رواية ابني ابنك الفصل الثامن عشر18بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك

 الفصل الثامن عشر

8بقلم امينة محمد


 «مفاجأة مروّعة»

أقترب منها، والخطر زائر،
كل لحظة تمر، قلبي ثائر.
المكان كئيب..
جدران المستشفى تئن تحت وطأة الصمت المطبق إلا من أصوات الأجهزة الطبية..
صفير مستمر، ينبض كجرسِ إنذار يحذر من النهاية.
كان يتقدم بخطوات متعثرة، قلبه يضرب صدره بقوة، وكأن كل نبضة تلعن عجزه.
عيناه تتشبثان «بغنى»، جسدها النحيل ممدد على السرير، مغطاة بالكابلات وأنابيب تتسلل إلى جسدها المرهق، الصاعق الكهربائي ملقى بجوارها، وآثار الحروق واضحة على معصمها.
المستشفى بدا هادئًا من الخارج، الأضواء الخافتة تلقي ظلالًا ثقيلة على الجدران الباهتة، لكن «مهاب» كان يعرف أن الداخل يخفي كابوسًا.
التسلل إلى الداخل لم يكن خيارًا، بل ضرورة، كل حركة خاطئة قد تؤدي إلى موت «غنى»، كل خطوة قد تكون الأخيرة.
اقترب من الغرفة بهدوء، أذنه تحاول التقاط أي صوت غير مألوف، عيناه تفحصان المكان كصقر يبحث عن فريسته.
حرك الباب وولج بخفة، خطاه لا تكاد تُسمع، يديه تتعرقان مع كل خطوة، وحذاؤه يحتك بالأرضية الملساء، يثير صدى خفيفًا في الممرات الخالية، كان المكان شبه معتم، الأضواء تومض بشكل غير منتظم، تنبض كقلب مريض.
الرائحة التي تملأ المكان، خليط من الأدوية والدم، جعلت حلقه يجف، كان يعلم أن عليه التحرك بسرعة، فكل ثانية تمر تعني اقتراب نهايتهما.
يحاول السيطرة على تنفسه:
_اهدى وركز، اهدى
همس لنفسه وهو يستمر في التحرك نحوها..
توجه لجوارها يتابعها بكل تفاصيلها، كانت عيناها مغمضتان، شاحبة كأن روحها بدأت في الهروب من جسدها.
قلبه يخفق بقوة وعينيه شبه لامعة:
_«غنى»... «غنى»! أنا هنا..
لكن لم يكن هناك أي رد، عيناه امتلأتا بالغضب والحزن، لم يكن هذا هو الوقت المناسب للانهيار، ركض نحو الجهاز الذي يضخ الكهرباء في جسدها، يداه ترتجفان وهو يحاول فك الأسلاك، فحص كل قطعة من الجهاز بتركيز محموم، حتى وجد السلك الرئيسي المتصل بجسدها.
فك السلك بسرعة، دفعة الكهرباء الأخيرة جعلت جسد «غنى» يقفز للحظة، ثم هدأت.
تنفس «مهاب» الصعداء، لكنه لم يكن لديه وقت للتراجع.
فجأة، سمع صوت خطوات تقترب من الباب.
كان الوقت يداهمه، نظر حوله بسرعة، لا يوجد مكان للاختباء، الباب فتح بعنف، ودخل رجل ضخم، وجهه يحمل ملامح قسوة وشر
_إنت بتعمل إيه هنا؟
صاح الرجل بصوت غليظ، عيناه تقفزان بين «مهاب» و«غنى».
لم يكن لدى «مهاب» وقت للتفكير، انطلق نحوه بسرعة، قبضته مشدودة، الرجل حاول ضربه، لكن «مهاب» تفادى الضربة في اللحظة الأخيرة، وانقض عليه من الخلف، ممسكًا برقبته، يحاول خنقه، لكن الرجل كان قويًا، دفع «مهاب» بعيدًا بضربة عنيفة أسقطته أرضًا.
لم يكن الأمر سهلاً، لكن «مهاب» لم يتوقف، التقط أداة حادة من على الطاولة بجانبه، واندفع نحو الرجل مرة أخرى، هذه المرة ضربه في جانب جسده، الصرخة التي انطلقت من الرجل كانت كافية لإسقاطه وعينيه مستقرة عليه لا يعلم إن مات أو لا.. ولكن الوقت لا يسمح بالتوتر إن كان قد أصبح قاتلًا أم لا..
تنفس بسرعة بينما عرقه يسيل على جبينه، التفت إلى «غنى» مرة أخرى، الوقت كان يمر بسرعة، ووجودهما هنا أصبح خطرًا، حملها بين ذراعيه، كشعورٍ مثل من حمل ورقة هشّة، خفيفة، بلا روح.
تحرك من الغرفة ولكنه توقف فجأة، عيناه اصطدمتا بعينين أخريين... «عادل»، والده!
كان يقف على بعد أمتار قليلة، ملامحه كانت مصدومة، لكن هناك شيء آخر في عينيه، شيء أشد، كانت الخيانة تثقل الهواء بينهما.
تجمد في مكانه للحظات، الصدمة تتسرب إلى عروقه ونبس بحقدٍ كبير:
_أنت إزاي قدرت تعمل كدا، أنا مش مسامحك.
صوت «مهاب» خرج ضعيفًا، متحشرجًا، لكنه كان مليئًا بالخذلان والمرارة، كيف يمكن لوالده أن يكون سببًا في كل هذا؟ خطف زوجة ابنه!
«عادل» لم يتحدث، لم يتحرك، نظراته كانت تتسع، لكنه لم يقترب، بدلًا من ذلك، عندما اقترب أحد أفراد العصابة، قام «عادل» بإلهائه، لم يحاول أن يوقف «مهاب»، بل بدا وكأنه يتيح له الفرصة للهروب.
«مهاب» شعر بالمرارة تملأ صدره، خذلانه من والده كان أقسى من أي شيء آخر، لم يكن هناك وقت للتفكير في الأمر الآن، عليه أن يخرج «غنى» بأي وسيلة، انطلق بسرعة عبر الممرات، يحملها بين ذراعيه، أذناه تلتقطان أصوات الإنذارات التي بدأت تدوي في المكان، العصابة تعلم الآن أنه موجود.
واصل التقدم، ثقيل الخطى، لكنه مصمم.
بعد دقائق من الركض المحموم، وصل إلى الخارج، الهواء البارد لامس وجهه وكأنها نجاة مؤقتة، نظر إلى «غنى»، تنفسها كان ضعيفًا، لكنه مازال موجودًا:
_أنا حاربت سنين عشانك، ومش هقدر أعيش من غيرك، بالله عليكِ قاومي ومتسبنيش.. هاخدلك حقك والله وهولع في الدنيا كلها عشانك..
بدا وكأنه يتحدث رفقة ميت، لا يعلم إن كان الصوت يصلها أم لا ولكنه تمنى من أعماقه أن تقاوم، وتحاول لأجله.
وكما عادته يمتلك دهاءًا وذكاءًا جبارًا، لمح على مرمى عينيه سيارة قادمة نحوه بسرعة، ولم تكن سوى لصديق طفولته «مالك» الذي كان يعلم بكل خطوة سيخطوها «مُهاب» وكان ينتظره هنا حتى يخرج بها..
أوقف السيارة أمامه لثوانٍ فقط يضع «مُهاب» زوجته ويركب هو الآخر، ثم غادر يسابق الريح نحو مستشفى أخرى حتى يساعدوها، ويعيدوها للحياة مجددًا.
******
تسارع الأنفاس، والنظر حائر،
القلب يصرخ، والعقل سائر.
توقف «يامن» أمام المحل، محرك سيارته "المرسيدس" يهمس بصوت خافت، وكأنه وحشٍ مروض ينتظر أمرًا بالانطلاق، ولكنه أوقفها وعزم النزول ناحية من تستكين في قلبه،
السماء كانت داكنة، وغيوم ثقيلة تحجب آخر خيوط الضوء، ترجل من السيارة، معطفه الأسود ينسدل على جسده كظلٍ مهيب، عيناه الزوقاتان الحادتان تراقبان المحل أمامه، ذلك المكان الذي يحمل في طياته شتات مشاعره.
الحلة السوداء التي يرتديها ليست مجرد اختيار عشوائي، بل درعًا، حاجزًا بينه وبين كل ما يثور بداخله من مشاعر متناقضة، كل شيء فيه صار مُعدًا بدقة، حتى مشيته كانت واثقة، كجندي يخطو إلى معركة يدرك أن لا هزيمة فيها.
باب المحل أمامه كان أشبه بعتبة بين عالمين؛ عالم اليقين الذي يحكمه، وعالم الفوضى الذي تمثله «وتين» في قلبه، هي كل ما تبقى من ماضيه الذي لم يتوقف أبدًا عن مطاردته، ورغم ذلك، لا يمكنه أن يبتعد.
فتح الباب، ومع صوت الجرس الذي ارتج عند دخوله، شعر وكأن العالم بأسره يتنفس معه، تابع الزائرين هنا بين وحيد يجلس مع ذكرياته، وبين حبيبين يستمتعان بأجواء الشتاء وبعض كلمات الحب، حتى استقرت عيناه عليها تجلس في نهاية هذا المحل شاردة الذهن.
أكمل اقترابه ورائحته تسللت إلى أنفها، مزيج من دخان السيجار والعطر الفاخر، بينما هو ابتسامته كانت مرسومة بدقة، مائلة قليلًا، عبثية تخللت ملامحه الصارمة، وعينيه المظلمة تومض بلمحة من ذلك العشق الغامض الذي لم يفصح عنه يومًا.
قال بصوت منخفض يحمل في طياته ثقل السنين التي مضت بينهما:
_وحشتك؟ مع إنك مبتغبيش عني لحظة بس وحشتيني!
كانت عبارته تحمل سخريته المعتادة، لكنه كان يعلم أن وراء كل حرف، هناك عاطفة مختبئة، تشتعل ببطء في قلبه، حتى وإن حاول تغليفها بعبثه الذي يعرفه جيدًا.
_لو هتفضل بالشكل ده مش هتحرك معاك خطوة واحدة، أنت مرعب بجد!
نبست بعنفٍ علها تخيفه، ولكنه قابلها بابتسامة عريضة عبثية أكثر، وهمس بنفس صوته المنخفض:
_أنا عارف إن أحيانًا القطط بتخربش، وأنا فالعادي مبسمحش لحد يخربشني عشان بخلص عليه، بس أنا استحمل منك أي خربشة عادي، قومي يلا عشان نتكلم.
أشار بعينيه لها لتتحرك كمَن يأمرها تمامًا، بينما هي قوست حاجبها تطالعه بحنقٍ وعينيها البنية تحمل الحدة له وكأنها تضعه عند حده.
تحركت أمامه للخارج تاركة المكان للموظفين هنا في حمايتهم، ولمحت سيارته وقبل أن تضع يدها على الباب وجدت يده تسبقها وتفتحه لها، رمقته بطرف عينيها وركبت السيارة بينما هو توجه ناحية مقعده وركب أيضًا، وقبل أن يتحرك مد يده للمقعد الخلفي وأمسك ورود حمراء اللون وقدمها لها، لتردف باستنكار:
_هو أنت كل ما تشوفني هتجيبلي ورد أحمر؟
ابتسم ابتسامته الجانبية العبثية وتحرك بالسيارة مُجيبًا:
_أنا كل ما أجيلك بفتكر الورد، وبحسه بيقولي خدني معاك عشان عاوز أشوفها زيك، وأنا عشان قلبي طيب بجيبه معايا..
حركت حاجبيها بدهشة مصطنعة، بينما قلبها كان يدق بشكل أسرع، سرق نظرة منها ثم أعاد نظره نحو الطريق، وصوته صار أكثر هدوءًا:
_وبصراحة عشان الورد زيك، كل ما أجيبه يزهر، ولو حصل وبطلنا نشوف بعض، أفضل في ذاكرتك متنسيش إن كان فيه واحد اسمه «يامن الجمال» بيجمعلك الورد الأحمر اللي بيعبر عن العبث الجنوني اللي جواه تجاهك..
حركت يديها على الورد في خجل، وتمنعت عن النظر إليه حتى لا تفضحها عينيها التي تعبر عن إعجابها القوي بكلماته، وخرجت كلماتها شبه هامسة:
_هو إحنا رايحين فين طيب؟
أخذ نفسًا عميقًا وكأنه يستعد لرحلة في قلب المحيط، كان الهواء داخل السيارة مشحونًا بالطاقة، وقلبه يسير مع إيقاع الموسيقى الهادئة التي ملأت المكان، نظر إليها بابتسامة غامضة، وقرر أن يأخذها إلى مكان هادئ يتيح لهما الحديث بعيدًا عن ضجيج المدينة:
_هنقعد في مكان هادي على البحر، عشان نعرف نتكلم براحتنا وتسألي اللي أنتِ عايزاه.
زفرت بهدوءٍ وكأنها تخرج من داخلها الخوف الذي بها تجاهه وتجاه تلك الخطوة التي تقدمت لها بقدميها دون أن تأخذ رأي أي أحد، تهورت فقط.
أمسك بعجلة القيادة بقوة، وكأنها صديقة قديمة، بينما تنقل نظره بين الطريق وبينها، كان يتخيل كيف ستتبدل حالتها حينما تستمع لكل شيء سيقوله، كأنها أمواج تتحرك بمرونة، وكل حركة لها كانت تُشعل في داخله شيئًا غريبًا:
_متخافيش يا «وتين»، معنديش نية أعملك حاجة، ده أنا لو عليا أحطك في أكتر مكان فيه أمان في الدنيا واحميكِ من كل حاجة، حتى من نفسي..
أحس بشيء من العاطفة تتسلل إليه، وكانت الهمسات بينهما تتنقل مثل الفراشات في الربيع، ثم أخرج أنفاسه على مهلٍ دون أن يعطيها فرصة لتتحدث وأضاف:
_وصلنا!
ووقفت السيارة بجوار مكان يطل على البحر، حيث تلاطم الأمواج بجانب الصخور، المكان كان هادئًا جدًا، وكأن العالم الخارجي قد اختفى، تاركًا لهما مساحتهما الخاصة.
لحظاتُ الحقيقة قد حانت، كأنها شمسٌ تشرق بعد غيمٍ كاحل، تنسلّ بين أحلامٍ وأماني، تداعب القلب، تُشعل الشغف في البال.
قلبٌ كان أسيرًا خلف أبوابٍ محصنة،
واليوم، سيفتحها لأجلها وحدها،
كأنها نجمةٌ تعبر سماءَ العمر،
تضيء دروبًا كانت مظلمةً بظلالها.
_عاوزة تعرفي إيه؟
أخرج سيجار من جيبه وأشعله، بينما كان ينظر إليها بكل تفاصيلها بعينيه الزرقاء، وكأنما يرسم لوحة من الذكريات المعلقة بينهما، كانت الذاكرة جحيمًا يشتعل في داخله، ومعركة عنيفة لا يوجد بها محارب سواه، يحارب نفسه في دوامة من الألم والحنين.
_ريحة الدخان غلط عليا، هتتعبني فممكن تطفيها لحد ما نخلص وأمشي؟
نبست بهدوءٍ، وعينيها معلقة عليه وعلى الدخان الذي بيده. نظر إليها بعمق، ووجد أن الدخان الذي يعتز به لا يمكن أن يقارن بما تحمله هي من قيمة في قلبه. ثم رماه أرضًا، كأنه يضحي بشيء غالٍ لأجل من هو أغلى:
_أوامرك تتنفذ..
قالها بابتسامة خفيفة، وكأنه يحاول تخفيف حدة الموقف بشيء من العبث.
تنهدت بثقلٍ، ووجهها مُجَهد من تساؤلات حائرة، وسألته بقلبٍ مرتجف:
_كنت عاوزة أفهم إيه معنى كلامك لبابا، وليه بتقوله كدا ودخلت «زين» أخويا في الحوار معاك وحوار إيه.. أنا فاكرة إن بابا كان عنده صاحب اسمه «علي الجمّال»، بس أنا مش فاكراك أوي لأني كنت صغيرة ولما دخلنا مدرسة داخلية وخلصناها وسافرنا برا مكنش فيه أي حد في حياة بابا اسمه «علي الجمّال» أو حتى أنت..
عينا «يامن» أظلمتا بظلام حالك، كأن أبواب الجحيم قد انفتحت أمامه، انزلق في ذاكرته إلى أيام الألم، وكأن الذاكرة تلقي بشباكها عليه.
استجمع كلماته في حلقه وكأنها تتشبث به، ثم أخرجها ببطء:
_«سليمان» و«علي» و«فرحات»، كانوا صحاب جدًا ووقتها يمكن اللي فاكرهم «زين» عشان هو الكبير، بس هو للأسف متعرفش عليا لما قولتله اسمي عشان هو محضرش اللي ممكن يثبتله كل ده في دماغه بذكريات توجعه، وقتها اتورطوا مع عصابة متخصصة في تجار الأطفال واعضائهم، من خلال محاولاتهم في تكبير مشروعهم، لما عرفت مكان «فرحات» وسألته عن كل التفاصيل، قالي إن أبوكِ سلمهم تسليم أهالي للعصابة، وهو خلع من كل ده علطول وسابهم، ولما اتورطوا أكبر وقتها العصابة..
صمت للحظات، وعينيه تحمل الأسف الشديد والحزن الطاغي على وجهه، كأنهما عكسا بئرًا عميقًا من الذكريات المؤلمة.
أطلق زفرة ثقيلة من صدره، وكأنها تعبر عن عبء سنوات من الفقدان:
_العصابة قتلت أمي وأبويا، وخطفوني متخدر من البيت بس قدرت أهرب، كان عندي 17 سنة، مكملتش تعليمي في مصر وهربت برا مصر بمساعدة «فرحات» قبل ما يختفي هو كمان في ظروف غامضة، اتعرفت هناك على ناس كتير وقعوا قدامي، يمكن صدفة ويمكن مش صدفة.. لحد ما أنا هنا قدامك على رجلي أهو
_أنت مين غير إنك «يامن الجمّال» بقى؟
سألته بنبرة مرتجفة، ورأسها مائل قليلاً، وكأنها تسعى لإيجاد شعاع من الأمل في عتمة كلماته.
نظر إليها بتيهٍ، كأن سؤالها كان قنبلة موقوتة أُطلقت في قلبه،كانت الحرب بداخله تشتعل، والنيران تأكله بقوة:
_أنا معرفش أنا مين، أنا واحد عاش عمره كله في ضلمة يا «وتين»، يمكن النور الوحيد اللي كان في حياتي إني وقتها لما حاولت انتقم من أبوكِ وأنا لسه مسافر، عرفت إنك بتدرسي في نفس البلد اللي أنا فيها، كنتِ نقطة من الماضي بتاعي اللي فضل ورايا سنين.. ويمكن محرقتش الدنيا دي عشانك!
عيناها تألقت بلمعة من الخوف، بينما انزلق صوتها كأنما كان يخرج من جحيم داخلي:
_أمتى حبيتني الحب ده كله؟ أنا حتى بحاول افتكر مش عارفة! حقيقي مش عارفة..
بينما هو تنهد بسخرية، وأطلق كلماته كالسهم لقلبها:
_لما كبرت لحد سن مراهقة إن «يامن» هيكون لبنت حلوة جميلة اسمها «وتين»، وهرب «يامن» عشان يحمي نفسه بس «وتين» فضلت في قلبه، كنت بشوفك في كل لحظة قدامي بس مقدرتش أقربلك، كنت بشوفك من بعيد وكنت بحاول أقرب بس كنت بمنع نفسي وبقول يمكن لينا وقت تاني وركز في اللي بتحاول تعمله..
_تنتقم من بابا؟
سألته بعينين تلمعان بخوفٍ، وكأنها أدركت ما قد ينطوي عليه المستقبل، لتتحول عيناه من حنينٍ لها، لظلام حالك، وكأن قلبه قد انشطر لنصفين:
_آه.. أدفعه تمن اللي عمله، تمن كل حاجة، إني عيشت يتيم سنين، عيشت في كوابيس بتخليني منامش..
ابتلعت غصتها، كأن كلماتها كانت سيفًا يقطع الأمل، كانت تتحدث ببطء، خائفة من الكائن المحبوس بداخله المملوء بكل الشرور.:
_بس أنا كدا استحالة أشوفك حد كويس، هفضل بشوفك واحد هتأذي بابا وتحرمنا منه..
_وأنا اتحرمت منهم.. واتأذيت.. فين حقي؟
سألها بنبرة حادة وصوته ارتفع نسبيًا دون أن يعي أنها قد تخف منه، لتتراجع للخلف خطوتين بعيدًا عنه، وكأن النيران بينهما قد اشتعلت
تقدمت خطواته تجاهها، وكأن كل خطوة كانت تعبر عن الألم الذي يمزق قلبه. ثم صرخ بوجهها، وكأنه يخرج الحرب التي بداخله دون أن يشعر بنفسه، وكأن الصوت الذي أطلقه كان صدى لسنوات من الصمت:
_أمي اغتصبوها قدام عيني وقتلوها، وقتلوا أبويا، قدام عيني كل ده، ماكنتش بتقول حاجة غير اهرب يا «يامن»، و«يامن» العيل عقله مش مستوعب أي حاجة، اتخدر واتخطف، هرب ورجع لقى بيته مولع وأمه وأبوه فيه، مين وقتها وقفلهم، ميــن وقف وقالهم سيبوهم عشان عندهم عيل محتاج يتربى ويكبر وسط عيلته، قوليلي ميــن؟ أنا مش هرحمه، زي ما خلصت عليهم كلهم هو كمان له دور وجاي، الرواية دي لازم تتقفل قفلة تليق بكل واحد، والشر ده لازم يخلـص في نهاية الرواية دي، ويتقفل الكتاب على كدا.. وأنا النار اللي جوايا تتطفي..
توقفت اللحظة، ووقفت الكلمات معلقة في الهواء، كأنهما عالقان في دوامة من الغضب والحزن.
كانت نظراتهما متشبثة ببعضها، وكأن كل كلمة كانت تُعبر عن ما يجول في داخلهما من مشاعر متناقضة، تُشعل في كل منهما نارًا لا تُطفأ.
في قلب الفتى حربٌ تعصفُ بالأيام،
تشتعل النيران، وتحرق الأوهام،
بين الخير والشر، يسير في ظلام،
يضيع في متاهاتٍ، بلا عنوان أو مقام.
هو بطلٌ لم يُكتب له في التاريخ،
عالقٌ بين طيات الجحيم والرحيق،
تسكنه أحلامٌ، تسير في الطريق،
لكنها تحترق، كأنها نارٌ بلا شفيق.
يشتعل في صدره لهبُ الانتقام، وكأن قلبه ساحة قتالٍ، بلا سلام، لا يعرف إن كان فارسًا أم عاجزًا..
عيناه بحارٌ من الدموع المكبوحة، تسافر في عوالمٍ من الصمت المذبوح، كأن الزمن قد صرخ في وجهه:
"أنت بين النور والظلام، لكن أيهما هو؟"
يجوب في طرقات نفسه، ضائعًا، يبحث عن هويته، فلا يجدها سعيًا، عطر الطفولة يُشعل في ذاكرته، لكنه محاصرٌ بالنار، بلا نجاة أو هروب.
هو المُقاتل الذي لا يُعرف اسمه،
يتأرجح بين حلمٍ وسرابٍ زائف،
بين حبٍ قُتل، وبغضٍ يتغذى على آلامه.
تتراقص في عقله صورُ المعارك، كل فكرٍ يجرح، كل ذكرى تُعيدُ الصراخ، وكلما أراد أن يتنفس، شعر بأنه يغرق في لهيبِ الذكريات.
يُحدث قلبه قائلًا:
"متى تنفك من قيود الانتقام؟
هل ستظل ضائعًا في دوامة الشك؟
أم ستعود لتكتشف معنى السلام؟"
خائفة، لا تعلم ما الذي يجب فعله أمام هذا البركان الثائر، تنظر إليه بعينيها الخائفتين وكأنهما تتوسلان الرحمة. دموعها اتخذت مجراها على خديها بحرقة، تشبه سيلًا جارفًا لا يمكن إيقافه.
تأكدت الآن أنه لا تراجع من ناحيته، وأنه مصمم على إيذاء والدها.
داخليًا، تعلم أنها أنانية في حكمها، لكنها لا تستطيع تحمّل فكرة أن يكون من أمامها يخطط لإنهاء والدها، كانت تتصارع بين عاطفتها ورغبتها في حماية عائلتها، كمن يمشي على حبل مشدود بين الفجوة والهاوية.
تابعها بضيق شديد من نفسه، تتفجر بداخله مشاعر متناقضة، كيف يمكن أن يراها أمامه ضعيفة تبكي، وهو الذي بذل جهده لحمايتها من الجميع، يُفترض به أن يكون درعًا حصينًا لها.
تألم قلبه لأنه يدرك أن الألم الذي يسببه لها هو نتيجة حتمية لخياراته، كأن كل دمعة تسقط من عينيها تُدمي روحه، وجعٌ يستنزف طاقته، يصرخ في داخله:"كيف أكون الحامي والجلاد في آنٍ واحد؟"
كانت ملامح وجهه تترنح بين الغضب والحيرة، كلما استحضر صورة والدها، عادت إليه ذكريات من الزمن الماضي، فتشعل فوهة النيران بداخله
_يلا عشان نمشي يا «وتين»، أكتر من كدا أنا معنديش كلام أقوله، وأنتِ برا الحسابات متقلقيش.. «سليمان رشوان» اللي هيدفع التمن غالي..
نبس بكلماته بجمودٍ، وعينيه ثابتتان عليها، يحاول السيطرة على مشاعره المتأججة. كانت عيونه كفوهة بركان مستعد للاحتراق، بينما هي ردت بصوتٍ مرتجف، يحمل في طياته نبرة تهديد:
_بس أنا مش هسمح، هبلغ البوليس عنك..
ابتسم بسخرية وتروٍ، كأنه يستمتع بلعبة خطرة، ليزيد من تعقيد الأمور:
_بس أنا البوليس بنفسه يا قطة.
توسعت حدقتاها بصدمة، كأنها تلقت ضربة قاسية، وابتلعت غصتها التي علقت في حلقها كحجر ثقيل، يثقل كاهلها، استمر في حديثه، والسخرية تتدفق من شفتيه، وتلك الابتسامة الجانبية تعتلي ثغره، كأنما يلوح لها بعالمٍ مظلم:
_شوفتِ إزاي بقى، تحبي ارفعلك على نفسي محضر بتهمة التهديد لقتل والدك الجميل، صدقيني أنا أصلًا هحميه من كل الشر اللي جوايا، أنا مش هعمل حاجة غير إني هحبسه بقية عمره في السجن!
كانت كلماته كقنابل تتفجر داخل صدرها، فتاة ضعيفة وهشة، رقيقة القلب، تستمع لكل شيء قذر قد يطرق على مسامعها في حياتها كلها، تتآكل قوتها مع كل حرف يخرج من فمه، كل جملة كانت تخترق روحها كخناجر مغمورة في العتمة، تحفر أوجاعًا لا تنتهي.
أغمض عينيه للحظاتٍ، كأنه يحاول استجماع نفسه وسط العواصف التي تعصف بداخله، ثم فتحهما وملامحه تعكس نبرة غير متوقعة، مبتسمًا بابتسامة خفيفة قد تبدو كأملٍ بعيد:
_لازم نمشي يا «وتين»، كفاية عليا كدا، اتفضلي عشان أوصلك..
وبالفعل، انصاعت لكلماته، وتحركت وهي محملة بكل الأوجاع والآلام النفسية التي تتخبط في صدرها كأمواج عاتية.
تحرك هو بسيارته، صامتًا، دون أن يردف بكلمة واحدة لا لها ولا حتى لنفسه، كأن الأحرف قد اختفت من عالمه، تاركًا خلفه صدى الألم الذي يتردد بينهما، كغبارٍ يلوح في الأفق، لا يمكن هزيمته.
وقبل أن تغادر سيارته لمس يدها ممسكًا بها مع قوله المتألم من مرارة الحب التي بداخله:
_يمكن.. كان نفسي نجتمع سوا في العالم ده، بس ده عالم ميستاهلكيش عشان كله قذارة، وأنا مش عاوز أي حاجة منه تلمسك بأي شكل من الأشكال، حاولي تسامحيني عشان أقدر أسامح نفسي، أنا جوايا خير والله، أو كان جوايا خير، بس هما قتلوه.. حقك عليا.
استمعت لكلماته المتوجعة والتي تسللت لقلبها لتشكل به الحزن أيضًا، نظرت له بأسفٍ وأسى، والحرقة تأكل قلبها، ولم تنبس بكلمة واحدة بعد كلماته بل تحركت نحو منزلها الذي أوقف سيارته أمامه.. وغادرت تاركة قلبه يعصف بعواصفٍ لا رحمة بها.
******
اليد ترتعش، والعجز ظاهر
هل أنقذها؟ أم حلمي غابر؟
بعدما تركها في المستشفى نائمة أثر الدواء وصل هو لمنزله ليفهم كل شيء علمه، لأن غدًا يوم تنفيذ العملية، يوم المخاطر بأكملها.
في أجواء مشحونة بالتوتر، وقف «زين» أمام والده، كجبلٍ راسخ، يحاول اختراق جدار الصمت الذي يحيط بهما. كان المنزل مليئًا بالذكريات، ولكن اليوم كان عبئًا ثقيلًا، كعاصفة تهدد كل شيء.
_عايز أفهم، يا بابا، كل حاجة عاوز افهمها، مين «علي الجمّال» ومين «فرحات»، وليه «يامن» عاوز ينتقم منك!
نبس «زين» بصوت متوتر، ملامح وجهه تعكس الصراع الداخلي..
والده الذي كان جالسًا على طرف الأريكة، ارتفع صوت أنفاسه، كان كمن يحمل جبلًا فوق كتفيه، ويده تتلاعب بأطراف الغطاء الموضوع على يد الأريكة، كما لو كان يحاول استجماع الذكريات المبعثرة، بعد تنهيدة عميقة، نظر إلى ابنه، وعينيه تحملان عبء السنين:
الأسئلة اللي بتسألها مش سهلة، الماضي ده كان جحيم عايشين فيه، ده غير إن موضوعنا اللي عاوز اتكلم فيه، هو إنك كدبت عليا وكنت لسه شغال مع «مهاب» وكمان شغال مع «يامن»!
_هقولك كل حاجة، لما تقولي كل حاجة يا بابا..
الماضي؟ إيه هو الماضي؟
هتف «زين» ونظره معلق على والده يحاول استنباط أي شيء قد يفيده..
شعرت «وتين» بدقات قلبها تتسارع وهي تستمع من خلف الباب، تلك الكلمات كالأمواج تتلاطم داخل صدرها، وجعلتها تشعر وكأنها جزء من تلك القصة المأساوية التي لا تعرف عنها شيئًا.
صمت لدقائق، وكأنه استجمع قواه أخيرًا، رفع رأسه ببطء، ونظر في عيني زين بعمقٍ كأعمق بئر في الوجود:
_«علي الجمال» كان صديق عمري هو و«فرحات»، قبل ما يحصل اللي حصل، كنا وقتها بنحاول نبني لنفسنا مشاريع فردية، وكمان مشروع واحد يجمع بينا إحنا التلاتة..
«فلاش باك»
_حلو أوي ده يا «فرحات»، إحنا نكلمه ونقوله إننا ناس لسه بتبدأ في المشروع ده ووقتها هنقوله إننا أول ما يكبر هنسلمه الفلوس.
نبس «علي» بكلماته بابتسامة واسعة، ليصيح بهما «سليمان» بقوله:
_أنتو بتقولوا إيه، اتجننتوا، إحنا عندنا عيال يا «علي» وممكن يحصل فيها كدا في يوم من الأيام، أنتو عاوزين تستثمروا مع ناس بتتاجر في الأطفال والاعضاء.
تدّخل «فرحات» بحنقٍ:
_هو إحنا هنشتغل معاهم يا «سليمان» وبعدين ما رجال الأعمال كلهم شغالين في الحوار ده، مش إحنا بس!
أكد على حديثه «علي» والأمل يلوح في عينيه وكأنه على عتبة تحقيق الأحلام:
_أنا مع فرحات، إحنا مش هنشتغل معاهم في خطف الأطفال، هما يادوبك هيساعدوا..
«عــودة»
كانت لهجته مليئة بالحسرة، كغيمة تحمل معها عواصف حزن لا تنتهي:
_«فرحات» كان صاحب الفكرة لما عرض عليه واحد منهم تحت مسمى رجل أعمال كبير، ولكننا عرفنا فيما بعد إنهم عصابة، وعصابة كبيرة كمان وقتها كنت أنت لسه مولود و«يامن» عنده سنتين، حاولت أمنعهم لكنهم تورطوا في صراعات أكبر من قدراتهم، عصابة تجار أطفال، وفعلًا ساعدونا ووصلنا، بس فضلوا بيلاحقونا، أصل اللي كنا فيه نقطة سودا، وقتها أنا شيلت أيدي من الموضوع ودخلتك أنت وأختك مدرسة داخلية عشان تبعدوا عن كل حاجة لحد ما انضف الماضي بتاعي القذر، بس «علي» و«فرحات» فضلوا مكملين، لحد ماكان مصير «علي» الموت هو ومراته، ووقتها فكرت إن ابنه مات بس «فرحات» في يوم كلمني وقالي إنه ساعده يسافر وبعته على ناس من مصر بس مهمين، مفهمتش حاجات كتير وقتها بس اللي عرفته من «فرحات» اللي فضل هربان لفترة طويلة إن «يامن» درس ودخل في الشرطة والمخابرات، ودرس حاجات كتير، بيني وبينك خوفت من شره بس قولت أكيد هيكون فاهم الحقيقة، بس رجع فاهم حاجات غلط..
عندما سمع «زين» كلمات والده، كان كمن تلقي ضربة قوية على صدره، كأنما اهتزت الأرض من حوله، لم يكن يتوقع أن يكون ماضي والده مليئًا بتلك الأسرار والآلام، فكل كلمة قالها كانت كفأس تكسّر الجليد الذي كان يحمي مشاعره.
_و«فرحات».. راح فين؟
سأل بتيهٍ ليجيبه والده بتنهيدة:
_معرفش، اختفى!
_أنت عارف إن الماضي بيتكرر؟ و«صادق» من العصابة اللي «يامن» دخلك فيها بنفس طرق الماضي تاني عشان ينتقم.. رجل أعمال يجيلك وتديله فلوس وتدخل في العصابة من غير ما تحس!
كانت تلك الكلمات بمثابة صاعقة، وقد ألقت بتوترها في فضاء الغرفة، وجلس والده بصدمة لعدم معرفته بكل ذلك ولم يقوى على قول كلمة واحدة.
بينما «زين» تسربت إلى عينيه دمعة، لكنه سرعان ما مسحها، لم يكن يريد أن يظهر ضعفه، كانت عيناه تحملان نارًا مشتعلة، كجمرات تشتعل في عتمة الليل، تُظهر له أن الحياة ليست كما تصورها، شعور الصدمة كان يعصف به، كعاصفة تجرف كل شيء في طريقها.
وفجأة استمع لصوت هاتفه الذي أعلن بوصول رسائل جديدة، أخرجه وليته لم يخرجه..
تحاليل الـDNA بأكملها أمام عينيه، قرأها بالكامل، وقرأ الرسالة التي بعدها والتي لم تكن سوى
"مساء الخير يا ابن رشوان، سوري أقصد يا ابن الجزار، طبعًا مفاجأة حبيت أعملهالك في عيد ميلادك، الساعة 12 ودي هديتي ليك أنت و«مُهاب».. صديقكم العسول جدًا «يامن الجمّال»، Happy birthday to you يا زينو"
وعلى الجانب الآخر في المستشفى حيث يجلس جوارها يطالعها بنظراتٍ مكسورة، وصلته نفس الرسالة تمامًا..
"مساء الخير يا ابن الجزار، سوري أقصد يا ابن رشوان، طبعًا مفاجأة حبيت أعملهالك في عيد ميلادك، الساعة 12 ودي هديتي ليك أنت و«زين».. صديقكم العسول جدًا «يامن الجمّال»، Happy birthday to you يا هوبا"
تعليقات



<>