل الثالث والعشرون23
بقلم امينة محمد
«حين تتهاوى الأقنعة»
ظننتُ بأنَّ أبي سيكون سيفي ودرعي، ظله الذي يلجأ إليه قلبي عند انكسار السماء فوق رأسي، كنتُ أراه كحصن منيع لا يُخترق، كجبال شامخة لا تنحني أمام الرياح، لكنّي لم أكن أعلم أن تلك الجبال نفسها ستُسقطني في وادٍ موحش، وأن الحصن الذي احتميت به سيترك بابه مفتوحًا أمام ريح باردة، تقتلعني من جذوري وتبعثرني في عتمةٍ لا تعرف نهاية.
أشعر بظلامٍ كثيف يزحف إلى داخلي، كخنجر حاد، يُمزقني، حتى غدوتُ أتشبث بالأطياف البعيدة، أُعاتبها بصمتٍ، أصرخ داخلي كي أجدني، فأجده يختفي خلف ضباب الذكريات.
خذلني أبي، وتركني لأقف وحدي في عالمٍ غير عالمي، أبحث عن نورٍ وسط العتمة، عن يدٍ تُربّت على كتفي فتخبرني بأنني بخير.
لكني اليوم، أقف وحدي، أدرك أن الأحلام التي عشتها كانت مجرد وهمٍ، وأن الأمان الذي رجوته لم يكن سوى سراب.
من ذاكرته المليئة بالخبث والشرور، كان يتذكر تلك اللحظات التي جمعته بينه وبين ابنته المسكينة التي قُتلت غدرًا..
_أنا عارفة إنك بتتعب معايا كتير يابابا، بس أوعدك أول ما أبقى كويسة واتعالج وأقف على رجلي، هخليك ترتاح وأنا أهتم بيك
نبست بها المسكينة «فرحة» التي تربت على كتف والدها لتخفف عنه الحمل، لا تعلم أنه يكيد لها المكائد وينصب لها الفخوخ، مسكينة، ماتت غدرًا..
_بابا حضرتك اتأخرت برا كدا ليه، وحشتني أوي!
نطقت بها واقتربت بجسدها الهزيل نحوه تقبل يده بحنانٍ بالغ ثم ضمته لها بحبٍ كبير.
رأته أمانًا، فكان الخوفَ والأسى،
رأته سراجًا، فأطفأ نورَ السما،
ظنَّته ملاذًا، وهو موجٌ يعصفُ،
حسبته سندًا، فانحنى واستباحَ الخفا،
رأته ملاكًا، فإذا به وحشٌ جريح،
حسبته ضياءً، وهو ليلٌ كالعمى،
كان الأملَ في عينها، فصار دمعًا يسيل،
كان حياةً، فصارَ الموتَ والردى.
تحدث "حسني" بنبرة كأنها نافذة مظلمة تطل على أعماق الشر المتجذر في نفسه، ممسحًا آثار الذكريات عن ذاكرته وكأنه ينفض الغبار عن صفحة لا يريد لها أن تُرى، ارتسمت على وجهه ابتسامة باردة، لا تعكس سوى الاستهتار بالحياة التي أخذت، وكأنها كانت مجرد سلعة عابرة، لا أكثر ولا أقل:
_تضعفني إيه، هي كدا كدا كانت ميتة وإحنا كنا محتاجين بت عشان نبعتلهم البضاعة، راحت للأي خلقها مع أمها، المهم نقدر نطلعك عشان أنا همشي الأطفال دول بكرا، الموضوع بدأ يوسع ومبقناش عارفين نلمه إزاي.
أما الآخر، فقد زين وجهه بابتسامة تشبه شفرة خنجر، تومض بلمعانٍ من خبثٍ لا يعرف رحمة، استعاد لحظات مضت، منذ اليوم الذي نسج فيه خيوط خطته الملتوية بإحكامٍ حول «علي» و«سليمان» مغريًا إياهما بأحلام الاستثمار الكبير، لكنه دسّ لهما في ذلك الوعد طُعمًا خبيثًا يسحب أموالهما نحو شبكته التي كانت تحت الإنشاء، متقنًا لعبة الظلال حتى أصبح كل شيء جزءًا من مسرح جريمتهما.
مرّت الأيام، وأنجب «علي» ولده الوحيد «يامن»، وكان الاثنان يتطلعان إلى اختطاف الطفل كما يسرق صائد ماكر فريسته، لولا أن «فرحات» منعهما تلك اللحظة، خشية أن يثير الشكوك حوله.
أما "سليمان"، فقد قرر الابتعاد حين أنجب توأميه، بعدما تذوق مرارة الفقد بوفاة أحدهما، وكأن اليقين المتأخر دفعه لترك الماضي خلفه، لكنه فعل ذلك بعدما شوّه حياة لا تُعد، سالبين أطفالاً من المستشفيات كأنهم قطع أثاثٍ تُباع.
وحين بدأ يشعر بالخطر يدق أبواب عالمه المظلم، أدخل طفليه مدارس خاصة، كمن يحاول حماية نفسه بغلاف هش، ثم أبعدهما عن البلاد كليًا مع دخول مرحلة الجامعة.
وفي تلك الأثناء، كانت اللقاءات بين العائلات محدودة، لكنها لم تخلُ من مراقبةٍ خفية وحساباتٍ متوترة.
شعر «فرحات» كأنه يتحدث مع نفسه بصوتٍ عالٍ، يتابع أفكاره كأنما يكشف بعضًا من أسراره أمام أخيه، مستعرضًا مشاهد ماضية تقتحم ذاكرته:
_وبس وقتها «سليمان» خلع بعياله ومقدرتش أعمله حاجة، إنما «علي» لما أكتشف إن الموضوع زاد روحتله وهددته، بس مرضيش يسكت وقالي إنه هيخلع ولازم كل اللي أنا وأنت كنا بنبنيه يتهد، فحرقته هو ومراته ووقتها خطفنا ابنه المصون، بس هرب ومكنتش أقدر اعمله حاجة غير إني ألعب عليه بخبث، وريته جزء من الحقيقة عشان يصدق، وجزء من الكدب وأول ما قالي أنا اتكلمت مع ناس في الشرطة وصلتله معلومات إني مُت في ظروف غامضة وروحت قولت «لسليمان» ده «يامن» بقى ظابط وبيدور عاللي قتله أهله، ووصلتله هو كمان إني ميت.. وقتها عملت العملية وبقيت «صادق» ولعبت على «سليمان» اللعبة الصح وجريت ابنه للحارة.. بمساعدة «يامن» طبعًا اللي كان جواه شر كبير..
رمى «حسني» حديثه بابتسامة كريهة، كأنما الشر يسري في عروقه مثل تيار لا ينضب، يكمل شروده بلهجةٍ باردة:
_وأنا اللي جريت «مُهاب» للموضوع عشان عارف إنه مش هيسكت لو سمع خبر، الولا ده برغم صغر سنه إلا إن الكل بيحترمه فالحارة وبيتعمله ألف حساب، عشان كدا كان لازم نخلص عليه هو كمان وقولتلكم تضغطوا على نقاط ضعفه واللي هي أبوه، كلمتهم في التلفونات واتسليت بيهم، قتلت «شحتة» وطلع منها برضو، بس كله عشان أخليه ملهي بعيد عننا، وإنه ميحسش بأي حاجة غلط بتحصل في الحارة..
تابع «فرحات» بتوعدٍ:
_اخرجلهم وهوريهم، الشرطة بتدور عالعيال الصغيرة، ألحق خلص الموضوع قبل ما يوصلوا لحاجة.
أومأ الآخر برأسه، ولفّ وشاحًا حول وجهه، ثم استدار ومضى، تاركًا خلفه صمتًا كئيبًا، لا وداع يناسب هذه اللحظة، ولا كلمات تليق بهكذا جرم، سوى الرحيل المعبّق بظلال الهلاك.
********
في لحظة الفقدِ تنهدت السماءُ بكاءً
وانكسرت قلوبٌ كالأرضِ عطشى للماءِ
والدموعُ تفيضُ من كفِ البقاءِ
أبٌ قد رحل، لكنه غرسَ فينا النورَ والنقاءَ
رحل مَن كان فينا كالأمانِ الدائمِ
وتركنا نحتمي بألمِ الذكرياتِ ونديمِ
تنهيدةُ الحزنِ تشتعلُ في وجدانِنا
كأننا وُلدنا بعدهُ في ليلٍ عظيمِ
غادر من المستشفى متوجهًا نحو منزله، كان يقف أمام «هاجر»، صوته متحشرج عينيه تلمع بدموع مكبوتة، يحاول أن يمسك بيدها لكنه يشعر بثقل الكلمات التي ترفض أن تخرج، أخيرًا، قال بصوت مرتعش:
_حبيبك مات..
كلمتان ثقيلتان على القلب، قويتان على الروح..
لم يكن يعلم كيف يخبرها، ولكنه لم يجد نفسه سوى وهو يخرج تلك الكلمات من قلبه لقلبها.
اتسعت عينيها، وأخذت ترفرف برموشها كأنها تحاول أن تطرد الفكرة من عقلها، لكن الحقيقة كانت أثقل من الاستيعاب، كأنها فراشة تدور حول لهب الحقيقة، لا تستطيع الهروب ولا تريد الاقتراب.
_حبيبي ميموتش من غير وداع، خدني عند أبوك واسكت بطل كلام فارغ
تحركن من مكانها تقف عازمة على الذهاب له، ولكنه وقف أمامها وحاوطها بذراعيه يضمها، ولم يكن العناق سوى تأكيدًا على خبر لم تكن تود تصديقه، الدموع بدأت تتساقط من عينيها كخيوط مطر في ليلة شتوية باردة، وكأنها غير قادرة على استيعاب فكرة أن من كان هنا، من كان سندًا وملاذًا، بات الآن ذكرى عابرة، تتشبث بآخر ضحكة سمعتها منه، وكأنها تحاول أن تمسك بطيفه الذي ينسلّ من بين أصابعها بلا رحمة.
كان يحال أن يستجمع قواه المتناثرة في هذا الصمت المفعم بالحزن، بينما يده تربت على ظهرها بمواساة كبيرة لبث الطمأنينة بها، كان يحاول أن يُهدئها، لكن روحه هي الأخرى كانت تتهاوى في بئرٍ لا قرار له.
أحلامه وكلماته تذوب مثل الثلج أمام شمس الحقيقة، يدرك أن والده برغم ما كان يفعله، ألا أن الخسارة فادحة، تلك الخسارة التي أنهت كل شيء في لحظة، فكان يأمل أن يعود له الأمان ولكنه أضحى اليوم سرابًا بعيدًا.
أغلقت «هاجر» عينيها، تحاول جاهدة أن تستعيد في ذاكرتها كل ضحكة تجمعهم، كل لمسة حانية من يده التي كانت كملاذٍ دافئ في برودة الحياة..
في خيالها، تراه مبتسمًا، بتلك النظرة الهادئة التي كانت تُعيد الطمأنينة إلى قلبها المضطرب، وكأنه يهمس لها من بعيد:"لا تخافي... أنا هنا."
وفي قصة قديمة مرت عليها سنينٍ طوال ولكنها بقت محفورة بداخلها..
في زمنٍ كانت القلوب فيه طاهرة كقَطرات ندى الصباح، التقيا على نغمةٍ من الصدفة،
كما تلتقي الروح بقدَرها المكتوب منذ الأزل.
كان حبهما أشبه بنهرٍ هادئ يسري في صمتٍ، بعمقٍ يملأ الأرض حياةً وطمأنينة، لم تكن نظراتهما مجرد تبادل، بل كانت رسائل صامتة، حروفها مشبعة بالحب الصادق الذي لا يَخفُت ولا يُنسى.
هو..
كان يشبه شجرةً عتيقةً راسخةً في الأرض، تمد أغصانها لتظلل عالمها، وتهبها من ظلّها راحةً ومن جَمالها حياة، كانت ابتسامته كإشراقة شمس تذيب كل خوف في قلبها، وكأن طمأنينته هي حصنها الآمن في وجه عواصف الأيام.
ومع كل كلمة منه،
كانت تسمع قصيدة حبٍ،
تنساب كألحانٍ خفيةٍ تروي قلبها بالعذوبة وتروي روحها باليقين.
أما هي؛ فكانت له كالنسيم الذي يخفف عنه عناء الحياة، وكان في عينيها نبع حنانٍ يجد فيه سكينةً لا يعرف لها نهاية، كانت تتعلق به كما تتعلق زهرةٌ بعنقود المطر، ترويها قطراته، لكنها تعرف أن كل قطرة تعني بقاءها،
كان حبها له عميقًا،
كأسرار البحر،
وفيًا كنبضات قلبٍ لا تتوقف عن العطاء.
كل لقاء لهما كان أشبه برقصةٍ صامتة،
تنسجم فيها الأرواح كما تنسجم النجوم في السماء،
يتآلفان كأنهما خُلِقا ليكونا معًا،
في زمنٍ يقدس فيه الناس معنى الوفاء.
هذا الحب لم يكن مجرد لحظات عابرة،
بل كان روحين تلتحمان،
كطيرين مهاجرين يعيشان على الأمل في كل عودة.
لكن الواقع ألقى بثقله كصخرة لا تُحتمل، وشيئًا فشيئًا انهارت قوتها التي كانت تتشبث بها، أحسّت ببرودة كفّيها، تتوسل في صمتٍ مهيب للريح أن تعيد إليها رائحة حضنه الذي بات سرابًا بعيدًا، فتندفِع دموعها كنهرٍ جارف، لكنها ليست دموعًا للراحة؛ بل كالسكاكين التي تمزق روحها، كأن كل دمعة تسلبها جزءًا من الحياة.
سقطت أرضًا، غير قادرة على الوقوف أمام هذا الحزن الذي أطبق عليها كغيمة داكنة تحجب عنها النور، وارتفع صوتها بالبكاء كأنها طفلة وجدت نفسها في ظلام دامس، تولول وتبكي بحرقةٍ تكاد تحرق الهواء من حولها.
انحنى «مُهاب» بجانبها، احتضنها بقوةٍ وكأنه يحاول أن يحميها من الألم الذي لا يعرف له حيلة، وجثا على ركبتيه، صامتًا، محطمًا، كأن في عينيه عالمًا بأسره قد انهار.
_ربنا يرحمه يا ماما، ربنا يرحمه ويغفرله كل ذنوبه ويسامحه على اللي عمله كله، ادعيله كتير هو محتاج دعواتك.
هزت رأسها بايجاب كأنها طفلة تنفذ كلام أبيها، ونبست من بين شهقاتها وبكائها المقهور:
_ربنا يرحمه ياحبيبي، ربنا يرحمه يارب.. يارب سامحه وارحمه يارب.
في لحظات الرثاء الحقيقية، حين تتكسر الأرواح وتشتد وطأة الفقد، يكون الصمت أبلغ من أي كلمات، وأصدق من أي تعزية؛ فالكلمات في تلك اللحظات تبدو فارغة، كأنها محاولات باهتة للملمة جراحٍ لا تندمل، الصمت وحده قادر على احتواء الحزن، كأنه حِصن يحمي بقايا القوة المتبقية، ومساحة للتنفس تحت وطأة الألم.
********
بقيَ وحيدًا، كبيتٍ مهجورٍ في منتصف صحراء، كل من أحبهم كانوا كأعمدة ارتكز عليها، وعندما انهاروا واحدًا تلو الآخر، شعر بأن كل شيء داخله قد انهار أيضًا.
كان الأمان في حياتهم، والحنان في قلوبهم، وحين رحلوا، تركوه في ظلامٍ عميق لا يملؤه شيء سوى الصمت والعتمة.
لم تكن دموعه دموع اشتياق لعائلته وأحبته فقط، بل كانت بكاءً على نفسه، على ضعفه وحيرته، على جهله بكيفية مد يد العون لنفسه المتهالكة.
كان يصرخ في صمته،
يطلب الخلاص،
لكن لم يكن هناك من يسمعه.
بكى لأنه لا يعرف كيف يلملم شتاته،
ولا كيف يعيد بناء جدرانٍ انهارت بداخله.
كل ليلة، كان يجلس مستندًا إلى ظلٍ من الذكرى، يحاول أن يسترجع شعورًا بالدفء كان قد نسيه، لكن صقيع الوحدة كان أشد، ومرارته تسري في عروقه كالسمّ تمامًا.
لقد بات كطفلٍ تائهٍ يبحث عن يدٍ تمتد إليه لتدلّه الطريق، لكن لا شيء سوى الفراغ، سوى صدى ذاته، يتردد حوله.
تمنى لو يعلم كيف يساعد نفسه،
كيف يُسكِت كل هذا الوجع،
لكنه كان وحيدًا؛ أضنى روحه بكاءً وعجزًا، حتى أنَّ دموعه جفت، لكن الشعور بالفقد ظلّ يلهب قلبه بنارٍ لا تخبو.
أنزل يده بحرقة بالغة، وأخفض عينيه الزرقاوين اللتين تحولتا إلى اللون الأحمر كدماءٍ نازفة، حتى كادت تُخفي الحزن الدفين:
_امشي يا «وتين»!
أخفضت المسدس إلى الأرض، تتجنب أن يجرح أحدًا بعدما ترك يدها بعدما أمسكها في لحظة انفعالية، وحينما كانت تصرخ بوجهه محاولةً تنبيهه لما يفعله، ومُنبهةً إياه لخطر تصرفاته.
وضعت يدها على فمها، تحاول كبح صوت الشهقات المتعالية، بينما كانت دموعها تسيل بلا توقف، كجدولٍ متدفق من الألم:
_أنا آسفة والله صدقني لو في إيدي حاجة اعملها كنت عملتها، أنا آسفة على كل حاجة وحشة بتحس بيها بسببنا، أنا بتمنى إنك تكون كويس ويمكن.. يمكن لو كان فيه بينا لقاء في وقت غير الوقت ده كان يمكن يكون فيه بينا نصيب، بس أنا مش قادرة أطلع من راسي إنك عاوز تأذي بابا.
كانت كلماتها تخرج ببكاءٍ مقهور، تعبر عن أمنية مستحيلة، تمنّت لو كانت الظروف مختلفة، تليق بهما وبالحب الذي يجمعهما.
تنهد بسخرية، يأسٌ يعتريه وقسوة تحتله!
وتقدم نحو المكتب الذي تكدست عليه أغراضه، أمسك صندوقًا قديمًا، وبدت ابتسامته ساخرة كأنها تَحتوي على كل مرارة ماضيه، وناوله إياها:
_عندك حق، خلي دي تذكار عندك عشان لو حبيتي تفتكريني، لو محبتيش ارميها وأنتِ نازلة في أي صندوق زبالة، زي ما اتعمل في قلبي ومشاعري ونفسي.. مش أول خسارة متقلقيش.
عبر عن كثرة خسائره بتلك الكلمات البسيطة، ورفع عينيه لينظر إليها بتنهيدة عميقة تحمل ثقل الهموم:
_يمكن يكون ليا رجوع ويمكن لا، بس أنا مش بطل القصة في الزمن ده، يمكن أبقى بطل قصة تانية ويمكن تكون دي نهايتي وهيتحط في آخر صفحة نقطة للقصة دي.. ولوجود «يامن الجمّال».
تمسكت بالصندوق بين أحضانها ونبست بضعفٍ:
_بالله عليك متحاولش تنتحر، أنت ربنا أكيد هيعوضك عشان معملتش حاجة وحشة في حد واتظلمت، بس أنا والله مقدرش أعملك أي حاجة ولا أقدملك أي حاجة.
كان يطالعها كما الشريد في بلاده، كأنما هو في وطنه الغريب، حتى بلاده، التي تُفترض أن تكون ملاذه، لم تعد ملكه، بل أصبحت سجنًا يحيط به.
كان يحاول أن يستعيد شعور الأمان، لكن كل لمسة من الأرض التي نشأ عليها كانت تُذكره بفقدان جميع أحبته، وكأن كل زاوية تحمل غصة من ذكرياته.
_متقلقيش عليا، بتبقى لحظات ضعف مريت بيها كتير وحاولت كتير انتحر، بس أنا أقوى من كل ده ومن اللي بيحصل..
قال كلماته ساخرًا من نفسه وذاته، مرتديًا قناع اللامبالاة، بينما هي اكتفت بالايماء وتحركت حتى وقفت جواره ولكن بشكل معاكس له، توقفت حينما نبس بنبرة لم تشهدها يومًا، تحمل كل مشاعر العالم التي شعرت بها ولم تشعر:
_أنا حبيتك أوي، وموعدكيش إني هبطل أحبك يا قطة.
نظر إليها «يامن» لآخر مرة، صامتًا!
كأن الكلمات ترفض أن تودعها، وكأنه يقاوم الرغبة في التمسك بوجودها ولو للحظة.
استدار مبتعدًا ببطء نحو غرفته ، وتركها تغادر مثل نسمة باردة في ليلة شتاء، تبتعد عنه وهي لا تعلم أن قلبه يتفتت مع كل خطوة تخطوها بعيدًا.
وما إن اختفى أثرها حتى سقط قناعه الصلب، وظهر «يامن» الآخر؛ «يامن» الرمادي، الذي باتت عيناه مطفأتين، كنجمتين انطفأتا في سماء بلا قمر، كانت خطواته متثاقلة كأن الأرض تجذبه نحو الأسفل، كأنها تسحبه لأعماق الحزن الذي لم يعد يحاول الهرب منه.
في وداعها، شعر بأن قطعة من روحه تُقتلع، أن صمت الوداع يخترق صدره كخنجر حاد، يداه كانتا ترتجفان وهو يضعهما في جيوبه، كأنه يحاول إخفاء ارتعاشه، لكنّ جسده المائل للأمام كان كاشفًا عن الهزيمة الثقيلة التي يحملها.
وقف في شرفة غرفته، رفع رأسه نحو السماء الملبدة بالغيوم، وشعر بقطرات المطر تنساب على وجهه، وكأنها دموع السماء تعانق وجعه، مدّ يده يستشعر المطر كأنه يحاول الامساك بها، ليُبقيها بجواره، لكنه لم يمسك سوى الفراغ البارد، فراغ لا نهاية له.
أما عن وداع «يامن الجمّال»، فقد كان وداعًا يحمل كل الحزن الممكن، وداعًا لشخصية أصبحت صورة قاتمة من رجلٍ كان قد عاش بقلب من ذهب، لكنه الآن يمضي بعيدًا، مجرد طيفٍ لذكرى كأنها تطفو على سطح ذاكرة الأيام، تتلاشى كالسحاب الرمادي في سماء الذكريات الموجعة.
*********
كان «مُهاب» يقف أمام القبر، جسده صامت، وملامحه كأنها لوحة جامدة لا حياة فيها.
عيناه متحجرتان، خاليتان من الدموع، وكأن الفقد جفف كل ما فيه من حزن، شفتاه مشدودتان، تحاولان أن تتماسكا دون أن تصدرا أي صوت، ولا أي ارتجاف، كان يتنفس ببطء، كأن صدره صار أثقل من أن يستوعب الهواء.
إلى جواره، وقف «زين» بوجهه المحمر وعيناه المغرورقتان بالدموع، كان يحاول أن يمسحها بيده، لكنها تتجدد كأنها لا تريد أن تنقطع، كأن القلب يبكي بأكثر مما تطيق العيون.
وجهه كان مُلتوٍ، يعبر عن كل الألم الذي في قلبه، وعن خيبة العمر الذي ضاع بفقدان الأب الذي لم يعش معه للحظاتٍ حتى!
وفي الخلفية، كان صوت الشيخ يرفع دعاءه بخشوع، صوته يموج بين الرهبة والتسليم، الكلمات كانت كالسهم تخترق القلب وتستنهض الشعور بالفراق، كأنها تدعو الرحمة للأب وتلقي بثقل الفقد على القلوب من حوله..
جوارهما، كان «مالك»، ينظر إليهما بعينين مملوءتين بالحزن، يراقب وجوههما كأنه يشعر بوجعهما، ويحاول الصبر والصمود لأجلهما.
وقفا أمام القبرِ كالصخرِ في ثباتِ،
وملامحُ الوجوهِ مزيجٌ من العتماتِ.
حين بدأ الناس بالمغادرة، التفت «زين» نحو «مُهاب»، تطالعه عيناه المترددة، قرر أن يتحدث هذه المرة، بصوتٍ يحمل أصداء الحزن وكلمات تخرج كأنها محاولات للإصلاح:
_مش عاوزك تزعل مني على كلام قولته في لحظة عصبية، أنت عارف إن كل حاجة نزلت على دماغنا بشكل وحش أوي، متزعلش مني أنت صاحب..
لم يُكمل، إذ قاطعه «مُهاب» بجمودٍ يشبه الصقيع:
_فكك مبقاش فيه حاجة هتجمعنا من بعد النهاردة، أنا سيبتك تحضر جنازته وعزاه عشان ليك حق، بس مش هسمح بحاجة تانية تأذي أمي، والحقيقة دي هتتدفن زي ما أبويا اتدفن كدا بالظبط..
_وأنا مش عاوز ده يحصل، أنا عاوز يجمعنا لقاءات تانية عشان أنا لقيت فيك الصاحب الجدع، والحقيقة مش هتتدفن، حقي أعرف أمي وأنت تعرف عيلتك، أنت ليك أخت كمان من حقها تعرف إن ليها أخ زيك جدع وشهم..
رد «زين» بنبرة متوجعة، كمن يعترف بثقل الحقيقة على كتفيه.
وقف «مُهاب» للحظات، كمن يحاول أن يلتقط أنفاسه بين الغضب والحزن، وزفر بحدة:
_حل عن سمايا يا «زين» وفكك من شوية الكلام العاطفي ده، أنا فيا اللي مكفيني وعهد الله..
أخذ «زين» نفسًا عميقًا، وكأنّه يحاول أن يمسك بقية صبره، ثم قال بهدوء:
_لا، بس هسيبك يومين ترتاح وتهدى وأنا همشي عشان أمي حالتها مش كويسة بعد ما عرفت إن بابا هيتسجن.. مع السلامة.
ثم استدار وغادر المقابر، وعيناه تلمعان بعزم خفي، عازمًا أن يُصلح ما هدم، وأن يبني جسرًا جديدًا، مهما كانت الصعوبات، لن يخسر صديقًا سيكون بمثابة شقيق.
بينما اقترب «مالك» من «مُهاب»، ووضع يده على كتفه بحذر وببعض المواساة:
_بقولك إيه.. فيه حوار ضروري لازم تعرفه وإحنا لسه في الأمور كدا وهي سخنة.
نظر إليه «مُهاب» باستغراب، منتظرًا تفسيرًا، حينها قرر «مالك» أن يخبره بشأن الصغيرة «فيروز»، وتحدثا وهما يسيران نحو الحارة، تحملهم خطوات ثقيلة بظلال من الحيرة والأسى..
*********
دخل إلى غرفته بخطوات ثقيلة، وقد خيم عليه الحزن كغيمة سوداء تملأ قلبه وأفكاره، كانت عيناه متعبتين، ووجهه شاحبًا.
لكنه ما إن فتح الباب حتى وجد «غنى» هناك، تجلس بجوار والدته التي كانت تبكي، وجوارها صديقتها «مروة» التي بمجرد أن رأته وقفت أمامه تقول بحزنٍ بالغ:
_البقاء لله يا «مُهاب» ربنا يرحمه يارب ويصبرك.. عن اذنكم
ثم غادرت ووجه هو بصره نحوهما، كأنهما يحيطانه بقلوب مكلومة حاولت أن تجد الأمل في عزائه.
أقترب يجلس جوار أمه ومسح وجهه بقوة هامسًا بتنهيدة قوية:
_كفاية عياط يا أمي هتتعبي، ادعيله بالرحمة.
نبست بحسرة:
_ربنا يرحمه يارب، ربنا يرحمه يابني، هقوم اتوضى واصلي ركعتين واقعد اقرأ قرآن..
أمسك يدها ليسندها ولكنها اشاحتها بهدوءٍ مع ابتسامة صغيرة قائلة:
_أنا كويسة ياحبيبي.. متقلقش عليا.
تركها تغادر من جواره ثم وجه بصره نحو التي تطالعه بحزنٍ وتركت عينيها تواسيه، تسارعت نبضاته، واقترب منها كأنما يغرق في بحر من الألم، جلس بجوارها على الفراش، ونظر إليها بعمق كمن يبحث عن شفاء لجرحٍ غائر.
همس بصوت متحشرج، وملامحه المثقلة بالحزن:
– إنتِ كويسة يا «غِنى»؟
أومأت له برأسها بهدوء، وابتسامة خفيفة تكسو وجهها، محاولة أن تخفف عنه ولو ببصيص من الأمل.
مدت يدها بلطف وأمسكت بيده، تضغط عليها بقوة، كأنما تضع في يده شجاعة يواجه بها ألم فقدانه.
تردد للحظة، ثم استلقى على الفراش، وسمح لنفسه أن يضع رأسه ويستريح على قدميها، كأنها ملجأه الآمن الوحيد.
أغمض عينيه وتنفس يستنشق أكبر قدرٍ من الهواء قبل أن يطلقه في تنهيدة قوية سمعتها، رفع رأسه للحظة،
كأنه يريد أن يخبرها بما لا يستطيع حمله وحده، وعيناه الزجاجيتان تحملان عبء كل ما يمر به.
_أنا تعبان أوي، كل حاجة عمالة تتحط عليا وكأني مش إنسان بيحس، عصابة واتورطت فيها، سجن ودخلت، قتل واتهموني إني قتلت، فلوس واتهموني إني سرقتها.. وفي الآخر يطلع حاجة جديدة خالص.. أطلع مش ابن الناس اللي عِشت معاهم سنين عمري كله.
صمت لبرهة، ثم نطق بمرارةٍ وحزن:
_ولا هي أمي الحقيقية، ولا هو أبويا الحقيقي.
نظرت إليه «غِنى» بذهولٍ، فقد تجمدت الكلمات على شفتيها، أكمل بمرارة، وكأنه ينزف كلماته:
– طلعت ابن «سليمان رشوان»... أنا... أنا اتبدلت مع زين في المستشفى من سنين، مصدقتش بس للأسف كل التقارير أكدت إن ده صح، مكنتش أتخيل أبدًا إن حياتي تتبدل بين لحظة والتانية بالشكل ده.
لم يكن ثمة رد؛ فقط لحظات صامتة، وحزن ثقيل يملأ الغرفة، و«غنى» تمسّد على شعره بحنان، كأنها تحاول أن تحتوي انكساره.
_طب أهدى، أهدى ومتقولش حاجة لطنط دلوقتي خالص عشان هي مش مستحملة، أنا مش هسيبكم والله وهكون جنبكم.. كله هيكون كويس والله
شدد على يدها الأخرى التي أمسكها وترك الثانية تمسد شعره، أغمض عينيه بقهرٍ غلبه:
_يارب.. يارب.
نتقاسم الأحزان وكأننا جئنا إلى هذه الحياة يدًا بيد، أنا وأنتِ، اثنان تتداخل أرواحنا في ظل وجعٍ واحد، يجمعنا رغم مرارته.
لم نعد فقط اثنين نشارك الألم؛ بل صرنا كيانًا واحدًا، يتأرجح بين الصبر والتحدي، بين العزيمة والانكسار.
أعرف أن حزنكِ أقسى من أن يُحتمل،
وأنه يمر عبركِ كليلٍ طويل لا نهاية له،
يُثقل قلبكِ ويغرقكِ في عتمة من الدموع.
لكنكِ تتقاسمين كل هذا معي؛ ترينني ملاذكِ،
ملجأً تلجئين إليه حين ينهار الصبر،
فأكون أنا الحائط الذي لا يهتز أمام طوفان حزنكِ.
وكذلك أنا،
كلما هدّتني الرياح،
أجدكِ هناك،
لا تتخلين عني،
تُمسكين بقلبي المهزوم وتضمدين جراحه بكلماتكِ التي تُشبه الوعد،
وبحضوركِ الذي يهمس لي "لن أتركك".
نحن الآن كتلة واحدة،
نصفان يكملان كيانًا موحّدًا في حضن الأسى.
لا شيء يمكنه أن يفصلنا،
لا ألم ولا خوف،
فما دام بيننا هذا العهد الذي يتجاوز كل كلمات العالم،
سنظل نقف معًا،
نُساند بعضنا في مواجهة الحياة،
ونتقاسم حزنًا لم يعد لنا بمفردنا بل صار ملكًا مشتركًا.
********
دخلت «سلوى» إلى غرفتها بهدوء، وحاولت أن تتجنب إصدار أي صوت، وبينما كانت تستعد لفتح الباب، توقفت فجأة حين التقطت أذناها همساتٍ خافتة من الداخل، أدركت أنها أصوات «محمود» و«فادي»، فانحنت نحو الباب تسترق السمع.
كان «فادي» ينفث السم بصوته المنخفض لكنه مخيف:
– ما أنا قولتلك أنا السبب في كل اللي بيحصل «لماسة»… وانت عارف، لازم نخلّص عليها، خطفها من الواد ابن «رشوان» هيكون سهل… وبعد ما نتسلى بيها هننهي وجودها للأبد.
عينا سلوى اتسعتا من الرعب، أنفاسها تسارعت، وكأن قلبها بات يتصارع للفرار من صدرها، غلبها الذهول، فتعثرت وأصدرت صوتًا خفيفًا.
في لحظة، التفت «محمود» نحو الباب بنظرة شيطانية وفتحه على غفلة، وتقدم نحوها بسرعة كأنما أسد اكتشف فريسته، أمسكها من شعرها بقسوة، وجذبها إليه حتى واجهت نظراته الحادة.
همس بصوت مليء بالسخرية والشر:
– أنتِ واقفة هنا من زمان صح؟
ارتعش صوتها وجسدها وهي تحاول أن تبعد يده عنها، ولكنه أبى تركها وهو يقول بسخرية:
_إيه، كنتِ مفكرة إنك عارفة كل حاجة، ولا إيه؟ لأ، اللي فات كان مجرد بداية، جوزك مات على إيدي... عارفة إزاي؟ أنا اللي امرت السكرتيرة تديله جرعة زايدة في مشروبه، جرعة صغيرة أوي بس كانت كفاية تخلص عليه، وكمان... بنتك هتكون الضحية التانية، وبعدها أنتِ!
عجزت سلوى عن الكلام، عيناها غارقتان في الرعب، حاولت أن تتملص، لكن قبضته كانت قوية، بادر بجرّها نحو زاوية الغرفة وحبسها هناك، مغلقًا عليها الباب.
أخذت سلوى نفسًا عميقًا، محاولتها لاستجماع قوتها جعلتها تلتقط هاتفها بخفة، ويدها ترتجف وهي تكتب رسالة «لزين»:
"زين، ماسة في خطر... محمود وفادي بيخططوا لقتلها، محمود قتل أبو«ماسة»، أرجوك خلي بالك ابنتي..
بأنفاس متلاحقة وقلق يملأ قلبها، أرسلت الرسالة، متمنية أن تصل في الوقت المناسب لإنقاذ ابنتها!
وفي داخلها ألف ندم ينهش بجسدها، ولكن أي ندم يفيد بعدما ذاقت ابنتها مرار الخذلان والقهر، على يدها ويد زوجها وابنه.
وفي الخارج حيث كان يقف ذلك الحقير مُمسكًا بهاتفه يُخبر صديقيه بأن يجهزان حتى يساعداه في خطفها، ثم طالع والده بخبثٍ:
_خلص عالتانية جوا كمان هتجيبلنا الفضايح، أنت مدخلتش معاه شريك بعد ماكان شايفك صاحب مش مسؤول وتعبت عشان توصله وتاخد فلوسه عشان هي وبنتها ياخدوا كل ده!
_سيبها دلوقتي، دورها جاي هي كمان، وهو خد جزاته في داهية.
نبس «محمود» ببغضٍ ثم تحرك نحو الصالة يجلس بها وغادر الثعبان الآخر نحو الخارج.
**********
ترك والدته تستريح هنا في فراشها بعد نوبة شديدة من البكاء على والده، وجوارهما تجلس «وتين» بملامح متعبة شاردة في اللاشيء، فهي حينما عادت للمنزل وعلمت بما حدث لوالدها أصابتها هي الأخرى صدمة كبيرة..
مررت بصرها بينه وبين والدتها ثم تحركت من جوارهما لغرفتها تفتح الصندوق الذي أعطاه لها «يامن»...
قلبها يخفق بشدة وهي تحمل تلك العلبة متوسطة الحجم، الثقيلة بذكريات لم تكن تعرف أنها تراكمت بتلك الصورة داخل قلبه.
أمسكت بغطاء الصندوق ورفعته ببطء، لتفوح منه رائحة عطر يامن الممزوجة برائحة الورود المجففة، وكأنّ الصندوق يحفظ أنفاسه وآثار يديه.
أول ما وقعت عليه عيناها كانت أوراقًا صغيرة مرتبة بعناية، بداخلها رسمٌ دقيق لعينيها، بنظرتها التي كانت تراقبه بها في لحظات الشغف الصامت، وكأنّه كان يرى فيها حياة أخرى، وكتب أسفل الرسم
«عيناي تشهدان أنكِ الحقيقة الوحيدة وسط عالمٍ من الوهم.»
رفعت الرسمة لتجد تحتها رسمًا آخر، وجهها مُزين بتفاصيل دقيقة، وشعرها منساب كالنهر على أكتافها، وبجانب الرسم وردة حمراء مجففة، تلك الورود التي يعشق تقديمها لها تلمّستها بلطف، وكانت حوافها خشنة، إلا أنها احتفظت بأثر رقتها التي نسجت تلك الذكرى.
ثم نظرت إلى دفتر صغير بدا قديمًا بعض الشيء، وبجانب الدفتر قلادة فضية تحمل حروف اسمهما منقوشة بعناية، بريقها تلاشى قليلاً من الزمن، لكنها حملت معها عبق أيام مضت.
تصفحت في الدفتر، فإذا بها تجد قصائد وأفكار غير مكتملة، كلمات مبعثرة كان قد كتبها في ليالٍ كان الأرق رفيقه.
كتب في أحد الصفحات
«حين أفتقدكِ، يصبح الليل أعمق، ويصبح القمر شاهدًا على غيابكِ الحارق.»
«أحببتُكِ أكثر مما ينبغي، وبحثتُ عنكِ في كل زاوية فارغة، كنتُ أحاول جاهدًا ألا أبدو بحاجة، ألا أظهر أني مشتاق... ولكني فشلت، أحيانًا ألوم قلبي على هذا الارتباط بكِ، ثم أبتسم وأسامح نفسي، فكيف ألوم نفسي على حبكِ وأنتِ وحدكِ من جعلني أشعر بأني إنسان؟»
«كم رغبت بأن يكون لدي قوة خارقة؛ وهي أن أعيد الزمن للوراء، لقلت لكِ كل ما يعتمر صدري منذ اللحظة الأولى، كنتُ سأخبركِ كم أحتاجكِ بلا كلماتٍ رسمية، بلا تعقيدات، كنتُ سأقولها ببساطة: وتين... أحتاجكِ لأنكِ النبض الوحيد الذي جعلني أدرك أنني ما زلتُ حيًا.»
كانت هذه الكلمات، التي بدت بسيطة على الورق، تحمل وجعًا عميقًا وحبًا غير مكتمل، وكأنّها قصة عشق مكتومة بين دفاتر الماضي، بقيت طيّ الكتمان لتترك أثراً خالداً في قلب «وتين».
أخذت «وتين» تنظر إلى كل تفصيل من تلك الذكريات، عيناها تمتلئان بالدموع، وشعرت بثقل في صدرها لن يزول بسهولة..
وعلى الجانب الآخر.. تحرك هو الآخر لخارج الغرفة حينما وصلته تلك الرسالة من أمها تحثه على حماية ابنتها.
كانت عيناه تتسعان في دهشة وقلق، قلبه يخفق بشدة، كأنما يسمع دقات الساعة وهي تعلن اقتراب الخطر، صدى تلك التهديدات ضد «ماسة» ظل يتردد داخله كجرس إنذار، لم يتردد للحظة؛ قرر أن يفعل أي شيء ليحميها.
رفع هاتفه يحاور شخصًا ما ثم وضعه بجيبه وتقدم نحو الغرفة التي تجلس بها وطرق الباب بهدوءٍ وانتظر حتى فتحت له..
_عاملة إيه دلوقتي؟
اومأت برأسها تجيبه بعد سؤاله ليقول بجمودٍ:
_كويس عشان هنتجوز دلوقتي!
توسعت حدقتاها بصدمة ونبست بصوتها المرتجف:
_تتجوزني دلوقتي إزاي؟
هز كتفيه ببساطة معبرًا عن الموقف وكأنه ليس ضخمًا أو كبيرًا:
_زي أي واحد بيحب واحدة، هنتجوز عشان لما حد يجي يبصلك بس أحط صوابعي فعينه.
_بس أنا مريضة ومدمنة، أنا لسه قدامي مشوار طويل أصلًا ومعرفش إذا كنت هطلع منه كويسة ولا لا، لسه قدامي علاج بمصاريف كتيرة و..
تحدثت بتلك الكلمات الساذجة التي لطالما كانت تتحدث بها دون تفكير ليردف هو مقاطعًا إياها:
_لو قالولي أصرف كل فلوسي عشانك هصرفها من غير ما أفكر ثانية واحدة، مافيش واحد يقدر يتغلب عاللي هو فيه لوحده يا «ماسة» ولو هتفضلي تعاندي معايا كل ما أقرب خطوة تبعدي زيها تلاتة فإحنا هنفضل عمرنا كله في نفس الدايرة بنلف حوالين بعض، سهلي علينا الدنيا وسيبي الباقي عليا، مش عاوزك تعملي أي حاجة، أنا هعمل كل حاجة وأنا اللي هقدم كل اللي أقدر أقدمه ليكِ عشان العلاقة دي تكمل.. أنا بحبك ومش عاوزك تكوني غير كويسة..
نبس بكلماته بكل جدية تغللتها العاطفة الكبيرة التي لم يقدر على حبسها بداخله، يطالعها بعينيه الزيتية الحزينة والتي بلغ حزنه أشد مراحله.
نظراته كانت سيوفًا حادة تحرسها من العالم، كأنما يرى فيها كل شيء، ويستعدّ للدفاع عنها ضدّ أي شيء.
_وحوار إن «فادي» متجو..
_متجبيليش سيرة الكلب ده لحد ما أشوفله صِرفة أخلص عليه، وعمومًا متقلقيش أنا سألت شيخ موثوق فيه وقالي إن الجواز باطل أصلًا، ومن الواضح كدا إنه مافيش جواز.. المأذون شوية وجاي جهزي نفسك
قال كلماته بتنهيدة قوية ثم تحرك من أمامها تاركًا إياها في شتاتها ومحاولاتها البائسة في التغلب على أوجاع جسدها لحاجتها لذلك السم الذي كانت تتناوله يوميًا..
ولجت للغرفة ووقفت أمام مرآتها لترى نفسها، فلم تجد سوى نسخة لا تعرفها من «ماسة» التي لطالما كانت هي مصدر قوتها..
_معلش.. كله بيعدي.. والدوشة دي في يوم مسيرها تموت..
كانت ترتجف كغصنٍ رقيق تصدّع تحت ثقل الرياح، لم يتوقع قلبها أن تستمع لكلمات كهذه، كيف لها أن تتصور نفسها عروسًا، وهي التي ترى نفسها هشة، متكسرة، مسجونة خلف آلامها؟
لحظات صمتها كانت كأصداء ترتدّ داخلها، تحاول إخفاء ضعفها عن الرجل الذي وقف أمامها كحائطٍ منيع.
استجمعت ما تبقى من شجاعتها، وتنفست بعمق، كأنها تستعد لمعركة جديدة.
