رواية ابني ابنك الفصل السادس6بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك
الفصل السادس6
بقلم امينة محمد
«النار والماء»
نادت بالمساعدة فأجبتُ،
وهمست بالنجاة فلبيتُ،
وعندما كادت أن تقع؛ سندتُ،
وفي النهاية تركتُ وخذلتُ،
ولكن هل أتخلى؟
فبالله لم ولن اتخلى، وحينما تنادي سأهرول لها، وحينما تناجي سأربت على قلبها.
وما ذنب الضعيف؟
سوى أنه يُعاني من عَثْرَة العمر، وقد أثقله الحلم الذي يطير في السماء بالأماني،
وما ذنب المسكين؟
سوى أنه يعيش في ربيع العمر وقد أعياه الفراق.
وما ذنب المهزوم؟
سوى أنه غصنٌ يافعٌ قد أنهكه شغفُ المراد.
ظلت تتابع توافد الصغار المساكين كعصافيرٍ اصطادها صيادٌ ماهر وحبسها في قفصٍ من حديدٍ، منهم من يبكي صمتًا ومنهم من يولول بصوتٍ مرتفع، ومنهم الصامت بلا مشاعر وكأن الأمر ليس بجديدٍ عليه.
انقبض قلبها لرؤيتها لهؤلاء الأطفال هُنا هكذا، وهي لن تستطع الظهور أمام الرجال الواقفين هكذا لضعفها ولخوفها بأن يصيبها مكروه، إذًا هل تتصل بالشرطة؟
عقلها الصغير أخبرها بأن تفعل ذلك وإلا سيموت الصغار، ولكن الواقع لم يشأ أن تفعل عندما شعرت بيدٍ قوية تجذبها لتشهق بعنفٍ من الخوف الذي أصاب كيانها.
كان رجلًا بملامح حادة، عينان قويتان، وجسد ضخم، يمسكها من ذراعها بقوة وهمس أمام وجهها بنبرته المُخيفة:
_إحنا عندنا ضيفة ولا إيه؟ منورانا يا قطة!
ابتلعت غصتها ورفعت بصرها تُتابع ملامحه وحديثه بخوفٍ وهي تهمس لتبرر تواجدها:
_أنا.. أنا كنت رايحة شغلي بس وشوفت الأطفال دول، أنتو بتعملوا فيهم إيه.. وممكن تبعد بعد اذنك!
_أبعد؟
سألها بنفس الكلمة التي قالتها وكأنه لم يفهمها كجاهلٍ مثلًا، ولكنه تقصد أن يفعل ذلك حينما قال باستهزاءٍ بها:
_بنفسحهم، تتفسحي معاهم؟
هزت رأسها بالنفي ليسأل مجددًا:
_اسمك إيه ياقطة؟
لم تجبه بل ظلت صامتة تحاول الإبتعاد ليسأل مجددًا بنبرة أقوى وأعنف:
_اسمك إيــه؟
أجابت هذه المرة بجسدٍ مرتجف وقلبٍ هلع وهي تبعد بصرها عنه في خوفٍ من قوته الهجومية عليها:
_«غِنى»، اسمي «غِنى»، لو سمحت أنا عاوزة أمشي.
تلذذ باسمها، وبمظهرها الحقيقة إن أتينا للحق، لتعتلي ابتسامة على جانب ثغره واسعة وهو يردف:
_مسألتنيش بس أنا اسمي «يامـن» يا «غِنى».
نطق اسمها على غير الناطقين به، متلذذًا بكل حرفٍ وكأنها معزوفة يُغنيها، ودت لو تهرب الآن من بين يديه التي تمسكها بإحكامٍ، وفعلت بالفعل وهي تدفعه بعيدًا عنها بحنقٍ شديد:
_على فكرة بقى أنا هبلغ البوليس عنكم.
التفتت لتركض ولكنه كان الأسرع في امساكها وإعادتها لأمامه ضاغطًا على يدها بقوة جعلت منها تتأوه بألمٍ، وتبدلت ملامحه لمخيفة أكثر وهو يتابع ملابسها المهندمة التي كانت عبارة عن فستانٍ منقوشٍ ببعض الورود البنفسجية، وعلى رأسها حجاب بنفس لون تلك الورود:
_متعرفيش إننا البوليس بنفسه ولا إيه؟ عمومًا متقلقيش باين فيكِ الخير في بلدك، إحنا هنا في قضية مهمة لازم يتواجد فيها الأطفال دول عشان نقدر نقبض على المجرمين.
ساذجة!
صدقته بكل سذاجة وهي تُبعد بصرها عنه بتفكيرٍ ثم تعيده له بقولها بهدوءٍ أكثر وقلقٍ:
_مجرمين؟ طب الأطفال دول مش هيتأذوا.
لعوب، وأعجبته الفريسة التي وقعت بيده.
أصدر صوتًا بفمه نافيًا بذلك وهو يتابعها تتحدث بتلك الطريقة الهادئة:
_تؤ!
_طيب بعد إذنك أبعد عني أنت ماسكني كدا ليه؟
تحولت نبرتها مجددًا لحانقة ليتركها مبتعدًا، صاحب العينان الزرقاء والوجه الحاد ببشرته المائلة للسمار... «يامــن الجمّال».
طالعته مجددًا وهي تبتعد عنه بسرعة ثم تراجعت للخلف وركضت من المكان نحو مدرستها، تاركة إياه يُشعل سيجارة ويتابع اختفائها وهو يهمس باسمها مجددًا:
_«غِنــى»
ثم عاد ناحية البقية يتابع الأطفال بقلبٍ خالٍ من المشاعر، بعينين لا تحمل الرحمة بتاتًا
********
أتصدق إن أخبرتك أن النار والثلج اجتمعا؟
حتى وإن أريتك ذلك بعينيك فلن تصدق،
ولكنهما اجتمعا... هُـنا.
_والله يابني فكك منها وشوفلك بنت تانية تحبك وتحبها.
قالها «زيـن» بكل أريحية وهو يجلس على الكرسي يُتابع «مُـهاب» في عمله هنا، رفع «مُـهاب» بصره نحو الآخر وترك الخشب الذي بيده وأقترب نحو «زيـن» الذي اعتدل سريعًا في جلسته:
_ولا، خليك في حالك أحسن لك، أنا آه بقولك إني مش رايق عشان أبو خطيبتي قرر نفركش، بس ده ميخلكش تقول شوف غيرها، فاهم؟
تنحنح «زيـن» بارتباكٍ وأومأ له وهو يقول بسخطٍ:
_توكسيك تحب التوكسيك، أنت حر هو قلبي اللي هيتوجع يعني.
شعر وكأن الكلمات التي خرجت من فِيه الآخر بسيطة ولكنها وقعت على قلبه كسهمٍ سام إخترقه وانتشر الوجع بداخله.
_عندك حق، إحنا بنحب نفرض على نفسنا الوجع رغم إننا نقدر نبعد عنه ونقول للشر سلام، بس أنا بحبها والحب مش بإيدنا، وإلا أنا أكتر واحد ببعد عن اللي بيأذيني ومسبلوش فرصة، بس أذى «غِنى» مختلف، أذاها في بُعدها عني مش قُربها.
عبّر عن تلك الكلمات التي وصفت حاله وحال قلبه المتألم، ولم يكن وحده هنا المصاب بلعنة الحب، بل شريكه يجلس يتذوق كلماته ويستشعرها بكل جوارحه، حيث وقعت على كيانه وقلبه بتذكره لتلك الماسة التي يحبها، ويعتقد أنه حبًا من طرفٍ واحد، ودون وعي رد هو الآخر:
_معاك حق، الحب بيوجع أوي.
مرر «مُـهاب» بصره عليه وعلم أن الآخر عاشقًا من شروده وحديثه الموجع، فتبسم بداخله ساخرًا على هكذا صفعاتٍ تؤلمهما.
قرر تغير الموضوع ذلك وهو يسأله:
_المهم الراجل اللي أبوك هيبعتله الفلوس تاني ده، أنت كنت جاي تسلمه الفلوس فين؟
وجه «زيـن» بصره نحوه وهو يجيب بهدوءٍ:
_فاكر المصنع اللي روحنا عنده، في حتة كدا جنبه أنا لسه معايا اللوكيشن أصلًا، نروح؟
أقترح الفكرة على الآخر بحماسٍ مبالغ من داخله، ليحبطه «مُـهاب» بسخرية مُمسكًا بيده المطرقة والمسمار وبدأ يدخله بقوة في الخشب:
_وماله يابا، نروح ما أنت رايق يالا، المرة اللي فاتت قابلنا جثة، المرة دي إحنا اللي هنبقى جثث.
زفر «زيـن» ساخطًا بقوله:
_بطل تقول يالا دي، واسمع وبطل تسرع وعصبية.
لمح نظرة قوية من عين الثاني ليبتلع ما في جوفه وهو يكمل بنبرة أقل هدوءًا:
_مقصدش، أقصد إحنا مش هنفضل قاعدين كدا، لازم نروح نشوف في إيه عشان نوصل لحل!
_بقولك إيه ما تستعوضوا ربنا في النص مليون وتسيبني في حالي وتمشي!
قالها متشدقًا بسخرية ليجيب الآخر بتنهيدة:
_ياسيدي والله ورايا شغل في الفندق وسايبه عشان النص مليون دول، الموضوع مش موضوع نص مليون يا «مُـهاب»، الموضوع ده كبير ووراه قصص، أصل اللي حطوا الجثة قدامنا المرة اللي فاتت وفي نفس الوقت كان فيه صوت رصاص، واللي اتصل بيك وبـ بابا، الموضوع كبير.
زفر «مُـهاب» متنهدًا وسأله:
_نخلص الشغل ونروح نشوف المكان ده، تشرب قهوة؟
_لا شاي.
قالها «زيـن» ومازال نظره بعيدًا شاردًا ليشير «مُـهاب» للصبي الذي يعمل معه:
_هات اتنين قهوة.
لم يكترث أن الآخر طلب مشروبًا آخر، بل وكأن طلبه لم يفهمه وعاد ينظر لعمله وهو شارد الذهن تحت نظرات الآخر المصدومة التي تحمل الغيظ الشديد.
*******
أُلقي بنفسي في التهلكة،
وأُبعد عني جميع المنقذين فتهلكني الظروف والحياة.
وصلت بخطى ثابتة لمنزلها بعدما أصرت على صديقتها بأنها يجب أن تعود، ويجب أن تقف بوجوههم حتى لو كانوا هم سبب أوجاعها وجروحها.
ولجت للمنزل لتجدهم يجلسون و«فادي» رأسه ملفوفًا بالشاش الطبي ويطالعها بحنقٍ، تحركت «سلوى» سريعًا نحو «ماسة» بقلقٍ:
_كنتِ فين يا حبيبتي من امبارح، بتصل بيكِ مغلق قلقتيني عليكِ.
كانت عيناها عليه بحدة قبل أن توجهها لأمها وهي تجيبها:
_متقلقيش، كنت عند «وتين» بنخلص كام حاجة للشغل.
تدخل «محمود» بملامحه الحانقة وصوته العالي:
_وتروحي إزاي من غير ما تعرفينا؟
ابتسمت بوجهه بسخرية ولوت شفتيها ساخرة تجيبه:
_معلــش، أنا داخلة أغير هدومي عشان ماشية تاني عندنا شغل في المحل.
ثم تحركت من أمامهم دون أن تلقي بكلمة أخرى لهم، فهي لا تطيق وجودها هنا، يكفي أن جسدها مازال تحت تأثير قُرب ذلك الوغد منها.
تحركت أمها ناحية المطبخ تُعد لها مشروبًا دافئًا عله يهدئ من روعها ولكن صوت «محمود» وصلها فخرجت مسرعة له تجيبه وولج مكانها «فادي» يُخرج من جيبه عُلبة بها مجموعة من العقاقير، أخرج واحدة ووضعها لتذوب في المشروب وارتفعت على شفتيه ابتسامة خبيثة.
ها هي الآن ستنجرف نحو طريقٍ ليس بطريقها،
نحو الهلاك ستغادر «ماسة».
خرج سريعًا من المطبخ وولجت «سلوى» تأخذ الكوب الدافئ لغرفة ابنتها واضعة إياه على الطاولة:
_اشربي ده يا «مـاسة» قبل ما تمشي، هيدفي جسمك عشان الجو برا برد أوي.
لم تطالعها «مـاسة» بل أومأت لها وهي تُخرج ما سترتديه اليوم فأقتربت منها «سلوى» تمسكها من ذراعها برفقٍ وتسألها بتنهيدة برغم معرفتها الجواب:
_أنتِ زعلانة مني؟
أغمضت «مـاسة» عينيها لشعورها وكأنها ستسقط من على الحافة لسؤالها هكذا سؤال سيؤلم فؤادها أكثر، قررت الهرب بإجابتها:
_لا هزعل منك ليه، هو إحنا بنشوف بعض أصلًا غير كل فين وفين عشان أزعل منك!
تنهدت «سلوى» بحرارة وهي تجيبها:
_حقك عليا، هفرغ وقت ونقعد سوا يا حبيبتي.
لوت شفتيها بسخرية وهي تسحب ذراعها من أمها بقولها:
_ان شاء الله، لما أفضى أنا بقى عشان ورايا شغل الفترة الجاية وضغط شديد.
رفعت أمها يدها نحو شعرها تمسد عليه بحنانٍ وابتسمت بوجه ابنتها:
_ربنا يقويكِ ياحبيبة عيني.
ثم خرجت من الغرفة تاركة الأخرى الحريق يأكلها من جميع جوانبها، والألم يفتك بقلبها، لماذا لا تكن قريبة منها كأي أم طبيعية لأبنتها.
لمعت عيناها بالدموع عندما وضع عقلها تلك الفكرة بقلبها المسكين الذي لم يتحمل أن تكون أمها بعيدة عنها هكذا، تود الأمان، تود الحضن الأموي، تود الشعور بأمومة والدتها كما كانت في صغرها.
مسحت دموعها بقوة تُجبر نفسها بألا تبكي الآن، لا مجال للدموع، لا مجال للضعف والبكاء، لمحت الكوب الذي يخرج منه الدخان الساخن وتقدمت له تمسكه بيديها لتحتسي مشروبها المفضل -القهوة بالحليب- في هذا الشتاء، ولا يعي عقلها لما هو موضوع في هذا الكوب.
انتهت وولجت للمرحاض تنعم بحمامٍ دافئ وارتدت ملابسها التي كانت عبارة عن تمازج من ألوان ملابسها التي تتوافق مع الشتاء وأجواءه، ثم توجهت نحو المحل لتقابل «وتين».
********
يعتصر قلبه منذ لقاؤهما صباحًا عندما كذبت عليه هي وأخته، لا يعلم لماذا ولكن بلا شك هنالك شيء ما يخبئونه عليه، ويتمنى من داخله ألا يعرف قبل فوات الأوان!
توجه ناحية مكتبه في الفندق ليرى الأعمال التي فوق عاتقيه هُنا، هو مجتهد بعمله ولم يشتكي منه والده يومًا لتقصيره، بل كان الجميع يتخذه مثالًا في كونه رجل أعمال صغير السن لا يعتمد على أبيه.
_الفكرة حلوة وهتخلي الـ Customers يتوافد أكتر، بس متنساش تنزل للطباخين تحت وتعرفهم إن فيه واحد اشتكى من الأكل، ولو حصلت شكوى تانية الموضوع مش هيعدي بسهولة.
كان يتحدث رفقة الموظف الذي يعمل هنا ويخبره بكل الجديد الذي حدث خلال اليومين الماضيين، ليجيبه بكل طاعة:
_أوامرك يا «زيـن» باشا، والأكل صدقني كل مرة بيكون كويس مافيش غير النهاردة الراجل ده هو اللي اشتكى وان شاء الله مش هتتكرر تاني.
أومأ برأسه مؤكدًا على معلومة دومًا يقولها في العمل للجميع:
_يهمنا راحة الزبون، الفنادق بتاعتنا معروفة وكلمة وحشة عنها بفورة، وأنا مش هسمح بصراحة.
_مع حضرتك كل الحق، أوامرك، عن إذنك.
قالها الموظف وخرج ليقف الثاني أمام نافذة مكتبه يتنفس الصعداء، أخرج من جيبه عُلبة السجائر الغالية ووضع واحدة بفمه، يتنفس منها هنا في عمله بعيدًا عن منزله إحترامًا لوالده، وكالعادة تسللت تلك اللصة لعقله تعزف على أوتار قلبه بكل هدوءٍ.
أخرج هاتفه وقرر مهاتفة «وتين» ليرى كيف حالهما، وكأن قلبه كان يشعر بذلك عندما أتته الإجابة ولكنها من «ماسة» تقول بفزعٍ:
_«زيـن» تعالى بسرعة المحل، «وتيــن» تعبانة أوي.
استمع لتلك الكلمات بفزعٍ وتحرك بسرعة من مكانه نحو المحل بقيادته لسيارته بسرعة شديدة، لا يعلم كيف تفادى العديد من السيارات دون أن يفتعل حادثة، ولكنه وصل أمام المحل وركض للداخل وهو يرى «وتين» أرضًا بين أحضان «ماسة» تلتقط أنفاسها بصعوبة.
أقترب سريعًا لهما وجذب أخته بين أحضانه وهو يسأل «ماسة» بهلعٍ:
_إيه اللي حصل فجأة؟
لم ينتظر الإجابة بل حملها بين ذراعيه وطالع «ماسة» يُملي عليها ما تفعله بنبرته السريعة التي تحمل القلق والخوف:
_اقفلي المحل والحقيني يا «ماسة».
خرج بأخته للسيارة ووضعها في المقعد الخلفي وهو يقول بتنهيدة يؤنبها:
_ماشي يا «وتين» ماشي.
أتت خلفه «ماسة» بعدما أغلقت المحل وركبت سيارته متوجهين نحو المستشفى بتلك التي تصيبها تلك الحالات كل فترة لضعف مناعتها الشديدة وإصابتها بمرض وراثي
وبالفعل ذلك ما أخبره به الطبيب بعد فحصها بكل عناية:
_هي عندها دور برد بس بطبيعة الحال وإصابتها بفقر الدم المنجلي كان لازم يغمى عليها بالشكل ده، أعراض النوبة تقيلة ومُتعِبة والمفروض تكون في السرير مش برا لما تحس إنها تعبانة.
تنهد «زين» وهو يؤكد على حديث الطبيب بقوله:
_أيوه فعلًا يا دكتور، حضرتك عندك حق هي بس كان عندها ضغط شغل، إن شاء الله خير.
أومأ الطبيب بابتسامة بشوشة:
_حمد الله على سلامتها، إحنا اشتغلنا على الوقاية من نوبات الألم اللي اتعرضتلها، وعلاج الأعراض، وتجنب المضاعفات عشان متحتاجش لنقل دم لأن الحالة في الأول بفضل الله، بس هتقعد اليوم كله النهاردة هنا، وهتخرج آخر النهار نكون عملنالها كمان فحص اتأكدنا من سلامتها.
ابتسم يَشكر الطبيب بابتسامة خفيفة:
_تسلم يا دكتور، مافيش مشكلة على خير.
ثم غادر الطبيب ووجه هو بصره نحو «مـاسة» بتنهيدة، بينما هي تحدثت متنهدة هي الأخرى:
_الصبح كان باين عليها دور التعب وقولتلها تقعد في البيت بس قالتلي إنها كويسة.
_غبية، حصل خير.
زفر بتنهيدة وهو يرتب شعره ويُخرج هاتفه من جيبه ولكن قبل فعل ما كان يود فعله، رفع بصره نحو «ماسة» يتفحصها:
_أنتِ كويسة، وشك أصفر أنتِ كمان!
أومأت له وتقدمت لتجلس جواره كما حال قطة تختبئ بصاحبها:
_كويسة، أتصل بطنط يلا عرفها.
وكأنها تستقوى به رغم شعور جسدها بتخديرٍ غريب، رفعت يدها تتمسك بأصابعها بقميصه بقوة، شعر بها تشدد مسكتها له فمد يده يعانق كفها:
_«ماسة»، أنتِ كويسة؟ أخدك حد يفحصك.
جعلها تجلس ومازلت يده بيدها لتهز رأسها بنفي بابتسامة بسيطة:
_أنا كويسة بس من خضتي على «وتين» حسيت إني تعبت شوية.. شكرًا لسؤالك.
_لا العفو، شوية وتقوليلي بارك الله فيك.
هبط على قدميه جالسًا في وضع القرفصاء أمامها لتضحك بخفة بقولها:
_أنت عاوز إيه؟
_أنا عاوز راحتك يا «مـاسة»، عاوز أشوف السعادة في عينك بدل لمعة الحزن دي، عاوزك مرتاحة ومبسوطة، لو شايفة إنك لما تبعديني عنك هتكوني كويسة فأنا هبعد عشان أشوفك كويسة، أنا وأنتِ عارفين كويس اللي جوانا، عشان أنا وأنتِ في نفس المكان وبنحس بنفس الشعور.. عايزاني امشي؟
كان لكلماته مفعولين، إحداهما نشر الأمان بقلبها، والثاني أوجعها لأن الحزن لم يفارقها كما يقول.
قررت أن تتحدث بكلماتها التي كانت متوجعة تحمل الأسف عما أصاب قلبها الحزين:
_خليك، متمشيش، بس اللي فيا ميتحكيش، اللي فيا عامل دوشة في دماغي لدرجة إني عاوزة أكسرها.
شدد بيده على يدها ضاغطًا بخفة ليبث لها شعور الطمأنينة:
_نكسر اللي يوجعك ودماغك نطبطب عليها يا «مـاسة».
أومأت له بعدما أخرجت زفيرًا قويًا حبسته مطولًا داخلها وهي ترسم ابتسامة على ثغرها تبادله الإجابة على كلماته:
_الكلام دلوقتي مش هيفيد بحاجة ولا هينفع، هقوم أدخل «لوتين» لحد ما تتصل بطنط وعمو لو حابب.
ثم تحركت تاركة إياه في مكانه يفكر فيما تمر به، يعلم جيدًا تلك المشاكل التي بعائلتها من «وتين» ولكنه يعلم القليل عنها وليس التفاصيل.
تواصل مع والديه يخبرهما بحال «وتين» ثم ولج لها بعدها جالسًا جوارها وهو يضمها له بحنانٍ:
_سلامتك يا متدلع، بعد الشر عنك.
ابتسمت وهي تبادله العناق الحنون الذي تحظى به دومًا منه:
_حبيبي أنت، متحرمش منك ومتقلقش والله أنا كويسة.
قبل رأسها بخفة وهو يقول بمشاكسة ليُخرجها من التعب الذي يحاوطها:
_ما أنا عارف يا أختي، أنتِ قرد ماشاء الله.
_ألفاظك بقت بيئة على فكرة.
قالتها «وتين» بسخطٍ وهي تطالعه باشمئزاز، بينما هو حقًا لاحظ أنه يذكر الكثير من الكلمات التي لم يكن يقولها أمام أخته أبدًا، بل كان يختار كلماته بعناية!
تذكر موعده مع «مُـهاب» بعد قليلٍ ليذهبا لذلك المكان ليستكشفا أي جديد، في رحلة ومغامرة ستجمعهما بشكلٍ مختلف.
********
محاربٌ؛
في الحب،
وفي الحياة،
ومع نفسي،
ورفقة قلبي،
ولأجلها.
كان يُشعل الدخان ويجلس على دراجته النارية على أول طريق الذي تعود منه يوميًا من عملها، وبالفعل وجدها تعود شاردة فترجل من على دراجته وتحرك أمامها يعترض طريقها:
_مردتيش على رسالتي ليه!
رفعت بصرها تطالعه ثم راقبت الأوضاع حولها وهي تتنهد بقولها:
_عشان بابا ميزعلش مني، وعشان الكلام بينا مبقاش له فايدة، متزعلش مني يا «مُـهاب»، ربنا يعوضك بالأحسن.
تلك الكلمة تجن جنونه، وجهه اشتعل غضبًا كأنما أحدهم أصابه بجرحٍ غليظٍ، يعلم أن الحديث مع والدها سيشعل الأوضاع بينهما وهي مازالت مشتعلة، لذلك هو سيصبر ليومين ليذهب ويتحدث معه مجددًا، فهدر بوجهها بغضب شديد:
_تاني؟ يعوضك بالأحسن تاني، الكلمة دي بتنطط العفاريت في وشي يا «غِنى»، قولتلك وقولتها لأبوكِ، أنا مش هسيبك لغيري، يا هقتلك فيها واخد إعدام، يا هخطفك.
تنهدت فهي تعلم أنه يفعل ما يقول، لذلك حاولت أن تُهدئ الوضع بقولها الهادئ:
_طب أهدى، بابا عرف إننا اتقابلنا وزعل واتضايق، وشاف إنك مصونتش العهد وإني كذبت عليه، عشان كدا قرر إنه الخطوبة لازم تتفركش.
_وقلبي طيب، مفكرتيش فيه وأنتِ بتنهي الخطوبة دي؟
قالها بنبرة متوجعة خانته وخرجت بتعبٍ واضح، لتدمع عيناها بقولها:
_وأنا قلبي مكسور زيك، أنا بحبك وأنت عارف ده، بس والله غصب عني إني أكسر كلمته وأزعله مني، أنا مليش غيره يا «مُـهاب»، وأنا دوست على قلبي عشان أرضي أبويا.
عض شفتيه بضيقٍ شديد وهو يراها على وشك البكاء الآن، لذلك نبس بنبرة أقل هدوءًا:
_طب أهدي متعيطيش، كلامي معاه مبقاش معاكِ، بس أعرفي إني مش هسيبك برضو، عشان الست «روحية» مكلمة أمي تقولها عاوزة تخطبك لابنها، ارفضيه أحسن أخليه غير قابل للزواج وللحياة كلها على بعضها، ماشي يا مِس!
كتمت ضحكتها وأبعدت بصرها عنه ولكن سريعًا ما تذكرت ما حدث صباحًا وهي بعادتها تخبره بكل شيء، اختفت ابتسامتها وهي تهمس:
_«مُـهاب» فيه حاجة لازم تعرفها بتحصل في الحارة!
قوس حاجبه باستغراب ومال عليها حتى يسمع نبرتها المنخفضة تلك:
_الصبح وأنا ماشية عالمدرسة شوفت عربية كبيرة فيها أطفال كتير، خدوهم ورا عند المصانع المهجورة ومنهم مصنع بيتعمل دلوقتي، وأنا واقفة شافني واحد اسمه «يامن»، وقالي إحنا بوليس وعايزين نقبض عالمجرمين بس الأطفال دول هيساعدونا..
طالعها بشرودٍ وعقله يربط كل ما يحدث ببعضه، ثم أومأ لها وهو يقول بتأكيدٍ على حديثه لها:
_هشوف الحوار ده، معدتيش تروحي هناك، خالص يا «غِنى» أنتِ فاهمة؟
أومأت له بتنهيدة ليُكمل حديثه:
_الله يرزقنا بكل الغنى بوجودك يا «غِنى»، الله يجعلك من نصيبي.
ابتسمت بخجلٍ متنهدة وغادرت سريعًا من أمامه حتى لا يراهما أحد، بينما هو ظل واقفًا يتابع اختفائها بثقلٍ كبير على قلبه، وعاد يتذكر حديثها ثم همس:
_شكلنا داخلين على مصايب.
******
كان لقاؤهما كأنه اتحاد الماء بالنار،
أو كأنه تلاقي الشرق والغرب،
كأنما حدثت معجزة!
ولكن من اليوم،
هو حدوث تكامل لبعضهما البعض، حيث لا نجاة دون الآخر.
_أتأخرت ليه؟
كان يقف منذ قليلٍ ينتظر قدومه بالمعاد المُتفق عليه، ليتنهد «زيـن» قائلًا:
_كنت مع أختي فالمستشفى، تعبت فجأة في الشغل ونقلناها المستشفى.
تنحنح بخفة وهو يسأله عن حالها الآن:
_مالها؟ كويسة يعني ولا حاجة خطيرة!
_عندها فقر دم منجلي، فمعرضة علطول لتعب زي ده ومُعرض للقط أي عدوى فيروس منتشرة، فتعبت فجأة.
همهم «مُـهاب» بتفهمٍ وهو يخبره بسخرية لتصادف ذلك بينهما:
_أنا كمان عندي فقر دم منجلي، هي بس محتاجة تحافظ على نفسها شوية ومتتعرضش لأي حاجة تعرضها لحدوث أعراض برد.
ثم بدآ يمشيان نحو تلك البناية التي كان سيُسلم زين النقود بها، ليتنهد «زين» بقوله:
_«وتين» ضعيفة شوية وزي ما قولت محتاجة تحافظ على نفسها وهي مهملة، يلا خير إن شاء الله، تعرف إن المرض ده مصابنيش مع إنه وراثي!
أومأ «مهاب» برأسه:
_ما هو لا عند أمي ولا أبويا برضو، بس الدكتور قال عادي فيه حالات بتفلت كدا، لو احتجت لحاجة عرفني يعني أنا خلاص اتعودت عليه وبقيت عارف أقدر أتغلب عليه إزاي.
تحركا سويًا لداخل البناية و«مُـهاب» يُخبره بما قالته «غِنى» صباحًا له عله يفيدهما في أي شيء، وكانا يحاولان استكشاف أي شيء وهما بالطابق الثاني استمعا لصوت خطواتٍ وبعض الهمهمات من الأسفل، فتبادلا النظرات بصدمة وركضا للسطح ولكن الذين خلفهما صعدوا لأعلى مما جعل «زين» يجذبه سريعًا نحو تلك الفتحة التي توجه نحو منور البناية ليجد هناك مواسير ضخمة فتحرك عليها سريعًا ووقف «مُـهاب» لثوانٍ يطالعه ثم فعل مثله.
لم يشعر يومًا بالعجز هكذا لأنه لم يضع نفسه في شيء سيُظهر خوفه في يومٍ من الأيام، ولكن الآن هو مضطر بين نارين؛ الأول أن ينقذ نفسه، والثاني أن تتم تلك العملية بنجاح.
ظل واقفًا مكانه عاجزًا عن الحركة غير قادرٍ على فتح عينيه، وهناك من يُتابعه باستغرابٍ يقف جواره يحاولان المرور من على تلك الماسورة لسطح البناية الثانية، سأل بحاجبٍ مقوس باستغراب:
_مالك يا «مُـهاب»؟
حتى الكلمات خرجت من فمه بارتباكٍ وتوتر، بشكلٍ لم يعتاد «زيـن» عليه حتى:
_عندي فوبيا.. فوبيا مرتفعات.
فتح «زيـن» حدقتاه بصدمة بعض الشيء، وعبر عنها بكلماته الساخرة:
_ده أنا فكرتك مبتخافش من حاجة ياجدع ومش إنسان زينا، أيوه كدا اظهر على حقيقتك!
_حقيقة إيه ياحيوان أنت، بقولك فوبيا وكلنا بنخاف من حاجة أكيد.
قالها بضيقٍ ولكنه تماسك ألا ينفعل حتى يمروا العصابة من على سطح تلك البناية ليصعدا هما بعدهم، بينما أردف «زيـن» بنفس السخرية مستغلًا الوضع:
_فيه واحد كان بيقول مبخافش من حاجة غير ربنا، متعرفوش؟
فتح عينيه وطالعه شزرًا بحنقٍ:
_هعرفهولك أنا بس لما نطلع من هنا، إتقل على رزق أمك.
عبس «زيـن» لتلفظه بتلك الكلمة مجددًا -أمك- التي تضايقه، وأردف:
_اسمها مامتك يا بيئة، ماعلينا أهدى ومتقلقش، اتنفس بهدوء.
_ولا أنت مبتعاملش عيل عنده خمس سنين، أخرس.
لم يسمح له بأن يتدخل في خوفه ولن يسمح لشخصٍ، هو بالأساس لا يحب أن يراه أحد ضعيف أبدًا ولا حتى ذلك الذي بدأ يرافقه مؤخرًا.
رفع «زيـن» جسده ليرى إن كان هنالك شخص ما أم لا فلم يجدهم، لذلك تسلق على بقية ماسورة البناية نحو السطح والتفت يمد يده نحو «مُـهاب» يقول بصدقٍ:
_امسك إيدي وتعالى، مش هسيبك متقلقش.
فتح «مُـهاب» عينيه مجددًا ورفع بصره نحو اليد الممدودة له بصدقٍ، لم يرغب في أن ينظر لأسفل ولكن بدون قصدٍ لمح المسافة التي بينه وبين الأرض فجفل قلبه وازدادت أنفاسه وولج عقله في دوامة أفقدته السيطرة على جسده.
ولكن -طوق النجاة- كان الأسرع في التحرك مجددًا وهو يمسكه من ملابسه حتى لا تنجرف قدميه ويقع:
_«مُـهاب» ركز معايا وهات إيدك، اتنفس ومتبصش لتحت، هات إيدك.
استيقظ من تلك الدوامة على نداء «زيـن» له وبالفعل رفع ذراعه وأمسك بيد «زيـن» بقوة وبحركة سريعة تحرك يتسلق الماسورة مع جذب الثاني له ناحية الأعلى حتى استقر على سطح البناية وجلس أرضًا يُغمض عينيه بقوة ويتنفس الصعداء.
_أنت كويس؟
سأله «زيـن» بتنهيدة وهو يضع يده على كتف «مُـهاب» الذي أومئ برأسه في محاولةٍ لالتقاط أنفاسه مجددًا.
وقبل أن يتحركا كان يمسكه بقوة من تلابيبه يهدر بوجهه غاضبًا:
_أنا بيئة يالا!
أبعده «زين» بقوة وهو يقول ساخطًا:
_ياعم بهزر، أسمع بقى..
ثم تبدلت نبرته للجدية وهو يقول:
_سمعتهم وهما بيقولوا العملية هتتنفذ آخر الأسبوع والأطفال نصهم هيتقتل ونصهم هيسفروه!
أومأ برأسه وتبدلت ملامحه هو الآخر للجدية ليقول بشرودٍ:
_كدا اللي اتقال «لغنى» الصبح كدب، وإحنا مينفعش نبلغ البوليس عشان وقتها هيتعرف إن «غِنى» هي اللي عملت كدا وأنا مش هعرضها للخطر، إحنا لازم نفهم قبل ما نتهور، بس ياباشا كدا الفلوس بتاعتكم دي مش فلوس بضاعة، أنت متأكد يا «زيـن» إنكم بالفلوس دي هتجيبوا بضاعة!
التفكير سيطر على عقله!
كيف؟
أيعقل؟
استمعا لصوتٍ خلفهما حادٍ يقول:
_مكانك يالا أنت وهو!
تعليقات