الفصل السادس عشر16
بقلم امينة محمد
نوايا خبيثة»
لن يترك الحبيب حبيبه مهما اشتد البعاد،
مهما حاولوا، سيظل حبها في فؤاده وقاد.
يرسم لكِ في قلبه ألف صورة وألف لون،
لن تضيع تلك المحاولات، لن يخبو ذلك الشجن.
فكل ضحكة رسمها، وكل همسة نسجها هواه،
ستبقى خالدة، كالنجم في سماه.
فالحبيب إن صدق قلبه، لن يعرف النسيان،
سيبقى عاشقًا، رغم كل محاولات الزمان.
_بابا حضرتك تعرفه؟
سألت وهي تحمل صدمة في عينيها، تراقب بتوجس تلك النظرات التي انفلتت من والدها، تتأرجح بين دهشةٍ عميقة لا تخطئها عين، وتحدٍّ من نظرات الآخر لوالدها، بدا وكأن لسانه قد عُقد، عاجزًا عن النطق، وكأنما سيل الذكريات انهمر فجأة أمامه، يُعيد نفسه بكل تفاصيل تلك الأيام كأنه مشهد مرئي ينبض بالحياة في مخيلته، وفيما هو غارق في هذا التدفق، نبس «يامن» يجيبها بسخرية، كمن يشعل نارًا في قلب لحظة الصمت.
_طبعًا عارفني، أنا ابن صاحبه حبيبه وخلفة «علي الجمّال» متتنسيش، ولا إيه ياعمو «سُليمان»
تدخلت «سامية» بنبرة واهنة، بالكاد تسمع، وكأن الكلمات تخرج منها بشق الأنفس:
_هو مش ده ابن «علي» اللي مات؟ شريكك؟
رد «يامن» بسخرية، شفتيه ترتسمان عليها ابتسامة جانبية تحمل في طياتها تحديًا خفيًا، نظراته تتأرجح بين اللامبالاة والتهكم، ثم استدار قليلاً نحوها:
_هو بعينه يا حماتي، منورة المكان كله، ها نتفق على معاد مناسب اجي فيه أخطب القطة؟
تدخل «سليمان» بجديته الحادة، كأن كلماته سيوف تخرج من فمه، عيناه لا تفارقان «يامن»، نظرة مليئة بالتحذير، ثقيلة كالصخور التي تُلقى من أعالي الجبال:
_إيه المهزلة دي، إحنا مينفعش نتكلم هنا يا «يامن»، تعالى نطلع برا ونقعد في مكان هادي نتكلم فيه!
توقف الزمن لثوانٍ، قبل أن يرد «يامن» بعينيه التي تلمع ببرق الغضب المكبوت، وكأنه نمر حُشر في زاوية، وصوته خرج ثابتاً كالصخر الذي لا يهتز أمام العاصفة:
_مكان هادي ونتكلم فيه؟ سوري يا عمو رصيد الكلام بالنسبالي خلص، خلاص مافيش بيني وبينك أي كلام يتقال، كل حاجة اتحسمت السنين اللي فاتت واللي داست عليا بالجذمة!
ارتفعت حرارة المكان مع كل كلمة يتفوه بها «يامن»، كأنما النار التي يتحدث عنها تتأجج في عينيه، حاول «سليمان» أن يتمسك بهدوئه، لكن نبرة صوته بدأت تتسارع كرياح عاصفة تسبق الشتاء:
_أنا معرفش أنت بتقول إيه أو بتحاول توصللي إيه، بس كل اللي أعرفه إننا لازم نتكلم، وأنا مقدرش اسلمك بنتي بالشكل ده وشايف في عينك نار مولعة.
انفجر «يامن» فجأة، صوته ارتفع وكأن الغضب انفجر من داخله، كبركان لم يعد يحتمل كتمانه:
_نفس النار اللي اتحرقوا فيها أمي وأبويا بسببك أنت و«فرحات»
المواجهة باتت وشيكة، وكأن الكلمات لم تعد تكفي لاحتواء ما اشتعل من مرارات قديمة وأوجاع دفينة.
همست بنبرة متوجسة، في عينيها بريق من الرجاء والاضطراب، وهي تجوب المكان بنظرات قلقة:
_وطي صوتك النهاردة الافتتاح والناس بدأت تبص علينا.
كان رده عبارة عن تنهيدة ثقيلة، وكأنها حمل جاثم على صدره، ثم حوّل نظره إلى أبيها، وبنبرة ثابتة أجابه:
_عشان خاطر بنتك ومكان حلمها وشغلها.. بس أنا وأنت لسه بينا كلام، ومتقلقش بنتك برا الحكاية أنا مش هئذيها بالعكس أنا بحميها، وابنك.. ابنك بيساعدني في اللي أبويا وأنت خربتوه زمان!
اتسعت حدقتا «سليمان» كأنهما على وشك الانفجار، والذهول رَسم على ملامحه علامات كالصاعقة، تردد في صوته، كمن اكتشف خيانة غادرة:
_ابني؟ «زين» متدخل معاك في إيه!
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهه، تلك التي تحمل في طياتها مزيجًا من السخرية والاحتقار، واستفزازه كان متعمدًا، كمن يغرس خنجرًا في موضع الضعف:
_اوبس.. تؤ تؤ هو مش حاكيلك ولا إيه؟ هو و«مهاب الجزار» شغالين معايا في عصابة كدا على قد حالنا، استنى افكر في اسم يجمعنا.. «مثلث الخطر».. بتجمع بين «مهاب الجزار» واللي للأسف ملوش أي ذنب في اللي بيحصل غير إنه بيحاول يحمي أبوه من كل المصايب وكبير حارة، والتاني «زين سليمان رشوان» ابن «سليمان رشوان» رجل الأعمال.. وأنا..
حول بصره لها دون أن يعطي فرصة «لسليمان» بأن يتحدث وهو يخبرها بنبرة متغيرة تليق بكونها سيدته، ليترك داخلها أثرًا لن يزول بسهولة كما هي لا تزول من قلبه ومن منزله المملوء برسوماتها التي نقشها بيد عاشق ولهان:
_مع السلامة يا قطة، ربنا يفرحك.. وقولي لأبوكِ العبث مع الناس التقيلة، وحش.. ونتائجه وحشة أوي..
"لا تعبث معي"
هكذا كان شعاره، ثابت كالنقش على الصخر في مسار حياته؛ فالعبث مع الكبار كمن يلعب بالنار في مهب الريح،
يبتلعك اللهب بلا رحمة، ويتركك رمادًا يتناثر في عواصف القدر.
_مش عاوز أسئلة، لحد ما الليلة دي تعدي على خير ونروح بيتنا..
نطق «سليمان» بكلماته بتحذيرٍ لتنظر «وتين» نحو «سامية» التي تنهدت بعمقٍ، ثم أخرجت هاتفها وتحركت من جوارهما تترك رسالة صوتية لأخيها تخبره عما حدث خوفًا من القادم ومن المواجهة التي ستكون بينه وبين والده، وسألته في نهاية حديثها عن حالة «ماسة» التي تجعل قلبها مفطورًا بحزنٍ شديد.
******
في دروب الحياة، سارت وحيدةً،
كزهرة نبتت في صخرٍ عتيق،
أنفاسها تتلاشى بين آهات الألم،
تتراقص كأوراق الشجر في عاصفة،
تحت سماءٍ مظلمةٍ بلا نجوم،
تسعى لتكون شجاعة، رغم الضعف.
في قلبها شعلةٌ تتوقد،
تشعل الأمل في ظلمة اليأس،
رغم جراحها التي تسكن جسدها،
تتحدى الأمواج، تقاوم العواصف.
تمسك بأهداب القوة، رغم انكسارها،
كطائرٍ جريح يحاول الطيران،
تسعى لترسم الفجر في دجى الليل،
وتصنع من الحزن ألوان الربيع.
أنثى خلقت من ضعف، لكنها صلبة،
تتحدى نفسها، وتؤمن بالتحول،
فكل دمعة سقطت في رحلتها،
تحولت إلى دروس، ترسم لها الطريق.
ستظل ثابتةً كالجبل، رغم العواصف،
لا زالت تسعى، تبني أحلامها،
فالحياة قد تنكسر، لكن قلبها لا يلين،
وفي كل سقوط، تنهض من جديد، كفجر يشرق بعد الليل.
كان يجوب الممر ذهابًا وإيابًا كالأمواج المتلاطمة، وأمها جالسة تحرك جسدها للأمام وللخلف في توتر ملحوظ، الطبيب يفحصها ولا أحد يعلم كيف حالها الآن ولكنها الآن عند حافة الهاوية كادت أن تقع
وصلته الرسالة التي أتته من أخته واستمع لها بصدمة لا تقل عن صدمة والده حينما رأى «يامن»، ما الذي بين «يامن» ووالده!
خرج الطبيب لهما، فوضع «زين» الهاتف بجيبه وتحرك نحوه سريعًا يسأله بقلقٍ:
_طمني عنها يا دكتور؟ هي كويسة!
سأل الطبيب بتنهيدة مثقلة وهو يمرر بصره بينه وبين أمها:
_هي بتتعاطى حاجة؟
_لا!
أجاب هو ببساطة، ولكن أمها قاطعته بصوتٍ مرتعش:
_بتتعاطى!
وجه «زين» بصره نحوها بصدمة، لا يصدق عقله ما تقوله، كيف؟
لا يمكن تصديق ذلك عن الفتاة البريئة التي لطالما عرفها بقلبه وحفظها بعينيه، وما يعرفه عنها أنها لا يمكنها أن تتجه لذلك الطريق وهي تحاول النجاة من الهلاك.
أومأ الطبيب برأسه لمعرفته أنه من المؤكد أنها تتعاطى، ثم نبس:
_واضح فعلًا على جسمها وعلى ملامحها، عمومًا أنا طلبت يتعملها تحليل دم وهنعرف، عندها انخفاض في مستوى الدم وفي وزيادة في معدل ضربات القلب، وهي لما تفوق هيظهر عليها بشكل ملحوظ، وحابب أعرف هي متعرضة لأي ضغط نفسي أو عصبي؟
أجابه زين بحزن، كأن قلبه قد انفطر:
_هي حالتها النفسية مش تمام، هو في حاجة؟
أجابه الطبيب بعدما تنهد:
_من الواضح من الفحص البدني إنها متعرضة لصدمات وفيه علامات بتوضح إنها متعرضة لأنهيار عصبي، عمومًا إحنا خلال الساعات الجاية ولحين ظهور ده هي احتمالية كبيرة يشوفها طبيب نفسي، أتمنى لما تصحى ميكنش فيه أي ضغط عليها.
كلمات الطبيب ترددت في الأجواء كأصداء الرعد، فالحياة أصبحت عاصفة من القلق والمخاوف، وفي كل لحظة تمر، كان الزمن يتباطأ، وكأن كل شيء محاصر في دوامة من الظلام.
تحرك من أمامهما، تاركًا وراءه أجواء مشحونة، بينما كان «زين» يحدق في «سلوى»، مُتفحصًا ملامحها الحزينة وكأنها لوحة كئيبة، وعينيها اللتين تحملان الغضب المكبوت كبركانٍ يوشك على الانفجار.
كلما نظر إليها، زادت مشاعر الشك والقلق في قلبه، فتساءل بذهول:
_«ماسة» مبتشربش حاجة، حضرتك إزاي تقولي كدا وتصدقي عنها كدا؟
رفعت «سلوى» بصرها إليه، وقد تحولت ملامح وجهها إلى قسوة، تجيبه بحدة:
_وطلعت بتشرب، بتتعاطى مخدرات، أنت مشكور على وقفتك معانا تقدر تروح وأنا هشوف بنتي!
ألقى «زين» نظرة عدم تصديق، كيف يمكن أن تكون هذه السيدة التي أمامه أن تكون أمها ويجب أن تصدقها هي وليس «فادي» الحقير، من المفترض أن تكون درع حماية لابنتها.
أجابها بعناد ساخر، كأنما يحاول مقاومة إعصار مشاعر خفي:
_أمشي؟ أنا مش متحرك من هنا قبل ما أشوفها واطمن عليها، ولو هي قالتلي خليك هفضل جنبها ومش هسيبها لحظة، وأنا هعرف بطريقتي هي إيه وصلها للإدمان.
ثم تخطاها، متوجهًا نحو باب الغرفة التي تحتضن المسكينة المغدور بها، وقف هناك كجندي محاصر، يفكر في كل شيء في عقله، ويرسم خيوط الأمل التي قد تقوده إلى الحقيقة.
في تلك اللحظة، استرجع ذاكرته إلى ذلك اليوم الذي ذهب فيه إلى المكان الذي يعمل به «فادي»، حيث لمح «فادي» يتناول شيئًا من شخص ما في الخفاء.
كيف سيثبت الأمر؟ كيف سيفهم الحقيقة الضائعة في زحام الأوهام؟ كانت شياطين اليأس تدور في رأسه، وهو يشعر أن العالم بأسره ينهار من حوله.
هو الآن سيجن لأجلها!
تفجر داخله طوفان من المشاعر، وعزيمة غير مسبوقة لمواجهة المجهول، وكأن الزمن نفسه قد تجمد، وهو ينتظر بصبر انفراجة تأتي من أي خيط عقده ليعرف الحقيقة كاملة.
وعلى الجانب الآخر في منزل «محمود»، كان التوتر يعصف بالجو، كعاصفة تهدد بالتدمير. جلس «محمود» على حافة المقعد، عابسًا، وعينيه تلاحقان ابنه المضروب من «زين»، الذي كان يتأوه بألم، ككائن جريح يئن تحت وطأة الخسارة.
نظر إليه «محمود» بغضب، كأعصار يوشك على الانفجار:
_إيه خلاك تقوله الكلام اللي قولته ده طالما هو كدب!
أجابه الآخر، وقد غلفت قذارته كل كلمة:
_عشان عاوز أحرق قلبه ويبعد عنها عشان أعرف امسكها كويس بين أيدي!
زفر «محمود» بعمق:
_البت دي نهايتها على أيدي زي أبوها كدا بالظبط.
ابتسم «فادي» بسخرية، وكأن الجحيم يضحك معه، ورد بوقاحة:
_سيبهالي، نهايتها على أيدي أنا عشان عاوز استمتع شوية، هو جاي من وراها ورث قد إيه؟
_مبلغ حلو، إحنا قدرنا ناخد بتاع «سلوى» إنما هي مش عاوزة تطلع جنية من فلوس أبوها.. زيّه بالظبط!
أردف «محمود» بغل وحقد كالنار المتأججة، أجابه «فادي» بسخرية، فخورًا بوالده وكأنهما رفقاء في تلك الجريمة:
_يا لعيب يابابا، لعبتها على أبوها وبتلعبها دلوقتي.. لا جامد
أجابه الآخر بشرودٍ لتلك الحياة التي سيتوجهون إليها:
_اتلهي خلينا نشوف هنهبب إيه فالمصايب دي!
في تلك اللحظة، كان الحديث يتجول في فوضى مدمرة، حيث كانت أحلامهم تتقاطع مع شغف الانتقام، وكأنهم يمضون في طريق مظلم بلا عودة، متجاهلين الأثر المدمر الذي يتركه الغضب في قلوب الآخرين.
***********
في ظلام الليل الحالِك، استيقظت «ماسة» في المستشفى، وكأنها طائر جريح محبوس في قفص من الكوابيس.
كانت دموعها تتدفق بغزارة، تنهمر من عينيها كالمطر الغزير الذي يُغرق الأرض العطشى.
قلبها كان ينفطر تحت وطأة الألم والخذلان، وكأن كل ذكرى مؤلمة قد تجمعت في لحظة واحدة لتنفجر في وجهها.
كان يقف جوار فراشها يتابعها بينما الطبيب يفحصها وهو يمرر بصره بينها وبين «زين» يؤكد له عمّا أخبره عنه قبل ساعاتٍ، كان الآخر عينيه مليئتين بالقلق، كان يقف بجوار فراشها كصخرة صامدة وسط عاصفة، ثم جذب الكرسي وجلس جوار الفراش وأخذ يحاول تهدئتها بلطف:
_ماسة، إهدي شوية، أنا هنا معاكِ
قالها بصوت هادئ، لكن مشاعره كانت تنفجر كحمم بركانية تحت سطح هادئ.
حاولت «ماسة» السيطرة على أنفاسها، لكنها لم تستطع، فصرخت بصوتٍ مقهور:
_أنا مش متجوزة من «فادي» والله... ولا بتعاطى مخدرات! أنا مخدوعة في كل حاجة، كل ده كدب، كل ده كدب.
كأن كلماتها كانت نصلًا يُطعن قلبه المضطرب، وسألها بقلقٍ:
_أنا بحاول افهم طيب مخدوعة في إيه بالضبط، يا «ماسة»، هو إزاي قدر طيب يديكِ المخدرات دي طالما أنتِ مخدتيهاش!
أجابته وكأن كل الألم الذي عاشته يتجسد في تلك اللحظة:
_معرفش، والله العظيم ما أعرف، أنا ضايعة، وحياتي بتتفتت قدامي، كل حاجة باظت، أنا عايزة أموت..
زفر بضيقٍ شديد لعدم قدرته على جعلها تهدأ، ثم قرب يده من يدها يمسكها بحنانٍ وينقل لها الدفء الكبير الذي يحاول إخراجه من داخله لها برغم البرودة التي تملأه، وكأنه يحاول أن يكون الحبل الذي يسحبها من ظلمات أفكارها:
_أنتِ مش ضايعة، يا «ماسة»، في أمل، وأنا معاكِ ومصدقكك، كل ده هيعدي والله وحقك هيرجعلك.
حاولت «ماسة» أن تستجمع شتات أفكارها، لكن دموعها كانت تتساقط كالأمطار:
_محدش مصدقني، محدش مصدقـني، هي مش مصدقة، هي ليه معاهم ضدي، هو أنا مش بنتها طيب!
كان الطبيب يتابع كل حركة منها وكل فعل، حتى نظراتها التي وجهتها لوالدتها التي تقف هنا دون أن تنبس بحرفٍ، يبدو أن الألم الحقيقي الذي بداخلها سببه أمها.
كان صوتها يمزق قلبه، كصرخة في ظلام موحش:
_لا انتِ مش لوحدك، أنا معاك، أهدي عشان خاطري وأنا والله ما هسيب حقك وهتكوني كويسة، بس أهدي عشان كدا غلط على أعصابك.
تمسكت «ماسة» بيد «زين» بقوة، كأنها تبحث عن نجاة في بحر من العواصف، تصطدم أمواج خوفها بصخور واقعها القاسي، كانت يده لها بمثابة الحصن المنيع، ذلك الجسر الذي يعبرها إلى ضوء الأمل في عالم يكتنفه الظلام، لكن في أعماقها، كان الرعب ينهش قلبها مثل وحش جائع، والظلام حالك كغيمة كثيفة تُخيم على كل شيء، كأنها تبتلع أي بصيص للأمل.
عينيها المملوءتان بالدموع، كانت تعكس محيطًا من العذاب والقلق، في تلك اللحظة، كانت تشعر أن كل ما تفعله هو محاولة يائسة للنجاة من دوامة من الشكوك، وكأنها تغوص في أعماق بحر من اليأس، كل نبضة من قلبها كانت تنبض بالخوف، وكأن الزمن نفسه توقف، لتعلق روحها في فضاء من الذعر الذي لا ينتهي.
كانت تلك اليد، التي تمسكت بها، تعني لها أكثر من مجرد دعم، بل كانت رمزًا لحاجتها الماسة للحماية، كأنها تعلن استسلامها لكل المعارك التي خاضتها بمفردها.
ومع كل لحظة تمر، كانت تشعر أن كل شيء حولها يتلاشى، بينما كانت حتمية الواقع تأخذها إلى هاوية من الشكوك والألم، حيث يختبئ كل حلم خلف ستار من الظلمات.
وحينما غفت مجددًا على ذلك المهدئ الذي وضعه لها الطبيب وجاب ببصره بينه وبين «سلوى» ثم رمى كلماته بتنهيدة:
_من الواضح إنها بتعاني فعلًا من أكتر من صدمة عصبية، وكلامها إنها مش بتتعاطى صادق، بكرا الدكتور النفسي هيكون موجود في المستشفى وهيفحصها، وهي هتفضل هنا لفترة نتابعها لحد ما تحليل الدم يظهر، وبالمناسبة.. وجود حضرتك هيسببلها تعب نفسي شديد خصوصًا كلامها عن إنك مش مصدقاها.. ربنا يتم شفاها على خير.
ثم تحرك مغاردًا الغرفة ولم يجد «زين» ما يقوله على حديث الطبيب، بل ظل جوار تلك الجوهرة التي سيسعى جاهدًا لحمايتها.
*********
في بداية صباح جديد، انبثقت أشعة خافتة من الشمس خلف سحابات حالكة، وكأنها تخشى أن تُظهر وجهها في هذا اليوم قارس البرودة، السماء كانت ملبدة بالغيوم الداكنة، تترنح كأنها تحمل ثقل حكايات محزنة، وكأن العالم يلبس رداءً من الحزن والكآبة.
هبت نسمات باردة من الرياح، تحمل في طياتها رائحة المطر المترب، بينما كانت الأشجار تتراقص بشكل مائل.
كانت الأمواج تتلاطم على الشاطئ البعيد، تصدر صوتًا يشبه أنين العشاق المفقودين، وكأن البحر نفسه يبكي على ماضيه.
إنه اليوم الموعود، الموافق «14/10»، وتحديدًا اليوم الذي سيُختطف فيه الفتاتين.. وكان من ضمنها هي؛ حبيبته التي لم تتثنى له الفرصة ليفرح رفقتها.. خُطفت غدرًا حينما خرجت في طريقها نحو مدرستها كمعلمة شريفة..
وفي الحقيقة، كان لديهما عمل هنا في المنطقة، حينما وصل «زين» من المستشفى دون نومٍ طوال الليل ليكون رفقتهما، ولكن الغدر أتاهما حينما اكتشفت العصابة بأن هناك من يراقب الأوضاع فغيروا تلك الخطة دون أن يخبروا بها «يامن»
«فلاش باك»
في ذلك اليوم الذي جمع بين «مُهاب» و«يامن» في اللقاء الأول، كانت الأجواء مشحونة بالتوتر، وكأنما تحمل الرياح في طياتها صدى خفي للأقدار. اجتمع الاثنان في زاوية مظلمة من الحارة، حيث كانت أشعة الشمس تتسلل بصعوبة بين المباني المتراصة.
قال «مُهاب»، عابسًا، وهو يحاول استيعاب ما سمع:
_أنت عاوزني أساعدك في خطف أطفال أبرياء وتقتلوهم!
لكن «يامن» ابتسم بخفة، معبرًا عن مدى إعجابه بفطنة «مُهاب» ودهائه:
_كنت عارف إني مش هعرف اقنعك، «مُهاب عادل الجزار» أكتر واحد هنا في الحارة له كلمة مسموعة، وكان الإختيار عليك للسبب ده عشان تقدر توقف معانا الجريمة دي، أنا «يامن علي الجمال» ظابط في المخابرات وتقدر تقول شبه جاسوس وسط العصابة دي لحد ما أعرف مين رئيسها عشان نقدر نقبض عليهم كلهم..
كانت كلماته تتردد في أفق المكان كأصداء وعود محفوفة بالمخاطر، لتصل إلى مسامع «مُهاب» وكأنها دقات جرس تنذر بعاصفة قادمة.
قوس «مُهاب» حاجبه بعدم تصديق، عينيه تتفحص ملامح الآخر ونظراته، كمن يبحث عن خيط من الحقيقة بين أمواج من الأكاذيب.
كان الحذر يتجلى في عينيه، وكأنما يفكر في كل خطوة سيخطيها بعد هذه اللحظة الفارقة. ليخرج له «يامن» هوية شخصية يؤكد له كونه ضابط، وأكمل حديثه:
_هيساعدك صاحبك أوي «زين رشوان»
سأله «مُهاب» بحنقٍ
_اشمعنى؟
حرك «يامن» كتفيه ببساطة قائلًا:
_أنتو إختيار الحكومة، متقلقش!
كانت نبرته تحمل ثقة باردة، كأنما يضع أمامه مسارًا مرسومًا بمصير مُحكم.
تغلغل شعور بعدم الارتياح في قلب «مُهاب»، لكن جاذبية القصة التي رُسمت أمامه كانت أقوى من كل تحذيرات قلبه. وكأنها دعوة إلى خوض مغامرة محفوفة بالمخاطر، كلما أمعن التفكير فيها، زاد فضوله، وازدادت الظلال الداكنة التي كانت تحاصر أحلامه.
«عودة»
_هما فين؟ محدش جه حتى!
سأل «مُهاب» باستغراب والقلق راح يراوده، فيما علّق «زين» بتنهيدة ومازال بصره مُعلقًا على «يامن» لأسباب واضحة أولها إنه كان يخفي أنه يعرف والده..
وصلت رسالة «ليامن» فرفع بصره يطالعهما وثبت أنظاره على «مُهاب» قائلًا بحذر:
_العصابة خطفت البنتين فعلًا.. من ضمنهم «غنى»، هما متواجدين في المستشفى اللي في آخر الحارة، مع الدكاترة واحتمال العملية كلها تتنفذ خلال ساعتين..
تحول لون وجهه للأحمر بمجرد بمعرفته بأنها تقطن بالداخل رفقتهم، ولا يعلم ما الذي تتعرض له الآن، ولكنه الآن في موقفٍ لا يُحسد عليه، جن جنونه بلا شك.
أقترب يمسكه من تلابيبه وهو يصرخ به بصوتٍ عالٍ:
_هو ده وعدك ليا بأنك هتحميها، هو ده وعــدك؟
_إحنا لازم نمشي!
هكذا أجابه الواقف أمامه يعلم تمام العلم أن وجودهم هنا سيشكل خطرًا على الجميع، ولكن كان الرد المناسب هو دفعه بقوة، ثم عاد الثاني يصرخ به بغضب جامح:
_نمشي؟ في ستين داهية كلكم، أنا مش متحرك من هنا غير وهي فأيدي، أنا هوريكم كلكــم!
ثم تخطاهم جميعًا راكضًا لتلك المستشفى التي يعمل بها بعض الأطباء بشكلٍ غير شرعي في الإتجار بالأطفال واعضائهم، والآن هم في رحلتهم لتجربة سيفعلونها عليها، على المسكينة... حبيبته الغالية.
رائحة الخطر انبعثت في الأجواء، انسحب «يامن» من المكان بخفة، كأنما يتخفى من عيون الغزاة، عينيه تحملان قلقًا يتراقص بين أهداب الظلام، فقد عرف أن العصابة ستتواجد قريبًا، وكأن قلبه ينذر بساعة الصفر.
ولكنه في طريقه أثناء المغادرة تحدث رفقة رئيسه يخبره عما قادم:
_لازم قوة من الشرطة تحضر، هما هيوصلوا ولازم يحموا «زين» و«مُهاب»، وقتها العصابة هتشتبك معاهم وأنا هقدر أهربهم بسهولة.
اندفع «زين» نحو «مُهاب» الذي كان يُعد العدة للمغادرة، وصوته يعلو فوق صدى الرياح:
_استنى يا «مُهاب»، روحتك هناك يعني موتك، أنت مينفعش تسلم نفسك بالشكل ده لازم نفكر فيها بالعقل.
أدار «مُهاب» وجهه نحو «زين»، والغضب يتأجج في عينيه كجمر مشتعلة:
_أنا مش هسيبها، حتى لو مت هنا! في الأوقات دي العقل بيكون ميت مينفعش يفكر
كانت كلماته كالرصاص، تصطدم بجدران قلب «زين»، الذي كان يحاول بشتى الطرق أن يقنعه بالتراجع.
_يا أخي، انت مش شايف خطر اللي بتعمله؟ ولما تروح ويقتلوك، وقتها لا هتقدر تحميها ولا تحمي نفسك
رد «زين» بلهجة ملؤها الخوف، وكأن الكلمات تتزاحم في فمه مثل أسراب الطيور المذعورة.
أجابه «مُهاب» بحدة وعينان تشع شرر:
_بقولك إيه لو خايف روّح بيتكم، هروح لوحدي..
لم يتزحزح في قراره، كأن روحه قد تشبثت بأمل مستحيل، ليجيبه «زين» ببساطة برغم خطورة الموقف:
_مش هسيبك تروح لوحدك أكيد.. مش خايف من حاجة حتى لو فيها موت معاك.
وفجأة ارتفع صوت محركات السيارات، لتظهر في الأفق سيارات مظلمة تتسابق نحوهم.
كأنها أسود جائعة تتوجه نحو فريستها، وعليها رجال يحملون مسدسات تلمع في ضوء الشوارع الخافت.
كانت لحظة حاسمة، يتسارع فيها دقات قلب «زين» وهو يرى الرجال يقتربون، وخفق قلب الآخر بصدمة لا تقل عن الذي بجواره.
غادر الرجال السيارة واهتزت الأجواء، وكأنها تعكس صراعًا لم يُكتب له النهاية بعد.
وبينما كانت الأضواء تتلألأ، والشوارع تتحول إلى ساحة معركة، أصبح الخيار مصيريًا؛ إما أن يواجهوا الظلام معًا، أو يتركوا الأحلام تتلاشى كالسحاب في سماء حالكة.
