رواية ابني ابنك الفصل التاسع9بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك
الفصل التاسع9
بقلم امينة محمد
«ورطة»
فقط دعنى أوجهك ناحية الخير وأخبرك بشيء ما قد يبث الطمأنينة في قلبك، إن الخير إن تواجد يومًا بشخصٍ تحبه فسيظل، خاصةً إن كان صديقٌ لك منذ الأزل..
النفوس تتغير، والقلوب تمتلئ بالحقد،
ولكن الخير سيظل، والصديق لن يخذلك.
_يا «مالك» والله مينفعش!
هكذا قالت وهي تمسك يده بين يديها، ليرفعها نحو فمه يلثمها بحنانٍ وهدأت نبرته قليلًا لأخرى مُقنعة:
_أنتِ صاحبتها وأنا صاحبه، وأنا وأنتِ عارفين إن «مُـهاب» مش هيسيبها لغيره، ده عنيد ودماغه عاوزة كسر، ومش بعيد يخطفها، والمسرحية ممكن تزعلها شوية بس هو هيراضيها.
زفرت وهي تطالعه وعقلها يدور في كل شيء طرحه عليها الآن:
_فكرتك أنت وهو هتخسرني صحبتي يا «مالك»، وأنا مش هخسرها، يعني إيه بجد، أنت عاوز ناخد المأذون ونروح بيت البت وهو يجي وتقنعوا أبوها وتحطوه فالأمر الواقع، عيب بجد هي متستاهلش يكون كتب كتابها كدا.. وبعدين إيه عرفكم إنه هيوافق، أبوها ممكن يقلبها بعند وتحصل مشكلة أكبر.
ضمها له وهو يحاول وضع تأثيره القوي عليها ومسد على شعرها البني الطويل، وهو يقول بنبرته الخافتة:
_يا حبيبتي هو مش جاحد أوي كدا على «مُهاب»، وإلا مكنش من الأول خطبهاله، هو بس متضايق من اللي حصل وهيرضى على طول عشان هو عارف إنه أكتر حد هيحافظ على بنته هو «مُهاب».
أراحت رأسها على صدره وتنفست الصعداء وهي تقول بحزنٍ على حال صديقتها:
_من زمان وهي حظها في الدنيا قليل، من وقت ما أمها ماتت واللي خطبها الأول ده، وقعت كتير وقامت، ووقعت وتقوم لوحدها، أبوها متمسك بيها وخايف عليها عشان هي وحيدته واللي باقياله في الدنيا، وقت ما أمها ماتت انهاروا هما الاتنين وكانوا بيهونوا على بعض، ووقت ما خطيبها سابها واتكلم عن شرفها انهاروا برضو سوا وهو اللي قوم بنته، طبيعي يخاف عليها من الهوا وهو مش عاوزها تحس باللي حست بيه تاني وكان شايفها بتعيط قدام عينه بالشكل ده وتقهره عليها.
كان يستمع لكل كلماتها التي قالتها بصدقٍ وغلفت نبرتها الأسف، وتحدث بابتسامة خفيفة:
_«مُـهاب» هيعوضها، وأنتِ جنبها وصاحبتها اللي هي كسبتها من الدنيا، سبحان الله لا من الحارة ولا كنتِ تعرفينا ولما جيتِ بقيتِ صاحبتها المقربة.. كل ده هيعوضها، وأبوها وقت ما «مُـهاب» يكتب كتابه عليها هيقدروا سوا أنهم يخلوها تتخطى، ساعديها عشان تقدر تعدي كل الصعب ده يا «مروة».
أبعدت رأسها عن صدره ورفعت بصرها توجهه له بملامحها المنهكة وسحبت شهيقًا قويًا وأخرجته من داخلها:
_حاضر يا «مالك»، ماما وبابا بيسلموا عليك على فكرة وعاوزين نروح نتغدى معاهم.
حاوط وجهها بكفيه واقترب يُقبلها على رأسها بابتسامة قائلًا:
_عيني، هنروح ان شاء الله بس أنتِ عارفة بيت أبوكِ بعيد، محتاج بس افضي يومين وهاخدك ونروح تشوفيهم، أنت تؤمر وأنا أنفذ يا «مروتي».
ابتسمت بخجلٍ وأخفضت بصرها عنه، بعد زواجٍ دام لسنتين مازالت تخجل من غزله العفيف وحتى الوقح منه:
_ربنا يديمك ليا ياحبيبي ويرزقنا الذرية الصالحة قريب.
أنهت جملتها بتنهيدة قوية وتنهد على أثرها هو الآخر ثم عاد يضمها له متمسكًا بها بكل قوته، لن يسمح لشيء ليفرق بينهم.
كان بينهما مسافاتٍ وبلاد،
حارب لأجلها وحصل عليها،
وإن طالهما بعض البلاء،
لن يتخلى عنها بتاتًا.
*******
هل تدركون كم تكون الحيرة قاسية في أعماق مشاعرنا عندما نبتعد في أوقات نكون فيها في أوج الحاجة لمن يحتضن عواطفنا ويجمع شتات أرواحنا المتناثرة المتألمة؟
نقف في لحظات ضعف قاتلة على حافة الإنهيار،
حين نكون في أمس الحاجة للتعبير،
نصمت بينما تتوق أرواحنا للكلام.
نبتسم بينما تشتعل قلوبنا برغبة جارفة في البكاء،
ونهرب إلى شوارع الضياع عندما تهاجمنا الأفكار كالعواصف.
لا أحد يجرؤ على الإفصاح عن ألمه الحقيقي،
فبعض الأكاذيب تُعتبر درعًا لك من نظرات الآخرين،
أو إنك لن تظهر بثوبِ الضعيف أبدًا.
كان يقود السيارة والثاني جواره يفكر بشكلٍ مفرط، واستمع لصوت «زين» يقول بسخرية:
_مكنتش أعرف إنك نفس تاريخ ميلادي، أصل أنا كمان مولود في نفس اليوم ده.
حرك «مُهاب» بصره ناحيته وهو يسأله بهدوءٍ، فهو غير مبالٍ إن كان في نفس اليوم أو لا؛ فذلك لا يشغله في الأساس لأن الصدف كثيرة:
_مواليد سنة كام؟
أجاب الثاني ببساطة:
_1995.
لحظاتٌ من الصمت!
حينما قرر «مُـهاب» التحدث هذه المرة بسخرية:
_وأنا كمان، للدرجة دي فيه تصادف أوي كدا بيني وبينك؟ يعني قد بعض بالظبط!
ضحك «زين» بخفة وهو يقول بتنهيدة:
_عارف، تبان صدفة غريبة بس عجبتني، أنا عمري ماكان ليا الصاحب اللي بلاقيه وقت ما بقع يكون في ضهري ويسندني، كلهم زمايل وخلاص منهم اللي أكتشف إنه مصاحبني لمصلحة ومنهم اللي أكتشف إنه أنا مش فارق معاه أصلًا، يوم ما كنا في السجن ولقيتك بتسندني عشان رجلي مع إنك مكنتش طايقني، حسيت إنه هيحصل ما بينا كيميا فيما بعد وهنكون صحاب أوي، بس بصراحة بقى أنت مرعب.
كان يستمع له ولكن جذب انتباهه حركة في الخلف، بينما «زين» طالعه ليرى رد فعله فوجد «مُـهاب» يُخرج المدية من جيبه ويفتحها فطالعها بصدمة ثم عاود النظر أمامه بتلبكٍ:
_مش قصدي مرعب أوي، نص نص، في إيه ياعم أنت شايل معاك مطواة ليه؟
طالعه «مُهاب» شزرًا ثم عاد أشار له بأن يوقف السيارة في صمتٍ فتوغل الاستغراب لثنايا الآخر وهو يشير له برأسه عن ما الذي يجري!
_بقولك يا «زيــن» أقف ثانية عاوز أنزل دقيقة على جنب!
هكذا قال بصوتٍ حاول أن يجعله عاديًا ليقف الآخر على جانب الطريق وترجلا سويًا من السيارة ومثل «مُـهاب» تحركه على الجانب ولكنه عاد يتوجه ناحية حقيبة السيارة وفتحها ليجد رجلًا مكمم الفم ومُقيد اليدين، عليه ورقة مدونٌ عليها!
توسعت حدقتي «زين» بصدمة وهو يدقق النظر فيه إذا كان يعرفه ولكنه لم يعرفه..
_أنتَ جيت هنا إزاي؟ أنت مين؟
جذب «مُـهاب» الورقة ليجد ما عليها كل ما قاله ليعرف «زيـن»:
_هدية بسيطة، ده الراجل اللي سرق منكم النص مليون في المستشفى، مش هيطول معاكم أصله كان جعان وأنا أكلته.. أكل مسموم!
طالعا بعضهما بصدمة ثم وجها بصرهما نحو الرجل الذي كان بالفعل يلفظ أنفاسه الأخيرة وكأنه كان ينتظر أن يفتحا لن حتى يموت الآن أمامهما:
_يحرقــكم كلكم!
_هنعمل إيه؟
قالها «زين» بصدمة وشحب وجهه بخوفٍ شديد، بينما هدر «مُـهاب» بغضبٍ جامح والصدمة تعتليه هو الآخر:
_المرة دي مش هقولك نجري، المرة دي هقولك ألطم يا أخويا، هات لطامة وألطم، أنت معرفتك هباب يالا.
صرخ الآخر بوجهه بصوتٍ مرتبكٍ خائف:
_أبويا قالي الصبح طلع إيدك من الحوارات دي عشان سمعتنا، وأنا عشان واحد مش متربي رجعت كلمتك تاني، هنعمــل إيه في الجثة دي كمان؟
_معرفــش، أخرس خليني أفكر.
صرخ بوجهه ووضع يده في خصره، والرجل ميت أمامه الآن، جثة مجددًا، الجثث كثرت!
*******
أشعر وكأنني طائرٌ ضائع في فضاءٍ شاسع، حيث لا يجد مأوى يتلملم به ويجد سكينته.
حتى قلوب أحبتي، التي كانت في الماضي ملاذي،
باتت تشعرني بوطأة الوحدة والغربة، وفي اعتقادنا أن الأماكن هي التي لا تشبهنا، ولكن الحقيقة الجارحة، الأمكنة تسكنها البراءة، بينما الغربة تكمن في أعماقنا.
كان يجلس هُنا يُتابع المحل خاصتها هي ورفيقتها، يتردد بمسامعه صوت صراخ فتى صغير ود أن يجد يد العون من أي شخص، يصرخ بلا توقف في محاولةٍ للنجاة أو حتى ليهرب..
صوت امرأة تتردد على مسامعه، صارخة هي الأخرى وتخبره بصوتها المبحوح بينما هي بين يد رجال وحوش:
_اهــرب، اهــرب يا «يــامــن».
أغمض عينيه بقوة ليوقف ذلك الصوت بداخل عقله، ثم تحرك حينما لمح «ماسة» تخرج من المحل ولم يتواجد به سوى «وتين»، توجه ناحية المحل يطالعه بتفاصيله مبتسمًا بخفة:
_حلم القط بيتحقق، والفار لسه بيجري بيدورله على مسكن.
ولج للداخل فأصدر الباب صوتًا لتواجد ذلك الجرس الذي فيه من الأعلى، رفع عينيه يتفحصه وسمعها تأتي من داخل المحل تقول:
_نسيتِ حاجة ولا إيه يا....
وعندما أبصرته صمتت، وخافت!
هلع قلبها لتواجد هذا الرجل هنا مجددًا، بينما هو مثّل الاستغراب بقوله الذي بدى كجاهلٍ:
_هو أنتِ تاني، بتراقبيني ولا إيه؟
_أنا اللي براقبك إزاي، أنت اللي جيت هنا.
قالتها ببساطة شديدة، وبصرها مازال مُعلقًا عليه في توترٍ شديد، بينما هو ابتسم بسخرية:
_كنت معدي من هنا وشوفت المحل، عاوز أشتري حلويات يا قطة!
يغازلها بشكلٍ غريب، تشكّل الاشمئزاز على وجهها وهي تقول بسخطٍ:
_أنت ليه بتتكلم معايا بالأسلوب ده، أطلع لو سمحت مافيش حلويات لأن المحل لسه مفتحش أصلًا.
وعلى غفلة شعرت بخطواته تتحرك وتتقدم لها بشكلٍ سريع فجفلت بصرخة والتفتت لتركض ولكنه أمسكها بقوله:
_شششش، أهدي عشان الدنيا تمشي بسلاسة، أنا على عيني اللي هيحصل في قطة حلوة زيك، بس ده لازم يحصل عشان تكوني كويسة، الانتقام لو مسك الكل مش هخليه يلمسك أنتِ بالذات.
ارتجف كيانها وجسدها، وتزايد صوت أنفاسها وهي تنظر له بعينيها الدامعة بخوفٍ شديد، وهمست بارتباكٍ وبنبرة متوترة:
_لو سمحت أنا خايفة، ومش فاهمة حاجة، وتعمل إيه ومين ينتقم، والله أنا مأذيتش حد والله.
_عارف!
هكذا قال بهدوءٍ والتفت برأسه يطالع المارة في الخارج فلمح ذلك الشخص الذي يقف ويراقبهما يتحرك الآن، تنفس الصعداء وابتعد من أمامها، للمرة الثانية يُنقذها، وللمرة الثانية يخيفها منه.
_خلاص أهدي، بس اللي حصل بينا لو وصل لحد هنزعل أنا وأنتِ سوا، هتقوليلي هعرف منين أنا بعرف كل حاجة وفأي وقت!
استندت بيدها على الكرسي وجلست عليه، بينما جسدها كله يرتجف بشدة وحتى قلبها ينبض بقوة شديدة، أنفاسها علقت في صدرها لا تأبى الخروج، وشحب وجهها كمن سيزوره الموت.
تنهد بخفة وهو يطالعها وتوجه ناحية المكان المتواجد به ادواتهم وأخذ كأس وملئه بالمياه وأتى يعطيها إياه:
_أهدي وخدي أشربي، أنا معنديش نية أئذيكِ يا قطة، أنا بحميكِ والله!
سألته بنبرتها المرتجفة:
_بتحميني من مين، ومن إيه، ومين أنت؟
أسئلة كثيرة تدور بداخل عقلها وأخرجتها له، عله يجيب، ولكنه خيب ظنونها بقوله:
_«يامــن»، خليكِ فاكرة اسمي كويس وأنا في الوقت المناسب هفهمك كل حاجة، هظهرلك كتير بس صدقيني في كل مرة هظهر فيها هيكون عشان حمايتك، أنا لازم أمشي بس أنتِ مش كويسة، أهدي عشان أعرف أمشي!
كاد أن يلمس يدها ولكنها أبعدتها بذعرٍ بسرعة شديدة وهمست بنبرة حاولت فيها أن تكون قوية:
_أمشي لو سمحت..
_همشي يا «وتين»، بس لو اللي حصل بينا طلع برا حتى لصحبتك، هنزعل، مع السلامة.
قال كلماته وتحرك من مكانه للخارج ثم لسيارته وغادر تاركًا إياها تائهة، لا تعلم من هو وما الذي ستفعله، هددها بألا تخبر أحد، وفي ذات الوقت هي خائفة وإن لم تخبر حتى أخاها ستقع بكوارثٍ أكبر في القريب العاجل..
بينما هو كان في سيارته يتحدث في الهاتف بوجهٍ ممتعض على كل شيء:
_ولاد الكلب باعتين واحد يخلصوا عليها ولما شافني جري، أنا نبهت عليكم إنها برا الحسابات، كل واحد هياخد حقه بس هي برا، أنت فاهم؟
ثم أغلق الإتصال في وجهه بعصبية شديدة ورمى هاتفه على الكرسي المجاور له وعقله سيجن حتمًا من كل تلك المصائب.
*********
وحيدة!
مسكينة!
تود منذ سنواتٍ البكاء لتعبر عن رغبتها وعن تعبها النفسي، ولكنها تخاف دومًا أن تظهر ضعيفة، هشة، مهزومة تستجدي الرثاء!
اخذتها أقدامها نحو المقابر تحديدًا حيث أمام قبر والدها الذي تركها هكذا في حياةٍ صعب التعامل بها وحدها.
_وحشتني أوي أوي يا بابا، وحشني حضنك وصوتك، مكنش حد بيطمني في الدنيا دي غيرك، أحيانًا بقول ليه ربنا استرد أمانته بالسرعة دي بس برجع استغفر الله وبخاف أوي أكون بغضب ربنا، بس أنا تعبانة أوي من غيرك والله وتعبت أكتر من اللي بيحصل، أنت اللي كنت بتحضني وهي كانت مشغولة كل الوقت في شغلها وإنها تعمل لنفسها كارير مع إنها مكنتش محتاجة لكل ده، سبتني ومشيت وراحت اتجوزت وجابت راجل بقرون وابنه بقرون زيه.. وأنا اللي فضلت وحيدة.
سحبت نفسًا عميقًا لداخل رئتيها وأكملت حديثها:
_بدعي ربنا يوجهني للطريق الصح، بلاقيني بستسلم وعاوزة أموت، طب أبعد عن الكل؟ بلاقيني وحيدة ومحتاجة لونس، طب إيه الصح؟ ولا أنا صح..
بكت بحرقة هذه المرة وهي تعبر عن تلك الكلمات الموضوعة بقلبها وتقبض عليه، وتؤلم روحها، وتؤرق روحها:
_مستاهلش يا بابا، مستاهلش كل ده والله، كنت استاهل اتحب وأعيش في بيت كله أمان معاها، كنت أستاهل ولو شوية إهتمام منها يحسسوني إني كويسة حتى ولو كنت هعافر لوحدي، مستاهلش إني يتداس عليا بالشكل ده، ده أنا ضعيفة والله، أنا ضعيفة أوي، كل محاولاتي إني أحمي نفسي في يوم هتتهد، حاسة إني بموت بالبطئ يا بابا، أنا بقيت أدعي على نفسي إني أموت ولا إن شيطاني يحركني ويخليني انتحر.
ظلت هكذا تبكي مع نفسها دون أن يراها بشري، فقط الله يطلع عليها وعلى أوجاعها، تشعر بأن كل التعب الذي بها خرج الآن ليقف كوحشٍ بسيوفٍ قوية، ويحاربها وهي وحدها.
مر قليل من الوقت وتحركت تغادر المكان نحو منزلها والتعب باديًا عليها، وعندما وصلت شعرت أنها بحاجة لذلك الكوب الذي تعده أمها، فتحركت نحو الصالة بعد خروجها من المرحاض وتبديل ملابسها:
_ماما بعد إذنك عاوزة مج نسكافية من اللي بتعمليه ليا على طول، بس ضروري!
ذاك الخبيث ابتسم بمكرٍ وانتصار عندما استمع لها تطلب القهوة التي يضع بها المخدرات لها، أومأت لها والدتها بابتسامة:
_حاضر ياحبيبتي، هعملهولك حالًا.
ابتسمت ابتسامة صغيرة لها وتوجهت ناحية غرفتها مجددًا، وبعدما أعدته «سلوى» ولج «فادي» لها مبتسمًا بتزييفٍ:
_معلش يا طنط تعمليلي واحد معاها، وبعد إذنك محتاج دوا للصداع فيه هنا؟
_آه فيه ياحبيبي، لحظة هجيبهولك.
وضعت الحليب فوق القهوة وغادرت المطبخ تجلب له الدواء بينما هو وضع المخدرات بكأس المسكينة، تلك الكميات التي يعطيها لها كبيرة، فهذه المرة الثانية التي ستشرب بها اليوم مخدرات، والأولى التي سيكون العيار ثقيلًا.
إنها متوجه نحو الهلاك،
لا عودة منه!
**********
قيل أن محاولات الحب ستنجح في يومٍ من الأيام وها أنا أحاول لأجلك مرارًا وتكرارًا..
كانت تطهو الطعام لها هي ووالدها بينما عقلها شارد في كل شيء يحدث هذه الأيام رفقتها، وخاصةً ماحدث صباحًا مع تلك الطفلة المسكينة التي تعرضت للتنمر كما تعرضت هي له في صغرها.
تنهدت ووضعت الطعام ونادت والدها ليأتي مبتسمًا:
_تسلم إيدك يا ست البنات.
بادلته الابتسامة وجلست أمامه تتناول الطعام ولكن بشرودٍ، وقررت أن تعطي نفسها فرصة لتتحدث معه بقولها:
_بابا هو أنت مش ناوي تتكلم مع «مُهاب» تاني وتديله فرصة؟
رفع بصره نحو ووضع الطعام بفمه يمدغه على مهلٍ، ثم نطق بثباتٍ:
_يحارب عشان أعرف إنه يستحقك!
_هيحارب أكتر من كدا إيه؟
قالتها بتنهيدة قوية فهي تعرف أنه تعب وقلبه هلك، وحاول وحارب كثيرًا، ليقص عليها والدها بقوله:
_النهاردة وإحنا بنصلي العصر جه وكلمني وقالي هتجوزها يعني هتجوزها، يعني أهو بيحارب، متقلقيش أنتِ وخلينا نشوف نهاية ده إيه..
نبست بكلماتها بصدقٍ:
_نهايته إني عايزة أكون معاه يابابا!
ابتسم ومد يده يربت على كتفها بمواساةٍ قائلًا:
_ربنا يكتبلك الخير، متقلقيش.
لا يريح قلبها ولا قلب المحارب المسكين،
تحاول لأجله محاولة،
وهو يحاول لأجلها محاولات!
*******
الكيف يهلك صاحبه،
وإن شعر بأن مزاجه سيهلكه،
سيبحث عمّا سيسعده.
تحرك «عادل» من أمام المكان الذي يأخذ منه المخدرات من «شِحتة» وهو يخبره بضيقٍ:
_المخدرات اللي بتديهالي دي مضروبة، هو في إيه؟
ابتسم «شِحتة» بسخرية وتصنع الاستغراب بقوله:
_بجد؟ إزاي ماهي نفسها هي هي ياعم «عادل»، تلاقيك أنت بس دي مبقتش بتكيفك
_يبقى ندور على غيرك يا أخويا ناخد منه عشان تكيفني، أنا بجبلك فلوس كتير يعني تشوف إيه يسعدني وتجيبهولي.
قالها بحنقٍ وهو يمسك الثاني من تلابيبه، ليبعده «شِحتة» بسخرية:
_لا وعلى إيه، ده الكيف يذل صاحبه بصحيح، أنا اجبلك السليم وتفضل تجيبلي الفلوس الكتير، بس أبعد عني ابنك..
_قصدك إيه؟
تسائل بملامح مستغربة وحاجبٍ مرفوع، ليفجر «شحتة» بوجهه تلك القنبلة:
_ابنك اللي مخليني أعمل كدا عشان عاوز يعالجك بس بعيد عن المصحة، وأنا بصراحة وافقت بس لقيت منه تقصير في الفترة الأخيرة في الفلوس وأنت مدلعني، فقولت أقولك!
طالعه «عادل» بصدمة وأبعد بصره عنه وعمى الغضب والظلام كل كيانه، وتحرك من عنده نحو المنزل ناويًا على كل الشر.
وصل بعد قليلٍ من الوقت ووجد «هاجر» فقط الجالسة هنا، وقف أمامها يصرخ بوجهها بعنفٍ دون أن يعطيها أي فرصة:
_فين ابنــك؟
نظرت له بجفلة وبعض الاستغراب وهي تقول:
_تلاقيه في الشغل، جاي بتزعق كدا ليه يا راجل أنت!
_أنا هوريكِ أنتِ وابنك يا «هاجر»، هوريكِ الراجل ده هيعمل إيه...
وفي الجانب الآخر، استند «مُهاب» على الشجرة خلفه وهو يطالع التراب الذي غطى به الميت هنا، بينما «زين» مال واضعًا يديه على ركبتيه يتنفس بقوة..
_أنا خايف..
قالها «زيــن» ليطالعه «مُهاب» بنفس النظرات التي بها الخوف هو الآخر:
_إحنا كلمناه وهو قالنا اعملوا كدا، يبقى خلاص إحنا برا الموضوع، يلا عشان نمشي أحسن.
ثم تحرك له يستند عليه، بل كانا يستندان على بعضهما سويًا، واوقفهما في منتصف الطريق رنين هاتف «مُهاب»، وقف مكانه وأجاب وليته لم يجيب، حينما وصله خبرًا حطم كيانه بأكمله:
_مالــها أمــي!!
تعليقات