رواية ابني ابنك الفصل الخامس عشر15بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك

 الفصل الخامس عشر15

بقلم امينة محمد


 محاربٌ منتصر»

أنا المحارب الذي انتصر في معركته العظمى، اجتزت ساحات القتال بين الضعفاء والأقوياء، بين العمالقة والصغار، خضت حروبًا مع الأيام والليالي، وصليت من أجلك في كل ركعة وسجدة، ناديتكِ في كل دعاء وطلبتك من الله حتى استجاب لي رب العالمين وأهداني إياكِ.
تحولت جميع الأنظار نحوه يتابعونه بهيبته التي طغت على المكان بأكمله وبأناقته الكبيرة، تعمد أن يكون في أحسن صوره اليوم أمام أعين الجميع؛ حيث ذهب وعدّل من هيئة شعره وذقنه عند صديقه لينتهي بسرعة،ثم تحرك سريعًا نحو منزله ليرتدي الملابس التي اشتراها مؤخرًا ليرتديها في كتب كتابه، والتي كانت عبارة بنطال قماشي من اللون الأسود وسترة ذات عنق من نفس اللون، وكان يرفع أكمامها حتى كوعه، وساعة سوداء تزين يده اليسرى لتعطيه لمسة إضافية.. أقترب نحوها ورائحة عطره انتشرت في أرجاء المكان بينما عيناه استقرت عليها هي فقط، وكأنه سُحر بها متناسيًا الهمسات التي صدحت في المكان، وكأن الزمن توقف حوله للحظات عند رؤيتها، شعر وكأن الأنفاس غادرت صدره للحظات، ابتسمت عيناه قبل شفتيه، وكانت ابتسامته مزيجًا من دهشة بجمالها الأخاذ وافتتان بسحرها، كما لو أن قلبه قد نسج لها ترحيبًا خاصًا به، لا تسمعه إلا هي.
كل شيء فيها كان كالسحر؛ فستانها الأبيض الذي يلف جسدها ببساطته حيث لم يكن يحتوي على أي نقوش سوى أنه بأكمام ضيقة تبرز ذراعيها، وحجابها كان رقيقًا من اللون الأبيض أيضًا، وعيناها اللتان تلتمعان تحت الأضواء كنجمتين في سماء الليل الصافية لرؤيته الآن أمامها دون أن يخذلها أمام الجميع خاصةً حينما بدأ الهمس من هذا وذاك.
فاق على سؤال والدها الذي جعله يخرج من هذا الحلم لأرض الواقع:
_اتأخرت ليه؟
_كنت بجهز يا عمي وحصل ظرف كدا في الطريق..
برر بصوتٍ عالٍ ثم مال نحوه حيث كان يقف جوار ابنته العروس وهمس:
_بعد كتب الكتاب لما يمشوا، سيبني أمتع عيني بالجمال ده بما إنه خلاص هيبقى حلالي، ويلا فين المأذون عشان أنا مستعجل أوي مجهز أبيات شعر عاوز أقولها.
انفلتت منها ضحكة رقيقة ليعيد بصره نحوها وشعر وكأن العالم قد صغر، وانحصر في تلك اللحظة، بين نظراتهما، كل لحظة تمر عليهما نحو الاقتراب لتكون زوجته تزيح عن قلبه عبء الوقت الذي انتظر فيه هذه اللحظة.
كانت الفكرة الوحيدة التي تتردد في ذهنه هي: "هذه هي... أخيرًا، هذه هي التي سأقضي معها حياتي." سعادته كانت لا توصف، كأن قلبه يخفق بموسيقى لا يسمعها سواه، والمشاعر تملأه حتى كاد ينفجر حبًا وفرحًا.
_أبيات شعر، ياحسرة عليا..
أردفت بها «مروة» بحنقٍ ليطالعها رافعًا حاجبه وهو يقول:
_فين جوزك، واقفة جنب الحتة بتاعتي ليه، امشي يلا
طالعته باشمئزازٍ وهي تجيبه بقولها، فهما هكذا دومًا بينهما مشاكسة خفيفة تحمل المرح:
_تصدق فعلًا أنا غلطانة، أنا هروح أشوف قرة عيني عمومًا فين..
_بيجيب أمي أصلًا.
قالها بنبرة استفزازية وهو يخبرها بأنه يعلم أين مكان زوجها بينما كان يطردها قبل قليل، لتضحك «غِنى» بخفة ليشاكسها بقوله:
_مابلاش تضحكي لحد ما نكتب الكتاب، أنا مش عارف أمسك نفسي بصراحة..
_«مُــهاب»
نبهه والدها بنظرة حذرة ليردف بسرعة قائلًا بأدب حانقًا:
_عيني يا حاج، أنا مؤدب أهو.
وبالفعل ما هي إلا ثوانٍ حتى أستمع لصوت امه من خلفه تناديه بلهفة ليلتفت لها سريعًا يمرر بصره على ملامحها المتعبة من كثرة البكاء عليه خلال اليومين الماضيين، أقترب لها يضمها لصدره وهو يغمض عينيه يستمد القوة برغم احتياجها هي لتلك القوة، دفنت وجهها هي الأخرى بين أحضانه وهمست بصوتٍ يسمعه هو فقط:
_حبيب عيني يابني، حمدلله على سلامتك ياحبيبي، حسيت إن قلبي اتخلع من مكانه والله يا «مُهاب».
قبّل رأسها بحنانٍ بالغ وربت على ظهرها هامسًا هو الآخر بنبرة متعبة سمعتها هي وحدها، وكأن المشاكسة التي كانت تحتله قبل قليلٍ اختفت ليتجرد من كل التزييف الذي مثلّه أمامها هي فقط؛ فهو ابنها ولن يُخفى عليها صغيرة ولا كبيرة:
_حقك عليا والله، كان صعب عليا اسيبك، وكان صعب عليا اللي عيشته، تعبت يا «هاجر» والله تعبت يا أمي.
ربتت هي الأخرى على ظهره وكأنها تواسيه بحركاتٍ بسيطة منها، ولكنها عظيمة بالنسبة له، ابتعدت عنه تمسح دموعها ثم أغمضت عينيها وتنفست بعمقٍ واضعة يدها عند فمها وملأت المكان بزغاريدها فرحًا بابنها الوحيد وبزواجه، بينما هو توسعت ابتسامته بفرحة عارمة وانشرح قلبه لشعوره بالراحة في هذه اللحظة فقط.. فالقادم ليس بهينٍ.
اقتربت نحو «غِنى» وهي تبتسم وعينيها لامعة تعكس ما بداخلها من فرحة وسعادة كبيرة، وتحدثت بصدقٍ:
_بسم الله ماشاء الله، ربنا يتمملكم على خير يا حبيبة قلبي ويجعلك زوجة صالحة ويجعله زوج صالح ويرزقكم بالذرية الصالحة يارب، مبارك يابنتي.
عانقتها «غِنى» بضحكة خجلة وهمست بصوتٍ خفيضٍ خجل:
_تسلمي يارب، ربنا يديمك لينا..
تقدم المأذون للطاولة المُجهزة والمُزينة بالكامل بالورود البيضاء والأضواء البسيطة، واقترب كلًا من «متولي» و«مُـهاب» جواره وبدأ حديثه بالبسملة والصلاة على النبي، ثم عقد القران ودعى الجميع لهما بالبركة وحينما انتهوا أغمض «مُــهاب» عينيه بقوة متنفسًا براحة شديدة.
تحرك يعانق «متولي» الذي قابله بعناقٍ حارٍ يربت على ظهره بابتسامة واسعة:
_حافظ عليها كويس، مليش غيرها..
_في عيني يا حاج، وفي قلبي كمان.
قالها له مؤكدًا بحديثه على مدى حبه لها وكيف سيحافظ عليها، ثم التفت لها واقترب يقبلها على جبهتها متنفسًا براحة، ثم رفع يديها بين يديه يقبلها عليهما في باطنهما.
_عارفة حاسس بإيه؟ بإني انتصرت، كنت في حرب وانتصرت بيكِ، وكل جهد بذلته عشانك وكل صبر صبرته كان يستحق عشان اللحظة دي، مش قولتلك حياتي كلها هتبقى غِنــى بيكِ يا «غِـنى»
ابتسامته العريضة كانت إعلانًا غير منطوق بانتصاره، وحين التقت عيناه بعينيها عرف أنه أخيرًا ملكها، وأنه الفائز في معركة الحب، المعركة التي لا ينتصر فيها إلا من يعشق بصدق، ويصبر حتى النهاية.
قابلته بابتسامة عريضة سعيدة، وعيناها تلتمع بفرحة كبيرة، وهمست بعدما عافرت أن تخرج كلماتها من خجلها:
_بحبك.
_دي أحسن بحبك سمعتها، عشان هي أكتر واحدة جاية في الوقت الصح.
نبس بكلماته وأمسك يدها وجذبها معه نحو غرفتها واقترب بخطواته نحوها، مدّ ذراعيه واستقبلها بداخل أحضانه بحنان لا يوصف، وهمس معبرًا عما بداخله:
_مش عاوز احضنك قدام حد، ومش عاوز الحضن اللي استنيت عشانه كتير ده يخلص.
عندما اقتربت منه، كان قلبها ينبض بشدة وكأنما يحاكي دقات الطبول في احتفال داخلي، وجدت هنا بداخل أحضانه عالمًا من الأمان والراحة، لحظة توقف فيها الزمن، حيث ساد الصمت بينهما وكأن العالم من حولهما قد اختفى.
شعرت وكأنها تعانق كل لحظة مرّت في حياتهما، كانت ذراعيه دافئتين، شعرت فيهما بقوة الحب، بينما تلاشت كل مخاوفها وأحزانها.
تجمعت مشاعر الفرح والامتنان في قلبهما، وكأنهما اكتشفا كنزًا دفينًا تأكيدًا على أن هذا العناق هو بداية جديدة، فصل جديد في كتاب حياتهما.
عندما انفصلت قليلًا عنه، نظرت إليه بابتسامة تشع من قلبها، كانت عواطفهم تتراقص في الهواء، مفعمة بالأمل، السعادة، بينما كانت القلوب تخفق بتوافق تام، كأنهما يعزفان سيمفونية الحب معًا.
*********
وكأن العالم بأسره توقف، الكلمات التي هبطت على مسامعه لم يصدقها، ظن أنه يعيش كابوسًا سيزول عندما يستيقظ.
كأن العالم من حوله يذوب ببطء، وكأن الأصوات تلاشت في الخلفية، ولم يتبق سوى صدى الكلمات التي خرجت من فم «فادي» الذي يتحسس اللكمة التي تلقاها من «زين».
تلك الكلمات تسللت إلى عقله مثل سهام باردة، ترتطم بجدران وعيه دون أن تصل إلى إدراكه الكامل، لم يكن قادرًا على التصديق، عيناه اتسعتا، تبحثان عن مخرج، عن تفسير، لكنهما لم تجدا سوى الفراغ.
تشنج جسده وكأن عضلاته تحولت إلى حجر، تجمد في مكانه مثل تمثال أُخِذ منه الحياة، بينما الهواء المحيط به صار كثيفًا، كان مشحونًا بالتوتر، يخنقه ببطء.
_إيه مصدوم ليه؟ متجوزاني وعرفي عشان محدش يعرف، أنا كنت هقولك يوم ما جيت تتقدملها بس قولت اسيبها يوم تفرح، متوقعتش تخذلني كدا وتوافق عليك، مش عارف إزاي قدرت أصلًا تعمل كدا.
قالها بنبرة تحمل الشر، المكر، ولسوء حظه أن «ماسة» أخبرت «زين» بكل شيء لذلك هو يعلم أن كلماته جميعها كاذبة ولكن الكلمات تصله كالسكاكين، تُشعل النيران في قلبه.
جسده متوتر، عروق رقبته بارزة، فيما كانت قبضته ترتجف من الغضب المتفجر بداخله، ودون سابق إنذار تقدم بخطوة سريعة نحو «فادي» وقبل أن يتمكن الأخر من قول أي شيء مرة أخرى، انهالت عليه قبضة «زين» كالعاصفة، تضربه بقوة في وجهه.
_ده أنا هربيك من أول وجديد بما إن الوالد المحترم مكنش عنده وقت يربيك يا كـلب.
صرخ في وجهه بغلٍ شديد بينما «فادي» لم يستطع حتى الدفاع عن نفسه، تلقى الضربة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة.
كل ضربة كانت أقسى من السابقة، تملأ المكان بأصوات التصادم العنيف، سقط «فادي» على الأرض، يداه مرفوعتان في محاولة بائسة لصد الضربات، لكن «زين» لم يتوقف. كان الغضب يقوده، يضربه في بطنه، صدره، وجهه، دون أي شفقة.
الدماء بدأت تسيل من أنف «فادي»، وعيناه مغلقتان من شدة الألم، صرخات مكتومة تخرج منه مع كل ضربة، لكنه لم يكن يستطيع النطق بكلمة، كان الألم يطغى على كل شيء، حتى صوته اختفى وسط الألم والعنف الذي يتلقاه.
_إيــه ده، في إيــه هنا؟
صدح صوت «محمود» العالِ المصدوم من خلفهما وتحرك بسرعة يبعد «زين» الذي كانت يده مرفوعة ويود لكم «محمود» هو الآخر ولكنه توقف على آخر لحظة يتنفس بقوة وصدره يعلو ويهبط، حتى أن ملابسه أتى عليها نقاط دم من «فادي»، وجهه أحمر اللون كما لون الدم.
سحب يده ببطءٍ وهو يجمع كلماته المشتتة بقوله:
_ربيتلك ابنك عشان أنت مفضتش تربيه، «ماسة» فين؟
يد «محمود» ارتفعت لتصفع وجه «زين» ولكن الآخر أمسكها بقبضته بقوة يحذره بصوتٍ أجش:
_لا يا عمو «محمود» كدا نزعل من بعض، مش ابن «سليمان رشوان» اللي يتضرب، مش هكرر سؤالي «ماسة» فيــن؟
هذا هو «زين» المختبئ بشكله الوحشي داخل الظاهري الوديع أمام الجميع، وما لم يعرفه عنه أحد، إنه حينما ينفجر يدمر كل شيء حوله لأجل أحبته.
تحرك تاركًا إياه مصدومًا لا يستطع النطق وتوجه للمنزل يصرخ باسمها:
_«مــاسة».
كرر مناداتها ثم توجه نحو غرفتها ليجدها بالفعل خلف الباب تحاول فتحه ببكاءٍ مرير..
_ابعدي عن الباب.
قالها بتنبيهٍ لها قبل أن يرفع قدمه ليضربها بالباب مرتين حتى انفتح على مصرعيه ولمحها بشكلها المزري أمامه ليقع قلبه صريعًا لرؤيتها هكذا.
كان وجهها شاحبًا، وجهها الذي كان دائمًا ينبض بالحياة الآن مغطى بأثار صفعة حادة على خدها، كان الألم مرسومًا على ملامحها، والدموع تملأ عينيها دون أن تسقط.
_«ماسة»
همس بصوت متحشرج، لم يكن قادرًا على إخفاء الصدمة التي طغت على وجهه، تقدم نحوها بخطوات مترددة، وكأنه يخشى أن يقترب أكثر من اللازم فينكسر شيء ما بداخلها فهي بوضعها هذا تبدو مُنكسرة، مُدمرة.
_متسبنـيش.
نطقت بها بصوتها المرتجف الخفيض، بينما هو عيناه تجولان على كل تفاصيلها المحطمة، آثار الدموع على وجنتيها، والارتجاف الذي لم يفارق جسدها
_مين عمل فيكِ كدا، وجسمك ليه مليان كدمات!
سأل بصوتٍ مليء بالغضب المكبوت، ولأنه لأول مرة يراها هكذا بغير ملابسها الشتوية فقد كانت الكدمات المتوزعة على ذراعيها ورقبتها أثر حزنها الشديد المكتوم طوال الفترة السابقة.
لاحظ استنادها على الحائط والتعب الشديد الذي يثقل جفونها وكأنها تحمل على كتفيها جبالًا من الألم، لم يكن الألم فقط جسديًا، بل كان هناك شيء أعمق، شيء لا تستطيع التعبير عنه بسهولة.
_طب إحنا كدا لازم نروح المستشفى..
نبس بكلماته بعدما احتبس أنفاسه للحظة، مستجمعًا شتات نفسه أمامها، وأقترب لها يسندها ولكن هنالك من أعترض طريقهما ولم تكن سوى أمها التي وصلت للتو من عملها من الخارج ونظراتها تحمل الصدمة لهما.
_حضرتك كنتِ فين وبنتك مضروبة كدا؟
أنبها بكلماته والمسكين لا يعلم بأنها هي من ضربتها، أستمع لصوت «ماسة» المتعب وهي تقول:
_مش قادرة أقف يا «زين»!
_أنتو رايحين فين كدا وأنت واخدها ورايح فين وبأي حق تضرب «فادي» بالشكل الهمجي ده، كويس إنك ظهرت على حقيقتك قبل ما أجوزك بنتي!
صرخت بوجهه بحدة بينما هو توسعت حدقتاه بصدمة لكلماتها التي لم تعبر سوى على خوفها على ذلك الحقير، وحينما استمع لصوت السخرية الذي خرج من فِيهه التي جواره وهي تطالعها بنظرات خذلٍ واضحة.
_همجي؟ أنتِ عارفة بيقولي إيه أصلًا.. بيقولي متجوز بنتك عرفي.
الكلمات خرجت من فمه كأنها رصاصات تخترق الأجواء، ملأت الغرفة برعب غير مرئي.
للحظة، لم يستطع أحد استيعاب ما سمعه.
بينما «ماسة» تجمدت في مكانها، وكأن روحها قد سُحبت منها للحظات، لم تقدر على التحرك أو حتى النطق، عينيها اتسعتا بشكل لا إرادي، وكأنها تواجه كابوسًا لم تتوقعه يومًا، جسدها بدأ يهتز ببطء، نظرتها مليئة بالذهول والرفض، وكأن عقلها يحاول بشدة أن ينفي ما سمعته.
_إزاي، أنا.. أنا موقعتش على أي عقد عرفي!
همست بصوت بالكاد سُمع، غير قادرة على تصديق أن حياتها قد انقلبت بهذه السرعة وهذه القسوة.
أما «سلوى» فكان وجهها يعكس مزيجًا من الغضب والإنكار، عيناها تحركتا بين «زين» و«ماسة» في حيرة، ثم نزلت إلى الأرض تحاول استيعاب ما قيل.
وتحركت بسرعة شديدة للخارج تحت أنظارهما لتتجه «لفادي» الذي كان يقف على مرمى أعينهم، وقفت تسأله بغضبٍ:
_الكلام اللي «زين» بيقوله ده صح؟
أومأ لها بسخرية وكأنه لم يتلقى ضربًا مبرحًا قبل قليل ليجعله يتوب مما يفعل، نبس ببساطة:
_آه، اومال أنا عرفت منيـن إن بنتك بتتعاطى مخدرات، أنا قولتلها نقولكم، بس هي اللي رفضت وكانت مستنية الوقت المناسب.
_أنتو اتهبلتوا ولا إيه.. أنتو بتقولوا إيه؟
صرخ «محمود» بإنكار هو الآخر، بينما المسكينة لم تتحمل كل تلك الصدمات، زواج عرفي، تعاطي مخدرات!
وقعت مغشية عليها ليتلقاها «زين» بسرعة وهو الآخر عقله متوقف لا يقبل التصديق بما تفوه به «فادي» الآن، حملها بين ذراعيه بثباتٍ وفي محاولة لجعل عقله يثبت حتى لا يجن الآن أمامهم.
تحرك بها من بينهم نحو الخارج تحديدًا نحو سيارته ولحقته «سلوى» والدموع منهمرة على خديها بحرقة شديدة وبداخلها نيران مشتعلة بوقودٍ.
وضعها في المقعد الخلفي وجلست جوارها أمها بينما هو جلس في مقعده وتوجه بسرعة شديدة نحو المستشفى.
******
هي هنا الآن جواره، ليست حلمًا أو أمنية بعيدة؛ بل زوجته، ملكه، تحمل اسمه، في تلك اللحظة، أدرك أنه انتصر.
انتصر في الحرب التي خاضها لأجلها،
تلك الحرب التي كان المحارب الوحيد فيها،
يواجه العالم والمصاعب فقط ليصل إلى هذا الحلم المتحقق بين ذراعيه.
_أبوك فين ومحضرش ليه؟
سأله «متولي» بصوتٍ هادئ ولكنه حمل بين طياته تساؤلات واضحة، مرر «مهاب» بصره بينه وبين «هاجر» وهو يقول بتنهيدة لأنه لم يكن داخله أي إجابة مطمئنة:
_أنا أصلًا معرفش هو فين، وأتمنى إنه يكون في مكان يكون فيه بخير.
_يارب، وأنت اتأخرت ليه؟
سأله مجددًا كأنه بتحقيقٍ الآن يشبه الذي مر به أمام المحقق في القسم ليتنفس بقوة قائلًا:
_كان شغل كبير، والحوار ده هحكيلك عليه بعدين مش دلوقتي عشان مينفعش دلوقتي، مش لسبب معين عشان متفكرش إني بخبي عليك بس لأن مينفعش دلوقتي.
زفر «متولي» واومئ برأسه:
_أما نشوف يا «مُهاب»، خير وربنا يكتب البركة في حياتكم إن شاء الله.. متتعودش على حوار الاوضة ده كتير أنا مخدتش بالي من الناس اللي بتبارك بس..
_يعني إيه، اومال أنا كاتب كتابي عليها ليه، ما عشان احضن و..
صمت حينما لكمته بخفة في يده ليقهقه بمشاكسة:
_كسفناها ياحمايا أهو.
ضحكت «هاجر» بخفة ووقفت في مكانها وهي تقول بابتسامة:
_بس يا واد متكسفهاش بقى بطل قلة أدب، أنا تعبت من القعدة دي هروح أنا بقى يابني وأنت شوف سهرتك مع مراتك..
وقف معها مبتسمًا وهو يطالع «غِنى» بقوله:
_لا أنا همشي برضو، عاوز أروح أصلي في المسجد ركعتين شكر والعشا هتأذن أصلًا أصليها، وبعدين هبقى اجي «لغنى» تاني نسهر سوا.
_بننام بدري!
رمى «متولي» كلماته بسخطٍ وبداخله يشعر بالغيرة على ابنته الوحيدة التي تزوجت، بينما المشاكس الآخر أردف:
_اسهروا النهاردة شوية يا حمايا، عاوز أسهر مع مراتي أحكيلها أسباب ثورة يناير.
_والله هتقعد معايا تحكيلي أسباب ثورة يناير!
نبست بحنقٍ وهي تغلق عينيها قليلًا ليشير لها بينما يعض على شفته السفلية بمعنى أنه يكذب على والدها، ثم تحدث بجدية مزيفة:
_اومال هنقعد نحب في بعض، هنخيب ولا إيه، يلا يا أمي بنات آخر زمن..
ضحك على كلماته الجميع هنا بسعادة حاوطتهم وحاوطت هذا المنزل البسيط.
خرج من منزلها مع أمه حتى أوصلها لباب بنايتهم وهو يبتسم لها قبل أن تتحدث معه ليطمئنها بقوله:
_لما اجي هنقعد نتكلم متقلقيش، اطلعي ارتاحي وهحكيلك والله كل حاجة.
تنهدت وهي تومئ برأسها وتحركت لأعلى بينما هو توجه ناحية المسجد وقبل دخوله وجد رسالة من «زين»..
"كان نفسي أكون حاضر كتب كتابك، على عيني مكنش موجود، متزعلش مني وهعوضهالك بس حصل مشكلة كبيرة، مبروك يا أخويا"
ابتسم بخفة وهو يستذكر ما حدث معه خلال الفترة الماضية وتواجد «زين» الذي كان دومًا حاضرًا معه في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة،
يشعر بالامتنان لهذا الصديق؛ الامتنان الذي يشعر به «مهاب» تجاه «زين» لا يمكن أن تصفه الكلمات، هو امتنان لإنسان عرف كيف يجعله يشعر بأن الحياة قد تعوض، وأن الصداقة قد تكون أقوى من أي رابطة.
توجه لداخل المسجد ليلمح «الشيخ حسني» يجلس هنا في إحدى الزوايا، ألقى عليه السلام وتحرك هو يتوضأ ويصلي ركعتين شكر لله، ثم توجه ناحية الشيخ يجلس جواره بابتسامة:
_عامل إيه يا شيخنا؟
_بخير يابني، أنت عامل إيه، مبارك على عقد القران، الله يجعله بداية خير في حياتك.
بارك له بابتسامة خافتة ليبتسم له «مُهاب» بشكرٍ وهو ينبس:
_تسلم يارب، أنا كويس، بس مالك كدا قاعد هنا لوحدك ليه؟
_مستني العشا عشان نأذن ونصلي، بقينا بنهرب من الدنيا لبيت الله، أحسن وأفضل.
قالها بتنهيدة ليسأله «مُهاب» بقلقٍ:
_هو أنت لسه مش لاقي علاج بنتك؟
هز رأسه بنفي بانكسار واضح وهو يجيبه:
_لا للأسف، ياريت والله بدل ما الواحد بيطلب المسكنات دي من ناس مش ولا بُد وبيخاف يتاخد شُبهة، الله يسامحنا يارب ويشفيها ويعافيها من المرض الخبيث، أدينا بنحاول علشانها وعشان نشوفها كويسة!
_ربنا يتم شفاها على خير، ان شاء الله كله خير يا شيخنا.
طمئنه «مهاب» بتنهيدة عميقة وهو يدعو له بأن يرزق ابنته المريض بالسرطان بالشفاء العاجل.
***********
يقف هنا حيث خطوة جديدة سيتحرك نحوهها، خطوة جديدة هنا في حياته وظهوره أمام أحداث ستقلب حياته ولكنه بالتأكيد سيستمتع.
أخرج هاتفه الذي صدح صوته مُعلنًا وصول رسالة وفتحها ليجد محتواها كالتالي:"اللي قتل شِحتة العصابة يا «يامن» عشان أختلف معاهم في شوية فلوس، الدور على «عادل»، نبه ابنه وعرفه، وللأسف وصول «مُهاب» كان صدفة مش مُدبر زي ما فكرنا، بس هما أخلوا المكان من الكل وسابوه مرمي غرقان في دمه، حاول تجيب العينات اللي طلبتها عشان نوصل لحل ونشوف كلام «صادق» صح ولا لا!"
وضع هاتفه في جيبه وتحرك نحو المحل الذي تملأه الأضواء في يوم افتتاحه، تحت مُسمى
«The pastry corner»
وتحرك بهيبته للداخل وهو يمرر بصره عليها ترحب بالجميع وجوارها كلًا من «سامية» و«سليمان».
تقدم أمامها وهو ينبس بصوته الأجش ونظره مُعلق على «سليمان» الذي طالعه بصدمة كبيرة، أحس ببرودة تسري في عروقه، وكأن العالم قد توقف، بينما عقله يحاول تجميع شتات الأمور حول وقوف هذا أمامه.
_مبارك الإفتتاح يا قطة، مبسوط ليكِ جدًا.
ثم ناولها باقة الورد الأحمر التي بيده بينما هي احتلها التوتر والرهبة من تواجده أمام والديها، بيمما أستمع لصوت «سليمان» المشدوه:
_«يامن»!
_«يامن علي الجمّال» يا عمو «سليمان».. نسيتني ولا إيه.. ده أنا حتى جاي عشان وعدك لبابا، بأن «وتين» هتكون مرات «يامن» في المستقبل، أنا جاي من المستقبل طالب أيد بنتك على سنة الله ورسوله.
تعليقات



<>