رواية ابني ابنك الفصل الثامن8بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك
الفصل الثامن8
بقلم امينة محمد
مثلث الخطر»
صدفة جمعتنا ولكنني دبرت لها مطولًا سيدتي، وليت الصدف كما نرغب في بعض الأحيان أن تكون هادئة، ولكن صدفتي بكِ ستكون كما موج هائج يتلاطم رفقة الصخور في عرض المحيط.
لا يليق بي الهدوء بتاتًا، ولا يليق بعلاقاتي الراحة،
أرادت الحياة أن أكون شرسًا، فلنجعلك كذلك لتكوني سيدة لي ولقلبي.
_مُساعدة يا قُطة؟
هكذا سمعته يعرض عليها وعلى ثغره تعتلي ابتسامة جانبية وعيناه تلمع بشيء من النصر.. ربما!
خافت أن تفتح له الباب وخافت أن تتحرك من مكانها فهي في منطقة لا تعرفها ولا يمر هنا أي شخص، وهو مظهره يُرعبها وحده، بجسده الضخم وعينيه التي تبدو كمَن اصطاد فريسة، وحتى ملابسه السوداء والتي تكونت من سترة سوداء اللون فوقها معطفًا جلدي الخامة.
نطقت بابتسامة بسيطة متصنعة القوة وهي تهز رأسها نفيًا:
_شُكرًا
لا تعلم هل وصله صوتها من خلف زجاج سيارتها أم لا، ولكن بالتأكيد وصله نفيها على عدم رغبتها في المساعدة!
رفضت مساعدته؟ لماذا يشعر بالحريق داخله هكذا من مجرد رفض بسيط من فتاة!
فتح باب السيارة وتوسعت هي حدقتيها بصدمة مع صوت الباب، ثم أدارت وجهها نحوه سريعًا وابتلعت غصتها، بينما هو توسعت ابتسامته على طرف فمه بنصرٍ:
_بس أنا راجل شهم، بحب المساعدة، خصوصًا لو قطة زيك كدا تايهة في نص الطريق، ميرضنيش اسيبك محتارة!
تلبكت وارتجف قلبها رعبًا من هذا الذي يحاوطها هُنا ولكنه سرعان ما طمئنها بقوله:
_مش هأذيكِ ياقطة، متقلقيش أنا هساعدك بس.
ومن أين تلك الحنية التي خرجت منه لها؟
لا يعلم ولكنه في الحقيقة ما يعلمه هو أنه يراها كما قطة ضعيفة هشة، تخاف أن يؤذيها أحد.
ابتسمت مُجبرة بشكرٍ ثم نطقت بصوتٍ مبحوح:
_أنت مكنش ينفع تفتح الباب بالشكل ده، أنا عاوزة أمشي لو سمحت.
مال نحوها فشهقت لتتراجع للخلف في كرسيها وتوسعت حدقتيها أكثر، ولكنه ابتسم لها ثم مد يده ضاغطًا على الزر الذي سيفتح السيارة من الأمام ليرى ما بها.
ثم ابتعد وهو يتحدث رفقتها ليرى أي مشكلة سيارتها بقوله:
_اسمي «يامـن» بالمناسبة يا..
_«وتين»، اسمي «وتين».
أجابته بنبرة سريعة ليقول بعدها وهو مشغولٌ في سيارتها:
_جربي تشغليها كدا؟
فعلت ما قال لتدور السيارة بنجاح، إذًا هو بالفعل يرغب في مساعدتها فقط، لذلك توسعت ابتسامتها وهي تقول بشكرٍ:
_اشتغلت، شكرًا جدًا ليك والله، مش عارفة أقولك إيه.
أغلق الغطاء الخاص بالسيارة من الأمام وابتسم وهو يقترب لها مجددًا:
_عاوز مقابل!
اختفت ابتسامتها ثانيةً، أيرغب في جعلها مرعوبة فقط؟
قيل عنه كثيرًا بأنه لعوب، ولكن لم يكن لعوبًا يومًا أكثر من الآن.
_عاوز فلوس؟
نطقت بذلك ببرائتها التي سيعتاد عليها، ولكنه هز رأسه بضحكة خفيفة قائلًا:
_تــؤ، بهزر يا قطة، مع السلامة.
أغلق لها الباب وتراجع للخلف بينما هي ظل بصرها مُعلقًا عليه حتى قادت السيارة وغادرت المكان بسرعة خوفًا من هذا المضطرب الذي ما إن غادرت اختفت ابتسامته ليحل محلها الغضب والظلام الذي احتل عينيه كان قويًا كفايةً لشرٍ كبير قادم..
رفع هاتفه ينتظر إجابة من الذي اتصل به حتى قال:
_كدا النهاردة حلو أوي وتم اللي عايزينه، هددنا «مُهاب» وقابلت «وتين»، دور الباشا التاني في الطريق، وكلهم هيكونوا تحت إيدي، عادي لما نخسر أربعة من الشعب، مش هيضر ولا فيه حاجة هتتأثر.
ثم أغلق الإتصال ووضع هاتفه بجيبه وسار نحو سيارته وهو يتذكر لمعة عينيها عندما خافت منه وهمس بينه وبين نفسه:
_معلش، نقسى شوية عشان نحمي صح.
******
أنت لست مجرد ورقة عابرة تتقاذفها الرياح، بل أنت كما نجمٌ يتلألأ في أفق العالم المظلم، أنت كما شمس ساطعة تُنير عالم بأكمله، أنت السحر الذي يطغى على عيون البشر ليلًا عند تأمله، وأنت ذاك النور الخافت الذي يظهر عند بزوغ الفجر، وبين كل ذلك سيأتيك النور، كل ما سيأتي لاحقًا سيكون خيرا وفيرًا. سيكون مصيرك كما مصير فراشة رشيقة تحلق في فضاءٍ نقي، تحاكي جمال الغد المشرق.
كانت تجلس في مدرستها بعد إنتهاء الحصص خاصتها لليوم، تُدرس مادة الرياضيات التي يكرهها الأغلبية، ولكن منها يُحبها الجميع لتبسيطها للمعلومات بطريقتها المميزة في شرح المعلومة.
استمعت لصوت أنين مكتوم يخرج من جوار باب غرفة المُعلمين التي تجلس هي بها، تحركت باستغرابٍ نحو الخارج ومالت برأسها لتجد فتاة صغيرة تعرفها جالسة تبكي بحسرة، مالت تجلس القرفصاء جوارها وسألتها بقلقٍ:
_«ساندي»، مالك يا حبيبتي بتعيطي كدا ليه؟
رفعت «ساندي» بصرها نحو «غِنى» وتلبكت في جلستها وهي تمسح دموعها المقهورة بكفها الصغير:
_مافيش يا مِس أنا كويسة..
_كويسة إزاي وأنتِ قاعدة هنا بتعيطي، مبتلعبيش مع صحابك في الفُسحة ليه؟ في إيه قوليلي!
رفعت الصغيرة من على الأرض وهي تتحدث معها بحنية بالغة لتهمس الثانية وهي تخفض بصرها أرضًا بحرقة:
_البنات بيتريقوا عليا عشان أنا تخينة، وبيقولولي مش هتقدري تجري معانا عشان أنتِ تخينة أوي.
بكت مجددًا وهي تتحدث مُعبرة عن قسوة الكلمات التي قيلت لها، لم تكن سمينة الجسد، بل كان يليق بها بشكلٍ لا يوصف، المطامع ستزيد على جمال الصغيرة هذه صاحبة الوجنتين الممتلئتين.
_مين هما اللي اتريقوا عليكِ وهاخدهم للأخصائية حالًا!
تحدثت بغضبٍ بعدما استمعت لحديثها، يُذكرها كل شيء بما حدث معها وهي صغيرة، ولكنها عندما لجأت لمُعلمتها لم تساعدها، بل تركتها وحيدة تبكي ورددت على مسماعها؛ «وأنا مالي، هو أنا هدرسكم واجيبلكم حقكم، خلي أمك تيجي تشوف ياحبيبتي يلا أمشي على فصلك».. تلك الجملة التي ظلت ترادوها في كوابيسها حتى الآن.
_بس أنا خايفة أقولك هما مين.
قالتها الطفلة بتلبكٍ وخوفٍ واضح لتؤكد لها«غِنى» بنبرة تحمل الطمأنينة وضمت الصغيرة نحوها:
_متخافيش، قوليلي وأنا مش هسمح لحد يأذيكِ.
أومأت لها وأخبرتها عن أسماء اصدقائها الذين تنمروا عليها، فتحركت بها «غِنى» نحو غرفة الأخصائية الإجتماعية في المدرسة ولمحتها «مروة» التي كانت في طريقها للفصل وأوقفتها بسؤالها:
_رايحة فين كدا، أنتِ مخلصتيش حصصك؟
أومأت لها «غِنى» بتنهيدة وطالعت «ساندي» المُمسكة بيد مُعلمتها بقوة تستقوى بها:
_فيه مشكلة ورايحة نقول للأخصائية، أنتِ باقيلك كام حصة؟
_دي الأخيرة، عملالهم امتحان عشان خلاص امتحانات نص السنة داخلة وأنتِ عارفة الإنجليزي تقيل السنة دي عالعيال، تخلص الحصة ونروح سوا!
قالتها «مروة» بابتسامة لتومئ لها صديقتها متفقة معها على ذلك، ثم أكملت طريقها رفقة «ساندي» وقصت على الأخصائية كل شيء وبعدها استدعوا الطلاب.
_وصلني خبر إنكم بتتريقوا على زميلتكم وخليتوها تعيط، ليه الأسلوب ده، ده كدا عيب ومينفعش نتريق على حد لأن كلنا خلقة ربنا.
نهرتهم الأخصائية بأسلوبٍ قوي، بينما هم كانوا أمامها ينكسون رؤوسهم بخزي مما صدر منهم، وهنا تدخلت «غِنى» بتنهيدة قوية وهي تُكمل على حديث صديقتها:
_حبايبي أنتم كلكوا صحاب وزمايل هنا في المدرسة، جايين تتعلموا وتتعرفوا على بعض وتكونوا صداقة، مش جايين عشان نتريق على غيرنا ونعامله بأسلوب وحش، ممكن غيرنا ده يزعل ويعيط بسبب كلامنا حتى لو بهزار زي ما حصل مع صحبتكم، وكل واحد ربنا خلقه بيتميز بحاجة جميلة، و«ساندي» طالبة متفوقة وشطورة وبتحبكم، والتنمر عيب وحرام مينفعش نقعد نقول على ده فيه وده فيه، كلنا فينا الحلو والوحش بس باختلاف.
تحدثت طالبة منهن بخزي شديد وهي تقول:
_إحنا آسفين يا مس «غِنى»، إحنا مكنش قصدنا.
أجابتها «غِنى» بتنهيدة، فجميعهن مازالوا صغار السن، ولكن يجب تأديب صغير السن حتى يكبر على القيم والأخلاق:
_بقصد أو من غير قصد، منتريقش على حد، أعتذروا «لساندي» مش ليا.
اعتذرن جميعهن في صوتٍ واحد وتحركن للخارج وابتسمت «ساندي» بعينين تحملا الحب تجاه «غِنى» وهي تشكرها بكل حب من داخلها:
_شكرًا بجد يا مِس «غِنى»، أنا بحبك أوي أوي والله، وشكرًا يا مِس ليكِ.
هكذا شكرتهما وخرجت بعدها لفصلها مع ابتسامة واسعة تزين ثغرها، فهي الآن كفراشة محلقة ابتعد عنها الحزن الكبير.
تنهدت من داخلها وهي تتمنى بأن يزول التنمر،
يزول كل فعلٍ شنيع،
فكيف يجرؤ الإنسان على التطاول وتجاوز حدود الأدب مع غيره، وجعله يبكي مجروحًا من قسوة الكلمات،
ثم ينام ليلًا في هناءٍ!
******
كل شيء يكتنفه الغموض، حتى الحقيقة التي اكتشفتها بعدما عافرت بأن تظهر وجدتها خداع، والآن بين حيرة من أمري، أختار نفسي أم أختار من أحب!
أم أضرب بالجميع عرض الحائط في مقابل أن أحمي كلًا من نفسي ومن أحب!
_طب أنت هتعمل إيه؟ مع «زين» ومع اللي اسمه «يامن» ده؟
نطق بذلك صديقه المقرب «مالك» ليسحب نفسًا عميقًا وهو يهز كتفيه بلا علم، ثم قال من بين شروده:
_معرفش، أنا اللي فارق معايا تكون «غِنى» خلال الفترة دي بين أيدي ومعايا، عشان أقدر احميها.
تنهد «مالك» وهو يطالعه بحزنٍ على ضياع صديقه هكذا:
_طب ما أبوها زي ما أنت شايف وبتحكي، هتعملها إزاي دي بقى؟
_أنا بقيت بعمل حاجات «لغِنى» وبضحي بكل جوارحي وكله عشانها، حاجات مفكرتش أضحي بنفسي بيها عشاني!
عبر بكلماته بصدقٍ كبير، ولكنه لم يجد نفسه سوى وهو يجلس بإرهاقٍ شديد ويُخرج عُلبة الدخان من جيبه ليتنفس واحدة منها.
_ربنا يجمعكم ببعض ياصاحبي، أنا هراقبلك الوضع في المكان اللي قولت عليه يمكن أوصل لحل، والشغل في الورشة مش أحسن حاجة فيه ناس بتيجي تسأل عليك مع إني مش مقصر... بس ركز في شغلك يا «مُـهاب»
نبس «مالك» بتنهيدة وهو يحدثه ليومئ له «مُـهاب» بابتسامة بسيطة شاكرة، وشرد بعقله في نقطة وهمية بعيدًا متذكرًا كل اللحظات التي جمعته بها، لحظات تشبه التقاء فراشة مع وردةٍ في بستانٍ تسطع عليه شمس دافئة.
تحرك مُقررًا في داخله أن يتحدث رفقة والدها مرةً أخرى قبل أن يتخذ ذاك القرار الذي بعقله، قرار متهور، ولكنه سيُجدي نفعًا.
وصل عند باب المسجد حيث الآن موعد صلاة العصر، وسيأتي والدها ليصلي وسيكون هنالك فرصة للتحدث بعد الصلاة عله يكون هادئ الروح ولطيف القلب، وبالفعل قد كان ذلك بعدما أنهوا الصلاة وتوجه له بتنهيدة قوية وهو يبادر في التحدث:
_ازيك يا حمايا؟
_أنا مش حماك يابني، بس كويس الحمدلله، عن إذنك.
قالها مختصرًا بوجهٍ عابس، ليقطع طريقه «مُـهاب» بقوله بجمودٍ:
_حمايا عشان أنا مش هسيب «غِنى» غير وهي مراتي، صورتي وصورتها في ورقة واحدة كدا ويكون عقد جوازنا..
_وأنا قولتلك مش موافق!
قالها بحزمٍ وصرامة وهو يطالعه بتحدٍ قوي، ليتحدث الآخر ببساطة ساخرة:
_مش عاوز تكون عقد جوازنا، خلاص ياسيدي يتحط صورتي وصورتها في محضر في القسم، المهم هيتحطوا يعني هيتحطوا، وبصراحة أنا مش هسيبها لحد غيري، هي اتولدت عشان تكون مراتي..
حضرهما الشيخ «حسني» عندما لاحظ علو صوتهما في المسجد وهو يقول بتنهيدة:
_في إيه ياجماعة صوتكم عالي كدا ليه، خير والله وكل بيتحل بالتراضي.
ظل نظر «مُـهاب» مُعلقًا على «متولي» ولكن فمه يتحدث رفقةً «حسني» بقوله:
_ياحاج مش عاوز يجوزني بنته بحلال ربنا، وأنا طالبها في الحلال وبحبها، وعاوز أكتب كتابي عليها.
_طب إيه المشكلة يا «متولي»، ما «مُـهاب» شخص كويس وصالح، وراجل جدع وشهم، ورايدها في الحلال.
حاول «حسني» تلطيف الأجواء بحديثه ولكن الثاني أجابه بحدة:
_وأنا رافض، جدع وشهم يدورله على بنت حلال تانية، أقولك مش مجوز بنتي وهقعدها جنبي يا «مُـهاب»!
_هي فعلًا هتقعد جنبك لو متجوزتنيش، بس أنت أبوها وأنا حقي احترمك أنت قد أبويا، ربنا يهديك وترضى عني يا حاج «متولي» يا حمايا، شدة وتزول ان شاء الله.
تقصد أن يغيظه بابتسامة ساخرة وتحرك من أمامهما نحو الخارج، رفع هاتفه وهو ينتظر الإجابة بتنهيدة:
_مافيش فايدة، نفذوا بقى زي ما اتفقنا!
***********
ماذا بعد؟
سؤال يطرح نفسه، لم أجد له إجابة يومًا،
سؤال قاسي على القلب،
فلا سبيل للراحة بعد طرحه، ولا حتى قبل!
وصل لغرفة المكتب التي بها والده وتحرك يجلس على الكرسي أمام المكتب وألقى التحية بابتسامة:
_مساء الخير، كنت عاوز أتكلم مع حضرتك في حاجة كدا!
طالعه «سليمان» باستغرابٍ وأومأ له ثم عاد يطالع الملف الذي بيده سامحًا لابنه بأن يتحدث، فنبس الآخر شارحًا كل شيء باستفاضة ونبرة جامدة:
_الاستاذ «صادق» ده، حضرتك واثق فيه؟ بصراحة حصل كام حاجة اليومين اللي فاتوا، أنا روحت مع «مُـهاب» للمكان اللي كان هيستلم مني فيه الفلوس وأتضح إن فيه هناك حوار كبير لسه مش عارفين هو صح ولا غلط، بس يومها الراجل ده ليه يستلم منك الفلوس في مكان زي ده برا الفندق أو حتى عن طريق البنك؟
رفع «سُليمان» بصره نحو ابنه وقوس حاجبه باستغراب:
_حاجات إيه، مقولتليش ليه طيب؟
تنهد «زيـن» وبدأ يشرح له بهدوءٍ:
_المكان فيه أطفال، وشكنا إن فيه هناك حوارات زي تجارة الأطفال والحاجات دي، ويومها وصلنا فوق سطح العمارة اللي المفروض كنت هروحها وكان فيه رجالة هناك بتتكلم وواحد منهم شافنا أصلًا ورجالته كانوا ورايا أنا «ومُهاب»، من الآخر شكلها عصابة، وأنا قلقان ليكون الراجل ده له إيد فالموضوع.
أراح «سُليمان» ظهره على الكرسي يطالع «زين» بتوجسٍ وتفكيرٍ، ولكنه سرعان ما ردد:
_الراجل له شركة وأنا عارفها أصلًا مافيش الكلام ده، وأنا أكيد مش هضيع نص مليون تانين فالهوا، أنا أصلًا بعتهم والبضاعة هتيجي خلال شهر ونص.. بس بمناسبة حوار العصابة ده، إحنا برا الموضوع يا «زين»، إحنا لينا سمعتنا في البلد والفندقين زي ما أنت شايف على تكة لأي حاجة تحصل تسئ بسمعتنا.
تنهد «زيـن» متذكرًا «مُـهاب» وكل شيء حدث معهما سويًا، وجد والده يناوله سيجارة ليتنحنح بخفة:
_مبدخنش يا بابا و..
_على بابا يالا، أنا عارف إنك بتدخن من زمان!
كانت الابتسامة ساخرة تعتلي ثغره، وطالعه «زيـن» مُحرجًا منه وأخذ من يده السيجارة وهو يسأله:
_من أمتى؟
_من فترة، شوفتك هنا في الفندق وعملت نفسي مش واخد بالي، والريحة اللي بترشها فالبيت من اللا شيء كل شوية دي عرفت إن وراها سجاير!
رفرف برموشه كم البرئ واعتلت اللمعة عينيه الزيتية، فضحك والده بسخرية عليه ولوح له ليغادر:
_قوم يلا روح شوف وراك شغل إيه؟ وفضي نفسك عشان افتتاح محل أختك بعد بكرا، لازم كلنا نكون حاضرين.
أومأ له بابتسامة وتحرك من مكانه:
_ده كدا كدا متقلقش، وربنا يستر بقى فاللي جاي.. عن إذنك!
وأكمل طريقه للخارج بعدما أخذ من والده الحديث الذي خرج عن ثقة، فهو الآن أخرج «صادق» من حساباته!
إذًا من يفعل بهم ذلك؟
********
صديقتان قويتان،
مرت عليهما من الأوجاع المؤلمة،
ولكنهما متماسكتان ببعضهما.
_المهم يعني بعد الإفتتاح عيد ميلاد «زين»، فعايزة احضرله مفاجأة حلوة كدا تفرحه أوي أوي!
نبست «وتين» بكلماتها المفعمة بالحماس والطاقة لصديقتها «ماسة» التي كانت عينيها الخضراء منطفئة بصراعاتٍ بعقلها جعلتها غير واعية لشيء الآن.
ولم يكن يدور برأسها سوى ذلك الضجيج في عقلها الذي يخبرها بأن هذا المكان ليس لها، وأنه لا يوجد أحدٌ يحبها، ولا حتى عائلتها.
الضربة لم تكن قوية، ولكن الخصم كان أمها!
ذلك المعتوه «فادي» وما يفعله، وحتى القسوة التي تراها يوميًا من زوج أمها تؤلم قلبها الهش.
شعرت بيد «وتين» على كتفها تضغط عليه لتنبهها بقولها:
_سرحتِ فين؟
_ها، معاكِ!
اجابتها بتنهيدة قوية لتهز «وتين» رأسها بنفي وهي تنفي ذلك:
_مش معايا ولا حاجة، بتفكري في إيه؟
مررت «ماسة» بصرها على صديقتها ورسمت ابتسامة مكسورة على ثغرها، ثم أردفت بغصة مؤلمة احتلت ثناياها وأخرجتها مع حديثها:
_مش عارفة، بفكر في كتير، دماغي مشوشة وعقلي فيه دوشة، فيه كتير أوي بيتكلموا جوا دماغي، بيتحاربوا، أنا في صراع مع نفسي، أنا صح ولا غلط؟ طب اللي حواليا صح ولا غلط، وبعدين؟ بجد وبعدين يا «وتين»، آخرة اللي أنا فيه ده يا موت بوجع قلبي، يا إنتحار.. وأنا عاوزة أكون كويسة، مش عايزة أخسر الجنة، أموت في النهاية كافرة!
غادرت الدمعة عينيها بأسفٍ على حالتها لتضمها «وتين» لها وهي تربت على كتفها بحنية بالغة.
صديقة كسبتها من الحياة،
لتكن شريكة للدرب، وأخت لها.
_متزعليش يا حبيبتي والله ربنا هيعوضك بكل الخير قريب وأنا واثقة في ده، أنتِ شوفتِ كتير والعوض هيجيلك قريب، ووقتها هتعيطي بدل القهر ده فرحة، صدقيني يا «ماسة» أنتِ تستاهلي كل الخير، بس ده ابتلاء من ربنا ليكِ، خلاص متعيطيش بقى عشان خاطري.
ثم ابعدتها عن أحضانها ومسحت لها دموعها وهي تقول بمشاكسة:
_هما الحلوين عشان حلوين يعملوا كدهوا؟
_قعدتك مع «زين» الكتيرة أثرت على دماغك ياحبيبتي، بطلي تقعدي معاه عشان هو اليومين دول ألفاظه بقت غريبة وأنا هخاف عليكِ!
قالتها الأخرى بضحكة خفيفة لتشاركها الثانية الضحك، ونبست بعدها متذكرة ما حدث صباحًا رفقة ذاك الذي ناداها بلقبٍ لن تنساه:
_عندك حق، بس المفروض يبقى عندنا شوية ألفاظ زي دي عشان نتعامل مع ناس معينة كدا بيها!
_أنتِ لسه حاطة الواد بتاع الصبح فدماغك؟ قولتلك تلاقيه شخص عابر وحب يساعدك!
قالتها «ماسة» وهي تمسح دموعها بشكلٍ جيد وتطالع صديقتها، ولكن «وتين» هزت رأسها بنفي بقولها:
_لا يا «ماسة»، فيه حوار وراه، بس هنشوف عادي!
تنهدت وتذكرت ما كانت تقوله «وتين» قبل قليلٍ، لذلك نبست بخفة:
_إن شاء الله، كنتِ بتتكلمي على عيد ميلاد «زيـن» ده لسه يوم 15/10، وإحنا النهاردة لسه خمسة، هفكر معاكِ وأقولك!
أومأت لها «وتين» بابتسامة بقولها وهي تُبعد بصرها بشرودٍ:
_الست أمي كل عيد ميلاد «لزين» تفتكر توأمه اللي مات وهما بيتولدوا وتقعد تعيط!
ابتسمت «ماسة» بصفاءٍ على قلب أمها، وتحدثت ببساطة ومشاعرٍ قوية خرجت مع حديثها تُظهر مدى تأثرها بتأثر الأم التي تربت على أبناءها وتخاف عليهم:
_عشان هي أم، حتى لو مات وهو بيتولد، حقها تفضل فكراه وشالته في بطنها تسع شهور..
أنهت حديثها وتحركت من مكانها لتنهي عملها في المحل رفقة صديقتها بعدما قررا سويًا بأن يكون على شيء مُرتب على يديهم التي تبث الفن!
*********
أطفال سُرقوا من عائلاتهم ليكونوا هنا بين يد وحوشٍ بشرية، يمارسون عليهم كل الأمور القاسية التي لا يجب أن يراها طفل!
كانوا يجلسون جوار بعضهم بخوفٍ شديد، منهم الباكي على عائلته واشتياقه لهم، ومنهم الصامت في صدمة وذهولٍ!
ولج بالطعام يوزعه عليهم وهو يطالعهم جميعًا، وفي كل طفل منهم يستنبط ما يشعر به من ملامحه، وكأنه مر بتجارب مماثلة، أو كثرت أمامه تلك التجارب.
خرج من أمامهم على وجود «مُهاب» أمامه بعدما فكر بشكلٍ جدي وقرر أن يضع قدمه في هذا الطريق الذي قد يكون نهايته موت!
_موافق، بس أمي وأبويا، و«غِنى» برا الحوار.
تحدث بجدية وكانت نبرته حادة بشكلٍ قوي يليق بمقامه، ليومئ له «يامـن» الذي مد له يده يصافحه:
_موافق، برا الحوار.. واوعدك الحوار كله هيخلص على طول.
أومأ برأسه وبداخله صراع يفتك بقلبه، ثم التفت ليغادر ليستمع «ليامن» يقول بتلاعبٍ:
_آه صحيح، نهاية الحوار ده يوم عيد ميلادك، يوم 15/10، ويومها أعتبر نفسك براءة من كل اللي بيحصل.
تشكّل الاستغراب على ملامحه والتفت يطالعه بحاجبٍ مرفوع، كيف علم بيوم مولده؟
_وأنت عرفت منين أنه يوم 15!
_وهو أنا هشتغل مع واحد معرفش عن حياته كل حاجة، عيب عليك، أنا الرجالة بينادوني بالشبح!
بنفس نبرة الثقة التي يتحدث بها «مُهاب» كان يتحدث بها «يامـن».. وتواجدهما الآن أمام بعضهما، يشكل خطورة على الجميع، ولكن مع تواجد ثالثهما الذي خرج من السيارة التي بالخلف، فتشكلت الخطورة بشكلٍ أكبر..
_حلو، ده المعلم «زين» معاك كمان!
ضحك «يامــن» ساخرًا، ليومئ «زيـن» برأسه بابتسامة حانقة له، وبسخطٍ أردف:
_تخيل يا.. شبـح!
_ اعتبرنا من النهاردة واحد، يعني «مُهاب» رجله في حتة، هيكون معاه في نفس المكان «زين»
قالها «مُهاب» بخفة واثقًا من حديثه، متذكرًا عندما تحدث رفقةً «زين» يخبره بتلك المقابلة التي جرت بينه وبين «يامن» وبأنهما يجب أن ينهوا هذا الموضوع رفقة بعضهم كما ولجوا مع بعضهم.
ثلاثة!
مثلث الخطر تشكل،
وها هو يقترب..
******
_لا يا «مالك»، أنا مش هساعدك في الحوار ده، دول يتخدعوا فينا!
قالتها «مروة» بإصرارٍ أمام زوجها الذي أضاف على حديثها بجمودٍ:
_ما يتخدعوا، مش أحسن من الحال ده يا «مروة»، أنتِ هتساعديني يعني هتساعديني، سواء عايزة ولا مش عايزة، الموضوع ده لازم يتم!
تعليقات