الفصل التاسع عشر19
بقلم امينة محمد
«انكار الحقيقة»
ترك كل منهما ما بيده، كأن الدنيا توقفت فجأة في أعينهم، لم يعد للمهام أهمية، ولا للكلمات معنى.
خطواتهم تتقاطع مع الزمن، يتوجهان نحوه بقلبين ينبضان بالغضب والحيرة، كانا يعدان للحظة التي ستجمعهما به بعدما فجّر قنبلته في وجوههما، لحظة المواجهة التي ستمحو كل ما سبقها، كأنهما يحملان في صدورهما عاصفة هوجاء، مشاعر متضاربة من الصدمة والغضب، لا يعرفان إن كانوا سيستطيعون الصمود أم سينكسرون أمام الحقيقة، لكنهم مع ذلك، يمضون، وفي أعينهم وهج التحدي، لا عودة بعد اليوم.
كانت الأرض ترتجف تحت إطارات دراجة «مُهاب» النارية، كأنما صهيلها يعلن عن قدوم إعصار لا يعرف الهدوء.
عيناه كانتا كتوهجين مشتعلين، الغضب يتطاير منهما كشرر متراقص، يشق الهواء حوله، لكن خلف ذلك البركان كان هناك تيه وحيرة، كمن يقف على حافة هاوية، لا يعرف إن كان سيقفز أم سيسقط.
صوت محركه كان صاخباً، كأنما يصرخ نيابة عنه، يدفعه نحو المجهول بلا هوادة، كوحش جامح لا يعرف سوى الطريق أمامه.
أما «يامن»، فكان وصوله نقيضًا تامًا، مرسيدسه السوداء شقت طريقها بهدوء كصمت الليل، وعندما خرج منها، كانت خطواته باردة كثلج يزحف ببطء نحو كل شيء ليغمره بالسكون.
سيجاره يتصاعد منه الدخان بثبات، وكأن كل نفس يأخذه يفرغ العالم من حرارة عواطفه، وجهه خالٍ من أي انفعال، ملامحه كأنها قناع صلب لا يملك أي انعكاس لما بداخله، في عينيه برود الأبدية، وبرود أعصابه كان كالجليد الذي يتحدى الشمس ألا تذيبه.
لكن «زين»، كان النقيض الأكثر وضوحًا، سيارته اقتحمت المكان بصوتٍ صاخبٍ، وكأنها تصرخ بما يعجز عن قوله، أوقفها بعنف، وكأن الفرامل كانت تعبيرًا عن غضب مكتوم في داخله.
نزل منها بخطوات سريعة، وعيناه كانتا كعاصفة سوداء لا تعرف الهدوء، كان الغضب القاتم يحيط به كظلالٍ متراكمة، وكأنما كل صدمة تلقاها مؤخرًا حفرت داخله نفقًا من الغضب الذي لا ينتهي، فأصبح جسده حاملًا لانفجار قادم لا محالة.
وقف الثلاثة معًا، كلٌ منهم صورة معاكسة للآخر، لكنهم متشابكون بحبل القدر الذي جمعهم في تلك اللحظة المتوترة.
بدأ «مُهاب» حديثه بينما كان واقفًا وكأن النيران تتأجج داخله، عضلاته مشدودة، وعيناه لا تفارقان «يامن» بنظرة متقدة كشرر ناري يتطاير من بين أنفاسه، وصوته اخترق الصمت بانفعال غاضب:
_إيه الهبل اللي أنت باعته ده؟
كلماته خرجت وكأنها طعنات موجهة مباشرة نحو «يامن»، بينما جسده ينطق بالتوتر، يتقدم خطوة للأمام وكأنه يريد تحطيم الجدار الذي يفصله عن الآخر. ولكن «يامن» لم يهتز، بل قابل تلك الشرارة بجدار من الثلج، ومزيد من السخرية. رمقه بابتسامة باردة
بينما «زين» لم يمنح نفسه لحظة للتفكير، صوته ارتفع بغضب أكبر، وعروقه بارزة في عنقه من فرط التوتر:
_هو إيه الهبل اللي باعته، أنت بجد بتسأل، أنت بتنتقم وقولنا ماشي وسكِتنا، بس تبعت تقارير مزورة؟
هنا انطلقت ضحكة «يامن» بصخبٍ، وكأنها صفعة على وجه التوتر، رمى السيجارة على الأرض ودعس عليها بقوة، كأنه يدعس على كل ما يؤمن به «مُهاب» و«زين».
رفع حاجبيه بتحدٍ وهو يتحدث بنبرة باردة:
_الله، ده شكل «صادق» قالكم كل حاجة بقى، عمومًا أنا المرة دي بتكلم بجد، التقارير صحيحة مية فالمية، أنتو متبدلين في المستشفى لما اتولدتوا..
كان كلامه كالصاعقة التي اخترقت الأجواء وقلوبهما مجددًا وكأنهما يعرفان تلك الحقيقة للمرة الأولى، بينما «مُهاب» تراجع خطوة، وكأن الأرض بدأت تنهار تحت قدميه.
أما «زين»، الذي تلقى أكثر من صدمة في الآونة الأخيرة، انفجر كالبركان، خطواته كانت عنيفة وهو يتجه نحوهما، ملامحه مشدودة كأنما يتحكم فيه الغضب بالكامل:
_وإحنا نصدقك ليه أصلًا!
كان صوته يعلو فوق كل شيء، عينيه تحاولان الهروب من الحقيقة، الإنكار كان أسهل طريق للهروب من تلك الكارثة التي بدأت تتسلل إلى عقله ببطء، ولكن «يامن» لم يترك له فرصة للهروب، بل دس كلماته كالسم، بملامح مخادعة قائلاً:
_متصدقش، بس شكل «مُهاب» مصدق!
قالها بنبرة مغمورة بالمكر، يتفحص «مُهاب» التائه وكأنه يستمتع بتدمير عالمهما الداخلي.
بينما «زين» لم يتمالك نفسه، انفجر مرة أخرى بسخرية مريرة، صوته المرتفع شق الهواء:
_آآه حلو أوي، قولوا كدا بقى ودي خطة منكم أنتو الاتنين عشان تقلبوا قرشين حلوين غير المليون اللي اتقلبوا أصلًا، الله أعلم كمان قسمتوهم على بعض ولا لا، أنا كنت حاسس إن ده خطة من الأول، أصل مش معقول كل حاجة بتحصل في حارة «مُهاب»، وواحد معرفش عنه حاجة والتاني داخل يقول عنده معانا ماضي وعايز ينتقم من عيلتي.
كانت الكلمات تتصاعد كالعاصفة، ولكن العيون الثلاثة كانت تتبادل نظرات كالسهام، كل واحد منهم يقف على حافة الانفجار، كأنهم أعمدة مشتعلة في لحظة من التوتر القاتل.
وجَّه «مُهاب» بصره نحو «زين»، كأن صاعقة ضربته في صدره فجعلت الدماء تغلي في عروقه، لم يكن فقط غاضبًا، بل كانت الصدمة تخنق كلماته قبل أن يصرخ بوجهه وكأن صوته هو الانفجار الذي أخرجه من أعماق قلبه المشتعل:
_أنت شكلك اتهبلت في دماغك ولا إيه، متفق مع مين يا أهبل أنت، أنا أصلًا أكتر واحد فيكم متأذي، مالي أنا ومال الانتقام اللي بين العيلتين ده، أنا مراتي بتموت في المستشفى بسببك أنت وعيلتك وبسببه هو وعيلته، بأي حق تتهمني إتهام زي ده!
كانت كلماته كاللكمات تتطاير في الهواء، تضرب «زين» الذي رغم ذلك لم يهتز بل أكمل، وكأنه وجد في سخريته درعًا يحتمي به من تلك الحقائق التي تحاصره من كل جانب.
رغم الألم الذي يحتله من الداخل، كانت ملامحه تحمل سخرية مريرة، وإصراره على تكذيب كل شيء كان أشبه بمحاولة يائسة للتمسك بما بقي له:
_أنت بتسأل بقى وبتجاوب على نفسك، وحاسب على كلامك معايا لأني بعد كدا مش هسكت، متنساش أنت بتكلم مين، أنا «زيـن سليمان رشوان» ومش هكون غير كدا.. لا ابن «عادل الجزار» الحشاش ولا غيره، أنا عايش مع عيلتي وده كله نصب أصلًا
صوته كان كالسوط، يرتفع ويضرب قلب «مُهاب» مباشرة، إهانته لعائلته أشعلت نيرانًا لم يعد بإمكان «مُهاب» السيطرة عليها.
الدماء اشتعلت في عروقه، كأنها حمم بركانية تنتظر الانفجار، وفي لحظة غضبٍ عارم، كانت ردة فعله سريعة وعنيفة؛ لكمة قوية اقتحمت وجه «زين» كصاعقة، لتخترق وسامته وتجعله يتراجع خطوتين، مذهولًا من شدتها.
نبس «مُهاب» بنبرة كانت كالبركان الذي ظلّ يغلي طويلاً حتى انفجر بلا هوادة، وجهه المشتعل بالغضب لم يعد يحتمل صبرًا، فخرجت الكلمات من فمه كسهام حارقة، تضرب بلا هوادة، عينيه متقدة كالشرر، وأعصابه مشدودة كوترٍ على وشك الانقطاع:
_سيرة أهلي متجيش على لسانك عشان وعهد الله اندمك عاليوم اللي اتولدت فيه وقابلتني فيه، أنت رخيص يالا، اتعشمت فيك وكلت على دماغي، زي ما اتعشمت في «يامن» وبرضو كلت على دماغي، بس هي غلطة ومش هتتكرر تاني معاكم، اقتلوا بعض بقى ولعوا في بعض غوروا في ستين ألف داهية.
كلماته كانت كالبرق، سريعة وحادة، تخترق الصمت المحيط بهم كالسيف، في تلك اللحظة، بدا وكأنه أسد محاصر بين جدران الغدر والخيانة، يحاول الهروب من الحريق الذي اشتعل حوله.
التفت نحو «يامن» بجسدٍ متشنج، ووجه إصبعه نحوه كخنجر موجه إليه كتهديدٍ صريح:
_بقولك إيه، الحوار اللي دخلتني فيه تطلعني منه، أنا إيه ذنبي وأستفدت إيه عشان أدخل في حوارتكم دي، أمي ومراتي لو فيه نملة بس قربت ناحيتهم تاني والله لأحرق الدنيا دي كلها يا «يامن»..
كانت تلك الكلمات مليئة بوعيدٍ قاتل، وكأن نبرته وحدها قادرة على إشعال الأرض بمن عليها، توقف للحظة، وكأن ثقل الألم قد أخذه بعيدًا، واستجمع نفسه بصعوبة، ثم قال بصوتٍ متهدج بالغضب والتيه:
_أنا معرفش ذنبي إيه، ذنبي إيه أدخل في المصايب دي، أنت واحد بتنتقم لأمك وأبوك اللي اتقتلوا، بتحاول تساعد الأطفال من العصابة، أنا مالي من كل ده؟ للأسف مليش أي ذنب، ومراتي اتاخدت في الرجلين بس قدرت اساعدها.. حسك عينك أنت وهو ألمحكم في وشي، ولو صدفة حتى.. هساوي بيكم الأرض.
فجأة
دون أن يلقي نظرة خلفه، استدار وغادر.
خطواته كانت ثقلًا يضرب الأرض، كل خطوة كأنها تحمل غضب الأرض بأسرها.
أما «زين»، الذي كان واقفاً واضعًا يده على وجهه بعدما تلقى تلك الصفعة القوية وعينيه تتابع ذهاب «مُهاب» من المكان، شعر وكأن العالم قد ضاق عليه، ملامحه تائهة بين الحزن والخسارة، يدرك في أعماقه أنه خسر للتو الشخص الوحيد الذي ظن أنه سيكون عوضًا عن كل الخيبات، لكن ها هي الأيام تسخر منه، وتظهر له قسوة الخسارة في أوضح صورها.
يا للخيبة كم أبصرت في الأفق،
ضوء الرجاء، فغاب عن طرقي
ظننت أنك العون في شدتي، وأن في قربك دفء مرفقي، فإذا الحياة تسخر من خطاي، وتلقي علي ضلالها المطبق.
أضعتك في لحظة، كأنما عمر الوفاء سراب ملتحق، أيها الذي ظننته في وحدتي، نور الأمان ومرفأ القلق.
هل كان حلمي خيالًا عابرًا، والأيام كالسيف في عنقي؟ أصبحت أدرك أن الخسارة قاسية، تطحن قلبي المرهق.
وفيك خسرت العوض الوحيد
لتصبح الخيبة سيدة طرقي.
الأجواء مشحونة بالتوتر، كأن غيمة داكنة غطت السماء، وقف «زين» على حافة الانهيار، ملامحه مشدودة، وعينيه تجوبان وجه «يامن» باحثتين عن أي بادرة من الحقيقة وسط كومة الأكاذيب.
أطلق سؤالًا مفعمًا بالتيه والصدمة، وكأن الكلمات كانت تتعثر في حلقه:
_التقارير دي حقيقية ولا مزورة؟
تأمل «يامن» في عينيه، ثم قال ببرودٍ مقلق:
_ممكن تروح أقرب مستشفى وتعمل تحاليل، عشان تتأكد من نسبك لوالدك، أنا جيبتلكم الحقيقة اللي عرفتها، محدش لسه عارف التبديل ده حصل إزاي بس الإجراءات اللازمة والتحقيق هيتم وهعرف.
كأن كلمات «يامن» كانت سيفًا يقطع خيوط الوهم اللي كان «زين» يعيش بها، اندهش!
ما كان به أكثر من اندهاش؛ إذ كانت صدمته كأن صاعقة ضربته. ملامحه توترت أكثر، وسأل بفضولٍ ممزوج بالذهول:
_إزاي، إزاي اللي اقابله صدفة أطلع أنا وهو متبدلين، إزاي بجد، مش قادر استوعب يعني إيه أنا عايش مع عيلة مش عيلتي طول السنين دي، 28 سنة عايش مع أم غير أمي وأب غير أبويا.. استحالة..
ابتسم «يامن» ابتسامة غامضة، وكأنه يستعد للكشف عن سرٍ خطير، ثم قال:
_طب بمناسبة بقى كشف الحوارات، وبما إني قابلت «وتين» فخلينا إحنا كمان نتكلم عشان تعرف أنا ناوي على إيه ومتتصدمش تاني
_«وتين»!
قالها «زين» باستنكار وصدمة لمعرفة «يامن» بأخته، ليومئ الآخر قائلًا بكل بساطة:
_أنت متعرفش إن فيه مشروع جواز جاي في الطريق بينا ولا إيه، أصل أبوك كان واعد أبويا إني هتجوزها في يوم من الأيام ان شاء الله.. وأنا أحب أنفذ وصية أبويا جدًا.
كانت الكلمات تنفجر في الهواء كقنابل، كاشفة عن أسرار مظلمة، ارتجف جسد «زين» كأن زلزالًا ضرب كيانه، واستمر في الاستماع بكل انصات، لكن الصدمة ما لم تنتهي بعد، أضاف «يامن» بهدوء قاتل:
_أبوك كان السبب بتسليم أبويا للعصابة، واللي بالمناسبة هي نفس العصابة اللي أنا بنتقم منها دلوقتي، فأنا قولت أضرب عصفورين بحجر، وبنفس الطريقة اللي دخلوا فيها زمان وطلع أبوك زي الشعراية من العجين، أدخله فيها تاني ويتحرق مع العصابة.
كاد «زين» أن يلكمه ولكن «يامن» أمسك يده بسرعة وعينيه تحولت لظلامٍ حالك وهو يردد بسخرية:
_تؤ تؤ مينفعش كدا يا «زين»، العصبية دي مش عليا عشان متتلسعش بالنار.
في الحقيقة هو لم يتحمل ما يقوله الآخر عن خطته في كيفية الانتقام من والده، ويقولها أمامه بكل برود.
جذب يده من «يامن» وهو يقول بصوت مفعمًا بالتحدي، كأنه يحاول أن يقاوم عاصفة الحقيقة التي تهدد بلعنة ما قادمة.
_دي مش الحقيقة، بابا كان مع «علي» و«فرحات» ولما اكتشفوا أمر العصابة هو اللي نصحهم يبعدوا ومرضيوش، هو اللي بعد عشان كدا نجا إنما أبوك و«فرحات» كانوا مُصرين على موقفهم وفضلوا، وكانت دي جزاة أبوك، و«فرحات» بابا ميعرفش عنه حاجة.
بينما كان «يامن» ينظر إليه بثبات، وكأن زلزال المشاعر الذي يعصف بـ«زين» لا يهمه، ثم قهقه بسخرية قائلًا:
_أبوك كداب، فرحات بنفسه اللي قالي كل اللي حصل، قبل ما تلاقيه العصابة وتقتله هو كمان..
_تقتله؟ أنت إيه عرفك؟ هو مش المفروض اختفى في ظروف غامضة؟
سأل عدة اسئلة من كثرة التوتر الكبير الذي يقتحمه من الداخل، ليجيبه «يامن»:
_كان هربان وعرفوا يجيبوه، وإتقتل، واحد كان عارف إنه هيموت، هيكدب عليا ليه؟ وبعدين ما طبيعي أبوك يقول على نفسه برئ مش هيقولك أنا كنت شغال مع عصابة وسلمت صاحبي ليهم وهربت.
داخل كل واحدٍ منهما، كانت الحبال التي تربطهما ببعضهم تتفكك وتتشابك، مُشكّلة عالمًا جديدًا من الأوهام والحقائق المزعجة.
_بكرا اليوم اللي هيحصل فيه تهريب الأطفال، وهو نفس اليوم اللي هيلبس فيه أبوك شر أعماله، وبالنسبة ليا.. بصراحة أنا كنت ناويله على نية سودا، بس أنا لحد دلوقتي ماسك نفسي، العصابة هتنتهي، وهو معاهم..
هكذا صرح بكلماته بوعيدٍ، وكأن لسانه كان يحمل نيران الغضب المشتعل، تحرك قبل أن يمنح «زين» فرصة للكلام، تاركًا إياه في غياهب الصدمة، واقفًا كتمثالٍ من حجر وسط عاصفة عاتية تعصف بكل ما في داخله.
كانت عينا «زين» تتجولان كغيمات متلاطمة، تبحثان عن نقطة ثابتة في بحر من الفوضى، وعقله كان على وشك الانفجار، كقنبلة موقوتة تتأهب للانطلاق في كل لحظة.
مشاعره تتضارب كأمواج البحر الهائج، تُقذِف به يمينًا ويسارًا، كأن الثواني التي تلت تلك الكلمات كانت ثقبًا أسود يمتص كل شيء، ويتركه عالقًا في دوامة من المشاعر المتناقضة.
كانت عواصف الغضب تدور في رأسه، تحمل معها شظايا من الماضي وآلام الفراق، بينما واقعهم يشتبك مع خيوط الأمل المكسور.
أعاد خصلاته للخلف بقوة وفي تلك اللحظة، أدرك أنه في خضم معركةٍ لم يكن مستعدًا لها، مع انفعالات تتقاذفه، وذكريات مؤلمة تنفجر في ذاكرته، تاركةً له أسئلة بلا إجابات، وعجزًا لا يُحتمل.
*********
في زوايا الروح، يختبئ شعورٌ مخيف كالعواصف التي تتجمع في الأفق، مظلمة ومرعبة، مهددة بإغراق العالم في ظلام دامس، ماذا لو كانت كل لحظة عشتها، كل ضحكة، كل دمعة، ليست سوى أوهام مُحاكة بعناية، كخيوط عنكبوت متشابكة في فخٍّ محكم؟
تتساقط الذكريات كأوراق الخريف، يعبث بها الهواء وكأنها ليست أكثر من بقايا أحلامٍ مكسورة، تذروها الرياح بعيدًا، يخفق القلب بتوتر، كعصفور محبوس في قفصٍ، يتمنى الحرية لكن الخوف يثنيه عن الطيران.
تدافع «مهاب» نحو المستشفى كالعاصفة التي تندفع دون وجهة، يحمل في قلبه عبئًا من الصدمات والهموم، كانت كلمات «يامن» تتردد في أذنه كصدى رصاصات تخترق جدران صمته، تاركةً جراحًا غائرة في نفسه، كل خطوة كان يخطوها نحو المستشفى كانت كأنما تحمله فوق رمال متحركة، تتسرب منه كل آماله ويقينه بأن الأمور ستتحسن.
عندما وصل، وقف للحظة في بداية الممر، كمن واجه جبلًا شاهقًا، نظر للذي أمامه ولم يكن سوى «متولي» ينتظره.
كانت ملامح «متولي» مشدودة، عينيه تتأملان «مهاب» بغضبٍ جامح، تنهد «مهاب» بقوة، وكأن كل الهواء الذي كان يحمله في صدره قد تلاشى دفعة واحدة، ترك خلفه فراغًا هائلًا كفجوة في قلبه.
_بأي حق بنتي تكون في المستشفى وحالتها بالشكل ده وأنا معرفش؟
كان معه كل الحق في حديثه الصارم، مما جعل الآخر ينبس بكل هدوءٍ واحترام:
_مكنتش حابب أقلقك، كنت هعرفك بس كنت مستني حالتها تستقر.
مرر بصره بينه وبين «مالك» الذي أشار له بعينيه بأن يهدأ في حديثه وكأنه يطمئنه داخليًا، ليعيد تصويب نظراته نحو «متولي» مجددًا قائلًا:
_كان سوء تفاهم وخلص، وأنا أوعدك والله ما هخلي حد يمس شعرة منها تاني، أنا تعبان ومش قادر استحمل أي حاجة دلوقتي غير لما أشوفها كويسة..
_ما أنا من حقي أعرف إيه هو سوء التفاهم اللي حصل عشان يخلي حياة بنتي بالشكل ده هنا في المستشفى؟
اردف بحدة أقل من ذي قبل، ليتنفس «مهاب» الصعداء مفجرًا قنبلته في وجهه:
_عصابة، «غنى» كانت مخطوفة في عصابة متواجدة عندنا في الحارة، نهايتها بكرا بالكتير!
هنا تدّخل «مالك» يحاول أن يلطف الأجواء وأيضًا بأن يجعل «متولي» يهدأ ليخفف الحمل على صديقه المنهك:
_عم «متولي»، الموضوع شغال فيه مخابرات وبوليس وليلة كبيرة، وللأسف هي اتاخدت في الرجلين واتخطفت من الحارة، بس الشرطة مش ساكتة أصلًا وكل حاجة هتتحل خلاص، الدكتور لسه مطمنك عن حالتها وقالك خلال بكرا هتفوق، خلاص بقى والله «مهاب» ما قصده أي حاجة ده رمى نفسه في النار عشان يساعدها وخاف يعرفك يحصلك حاجة.
هكذا برر مع التحفظ ببعض الأمور التي لا يجب أن يعرفها «متولي»، والذي تنهد ولم ينبس بكلمة أخرى، تحرك «مُهاب» ليجلس على كرسي بعيد واضعًا رأسه بين يديه وكل كلمة من «يامن» وأيضًا «زين» تتردد في أذنيه، حتى أنه يفكر في والدته.. ووالده، وكذلك «غنى» حينما تستيقظ وكيف ستكون حالتها..
_مالك ياصاحبي؟
سأله «مالك» بتنهيدة قوية وهو يجلس بجوار «مهاب»، واضعًا يده بحنان فوق كتفه كمن يحاول أن يحمل معه بعض أثقال العالم:
_كُلي هموم وسموم، عايش في صحرا وضايع وسط رمالها.. كل ما افوق الدنيا ترميلي مصيبة ترجعني مليون خطوة لورا، والمرة دي المصيبة أكبر، رمتني من السما السابعة للأرض.
ظل «مالك» يربت على كتف «مهاب» بحزنٍ جلي، كما لو كان يحاول أن يمد له بعض القوة المفقودة. ثم قال بنبرة مفعمة بالمواساة:
_ربنا عارف قوتك وبيختبرك يا «مُهاب»، متضعفش وخليك زي ما أنت واقف على رجلك وواجه كل المصايب دي، الدكتور طلع وقال إن حالة «غِنى» استقرت، هي بس هتفضل تعبانة كدا كام يوم سواء تعب نفسي أو جسدي بسبب اللي مرت بيه، فخليك جنبها، هي محتجاك لما تفوق وتشوفك شخص قوي عشان يقدر يشيل من عليها الحِمل..
كأن كلمات «مالك» كانت كالأمواج التي تعيد الحياة إلى الشاطئ، تملأ روح «مهاب» بشيء من الأمل المفقود.
شعر بأن صديقه يمد له جسرًا من الثقة، يُعيد له معنى الوجود وسط كل الفوضى.
_أنت الصاحب اللي بجد يا «مالك»!
نبس بها «مُهاب» بتنهيدة قوية مع ابتسامة تحمل الامتنان لصديقه، ليردف الآخر بسخرية:
_لا أنا أخوك غصب عنك، مجمعناش رحم واحد، بس الظروف خلتنا واحد.
الإمتنان شمل نظراتهما وحملت في عمقها وعدًا بأنهما سيواجهان هذه العاصفة معًا، وأن الصداقة ستظل ضوءًا في نفق مظلم، يتسلل من بين الجدران الثقيلة، مُعطيًا «مهاب» القوة التي يحتاجها ليكون هناك من أجل «غنى»، وعائلته وحتى نفسه، رغم كل الآلام التي تعصف به.
********
في زحام الذكريات، يبدو الماضي كغيمة ثقيلة تتجمع في سماء القلب، تظل تراقبني من بعيد، ثم تنقض فجأة كعاصفة، حاملةً في طياتها رياحًا عاتية تجرف كل ما كنت أحسبه ثابتًا.
تتراقص الصور أمام عيني، كأشباح تتنقل بين زوايا روحي، تصرخ في وجهي بعبارات من الألم، وكأنها تشدد على أنني ما زلت مُعاقبًا على أخطائي.
تلك اللحظات، التي اعتقدت أنني قد دفنتها، تخرج الآن من قبورها كوحوش متعطشة للانتقام، أرى نفسي في مواقف سابقة، حيث كنت أتوسل للمغفرة من الزمن، وكأنني أقول له:"لا تنسى أنني كنت هناك، كنت إنسانًا ضعيفًا".
لكن الزمن لا يُظهر الشفقة، بل يمضي كالسهم، يدق على أبواب ذاكرتي برنينٍ مؤلم، وكأنني أسمع صدى آلامي يتردد في الفضاء الواسع.
كان «يامن» جالسًا في غرفته، محاطًا بجدرانٍ تحمل رسوماتٍ متنوعة تتراوح بين تجسيد لوجه «لوتين» بكل تفاصيله الجميلة وبين لوحات تعكس حزنًا دفينًا يعتصر قلبه. كانت الألوان الداكنة تتداخل مع أخرى باهتة، وكأنها تعبر عن صراعه الداخلي الذي لا يفارق روحه.
أمسك بصورة قديمة تجمعه مع والديه، حيث كانت الابتسامة تزين وجوههم، ولكن الآن، تلك الابتسامة تحولت إلى ذكرى مؤلمة.
سقطت دموعه بغزارة، مثل أمطار رعدية، تهطل بلا انقطاع، وراح يبكي بانهيارٍ شديد، وكأن الألم الذي كان يحمله منذ زمن قد انفجر دفعة واحدة.
_كان نفسي أكون معاكم، زي أي واحد عايش مع أمه وأبوه، فاكر نفسي قوي وقادر، بس أنا محتاجلكم أكتر من أي حاجة، مشبعتش منكم، مشبعتش من حنانكم ولا امانكم.. حقكم راجع، وراجع بكرا خلاص، اتأخرت سنين وأنا عارف إن روحكم مرتاحتش، بس خلاص كل واحد بكرا هيدفع التمن غالي أوي.
همس بصوتٍ مكسور، وارتعشت شفتاه في محاولة منه لاحتواء العواطف الجياشة.
تدور في ذهنه ذكريات متفرقة، يخرج من ظلمة حزنه ليجد نفسه مع «فرحات»، الذي كان الملاذ الوحيد له في زمن الظلم.
يتذكر بوضوح لحظة الاتصال، كيف كان صوت «فرحات» يتردد في أذنه كنبض قلبٍ ينبض بالأمل.
_«سليمان» هو السبب في اللي إحنا فيه، هو رفض وقال مش حابب نكمل مع العصابة دي وقولناله ماشي بس الكلام ده كان بعد ما اتفقنا معاهم وبدأنا نشتغل شوية، خد القرشين وطلع نفسه من الحوار، وكنا لسه أنا وأبوك لينا فلوس معاهم وشغل بنخلصه، راح بلغهم إننا هنبلغ البوليس وكانوا عاوزين يخلصوا علينا، وللأسف لما أبوك وقفلهم قالهم إنه لو حصل منهم أي حاجة شر هيبلغ البوليس فهما قتلوه..
قالها «فرحات» بلهجة قلق ليسأله «يامن» الذي يتحدث رفقته عبر الهاتف من خارج البلاد بنبرة مرتجفة:
_يعني «سليمان» هو السبب؟ طب أنت هتعمل إيه؟
_أنا ههرب على أخويا عايش في حارة بعيدة كدا شوية ومحدش يعرف عنها حاجة، هحاول أفضل هناك ومظهرش وشي لحد خالص، يمكن أعرف أهرب واجيلك يابني، خلي بالك من نفسك أنت وصية أبوك ليا.
عاد من ذكرياته التي شملت كل شيء وصله حتى بعدها بسنينٍ حينما بدأ يدرس القانون ويعمل لصالح الشرطة ووصله خبر العثور على جثة «فرحات» ولكنه لم يراها حتى..
قام من مكانه، وأخذ يخطو بخطواتٍ متثاقلة في الغرفة، وكأن ثقل العالم كله يثقل كاهله، زفر بعمق، متمسكًا بالصورة التي في يده، كأنها آخر جسر يربطه بذكرياته.
_مش هنسى، مش هخليهم يضيعوا دمكم هدر
قالها بتصميم، وعيناه مليئتان بالدموع التي لم تجف بعد، لكنه في أعماقه كان يشعر بشعلة من الانتقام تتقد، تُشعل في قلبه عزمًا لم يشعر به من قبل.
***
صراعي الداخلي يتجلى كمعركة شرسة، تُلقي بي بين أسود الهزائم وألوان الفشل، أشعر بأنني في قارب مُتهالك، يتلاعب به موجٌ متلاطم، وكأن كل صرخة أطلقها في ذكرياتي تُعيدني إلى قاع البحار المظلمة، حيث لا ضوء ينفذ، ولا أمل يلوح في الأفق.
تتلاشى ألوان الحياة من حولي، لأجد نفسي محاطة بظلال الخسارة لأعز من أملك ولم تكن سوى «أمي» والندم على صمتي في وجه أعدائي، أتنفس من خلال غيوم الغضب، وكأن كل زفير يحمل معه جزءًا من وجعي، بينما تتأجج نيران الرغبة في الهرب، في نفي الذات عن كل تلك الذكريات التي تلاحقني ككلبٍ جائع.
تفكر في «زين» وأين هو منذ لم يأتي لها حتى الآن بعدما وعدها بأنه سيبيت معها هنا..
كانت شاحبة الوجه، وعينيها تائهتين تبحثان عن الأمل وسط جدران هذا المكان البارد، كانت مشاعرها تتأرجح بين الخوف والضعف، وعقلها يلتف حولها بلا رحمة
وعلى حين غفلة دخل «فادي» الغرفة، كأنه ضوء شمس قاتم يغزو الظلام.
_مساء الخير يا مراتي يا حلوة، كدا تغيبي عليا يومين؟
قالها بصوتٍ مليء بالاستفزاز، ابتسامة مريبة ترتسم على وجهه، كانت نظراته تلاحقها كظلٍ ثقيل، وكأنه يرسل إليها سحبًا من الخوف.
تجمدت «ماسة» في مكانها، وكأن الوقت توقف، ولكنها لم تترك مجالًا للضعف أمامه أو الصدمة لتسيطر عليها، وعندما تفجر الغضب بداخلها، صرخت في وجهه بكل ما في جعبتها من إحباط:
_أنت إيه دخلك هنا يا بجح، أمشي من هــنا، غــور.
تقدم لها أكثر ومال نحوها، ليكون وجهه مقابلًا لوجهها وهو يقول بابتسامة شامتة بها:
_لا أهدي كدا، إحنا قدامنا أيام حلوة جاية، بس هسيبك تهدي كدا وتروقي عشان نروق لبعض.. اه متنسيش إنك مراتي يعني «زين» الحلو أوي مينفعش تتجوزيه..
غادر من أمامها بعدما ألقاها من أعلى الجبل غير عابئًا بحالتها تلك، اندفعت دموعها بغزارة، وكأنها نهر يتفجر في وسط عواصف هوجاء، راحت تبكي بشدة، تفجر بداخلها الألم والقلق، وكأن جراح الماضي قد انفتحت من جديد.
كانت تود لو أن بإمكانها أن تختفي، أن تبتلعها الأرض، لكن الخوف كان يربطها بالسقف، كما لو كانت كفريسة محاصرة بين أنياب الوحش.
وفي تلك اللحظة، دخل الطبيب إلى الغرفة، وخلفه كانت والدتها «سلوى» التي كانت تشتري شيء ما من الأسفل وعندما صعدت وجدت الطبيب يركض لغرفة «ماسة»، تسارعت نحوها لكن «ماسة» لم تستطع السيطرة على نفسها، وصرخت في وجه والدتها بحدة، وكأنها تُخرج كل كبتها:
_امشي أنتِ كمان، مش عاوزة أشوف حد منكم، مش عاوزة أشوف حد، امشوا.
انفجر الغضب في عينيها، وكأنها تنفجر في بركانٍ خامد. كانت ذراعيها تتأرجحان في الهواء، وكأنها تحاول دفع والدتها بعيدًا.
_لو سمحت يا مدام تتفضلي عشان حالتها دي.
قالها الطبيب بترجي، ثم أخرج إبرة مهدئ ليعطيها للثائرة تلك حتى تهدأ تمامًا.
إنهيار،
عذاب،
فقدان،
مشاعر عدة متداخلة، جميعها مؤلمة وتسبب لها الهزائم.
إنهار القلب في بحر من الدموع، عذاب الروح في خبايا الجروح، أيامٌ تمضي بلا أي ملامح، وضياعٌ ينهش في جسدٍ منهك كالصروح.
تتراقص الآلام كأشباحٍ في الظلام،
تخنق الأنفاس، وتسرق النوم من الأعين،
تصرخ في جوف القلب بعباراتٍ مكبوتة،
وتترك فيه جروحًا تظل تنزف بالمعانِ.
**********
لم تهدئ روحه، ولم يستكين جسده، بل غادر لمنزله يقبض في سرية تامة عينة من والده، وأخذها نحو المختبر الذي ظل فيه طيلة اليوم ينتظر خروج النتيجة.
في غرفة صغيرة بالمستشفى، كان «زين» يجلس على الكرسي، يراقب الطبيب وهو يتجه نحوه بخطواتٍ ثقيلة، كأن كل خطوة تحمل عبئًا ثقيلاً.
عينيه كانت متعلقة بوجه الطبيب، متسائلاً عن نتيجة تحليل النسب الذي انتظره بفارغ الصبر.
_أزيك يا «زين»؟
بدأ الطبيب حديثه بصوت هادئ، لكنه كان يحمل طابع الجدية.
رد «زين» بصوتٍ مرتجف:
_الحمد لله، يا دكتور. أنا مستني النتيجة..
توقف الطبيب لحظة، أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال:
_للأسف، النتيجة جت وبتقول إنك مش ابنهم.
تجمدت ملامح «زين» وكأن الزمن قد توقف، سقطت الكلمات كالصاعقة على رأسه، لا يستطيع استيعاب ما سمعه.
_يعني، إزاي يعني؟
رد «زين» بصوتٍ خافت، محاولًا تقبل الفكرة.
_بص، بالنسبة للحمض النووي، مافيش أي تطابق بينك وبينهم، وده يعني إنهم مش والديك البيولوجيين.
تسارعت دقات قلب «زين»، وبدأت الدموع تتجمع في عينيه، ليكمل الطبيب بأسفٍ:
_أنا آسف، كان ممكن أقدر أقولك إن ممكن يكون فيه لبس أو غلط، بس النتيجة واضحة.
مد يده وأخذ التقرير منه وهو يومئ برأسه، ثم غادر المستشفى يسابق الريح، نحو سيارته تحديدًا التي قادها بسرعة جنونية، يفكر في كل شيء عرفه للتو، «يامن» فتح عليهم جميعًا أبواب الجحيم.
وعلى الجانب الآخر بعدما غسل وجهه ليذهب نحو غرفتها حتى يراقب أوضاعها أتاه إتصالًا من أمه فأجاب سريعًا خوفًا من أن يكون بها شيء برغم تواجد «مروة» معها:
_إيه يا «هاجر» أنتِ كويسة؟
تنهدت الأخرى قائلة:
_كويسة ياحبيبي متقلقش، بس الحارة مقلوبة بنت الشيخ حسني توفاها الله، تعالى يابني عشان تعزيه وطمني على مراتك!
