رواية ابني ابنك الفصل السابع عشر17بقلم امينة محمد


رواية ابني ابنك

 الفصل السابع عشر17

بقلم امينة محمد

 «خيم الظلام»

هنا حيث تنزف الأرواح قبل الأجساد،
ميدان معركة لا يرحم،
أنت إما قاتل أو مقتول،
الصياد أو الفريسة.
وفي بداية الأمر، دعني أوضح لك يا صديقي، أننا في معارك الحياة البشرية.
إذا تعاملت برفق ولين، فلن يكتب لك النجاة،
وإذا تعاملت بوحشية،
لن تفلت من المصير ذاته.
في النهاية، سواءً كنا ذئابًا أو ضحايا، سنصبح عظامًا خاوية، بلا لحم أو دماء، وسنلقى مصيرنا المحتوم في ظلال القبور
تقدم الرجال كالعاصفة الهوجاء، وبدأت الاشتباكات بعنف لا رحمة فيه، هو يهوي بيديه وقدميه كالمطرقة، يسحق من يقترب، ثم لمح عصا خشبية ضخمة ملقاة على الأرض، فقبض عليها كمن يجد سلاحه المنشود، وبدأ يضرب بها بقوة تعادل اندفاعه.
في الجهة الأخرى، كان «زين» محاصرًا بأربعة رجال، وكأنه وسط عاصفة من الأعداء، يهاجم بشراسة ويقاوم بكل ما أوتي من قوة، لكن العدد كان يغلبه، مهما بلغ من صلابة بنيته وشدة عضلاته.
فجأة، كاد أحدهم أن يوجه ضربة قاتلة نحو رأسه، إلا أن «مُهاب» اندفع كصاعقة، يهوي بالعصا على خصمه، ليصيح محذرًا:
_خلي بالك!
شعور العجز كان يسري لأول مرة بينهما، كأن الأرض تحت أقدامهم تئن.
وقفا بظهريهما ملتصقين، محاصرين وسط دائرة من الأعداء المتربصين. مصيرهما بدا محتومًا... إما أن يسقطا في قبضة الموت، أو أن يتشبثا بالحياة، غير أن النجاة لم تكن تلوح في الأفق، والخطر كان وحده المتربص بهما، يشم رائحة الخوف ويتأهب للانقضاض.
ولأن الموت كان حتمي، خرج من السيارة بخطوات ثابتة، يكسوها ثقل المصير المحتوم، خلفه صفٌ من الرجال لا يلينون، بينما أمامه المساكين قد توسعت حدقات أعينهم كمن صحا من غفلة طويلة.
«صادق حكيم»... ذلك الذي أقنع «سليمان رشوان» بأنه مجرد رجل أعمال يتاجر في الاستيراد والتصدير، لكن ها هو يقف أمامهم، يجسد كذبته بحضور قاسٍ.
و«زين»، بتلك النظرة المصدومة، وقف مبهوتًا. شفتاه تتحركان، ولكن ما كان يجول في عقله كان أشد. المفاجأة جعلته أشبه بمن تلقى طعنة في الظهر دون أن يدرك مصدرها، وبنبرة مهزوزة تحمل بين طياتها الصدمة تسائل زين:
_أنت؟ أنت بتعمل إيه هنا؟
«صادق» ضحك، ضحكة تعلو كصفعة على وجه الحقيقة التي كان يخفيها، كان المشهد برمته يتلون بخيوط الخيانة، تلك الضحكة لم تكن مجرد صوت؛ بل كانت إعلانًا عن اللعبة الكبرى، التي بدأت تتكشف تفاصيلها أمام أعينهم.
اللعبة التي لم يكن فيها الخداع إلا أول خطوة نحو النهاية..
_أنا السبب إنكم هنا أصلًا، فاكرين المكالمات الجميلة اللي كانت بتجيلكم، أنا اللي كنت بكلمكم، صدمة صح؟
تلاقت نظرات «مُهاب» و«زين»، لحظة ثقيلة، كأن الزمن توقف ليسأل عن معنى كل هذا العبث، كيف يمكن أن يكون «يامن» يعرف الحقيقة ولم يخبرهم؟ كانت اللعبة أكبر مما تخيلوا، كل خيط فيها متشابك بالغدر والخيانة، كشبكة عنكبوت تسحبهم إلى الهاوية.
كان الصمت الذي تلا النظرات يعكس حجم المأساة التي باتت تحيط بهم، مثل حبل مشدود يلتف ببطء حول أعناقهم.
أما «صادق»، فقد استمر في حديثه بثقة مستفزة، نبرته تمزج بين الاستهزاء والازدراء، كذئب يعرف أن الفريسة قد انتهت، كان واثقًا أن مصيرهم قد كُتب، والموت هو النهاية الحتمية التي تنتظرهم في هذه اللعبة المميتة. ابتسامته كانت كالنصل البارد، تخترق روحهم قبل أن ينطق بها، كأنه يروي قصة مؤلمة يعلم أن نهايتها مأساوية، ولكنه يستمتع بسردها ببطء متعمد، ليزيد من عذابهما:
_أنا مش عارف ليه «سليمان رشوان» فارق معاه المليون جنية كدا ولحد دلوقتي لسه بيبعتكم تدوروا عليهم، بس خلونا نمشي واحدة واحدة واحكيلكم حدوتة حلوة آخرها الموت بما أنكم ميتين كدا كدا، ما أصل مينفعش تموتوا وأنتو متعرفوش حاجة..
ثم تأتي لحظة الحقيقة كضربة موجعة، كلمات «صادق» كانت كسياط تُجلد بها أحلام «زين» و«مُهاب»، كشف الأوراق أمامهما كمن يلعب بلعبة لا تهتم بأرواح الآخرين:
_«زين رشوان» ابن الباشا الكبير صاحب الفندقين «سليمان رشوان»، بصراحة إحنا مش قاصدينكم لتكونوا فاكرين بس نفسكم حاجة، اللي قاصدك أنت وأبوك عدو كبير فقولنا بما إننا كدا كدا بنلف على رجال الأعمال ناخدكم في الرجلين مش مشكلة، خدنا النص مليون ولسوء الحظ الشديد أنت عملت حادثة بيهم، بس سرقناهم من المستشفى بما إننا متابعين كويس خطواتكم، بكل أسف كان واقع «مُهاب» إختيار الباشا الكبير عشان نلهيه بعيد عن الحارة وعن اللي ممكن يحصل فيها، وهو حظه الوحش إنه وقف وساعدك فقولنا ناخده في الرجلين وهيوفر علينا مجهود كبير بما إنه عقله شغال ومتابع حارته كويس أوي!
النصف مليون الذي سُرق، الحادثة التي قلبت حياتهما رأسًا على عقب.
«مهاب»، بصدمةٍ لم يستطع احتواءها، نبس بإستنكار من داخل جوارحه، متسائلًا عن سبب تورطه في هذا المستنقع المظلم، كيف أصبح مجرد رقم في حسابات عصابة لا تعرف الرحمة؟ كانت كل كلمة تخرج من فمه كمن يحاول أن يتنفس في بحر من الغموض والضياع:
_خدتوني في الرجلين عشان متابع حارتي، طب «سليمان رشوان» وليكم عنده تار، أنا مالي، أهلي مالهم، مراتي مالها؟
_أوبس هي مراتك ضمن اللي اتاخدوا؟ أقولك إختيار مين ومتزعلش مني.. أبوك!
ابتسم بسماجة لتتوسع حدقتي «مهاب» مصدومًا وهو يكرر تلك الكلمة التي وقعت على اذنيه كصاعقة:
_أبويا؟
كلمة صغيرة، لكن وقعها كان كالسيف الذي شطر قلبه نصفين. كيف يمكن أن يكون والده هو السبب؟
الدنيا حوله بدأت تضيق، وكأن الهواء نفسه قرر التوقف عن مساعدته في التنفس.
أكمل «صادق» بحقارته وقام بوضع قناع المسكنة المزيفة:
_وأبوك هو السبب إننا نلففك مع «زين» بالشكل ده، لأنه من أول يوم رجلينا اتحطت فيه فالحارة كان معانا، مش من قريب ولا حاجة، بالعكس إحنا كان معانا «شحتة» وهو سمعنا وإحنا بنتفق معاه وورط نفسه معانا..
خذلان الأب كالسهم المسموم،
يغوصُ في الصدر، بلا رحمةٍ أو لوم،
أبٌ كان جدارًا، فانقلب حطامًا،
وغدا كالسيف الذي خُبّئ في الظلامِ.
_اللي بتفكر فيه دلوقتي صح، أبوك هو اللي قالنا عن كل تحركاتك أنت و«زين» ووقتها كنا بنتصل بيكم نتسلى بيكم شوية..
يا لليل العمرِ، كم طالت لياليه،
كلما ظننته الفجر، خنقتني عواصفه ومآسيه.
كان الوعد أملًا، فإذا به سرابُ،
تاهت بي الخطى، والجرح ما زال مُصابُ.
تذكر حينما حاول مرارًا وتكرارًا بأن يجعله يستقيم على خُطى صحيحة سليمة، ولكنه خذله وخدعه، كان السبب في دماره.
كشجرةٍ زرعتها في أرضٍ مالحة،
أرويها حُبًا، فتنبتُ شوكًا جارحة.
حصدتُ الوعودَ، فكانت ريحًا عاتية،
أخذت كل شيء، وتركتني أرواحًا باكية.
يا أبي، أين الأمانُ الذي وعدتَ؟
وأين الحلمُ الذي في قلبي غرست؟
أنتَ من أشعلت النار تحت سفينتي،
وتركتني أغرق في بحارِ الوحدةِ والشتاتِ.
خذلتني كما يخون الليل ضوء القمر،
وتركتني جسدًا هائمًا في سكون القدر.
يا ليتني عرفتُ قبل أن أسير خلف السرابِ،
أنت كنت ليل الهلاك، لا صبح الإياب.
وقف «زين» مصدومًا، عيناه تحدقان في «صادق» وكأن الزمن توقف، تساؤلات تعصف بعقله مثل رياح عاتية، تدفعه نحو هاوية لا يعرف لها قاعًا، جسده كان ثقيلًا، كأن الأرض سحبته نحوها، وروحه تقف على حافة الانهيار، غير مصدق لما يسمعه.
كيف يمكن أن يتورط والده في كل تلك الأمور المظلمة؟ كيف لأبيه، الذي لطالما اعتبره مثالًا للكرامة والشرف، أن يكون له يد في هذا المستنقع؟
التفت إلى «صادق» بعينين مرتجفتين، محاولًا السيطرة على صوته المهتز:
_إزاي؟ إزاي بابا يكون ليه علاقة بكل ده؟ ومين عدوه اللي بينتقم منه، بابا عمره ماعمل حاجة في حد!
ابتسم «صادق» بسخرية لاذعة، كانت ابتسامته كلسعة نار في قلب «زين»، وكأنه يستمتع برؤية آلامه.
اقترب منه بخطوات بطيئة، كذئب يتلذذ بفريسته قبل الانقضاض عليها، في عينيه وميض من الحقد القديم، وفي صوته نبرة تنضح بالغل المتراكم:
_أبوك؟ أبوك كان سبب في موت أهل «يامن الجمّال» ابن «علي الجمّال» طبعًا أنت وأختك كنتوا في مدرسة داخلية مكنتوش تعرفوا أي حاجة عنهم لحد ما خلصتوا ودخلتوا جامعات برا مصر، ولما رجعتوا كانت كل الجرايم والدم ده اتمحى، اللي أنت مش عارفه إن الصداقة اللي جمعت بينهم، بين أبوك و«علي» وتالتهم «فرحات» كان نهايتها دمار وموت وأبوك الوحيد اللي طلع منها"
الكلمات كانت كالسكاكين، تغرس في قلب «زين» واحدة تلو الأخرى، شعوره بالخيانة كان أشد من أي ألم جسدي. شلال من الذكريات يتدفق في رأسه، لكنه لا يجد أي خيط يُفسر كيف كان والده جزءًا من تلك الكارثة.
«صادق» استمر في إلقاء سمه، كأنه يريد أن يحرق كل ذرة أمل بقيت في روح «زين».
اقترب أكثر، حتى كاد أن يهمس في أذنه، نبرته ازدادت شرًا وكراهيته كانت واضحة كالشمس:
"عرفت ليه «يامن» عايز ينتقم؟ لأن أبوك كان السبب في موت أهله، وهما اللي دفعوا التمن غالي، صداقتهم الثلاثية دي كانت مجرد خدعة كبيرة، وكانت نهايتها النار اللي ولّعت في عيلة «يامن»."
في تلك اللحظة، شعر «زين» أن الهواء من حوله اختفى، كأن صدره قد ضاق فجأة ولم يعد يستطيع التنفس. العالم من حوله بدأ ينهار ببطء، كلوحة جميلة مزقتها يد غادرة.
كانت عيناه تجول في المكان وكأنها تبحث عن شيء يستند إليه، عن نقطة ارتكاز تخرجه من هذا الجحيم.
بكل أسف،
الإثنان تركا زمام الحياة،
وتقبلا صدمات قوية،
لم يتحملها قلبهما.
الأصوات من حولهما خفتت، وصدى كلمات «صادق» كان يتردد في عقلهما كجرس نحاسي يقرع في الفراغ.
والد كل منهما السبب في كل ما هما به الآن؟
تردد السؤال في ذهنهما، لكنهما لم يجدا أي إجابة، كل ما شعرا به هو ثقل الحقيقة، كجبل يجثم على صدرهما، وروحهما تتخبط بين الخيانة والصدمة، وكأنهما يغرقان في بحر من الغموض والأسئلة التي لا إجابة لهما.
_أنا عاوز مراتي.
نبس بها «مُهاب» بنبرة أكثر حدة وهو ينظر تحديدًا بداخل أعين «صادق»:
_أبقى شوفها في الجنة إن شاء الله، ما أنت هتحصلها..
ثم التفت يغادر المكان وأشار بيده للرجال حتى ينهوا وجودهما، ولكن صدر صوت صفير سيارات شرطة في المكان، وعُرف الجبان دومًا بالجبان.. لذلك تحرك «صادق» سريعًا ناحية سيارته وغادر بها المكان بسرعة البرق، بينما «مُهاب» رفع العصا وضرب الذي أمامه ثم جذب «زين» وجعله يركض بقوة من المكان بأكمله..
المكان الذي حاصرته الشرطة، وقبضت على من استطاعت، والباقي فر من المكان..
جلسا بعيدًا، يحاولان استيعاب ما يحدث حولهما، وكأن الجدران نفسها تضيق عليهما، تضغط على أنفاسهما مثل حبل يلتف ببطء حولهما، كان الصمت بينهما كثيفًا، كغيمة سوداء لا تحمل معها سوى ثقل الحقائق المكشوفة، وألم الخيبات المتكررة.
تنفس «زين» بصعوبة، كمن يخرج ما بداخله من سموم الأفكار الملتفة حول عنقه، وصوت عقله أصبح مرتفعًا لدرجة أنه لم يعد يستطيع كتمه.
قال بصوت متهدج وهو يحاول ترتيب أفكاره المتشابكة:
_«يامن» كمان كان بيخدعنا، كان عارف حاجات كتير ومقالهاش، خدنا على خوانة، زي أبوك وأبويا، وقعونا في حاجات كتير ملناش ذنب فيها.. فيه حاجة ناقصة!
كانت عيناه مليئتين بالأسى، وكأن الحقيقة التي أُجبر على مواجهتها أكبر من أن يستوعبها. كانت كلماته مثل طعنات متتالية، تصيب قلبه قبل أن تصل إلى مسامع «مهاب».
بينما «مهاب» تنهد بعمق، مسح وجهه بحركة عنيفة كمن يحاول نفض التعب من جسده، لكنه كان يعلم أن التعب ليس في جسده فقط، بل في روحه المثقلة بالخيبات.
قال وكأنه يحاول فهم اللغز الذي التف حولهم:
_فعلًا فيه حاجة ناقصة، مع إني كنت شاكك في إن اللعبة دي مش كلها عصابة بيتاجروا في الأطفال، بس كنت وثقت في «يامن».
رفع «زين» عينيه نحوه بحدة مفاجئة، وكأن شرارة الغضب قد اشتعلت داخله:
_وهنفضل ساكتين، قوم نروحله نكلمه..
لكن «مهاب» هز رأسه برفق، لم يكن الأمر بتلك البساطة، لقد أصبحا جزءًا من لعبة أكبر منهما، لعبة لم يعد من الممكن إدارتها بالعواطف وحدها.
ربت على كتف صديقه في محاولة لتهدئته، وكأن لمسته كانت جسرًا بين الفوضى والهدوء الذي يحتاجه:
_مش إحنا اللي هنكلمه، اللعبة بقت عالمكشوف.. «مهاب» اتورط في عصابة عشان أبوه عاوز قرشين يجيب بيهم حشيش، و«زين» اتورط في نفس العصابة عشان أبوه كان السبب في موت أهل واحد جاسوس بينهم خدعنا، كل الاسئلة اللي فدماغنا هنسألها «ليامن» لما يجي هو ويكلمنا..
كلماته كانت مثل صخرة ثقيلة ألقيت في بركة ماء راكدة، لتثير في داخلهما موجات من التساؤلات والخوف. كانت الحقيقة واضحة، مريرة، لا مجال للهرب منها.
********
بين أروقة المستشفى كانت «ماسة» في غرفتها، وحيدة، تبكي في صمتٍ مخنوق، دموعها تسيل بحرقة على وجهها الشاحب، كأنها تجسد كل لحظة ألم مرت بها.
شعرت بجسدها يثقل أكثر مع كل تنهيدة، كأن كل جزء فيها يستغيث، يئن من الداخل، يبحث عن ذلك الشعور الزائف بالراحة الذي كانت تجده في كوب مشروبها اليومي.
فكرة صادمة اخترقت ذهنها فجأة، عندما أدركت أن ما كانت تحتسيه كل يوم ليس مجرد "قهوة بالحليب" كما كانت تظن، بل كانت تحتوي على شيء آخر، شيء يخدر عقلها ويأخذها بعيدًا عن أوجاعها، شيء لم تدركه إلا الآن، حينما أصبح جسدها يطلبه بشدة، يديها تتحرك بتوتر فوق بشرتها، تحكها بشراسة كأنها تحاول التخلص من إحساس غير مرئي يأكلها من الداخل.
"أنا مدمنة!"
الكلمة سقطت على عقلها كصاعقة، تقطع كل خيوط الإنكار. كانت تبحث عن الحماية، عن الراحة، عن الأمان. لكن كل ما وجدت كان وهمًا.
في تلك اللحظة، دخل «زين» إلى الغرفة بعدما ترك «مُهاب» على اتفاقهما أنهما حينما تهدأ الأمور سيذهبان سويًا للمستشفى في منتصف الليل.
صوت خطواته الهادئة يقطع شرودها، عيناه المليئة بالقلق تتفحص وجهها المنهار، اقترب منها وحاول تهدئتها بصوته الدافئ:
_بتعيطي ليه طيب، هتبقي كويسة.. أنا هنا معاكي، متقلقيش.. مش قولتلك قبل كدا نكسر راس اللي يزعلك، وأنا هنا عشان أكسر راسهم كلهم زي ما كسرت راسه..
نظرت إليه بعينين غارقتين في الدموع، وكأنها تستغيث، لكنها لم تستطع أن تنطق بما بداخلها
فسألها بلطف:
_تحبي أخلي طنط «سلوى» تدخل؟
هزت رأسها بسرعة، رفضًا، كأنها تخشى مواجهتها.
وفجأة، دخل الطبيب النفسي إلى الغرفة، بابتسامة هادئة يطغى عليها الجدية، طلب من «زين» الخروج حتى يتحدث معها على انفراد، ولكنها تمسكت به بشدة، كأن يديه هما الحبل الوحيد الذي يربطها بالحياة الآن:
_لا.. خليك، أنا مش عاوزة أبقى لوحدي.
أومأ «لزين» الذي بالأساس لم يتزحزح بل ظل مُمسكًا بيدها، بلغة الحب خاصتهما فقط، والذي نبس يواسيها:
_مش هسيبك حاضر، أنا معاكِ..
تنهد الطبيب قائلًا:
_تمام، خدي نفس كدا وأهدي.. يعني اعتبري نفسك قاعدة لوحدك قدام مراية وأنتِ بتكلمي نفسك عشان تقدري تطلعي كل اللي جواكِ..
كان نظره إليها بعينين مليئتين بالتعاطف، وانتظر حتى تستعيد توازنها قليلاً.
وبصوتٍ محمل بالقهر، بدأت «ماسة» تتحدث:
_أنا مش عارفة ابتدي منين.. حياتي كانت حلوة، كانت ألوان.. بس فجأة اتقلبت لسواد.. أول حاجة صدمتني.. موت بابا، مات فجأة وسابني لوحدي.. هو كان كل حاجة في حياتي.. كان بيعوضني عن أي حاجة.
كانت الكلمات تخرج منها كأنها تنزف من قلبها، مسحت دموعها بيد مرتجفة وشددت بالثانية على يد «زين» وأكملت:
_أمي.. أمي مكنتش بتهتم بيا أبدًا، حتى وهو عايش.. كانت بتجري ورا شغلها.. ورا نفسها.. بس هو كان دايمًا موجود.. ولما مات.. بقيت وحيدة.. وهي راحت اتجوزت.
صوتها بدأ يهتز أكثر، وكأنها تقف على حافة الانهيار: _أول ما «محمود» دخل حياتنا.. كل حاجة بقت أسوأ.. أمي قالتلي إنه في مكانة بابا وإنه هيهتم بيا.. بس من يومها وأنا بعاني.. من تسلطه.. من تحكماته.. و«فادي» مكنش بيتدخل.. لحد ما لقى أبوه ماسك فيا في كل حاجة.. وبدأ يضايقني..
مع كل كلمة، كانت مشاعرها تتفجر أكثر، الألم الذي كانت تخفيه لسنوات طويلة خرج منها كطوفان لا يمكن إيقافه، انهارت في بكاءٍ حاد، وكأنها فقدت كل قدرة على المقاومة.
نظر الطبيب إليها بصمتٍ للحظات، ثم بدأ يتحدث بهدوء: _بصي يا «ماسة»، اللي أنتِ مريتي بيه صعب، فوق أي كلام.. بس انتي دلوقتي في مكان آمن، مش لوحدك.. كل ده هيخلص، إن شاء الله.. المهم إننا نبدأ نفهم إن اللي حصل مش غلطك، أنتِ مش مسؤولة عن اللي حصلك.
توقف قليلًا ليترك لكلماته الوقت لتصل إليها، ثم أكمل: _اللي حصل من والدتك ومن «محمود» مش طبيعي.. وفقدانك لوالدك كان صدمة، لكن لازم نواجه.. هتحتاجي وقت وتعب عشان ترجعي تبقي كويسة، بس انتي مش لوحدك في الرحلة دي..
مد يده بلطف ليعطيها منديلًا، وهي ما زالت تبكي، نظر في عينيها المليئتين باليأس وقال:
_خطوة خطوة، هنقدر نعدي المرحلة دي.. وأنا موجود هنا معاك عشان أساعدك تفهمي اللي جواكي.. ونقدر نتخلص منه.. بس محتاجين نشتغل مع بعض.. وكمان الأستاذ موجود واللي شايفه إنه في ضهرك وسندك، مش هيسيبك تنهاري أبدًا..
كانت كلماته بمثابة بريق من الأمل، شعرت «ماسة» أن هناك طريقًا يمكن أن تسير فيه، وإن كان مليئًا بالتحديات، كانت تعلم أن المواجهة ستكون صعبة، لكن بوجود من حولها، ربما، فقط ربما، يمكنها أن تتخطى الظلام الذي عاشته.
بعد خروج الطبيب، بقي «زين» جالسًا بجوار «ماسة»، يشعر بثقل ما تمر به، وعجزه أمام كل الألم الذي تحمله في قلبها، كانت دموعها ما زالت تسيل بصمت، بينما نظراتها شاردة، كأنها تحاول الهروب من الواقع الذي أغرقها في دوامة لا نهاية لها.
أحاطها بنظرة مملوءة بالعطف والاهتمام. قال لها بصوتٍ خافت، لكن حاسم:
_«ماسة»، أنا عارف إنك حاسة إن الدنيا ضلمت حواليكِ، وإن كل حاجة انهارت.. بس أنا وعدتك إني مش هسيبك، وكل حاجة هتتحل.. حتى لو «فادي» هو السبب في اللي انتي فيه، هخليه يدفع التمن غالي بس لازم تتماسكي، انتِ أقوى من كده.
رفعت عينيها إليه ببطء، كأنها تجد في كلماته بصيصًا من الأمل، لكنها ما زالت محطمة من الداخل.
ضغط على يدها برفق أكبر، وحاول أن يوصل لها كل دعمه:
_أنا عارف إنك اتصدمتي وإن كل اللي حواليكِ خذلوكِ، بس أنتِ مش لوحدك دلوقتي.. وأنا هنا عشان أكون سندك، نقدر نخرج من المستنقع ده سوا، بس محتاجين إنك تصدقي إنك تقدر تقومي تاني.
ترددت قليلًا قبل أن تتحدث، صوتها مبحوح من البكاء:
_بس أنا حاسة إني ضعت يا «زين».. مفيش حاجة بتربطني بالدنيا غير الألم ده.. مش عارفة أخرج منه.
أجابها بمواساة قائلًا وصوته يشع بالأمان برغم التيه الذي بداخله هو:
_بصي، الألم ده هيعدي، والضلمة اللي جواكِ هتنتهي.. كل حاجة بتاخد وقت، وأنتِ مش مضطرة تمري بكل ده لوحدك.. أنا جنبك، وهفضل جنبك مهما حصل.. لكن لازم نبدأ، نتحرك، عشان نطلع من اللي انتي فيه.
كانت كلماته كأنها خيط من النور في عالمها المظلم، لكنها ما زالت خائفة، كأنها تقف على حافة الهاوية، تتشبث بأي شيء يمنعها من السقوط.
أكمل «زين» وهو يحاول أن يزرع في قلبها بعض القوة:
_لو أدمنتِ بسبب اللي عمله فيكِ «فادي»، مش هسكت على حقك، بس الأول لازم نخرجك من اللي أنتِ فيه.. هنعدي ده سوا، وحدة وحدة.. أنتِ أقوى من اللي بتفكري فيه دلوقتي، وأنا هفضل معاك لحد ما تقفي على رجلك تاني.
نظرت إليه بتردد، لكن شيئًا في كلماته أضاء لها طريقًا. لم تكن متأكدة بعد من قدرتها على الخروج من الظلام، لكن وجوده بجوارها أعطاها الأمل بأنها لن تضطر لمواجهة هذا العذاب وحدها.
*******
وقف «يامن الجمال» أمام الجدار الكبير في منزله، حيث عُلقت خريطة تملؤها الصور والأسماء، كانت الخريطة كلوحة لعالم من الخيانة والغدر، كل صورة تمثل روحًا خانته أو كانت سببًا في سقوط جزء من حياته.
عيناه كانت مثبّتة على آخر صورة متبقية، صورة «سليمان رشوان»، العدو الذي لطالما كان في قلب تلك اللعبة القاتلة، بريق عينيه كان يتأرجح بين الحزن والغضب، وكأنهما يقتتلان داخله؛ قلبه المكسور لا يزال ينبض بتلك الذكرى التي طمست طفولته وألقت به في جحيم الانتقام.
تسللت رائحة الدخان والرماد إلى ذاكرته، وكأن المكان من حوله امتلأ من جديد بصراخ والديه المحترقين، وهو الذي تخيله عقله المسكين حينما كان يبلغ من العمر ستة عشر عامًا، حينما تحول منزله الصغير إلى لهيب يأكل كل شيء، جسده اهتز قليلًا، شعر بالبرد في صدره رغم حرارة الذكرى، وكأن أنفاسه تُسحب منه مع كل صورة يتذكرها.
لم يكن صوت الحريق وحده ما يملأ رأسه، بل صوت والدته وهي تصرخ باسمه، تطلب منه الهروب بينما كان شرفها يُنهك من الرجال، كانت العيون التي رأته حينها عاجزة، مكسورة، لم تترك له سوى الألم الذي لا يمكن إطفاؤه.
همس وهو يمرر يده على الصورة الأخيرة:
_يا ترى فاكر اللي حصل يا سليمان؟ فاكر لما بيتنا كان بيتحول لجحيم قدامي؟
_أبوكِ ياقطة كان السبب في كل حاجة.. كان سبب في قتل أمي وأبويا قدامي.. الحريقة دي كانت جوايا من يومها، وكل اللي على الخريطة دول وقعوا واحد ورا التاني، باقي هو بس، ومش قادر عشانك، عشان الوقت اللي حبيتك فيه لما طلعت برا مصر وكنتِ قدام عيني بعد ما عيشونا طفولة اسمها «وتين» لـ «يامن» واللي حرق قلبي أكتر.. إنك طلعتِ مش فكراني من طفولتك دي، بس أنا راقبتك كل السنين اللي فضلتِ فيها بتتعلمي برا مصر وكنتِ تحت عيني في كل لحظة..
صوت «يامن» كان منخفضًا، أقرب للهمس، لكنه مليء بمرارة عشرات السنوات التي عاشها مكسورًا، يحمل ثقل الذكريات والدمار في روحه. كلما مرّر يده على الصورة، كأنها كانت تشتعل تحت أصابعه، تذكّره بأن نار الانتقام لم تخمد بعد.
نظر حوله، وكأن الحائط المحيط به قد بدأ ينكمش، خريطة الانتقام كانت تمثل عالمه الخاص، العالم الذي بنى فيه خطته لتحطيم كل شخص دمر حياته.
لكنه كان يعلم أن النهاية لم تأتِ بعد، لأن «سليمان رشوان» ما زال حرًا، ينتظر دوره في السقوط.
تراجع خطوة للخلف، فاضت الذكريات في داخله كبحر هائج، ورائحة الدخان لا تزال عالقة في حواسه.
همس بصوت مليء بالكراهية:
_قريب، قريب أوي هتشوف اللي شوفته، وهتعرف إن النار اللي ولعت فقلبي عمرها ما هتطفي غير لما تقع زيهم.
كانت كلماته كالوعد، مشحونة بالكراهية التي تراكمت عبر السنين، ورغم كل ما مر به، لم يستطع قلبه أن يهدأ.
رنين هاتفه صدح في المكان ليبتسم بسخرية لذلك التوقع الذي داهمه، كان يعلم أن هذا الإتصال سيكون قريبًا للغاية، لكنه لم يكن يعلم أنه سيكون بهذا القرب.
وضع الهاتف على أذنه يتحدث بتلاعبٍ:
_كنت عارف إنك هتتصلي.. ياقطة
أتاه صوتها المتوتر من الطرف الآخر بقولها:
_عاوزة أشوفك.. ونتكلم في اللي أنت قولته لبابا عشان هو مش قابل يقول لحد حاجة، وأنا وأخويا من حقنا نفهم.. نتقابل فين أو إزاي
_تعاليلي البيت
قالها بينما الابتسامة الماكرة تعلو ثغره، لتردف بتحذيرٍ وكأنها لم تستمع لما قاله هو:
_هنتقابل فين؟
أكمل على نفس الوتيرة بقوله:
_طب أجيلك أنا البيت؟
استمع لصوت زفيرها ليقول بسخرية:
_وسعي خلقك شوية يا قطة، ده إحنا حتى في لعبة محتاجة صبر كبير يعني..
_طيب أهو وسعته شوية، هنتقابل فين يا «يامن»!
كلما نطقت اسمه، يجد فيه شيئًا جديدًا، يعرف تمامًا حروفه، مرت عليه آلاف المرات في ذهنه.
لكنها بين شفتيها تصبح مختلفة. وكأنها تضيف عليه نبضًا خاصًا، لمسة سحرية لا يستطيع تفسيرها، كأن صوتها يحييه، يمنحه روحًا ومعنى جديدًا.
_قولتِ إيه.. الشبكة قطعت!
تعمد أن يجعلها تكرر ما قالت، لتقول هي مجددًا بصوت استكان قليلًا:
_يا «يامن» أقف في مكان فيه شبكة، نتقابل فين؟
ارتسمت ابتسامة جانبية على ثغره، وخرجت من عينيه لمعة مختلفة، ليردف بقوله:
_استنيني عند المحل بتاعك وهعدي بالعربية بتاعتي أخدك ونتكلم في مكان هادي.. وقبل ما تعترضي، مش هخطفك مع إنه والله على عيني تكوني قدامي وماخدكيش وأهرب، بس ملحوقة..
صمتت لثوانٍ تسمع كلماته تلك التي أثرت عليها بشكلٍ خاص، وقالت بصوتٍ أشبه بالهمس:
_تمام..
ثم أنهت الإتصال رفقته ليسحب نفسه بشكلٍ مطول من الهواء حوله ثم أخرجه على مهلٍ.
وصلته رسالة خاصة على هاتف سري يحمله، ولم يكن سوى خاص بعمله كضابط، فتح الهاتف وفتح الملفات التي وصلته والتي حملت فيها جملتين..
"مُهاب الجزار.. ابن سليمان رشوان، وزين رشوان، ابن عادل الجزار، والاتنين حصل بينهم تبديل في المستشفى، بنحاول نوصل إزاي، بس التقارير أثبتت كل ده يا «يامن»!"
********
كان «مُهاب» يعلم أن خطته محفوفة بالمخاطر، لكنه لم يستطع مقاومة الرغبة في الذهاب إلى المستشفى، دون إخبار «زين».
ارتدى ملابسه بسرعة، واستعد للتحرك. الطريق إلى المستشفى كان مزيجًا من التوتر والإصرار، كلما اقترب أكثر، زادت ضربات قلبه وتسارعت أنفاسه.
حين وصل، كان المكان شبه هادئ، مجرد أصوات خطوات ممرضين بعيدة تتردد في الأرجاء.
تسلل بهدوء، متجنبًا الأنظار، لم يكن يريد أن يلفت الانتباه إليه، كأنه ظل يمر عبر الممرات، إحساسه بالخطر كان حاضرًا، لكنه تابع تقدمه كمن يمشي على جمر، صامتًا لكن وعيه بكل ما حوله شديد الحدة.
بينما كان يمشي متخفيًا بين الزوايا، لمح من بعيد غرفة مفتوحة قليلًا، اقترب بحذر، وكأن شيئًا يجذبه نحوها. وعندما وقف عند الباب، رأى مشهدًا مرعبًا.
«غنى» مستلقية على الفراش، حول رأسها لاصقات متصلة بجهاز صدمات كهربائية، جسدها يرتجف، كل عضلة فيها تقاوم الألم، وكأن الحياة تُسحب منها ببطء مع كل صدمة.
عيناه اتسعتا بالصدمة، لم يستطع أن يزيح بصره عنها، رغم أن قلبه كان يصرخ، شعر بالدماء تتجمد في عروقه، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، كل ذرة في جسده أرادت التدخل، لكن قدماه كانت مسمرة في مكانها، عاجزة عن الحركة.
جسد «غنى» كان يهتز بعنف، أطرافها تتشبث بالفراش، كأنها تحاول التمسك بالحياة ذاتها، رأى كيف كانت أصابعها تمسك بالفراش، تتقلص تحت تأثير الصدمات، حتى توقفت فجأة.
صوت الجهاز أطلق صفيرًا أخيرًا، ثم خمد، يديها التي كانت مشدودة استرخت ببطء، وسقطت جانبًا كأنها فقدت قوتها.
المكان امتلأ برائحة معقمات المستشفى الباردة، الهواء كان خانقًا، كأن شيئًا ثقيلًا يجثم على صدره، في تلك اللحظة، شعر «مهاب» وكأنه محاصر بين عالمين، أحدهما مليء بالحياة التي عرفها، والآخر مظلم، مليء بالموت والخذلان.
كيف يمكن أن يصل الحال بها إلى هذا؟
كانت تلك الفكرة تدور في رأسه، تتردد كصدى في عقله.
كيف تتحول «غنى» من الفتاة القوية التي عرفها إلى جسد هش، تقاوم الألم بكل ما أوتيت من قوة؟ كيف تجرؤ الحياة على أن تضعها في هذا الموقف؟
تساقطت الأنفاس مثل رمادها،
وكأن الليل أسدل فوق قلبي وشاحه،
كأن الغدر سيف في الظلام مضى بنا،
فانكسرت في الصمت كل أمانينا الغالية،
رأيتك راحلًا والريح تعصف حولنا،
والعمر ضاع بصمته، وضاعت خطانا الحالكة.
صوت أنينك في فؤادي كسيف،
يخترق الصدر، يشعل الأحزان الساكنة.
قُتلنا غدرًا، فانطوى الحلم في صدري،
وصارت الآمال ذكرى، والأوجاع دائمة.
تركتني والليل يهمس في أذني،
إن للفراق طعنة قاسية، والروح هائمة.
تعليقات



<>