رواية ابني ابنك
الفصل الحادي والعشرون21
بقلم امينة محمد
«ابني ابنك»
تتراقص الصفات بيننا كما تتلوّن ألسنة اللهب والماء على عتبات الرغبة والخوف..
أنت هدوء يبتلعه صبرٌ عميق، وأنا عاصفة يخمدها سحاب الرحمة، عند اقترابك، يتحول غضبي إلى خيال باهت، تُرسم تفاصيله على جدار الشك، ولا أملك سوى السكوت، وكأنني لم أكن أنا ذاتي من قبل.
وعندما أبتعد، تشتعل ثورتك، تضطرب خطواتك، وتبرق عيناك بنارٍ غريبة لا يعرفها ذلك الوجه الهادئ.
كأننا نغوص في أعماق أنفسنا، وكأن شخصياتنا تتبدل في لحظات لقائنا، نحن، في جوهرنا، لا نكون سوى مرآة لبعضنا البعض...
وأنت وأنا، نشبه المرايا التي تخفي ملامحنا وتكشف ما يدور في أعماقنا، ليصنعنا الصراع ذاته، دون أن نملك الخيار في متى أو كيف ينتهي.
كان يجلس في مكانه ويداه المتشابكتان ترتعشان بانفعال، يحاول جاهدًا أن يسيطر على الرجفة التي تجتاح جسده منذ أن أنقذها من بين براثن الموت، حينما رآها تقف هناك على حافة الانهيار.
عينيه تتعلقان بها وهي تحتضن شقيقته، منهارة بصوتٍ مرتجف ونبرة تفيض بالمرارة، ودموعها تنساب دون توقف، ترسم على ملامحها خريطةً من ألمٍ دفين وسنين من الانكسار، كان صوتها يتقطع، كأنه يحكي قصة روح أُثقلت بالأحزان:
_هفضل عايشة أعمل إيه بس يا «وتين» اللي بحبه مبقاش ينفع اتجوزه عشان أنا متجوزة عرفي من أكتر حد بكرهه في حياتي، هيفضل جنبي يواسيني على أساس إيه؟ مبقاش ليا حد أفضل عشانه، أمي؟
أمي اتعمت خلاص في مراية «محمود» وابنه، فكرك إني فكرت في ده بسهولة؟ فكرك إني طلعت النهاردة من المستشفى جايبة نفسي لحد هنا بسهولة؟ بس أنا تعبت، اللي فيا محدش يستحمله والله
بكت بكاء المقهور، بكاء المتعب..
كانت دموعها تتساقط كالأمطار في ليلةٍ كئيبة، دموع مقهورة، كأنها شظايا زجاجٍ هشٍ تتحطم بصمت.
استمع إليها وهو يكابد مشاعر حادة، كل كلمة منها تنغرس في قلبه كخنجرٍ سام، تقتله عباراتها الموجوعة، وكأنها تجرد روحه من غلافها ليظل أمام ألمها عاريًا، عاجزًا، بلا درع يقيه من لهيب كلماتها المسمومة..
ربتت «وتين» على كتف صديقتها بحنانٍ يشبه دفء الأم حين تضم طفلها المرتعد، وهمست لها بكلماتٍ تمنت أن تحمل شيئًا من الراحة فقلبها المُثقل بآثار الحزن، كأرض تشققتها عروق الجفاف.
نظرتها كانت كضوء خافت في عتمة الحزن، تحاول جاهدةً بث الطمأنينة في قلب «ماسة» المتعب:
_طب حقك عليا والله، أهدي عشان خاطري وان شاء الله كل حاجة هتكون كويسة، مش هسيبك ولا «زين» هيسيبك، وأصلًا «زين» بيحاول يوصل للعقد ده عشان يشوف صحته، لو غلط أنتِ مش هتكوني متجوزاه، ولو صح هنطلقك منه ومش هنسيبك، ولا هتقعدي تاني في المستشفى هتيجي معايا البيت، أنا مش هسيبك والله أنتِ أختي يا «ماسة»
تمسكت بها «ماسة» بكل ما أوتيت من يأس وارتباك، كمن يتعلق بحبل أخير في هاوية، فيما أبت عيناها المرتبكتان أن تلتقيا بعينيه.
شعر بثقل مشاعرها وانكسر بصره عنها لينظر إلى نقطة بعيدة، نقطة وهمية تائهة في أفق صمته، قبل أن تتهادى كلماته أخيرًا بنبرة حانية كسترة دافئة تُحكم حول روحها الجريحة:
_قولتلك وهقولهالك، مش هسيب حقك وهرجعهولك، كفاية جلد ذات في نفسك لأنه مش بإيدك، مش وقت الكلام ده هنا دلوقتي وقوموا يلا نرجع البيت..
وقف في مكانه ولكن في لحظة من السكون المرهف، اخترق رنين هاتفه الصمت، عينيه اتسعتا بدهشة، فقد كان اليوم هو يوم الحساب الموعود!
أدار بصره إلى وتين بعجلة، وهمس بصوت جاد حازم، كقائد يُصدر آخر تعليماته قبل معركة شرسة:
_خدي «ماسة» في تاكسي وامشوا، أنا ورايا مشوار مهم، خلي بالكم من نفسكم..
ابتلعت «وتين» غصتها المتجمدة؛ فهي تدرك ما تعنيه كلماته، وتعلم تمام العلم ما هو مقبل عليه، أومأت برأسها، عاجزة عن قول شيء، بينما كان يندفع بعيدًا كفارس يندفع إلى ساحة معركة محفوفة بالمخاطر، حتى وصل إلى سيارته، وتوجه مباشرةً إلى العنوان المكتوب في الرسالة، وكل خلية فيه تستعد للمواجهة التي طال انتظارها.
_فيه إيه يا «وتين»، هو بيجري كدا ليه؟
تسائلت الأخرى بقلقٍ واضح لتتنهد «وتين» قائلة وهي تساعدها في الوقوف وتحركتا سويًا بينما الثانية تحاوطها بذراعيها:
_ولا حاجة ياحبيبي، متقلقيش أنتِ وكل حاجة هتكون كويسة ان شاء الله هو بس مشاكل كدا تخصه هو وبابا، متشليش هم..
تحركتا سويًا في أحضان بعضهما نحو سيارة الأجرة التي أوقفتها «وتين» وجلستا جوار بعضهما بالمقعد الخلفي، ومازالت «ماسة» بين أحضان صديقتها الحنونة..
يا صديقي، يا سكنَ الروحِ،
أنتَ السندُ في وقتِ الشدة، والأملُ المتجدد..
عندما تعصفُ بي همومُ الحياة،
أراكَ بجانبي، تُهدي القلبَ الطمأنينة والهدوء.
كالشمسِ تشرقُ في أيامِ العتمة،
تمنحني الضياء وتُزيحُ عنّي كلّ خوف.
تُشاركني الأفراحَ وتخففُ الأحزان،
بكلامٍ بسيطٍ يُسعد القلبَ ويُشفي الجروح.
يا صديقَ الدربِ، يا خيرَ الأنفاس،
لكَ منّي كلُّ الشكرِ، وفاءٌ لا يزولُ أبدًا.
فالصداقةُ كنزٌ، لا يُقدّر بثمن..
أنتَ لي السند، وبهذا أعيشُ مطمئنًا.
*****
كان الظلام يحيط بها من جميع الجهات، تتدفق الدموع من عينيها كما لو كانت أنهارًا جفت في قلبها، تجلس على سريرها في غرفة المستشفى، بينما «مُهاب» جالس بجانبها، ممسكًا بيدها برفق، كأنه يحمل عبء العالم بين أصابعه.
كان صوت الأجهزة الطبية حولهم يتراقص في صمت الغرفة، كأنها جوقة تترنم بألحان الحزن،
نبس «مهاب» بصوتٍ مهزوز يحمل الذنب بين طياته:
_«غنى»، أنا آسف والله، مكنش قصدي يحصل معاكِ كدا، وحاولت والله احميكِ، بس اتاخدنا غدر ومكنش قصدي اخبي عنك الحوارات دي لما اتطورت بالشكل ده، يعني أنتِ كنتِ عارفة إن فيه عصابة، وهما نفسهم اللي كانوا متواجدين لما قابلتي «يامن» بس مرضتش عشان متتأذيش أكتر... وابوكِ لو عرف الكلام ده هيقفلي عشان اطلقك، أنا مش عاوزك تسيبيني، ولا تبعدي عني.. أنا ما صدقت والله.
أخذ نفسًا عميقًا، وأعاد النظر إلى عينيها اللتين كانت تشعان بالخوف والألم، كانت يديها المرتعشة تمسك بيده وكأنها قارب نجاة وسط أمواج عاصفة.
_أنا شوفت حاجات كتير هناك، شكلهم وحش أوي، وكلهم ناويين على شر، فيه هناك أطفال كتير خايفة، أطفال كتير مقدرتش أنا الكبيرة اساعدهم وكنت خايفة أكتر منهم
كأن كلماتها تشبه طلقات رصاص تصيب قلبه مباشرة، شعر بوجعها يتسلل إليه، كانت تشير إلى عمق تجربتها، وكأنها تسرد قصة مُحطمة عن آلام لم يعرفها من قبل.
_والله هعوضك والله، هصلح كل حاجة، هرجعلك نفسك دي، بس أنا مش هسيبك، أنا تعبت عشان اتجوزك وتكوني معايا.
حاول أن يبث الأمان بابتسامة تفتقر إلى البريق، ولكنها لم تستطع إلا أن تبكي أكثر، كان صوته كصوت الأمل في ليلة حالكة، ووجدت نفسها تتعلق بتلك الكلمات كما يتعلق الغريق بحبل النجاة وأقتربت له ليتلاقها بين أحضانه وهو يمسد على شعرها بحنانٍ بالغ، يعلم أنه طوق نجاتها..
هو القوي وهي الضعيفة بين يديه..
معادلة بسيطة، ولكن من دواخلهما كلًا منهما يشعر وكأنه يود القوة من الآخر.
هو القوي، وهي الضعيفة بين يديه، وكأنها طائر جريح علق في شباك القدر، كلما نظر إليها، تذكر كم أن العالم ظالم، وكيف أن الأزمات قد تجرّ البشر إلى قاع لا يُحتمل.
لم يكن يعرف كيف يسحبها من ذلك الجحيم، ولكن في دواخله، كان يشعر بأنها تحمل القوة التي يبحث عنها.
وهنالك حوار خفي بين قلوبهما..
"أحتاجك،" كان يقول لها بصوت خافت فالكلمات خرجت من أعماقه؛ "أحتاجك لتعلميني كيف أكون إنسانًا حقيقيًا."
ليجيبه قلبها "لكنني ضعيفة" تطالعه بعيون مليئة بالدموع، كأمواج بحر تتلاطم بصخور الشاطئ؛ "كيف أستطيع أن أكون القوة التي تحتاجها؟"
_مش عارفة أطلع المشاهد اللي شوفتها من راسي، وجسمي يوجعني، حاسة إني من جوايا مربوطة.
_هتنسي وكل حاجة هتكون كويسة وأنا معاكِ، والله حقك على قلبي..
قال كلماته بتخبطٍ ثم أكمل بوتيرة أقوى:
_أنا عارف إن كلامي مش هيرجع حاجة لطبيعتها، بس وعدي ليكِ، هحارب عشانك.. وكل وجع، كل دمعة، هعوضك عنها سعادة تنسيكِ كل حاجة شوفتيها..
بدت كأنها تستوعب كلماته، ومع كل لحظة كانت تشعر أن هناك بصيصًا من الأمل، كأنه شمس تشرق من وراء الغيوم، يدفئ قلبها ويعيد لها الحياة من جديد.
ظلت بين أحضانه ووالدها يتابعهما من الخارج بتنهيدة قوية، يعلم أن شفاء الاثنين وهما مع بعضهما..
وحينما وصلته تلك الرسالة هو الآخر ورآها، تملكه صراع خفي لم يكن يعلم إجابته، ولكن أختار لأول مرة أن يكون بلا قلب، حيث وضع الهاتف بجيبه وظل بين أحضان الحبيبة..
********
في تلك الدائرة الضيقة، حيث تنامى الظلام كوحش متربص، كان "يامن" في قلب المعركة، محاصرًا وسط مجموعة من الأعداء، ولعل أقربهم إليه هو "صادق"، الذي تفوح منه رائحة الخبث والمكر، كعطرٍ يائسٍ يحيط بجوٍّ من التوتر، وأتاه الصوت بتنبيهٍ من الخلف:
_سلم نفسك يا حضرة الظابط..
ألقى "يامن" نظرة ساخرة نحو "صادق"، ولم يكن يخشى شر تلك الأمور بعد الآن، فهو بين خيارين: الموت بشرف أو الحياة كطريد.
نبرة صوته كانت تحمل في طياتها تحديًا، وقد أطلقها بحذرٍ كقوسٍ مشدود، منتظرًا اللحظة المناسبة لإطلاق السهم:
_بس اللي وصلك معلومة إني ظابط ضحك عليك، هو أنا برضو هبقى ابن واحد تاجر لفترة في الأطفال وأكون ظابط!
أجاب ببرودٍ تام، كأنما يصرخ في وجه عاصفة، كاشفًا عن حقيقة مؤلمة تربطه بوالده، الذي خُطفت الأطفال على يديه.
كان كالذئب الذي يتعقب فريسته يخرج من جيبه علبة السجائر، أشعل واحدة، ووضعها في فمه كالا مبالي تمامًا
_متحاولش تحورلها يا «يامن»، أنت مكشوف من الأول..
رد «صادق» بحدّة، كمن يضع حواجز من الشكوك حول ضحيته، بينما كان «يامن» يتأمل الموقف، ضاحكًا في داخله:
_هحورلها ليه، أنا اللي قاصد أوصلكم معلومة إني ظابط بس أنا مش كدا، ولا قربت ناحية الظباط شبر حتى، بس قصدتها عشان أدخل في اللعبة دي ابن «رشوان».. بس الغريب ابن «عادل» دخل معانا في اللعبة دي ليه؟
_أنا اللي قصدت أدخله معانا من أول يوم عشان أنا عارف بكل حاجة وساكت، هو أنا مش قولتلك؟ مش أنا رئيس العصابة اللي فضل يتلاعب بيكم كلكم وأنتو بتدوروا عليه!
ابتسم «صادق» بابتسامة ماكرة، كالأفعى التي تنزلق ببطء نحو فريستها:
_ما أنت موضع شك يا «صادق» بس أنا اللي عامل عبيط، حلوة اللعبة دي، تلعب بأبويا و«فرحات» و«سليمان»، وتحورلها أنت، وبعدين تجمع عيالهم عشان توقعهم كلهم في بعض.. عجبتني
استمعوا إلى صوت سيارة تتوقف في الخارج، وكأن دقات قلبهم تتسابق مع صوت محركاتها، حيث كان «زين» راكضًا نحو الداخل واقتحم المكان، وعينيه تبحثان بقلقٍ عن والده، ليجد نفسه محاصرًا بظلال الرجال، وقعت عيناه على «يامن» الذي ينظر إليه بجمود، وعلى «صادق» الذي يبتسم بخبث كالثعبان الماكر.
_حلو وصل ابن «رشوان» المتبدل وهو ابن «الجزار»، البيه التاني فين بقى!
قال «يامن» بسخرية، كمن يقرأ صفحات رواية مأساوية، تجمعت فيها الأقدار مرةً أخرى.
كان «زين» يتطلع إليهم بصدمة واضحة، تساؤلاته تتردد في فضاء المكان:
_بابا فين؟
_أنا اللي بعتلك الرسالة عشان أخليك تيجي، أبوك في الحفظ والصون متقلقش، بس كل حاجة هتتفتح دلوقتي وكل الأوراق هتتحرق بموتكم كلكم..
أفصح "صادق" بلكنة تحمل طابع الغطرسة، ثم أشار للرجال أن يقيدوهما، لكن كل من يقترب منهما، كان يتلقى صفعة أو لكمة من «يامن» «زين» كأنهما يجابهان عاصفة من الرجال.
أخذ النزال بينهما وبين العصابة منحنى عنيفًا، يشبه صراع الوحوش في غابة، حيث تصاعدت الهمسات واللكمات، والكل يسعى للإفلات من قبضة الموت، كان «صادق» يقف بعيدًا، يتأمل المشهد بمكرٍ، كأنه يشاهد فيلمًا في السينما، غير عابئ بالعواقب.
لكن ما لبث صوت رصاص مدوي أن كسر هذا الهدوء، حيث ظهر «مُـهاب» في الخلف، مسدسه مصوب نحوهم، وهو يعبّر عن تصميمه الحاد:
_وعهد الله اللي هيتحرك من مكانه لأفرغ فيه المسدس وأخد عليه إعدام.. «عادل» فين هاخده وامشي وارجعوا اطحنوا بعض كلكم زي الكلاب.
بدت لهجته حازمة، عازمًا على إنقاذ والده، رد عليه «صادق» بسخرية، كأنما يعبث بنار تأججت:
_بس ده مش أبوك.. هو أنت معرفتش اللي فيها ولا إيه؟
_مش هكرر أم كلامي تاني، أبويا فين؟
شدد على كلماته ولم يكن يطالع سوى «صادق»، غير عابئ بهم جميعًا ولا حتى بالعينين الخضرواتين التي تترقباه.
أشار «صادق» بيده لأحد الرجال فتحرك نحو الداخل ليخرج بعد قليل وخلفه كلًا من «عادل» المضروب يمسكه رجلين، وكذلك «سليمان»..
_حلو أوي كدا، نقول اللي لينا واللي علينا في القعدة اللطيفة دي قبل ما أخلص عليكم كلكم.. «مُهاب سليمان رشوان» الابن الحقيقي لعيلة «رشوان»، و«زين عادل الجزار» الابن الحقيقي لعيلة «الجزار»..
قاطعه «مُهاب» بغضبٍ حتى لا يتحدث بأكثر من ذلك من كلمات لن تروقه:
_بقولك إيه، أخرس أنا مش جاي هنا سجل مدني تنادينا بأسامينا، أنا جاي أخد أبويا وامشي..
أكمل «صادق» غير عابئ به وبكلماته، يردد تلك الحقيقة المُرة التي ستجعل الجميع هنا مُحاصر بذكرياته الأليمة:
_ماتبقاش عجول عشان أبوك يعرف إنك ابنه، أبوك «سليمان» اللي اتورط زمان في عصابة تجار أطفال مع صديقيه، وساعدهم وهما ساعدوه، بس سلمهم تسليم أهالي..
أردف «سليمان» بحدة يدافع عن نفسه أمام الجميع:
_أنا مسلمتش حد تسليم أهالي، وبعدين أنت مين أصلًا عشان تقول كدا ولا حضرت إيه عشان تقول الكلمتين دول، وعيال مين اللي متبدلين، بطلوا عبط!
كان زين كمن وُضِع تحت مصباحٍ كاشف، الخزي يكسو وجهه كالسحاب الداكن، أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يُجيب:
_دي حقيقة يا بابا، أنا روحت عملت تحاليل وطلعت دي حقيقة، و«يامن» سلمنا تقارير صحيحة بتقول إني مش ابنكم، وابنكم هو «مُهاب»
_ابني يبقى ابنك، إزاي يعني؟
هكذا نبس «عادل» بوجهٍ يحمل الانكار وكذلك النبرة، ليردد هذه المرة «يامن» بسخرية:
_بقولكم إيه، تعارف العيلتين ده في الجنة، إحنا هنا عشان ننجز وكل واحد يتحط عن حده.. أنت خونت أبويا إزاي؟
نظرته اتجهت نحو سليمان، الذي بدت عليه علامات الصمت الثقيلة كالصخور، عينيه تتأمل الوجوه المحيطة به، وكأن كل نظرة تحكي قصةً لم تُروَ بعد، كانت تنهيدته تأتي كعاصفة في فجرٍ هادئ، مُحملة بالهموم والأسئلة التي لا تجد جوابًا:
_«فرحات» كان بيتواصل معاك ومعايا يا «يامن»، بس اللي فهمته من كلامك مع «زين» إنه والله وصلك كلام غلط، أنا والله ما سلمتهم تسليم أهالي، بالعكس أنا زي ما حكيت «لزين» هي الحقيقة، أنا منعتهم إنهم يكملوا في العصابة دي ومنعتهم إنهم يفضلوا وراهم، بس كان وقتها..
ابتلع غصته يسترجع بذاكرته ذلك اليوم الذي سرده أيضًا لهم بقلبٍ مفطور.
كان يقف أمام المستشفى العام، حيث تكمن خلف أبوابها الموصدة آمالٌ وتطلعات، زوجته التي على وشك أن تجلب إلى الحياة مولودهما المنتظر، عينيه كانت تتلألأ كالجمر المشتعل، يقف رفقة «علي» وأيضًا «فرحات» وهو يصرخ بهما بغضبٍ:
_أنتو بتقولوا إيه، نساعدهم إزاي إنهم ياخدوا شوية عيال من الحضانة، أنتو فاهمين أصلًا يعني إيه مراتي جوا بتولد ما يمكن ياخدوا ابني معاهم..
رد عليه علي بحنق، وبوجهه العابس:
_أنت قلبك ضعيف على طول، يا أخويا محدش هيقرب من ابنك متقلقش..
هنا، انفلتت من «فرحات» سخرية كخيطٍ من دخان، خفيفة لكن مثيرة للاحتقان:
_خليك أنت جنب مراتك وإحنا هنتصرف يا بركة!
تاهت الكلمات في زحام المشاعر المتناقضة، بينما كان الصراع الداخلي يشتعل في صدره، كالنيران التي تتأجج في سكون الليل.
وبالفعل كان ليلتها يتم تنفيذ عملية إرهابية رفقة مساعدة المستشفى ومسؤولها الفاسد، وكانت محاولة لخطف بعض الأطفال من الحضانة ووضع في مكانها جثث لأطفالٍ مقتولة، وحينها سيقال أن الطفل مات ولن يعرف أهله بالأساس شكله لأنهم سيختطفون المواليد حديثًا حيث وُلدوا ووضعوا فورًا هنا تحت الرعاية قبل أن يراهم أهلهم..
ولكن في تلك الليلة داهمت الشرطة المكان، وهرب الجميع من المكان وحينها ظل «سليمان» جوار زوجته وابنه ثم طلب نقلهم لمستشفى أخرى..
تدخل «عادل» بكلماته بصدمة مما تفوه به «سليمان»:
_أنا كنت موجود في اليوم ده، مراتي كانت بتولد برضو وفعلًا الشرطة كانت هناك وده حصل!
تمتم «صادق» بخبثٍ، كالثعلب الماكر الذي يتربص بفريسته:
_وليلتها عيالكم كانت هتتخطف بس محصلش نصيب، فحصل بينهم تبديل، ويبقى سبحان الله بعد السنين دي كلها تكتشفوا وتتجمعوا...
ثم تقدم نحوهم، كظلٍ ثقيل يقترب من النور، ليزرع الرعب في النفوس.
أضاف بخبثٍ ومكر، كالثعابين السامة التي تتحين الفرصة للانقضاض:
_الشمل كله اتلم، «يامن» مش ظابط وضحك على الكل بكونه ظابط مخابرات، بس ده ميمنعش إنه فعلًا متفق معاهم وبياخد أوامر منهم عشان يقبضوا علينا، وعيالكم أنتو الاتنين متبدلين، وكل ده اتكشف دلوقتي وموجود قدامي، بس يا خسارة «علي الجمّال» مش موجود!
تجمدت ملامح سليمان، وقوس حاجبه بدهشة، كأنما تاه في غابةٍ من الأسرار:
_وأنت تعرف كل ده منين يا «صادق»؟
_هو أنا برضو أتوه عن اللي حصل في الليلة دي؟ ده أنتو عشرة سنين «سليمان» يا بركة!
وقف الجميع في حالة من الترقب، كمن يراقب عرضًا سينمائيًا مشوقًا، بينما انزلق «صادق» إلى عمق اللعبة التي بدأها، تاركًا وراءه سيلًا من التساؤلات والمخاوف.
"بركة" كلمة لم يرددها سوى شخص واحد؛ «فرحات»!
تجمد «سليمان» في مكانه، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، كانت الكلمات تتردد في أذنه كصدى انفجار، كل جملة من «صادق» كانت كقنبلة تنفجر في وجهه، عينيه اتسعتا، وارتجف جسده كأنه تعرض لتيار كهربائي.
"كيف يمكن أن يكون هذا صحيحًا؟" تساءل في نفسه، كمن يبحث عن بصيص من المعرفة في بحر من الجهل، كانت الصدمة تعصف به كعاصفة رعدية، تتقاذف فيه الشكوك والقلق، وتشتت أفكاره كأوراق الشجر الميتة.
_صح زي ما جه في بالك بالظبط، أنا هو.. صاحبك «فرحات»، اللي أضطر أنه يهرب وعشان ميقدروش يمسكوه بعد ماكان خلاص هيتقبض عليه غيرت كل حاجة تخصني، حتى شكلي في عمليات تجميل كتير، ولعبتها عليكم تاني، وأنا عارف حقيقة كل حاجة من المستشفى من الليلة دي، عارف إن ابنك مش ابنك، وعارف إن «مُهاب الجزار» هو ابنك الحقيقي، كل حاجة بس استنيت الوقت المناسب، احط في قلب «يامن» الانتقام، وابينله إني مُت، اجرجره تاني بشكل من الأشكال وخطة كويسة في العصابة، وأخليه هو يرشحك بنفسه ليا عشان تقع بين ايدي.. واخلص عليك وعليه، والعب لعبتي الصح..
كل كلمة كانت كخنجر يطعن في قلبه، تغرس شظايا الألم في أعماق نفسه، أدرك أنه كان يعيش في وهم، وها هو الآن أمام مرآة الحقيقة التي تنعكس فيها كل آثام السنوات الماضية، الحيرة تجلّت على وجهه، وكأنما سحب من دخان تلتف حوله، مما زاد من وطأة الموقف.
لحظات من الصمت المطبق تخللت الكلمات، وكأنما كل شيء من حوله توقف، حتى همسات الأمل التي كان يتشبث بها.
كانت عواطفه تتصارع داخله، تسحب منه القوة وتزرع الخوف في قلبه، أمضى لحظات وهو يتخيل كسر الحلم الذي بناه طوال السنوات الماضية، وكأن كل شيء قد تلاشى في لحظة.
_وأبويا وأمي؟
ردد «يامن» بتيهٍ وصدمة لا تقل عن صدمة «سليمان»، وهنا ألقى «صادق» أو كما الحقيقة عُرضت «فرحات»:
_أنا اللي خلصت على أبوك عشان كان ناوي يتجر ورا «سليمان» ويطلع أيده من الحوار، هو أنا مش قولتلكم، أنا أصلًا صاحب العصابة دي من زمان واللي أسسها، وأنا اللي كنت مخطط لكل ده، بس لما هما حبوا يعملوا الشرفاء، قولت مبدهاش، نخلص على واحد والتاني معرفتش، بس دلوقتي هنخلص عليه..
ثم ردد بسخرية:
_وأنت اتزرعت وسطنا من الشرطة، وعارف إنك مش ظابط ولا حاجة، بس أنا قصدت ابينلك إني مصدقك في كل حاجة.. وبكدا نقول إن اللعبة بتخلص..
ثم وجه المسدس الذي بيده ناحية «زين» أولًا ولكنه حركه مجددًا ببطءٍ ليكون ناحية «مُهاب» وهو يقول بخبثٍ:
_هخلص عليكم كلكم، بس بصراحة حابب أشوف العذاب النفسي الأول.. أقتل ابنك الحقيقي اللي لسه عارف إنه ابنك..
دوّى صوت الرصاصة في المكان كعاصفة مفاجئة، يشق سكون اللحظة بشظايا الرعب، ولكنها أتت في صدر «عادل» الذي قرر أن يركض ليتلاقى مصيره بدلًا من أن يترك ابنه وحيدًا في وجه الخطر.
اخترقت الرصاصة جسده كفأسٍ يغرس في جذع شجرة، لتسقطه على الأرض، مخلفة وراءها سحابة من الألم والدهشة..
صدح صوتان مختلفان ولكنهما يحملان نفس الكلمة، كأصداء تنبعث من قلبين يشتعلان بالخوف والقلق:
_بـابـا!
ترددت الكلمة في الهواء كنبضات قلبٍ تنبض بشغفٍ وحزن، محملة بأحمال من الذكريات والأحلام المفقودة، كانت صرخةً مدوية تنسج خيوط الألم حول المكان، وترسم الحزن على وجوه من تبقى، وكأن الحياة توقفت عند تلك اللحظة، وجعلت من الدموع لغة لا تحتاج إلى ترجمة.
في سكون الليل حيث الذكريات تنام،
تتراقص الأحلام كأوراق الشجر في عاصف الزمان.
تختبئ الأماني في زوايا القلب المظلم،
تصرخ الصمت، فتصير الحكايات بلا ألوان.
كغيمات الشوق التي تجول في السماء،
تتلاشى حين تشرق شمس الفقدان.
تسقط الوجوه كأوراق الخريف،
مُعبرة عن حزنٍ مرسوم كالألم على الأجساد.
تسير الأقدار بخطى ثقيلة كالأحجار،
تجرجر خلفها خيوط الماضي المُنهار.
تحكي الأسطورة عن قصصٍ ضائعة،
عن حبٍ مُنتزع كزهورٍ من بستان.
أشباحٌ تتجول في ردهات الذاكرة،
تسقط دمعة في بحرٍ عميق من الذكرى.
تنتظر الغد بلهفةٍ، ولكن بلا أمل،
كمن ينظر في المرآة، يرى صورةً مشوهة.
ففي حضن الفقدان، تنام الأحلام،
ويبقى القلب يسعى، كطائرٍ بلا جناح.
فليكن الحزن رفيقًا لنا في الساعات،
ولنغني للأشباح، ونرسم الحياة برمش الذكريات.
