رواية ابني ابنك الفصل السابع والعشرون27بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك

 الفصل السابع والعشرون27

بقلم امينة محمد

 «عدالة مُثقلة بالدموع»

كنا كخيطين من ضوءِ قمرٍ،
يلتقيان في غياهبِ ليلٍ ممتدٍّ كعمرِنا،
فلا يضيعهما الظلامُ، ولا تُطفِئ الرياحُ نورَنا.
تمدّ يدك كالجسرِ حين أتعثر،
وتقول لي: "هنا بيتكِ، لن تنهاري؛
فأنا منكِ، وأنتِ مني، وكلانا للآخر جبالٌ وجدارُ."
كانت أمواج البحر تنحسر وتعود وكأنها تنفس الأرض ذاته، في حين راحت الشمس تميل نحو الأفق ترسم بظلالها خطوطًا ذهبية على صفحة الماء.
جلس «مُهاب» و«غنى» على الصخور المتناثرة، وأمامهما علبة صغيرة مغلقة بإحكام تحوي الزلابية التي ابتاعها «مُهاب» في طريقهما.
غاصت «غنى» في صمتها وعيناها معلقتان بالمدى البعيد، وكأنها تبحث في الأفق عن إجابة لأسئلة لم تستطع صياغتها، كان وجهها شاحبًا، وعينيها مغرورقتين بحزن ثقيل، لكن ملامحها لم تخلو من ذلك الوميض الخافت الذي يشير إلى أمل لم ينطفئ بعد.
اقترب «مُهاب» قليلًا يمد يده ويحاوطها من دون أن يفرض وجوده، وقال بصوت هادئ لكنه مشحون بالثبات:
_الدكتور قال إنك محتاجة تبدأي تتكلمي... حتى لو الكلام صعب، أتكلمي معايا أو مع عم «متولي» أو حتى مع اللي تحسيه هيريحك المهم ما تكتميش جواكِ، اتفقنا؟"
رفعت إليه بصرها وعيناها مترددة، لكنها استطاعت أن تتنهد أخيرًا، وكأن الكلمات التي كانت حبيسة في صدرها بدأت تبحث عن مخرج، وهمست:
_بس الكلام مش هيغيّر حاجة، كل اللي حصل، واللي عملوه فيا.. الكلام مش هيرجعني أنا.
رفع «مهاب» حاجبيه قليلًا ثم مد يده ليأخذ قطعة زلابية من العلبة ويناولها لها برفق، وابتسم ابتسامة صغيرة ومازال ينظر إليها بعينين يشع منهما الإصرار:
_الكلام لوحده مش كفاية، بس هو أول خطوة، زي البحر ده؛ كل موجة بتبتدي صغيرة وبعدها تبقى أقوى لحد ما توصل للشط، أنتِ كمان لازم تبدأي حتى لو البداية ضعيفة المهم نبدأ.
راحت أصابعها المرتجفة تمسك الحلوى من بين يده بالعود المغروس بها كما الأحزان مغروسة بقلبها، لم تأكلها بل ظلت تتأملها وكأنها قطعة صغيرة من عالم آخر، ثم قالت بصوت مبحوح:
_وأنا لو فشلت؟ لو الكلام وجعني أكتر؟
هز «مُهاب» رأسه بسرعة وكأنه يطرد هذه الفكرة من عقلها، مال نحوها وصوته صار أقرب إلى الهمس لكنه مليء بالقوة:
_بصيلي، «غنى» أنا هنا... ومش هسيبك، حتى لو الدنيا كلها بقت موج، أنا هبقى صخرتك اللي تعتمدي عليها، هتتعبي؟ آه
هتخافي؟ يمكن
بس هتقعي لوحدك؟ مستحيل، لأن أنا هفضل جنبك وسندك، واوعدك كل اللي فات ده مش هيتكرر تاني في حياتنا.
كانت كلماته كنسمة دافئة اخترقت برودة خوفها، شعرت بشيء يتحرك داخلها، كأن جدارًا صغيرًا قد انكسر ليتيح للنور الدخول، ابتسمت ابتسامة باهتة لكنها حقيقية، ووضعت قطعة الحلوى في فمها.
_طعمها لسه حلو.
قالت بصوت خافت، وعيناها تلمعان بخيط من الدموع.
ابتسم «مُهاب» وهو ينظر إليها بحنو وقال:
_عارفة ليه؟ عشان لسه في حاجات حلوة مستنيانا وقدامنا كتير، وإحنا هنقدر نوصلها سوا.
مع آخر كلماته ارتفعت موجة لتلامس أطراف الصخور، وكأن البحر نفسه يشاركهما وعد الأمل.
_وبعدين شد نفسك كدا مستنينا فرح جامد إن شاء الله..
قالها بعبثٍ ماكر ليزيل عنها ستائر الحزن، لتبتسم هي بخفة قائلة:
_إن شاء الله الدنيا تستقر، وكل حاجة تكون كويسة ويجي وقت الفرح على خير..
_ان شاء الله يا «غنى».
وقبل مقدمة رأسها بحنانٍ بالغ، ليزرع بها الحب والأمان الذي تحتاجه.
يا مَن على كتفيك استندتُ،
وفيك أبحرتُ من حزني ووجعي،
يا مَن حروفك صارت أجنحتي،
وحنانك الصامتُ كالموجِ يتبعني.
وفي عينيكَ أرى وطنًا لا يضيع،
وأرى نفسي كما كانت قبل الانكسارِ،
طفلةً تسيرُ بين أمانٍ وأغصانٍ تُزهرُ.
فنحنُ يا حبيبي...
كالأرضِ والسماءِ،
قد نبتعدُ أحيانًا لكننا نلتقي دائمًا،
في مطرٍ،
أو قوس قزحٍ،
أو شمسٍ لا تغيبُ.
دعنا نكملُ دربَنا
خطوةً بخطوة،
حتى لو كان المدى بعيدًا
فالحبُّ الذي بيننا،
هو وحدهُ النجاةُ والطريق.
******
تحت ضوء الصباح الباكر الذي شق طريقه بصعوبة عبر ستائر الضباب، وقفت سيارات الشرطة أمام المنزل الكبير لـ«محمود»، محاطة بهيبة من الصمت المهيب.
الأبواب الحديدية الضخمة بدت كأنها تحرس أسرارًا ثقيلة، خطت أقدام الضباط بخطوات ثابتة، تخترق ذلك الهدوء بصلابة عزيمتهم، حاملين مذكرات القبض لينتهي الشر نهائيًا
كأن الوقت قد توقف حين دوى صوت الطرقات على الباب بقوة، ارتج المنزل كأنما يعترض على الضجيج الذي قطع سكونه.
انتفض «فادي» فهو يعلم تمام العلم من الطارق، وخطت يداه المرتجفتان نحو «محمود» قائلًا بخوف:
_هنعمل إيه دلوقتي؟ دول أكيد عرفوا كل حاجة من ست زفتة «سلوى»
رفع «محمود» رأسه بثقة مصطنعة، محاولًا الحفاظ على رباطة جأشه:
_اهدى! متقلقش، هي معهاش أي دليل أصلًا، محدش يقدر يثبت حاجة علينا.
تحرك ليفتح الباب فتوجه رجال الشرطة مباشرة نحو «محمود» و«فادي»، وقد تملكت الوجوه الحاضرة مزيج من الغضب والصرامة.
تقدم الضابط بخطوات واثقة، وهو يقول بصوت حاسم:
_محمود عبدالسلام، فادي محمود أنتما متهمان بقتل «عزام» عمدًا، والتآمر لتوريط «ماسة» بالمخدرات، معانا أوامر بالقبض عليكم.
حاول «محمود» أن يستجمع قوته، وتحدث بنبرة متعجرفة:
_اللي بتقولوه ده كلام فارغ، مافيش أي دليل وأنا عندي محامين يقدروا يخرسوا أي حد يتكلم.
لكن الضابط لم يتزحزح قيد أنملة، وأشار بيده للأفراد:
_فتشوا المكان، هاتوا كل اللي ممكن يبقى دليل.
صرخ «فادي» مستسلمًا تحت وطأة القلق:
_يا باشا أنا مليش دعوة! ده كله شغله هو! أنا كنت بس باتبع الأوامر!
ومن الذي أخبركم أن الخائن لن يكون خائنًا لأبيه؟
غدر به وتخلى عنه، ولكن الجرائم تلبسته هو الآخر، فلا مجال للفرار!
_ساكت طول المدة دي، وافتكرت تتكلم دلوقتي؟
رد عليه الضابط بسخرية، ثم أضاف بلهجة قاطعة:
_الكلام ده هتقوله في النيابة كل حاجة هتتثبت بالأدلة.
بينما كان رجال الشرطة يقتادون «محمود» و«فادي» خارج المنزل، أخذت خطواتهما المتثاقلة تخبر عن حجم الخوف الذي احتل قلبيهما، ولم يكن هناك سوى صوت الأصفاد وهي تُغلق بإحكام ليعلن أن الظلم مهما طال، فعدالة السماء لا تغفل.
**********
كان «مالك» يقود السيارة بسرعة متوسطة، بينما جلس «مهاب» بجواره يتكئ على نافذة السيارة وعيناه شاردة تتأمل الأفق الرمادي الذي صنعته غيوم السماء، الصمت الثقيل سيطر عليهما، كأنهما عالقان في لحظة طويلة من الترقب.
فكل منهما شاردًا في نقطة مختلفة، الأول فيما فعله «حسني» بالحارة وبكل شيء، وكيف غدروا بوالده وقتلوه، وصدمته هو بفعل الآخر وبما نسجت يداه من أفعالٍ دنيئة لدرجة أنه قتل ابنته..
بينما الآخر كان عقله مع المستقبل الذي ستكون به «فيروز»، وكيف سيهتم بها ويراعيها..
تنفس «مالك» بعمق محاولًا كسر الجمود:
_إنت شايف اللي هيحصل ده هيبقى كويس؟
رفع «مهاب» رأسه ببطء وعيناه تحملان نظرة مثقلة بالشكوك:
_شايف إن دي حاجة مش طبيعية، البنت دي لما تكبر هتبقى محرمة عليك، لأنها مش من لحمك ولا دمك، أنا خايف تعلقوها بأمل فاضي وتسيبوها..
ابتسم «مالك» ابتسامة صغيرة لكنها عكست قوة داخله:
_أنا فكرت في ده، وأنا فعلًا قررت إنها هتسكن مع أمي، و«مروة» هتهتم بيها هتعوضها اللي اتسرق منها..
وصلت السيارة إلى مركز الشرطة، ونزل الاثنان بخطوات سريعة، كأنهما يسابقان الزمن، ألقى «مالك» نظرة سريعة نحو «مهاب»، الذي بدت على وجهه ملامح الصرامة المشوبة بالقلق نحو القادم في حياة صديقه.
دخلا إلى مكتب الضابط المناوب، وقف «مالك» أمام المكتب وسأل بصوت واضح لكنه يحمل قلقًا مكتومًا:
_لو سمحت، كنا جايين نستفسر عن طفلة اسمها «فيروز»... كانت جت في قضية خطف الأطفال من حارة «حي شرق»، هي المفروض كانت في ملجأ واتقال إنها هتتبعت له تاني، ممكن أعرف اسم الملجأ؟
رفع الضابط رأسه من الأوراق التي أمامه، وأشار لهما بالجلوس:
_ليه بتسألوا؟
نظر «مهاب» نحو الضابط واجابه بحزمٍ:
_هنتكفل بيها ان شاء الله، وعاوزين نعرف إزاي نعرف نكفلها؟ يعني إيه الإجراءات اللي لازم نعملها؟
_لازم تقدم طلب كفالة في الشؤون الاجتماعية، ومعاه إثبات قدرة مادية ومستندات زي بطاقة الرقم القومي وشهادة الزواج لو متجوز... وبيت يكون مناسب للأطفال..
قالها الضابط بصرامة ثم كتب لهما اسم الملجأ في ورقة وأعطاها «لمالك» الذي شكره وخرج رفقة صديقه متجهان نحو الملجأ..
كان الملجأ أشبه بمأوى للنفوس الضائعة، الجدران الباهتة تروي قصصًا صامتة عن الألم والأمل، خطا «مالك» نحو المديرة، وكانت امرأة في منتصف العمر بملامح حازمة لكنها دافئة.
وبعد ترحيبات بهما استفسرت عن سبب مجيئهم، فقال «مالك» بصوت واثق، لكنه كان يحمل ارتجافًا خفيًا:
عايز أتكفل بـ«فيروز».
ابتسمت المديرة ثم نطقت برسمية:
_هنحتاج مستندات زي بطاقة الرقم القومي، إثبات دخل شهري، وعقد ملكية أو إيجار البيت اللي هتعيش فيه البنت... وكمان زيارة للتأكد إن البيت مناسب ليها.
هز «مالك» رأسه بإيجاب وأكمل بحماس:
_هعمل كل اللي تطلبوه... بس عايز أخرج البنت دي من هنا في أسرع وقت..
ابتسمت المديرة:
_أول خطوة هتكتب طلب رسمي وتقدمه للشؤون الاجتماعية، لو اتقبل.. بنحدد موعد للزيارة المنزلية وبعدها بيتم إصدار قرار الكفالة.
_على خير إن شاء الله
ثم تحرك للخارج وفي تلك اللحظة ألقى «مالك» نظرة نحو «فيروز» من بعيد التي لمحها للتو، كانت تجلس على كرسي صغير تتأرجح ببطء، كأنها تحاول الهروب من عالمها إلى عالم آخر.
ابتسم بتنهيدة وكاد يذهب إليها ولكن «مُهاب» أمسك بيده قائلًا:
_مش دلوقتي عشان متعلقش الطفلة بيك، أفرض رفضوا القرار بتاعك!
تنهد الآخر وهز رأسه بإيجاب ثم تحرك رفقة صديقه للخارج وتحديدًا نحو الحارة..
*****
كانت «وتين» جالسة خلف طاولة صغيرة في زاوية محلها، ترتجف يداها وهي تحاول فرز بعض البضائع، بدا التعب وكأنه وشاح ثقيل يغطيها، ووجهها الشاحب عكس صراعًا داخليًا مع ألم مألوف، شعرت بوهن يتسرب إلى أطرافها، كأنما جسدها يخوض معركة يائسة مع نفسه.
وضعت يدها على جبينها، تحاول تهدئة الدوار الذي اجتاح رأسها كأمواج متلاطمة، مدّت يدها المرتعشة إلى هاتفها، ضغطت على اسم «زين»، علّ صوته يكون طوق النجاة الذي يخفف عنها، لكن الهاتف استمر في الرنين دون إجابة.
ضغطت زر الاتصال مجددًا، لكن هذه المرة باسم آخر، جاءها صوت «مُهاب» من الطرف الآخر، ثقيلًا بعض الشيء، لكنه يحمل نبرة القلق..
تنهدت وهي تحاول أن تبدو متماسكة، لكن صوتها فضح ألمها:
_أنا تعبانة أوي، المحل عنوانه في شارع 16... ممكن تيجي؟
تذكر بأنها مريضة بنفس مرضه..
فلم تتلقَ سوى صوت خطوات متسارعة وعبارة قصيرة:
_جايلك حالًا!
لم يمضِ سوى دقائق حتى دلف «مُهاب» إلى المحل، وعيناه تبحثان عنها بقلق كأنما يبحث عن جوهرة وسط ركام؛ فهي بالنسبة إليه الآن جوهرة سيحافظ عليها بكل ما أوتي من قوة.
أرشده العامل إلى المكتب الصغير المتواجد بالمحل، فدلف سريعًا ووجدها جالسة على الأرض مسندة رأسها إلى الجدار ووجهها كالقمر حينما يختبئ خلف سحب الشتاء الداكنة..
اقترب منها سريعًا وانحنى ليجلس بجانبها، ملامحه كانت مشحونة بمزيج من القلق والحزن، وعيناه كمرآتين تعكسان الألم الذي يعرفه جيدًا.
قال بصوت هادئ لكنه مشوب بالتوتر:
_أهدي ها، أنا عارف كويس حاسة بإيه..
أخذ نفسًا عميقًا ثم قال وهو يحاول أن يسيطر على ارتجاف صوته:
_بصي أول حاجة لازم تهدي نفسك... التنفس مهم دلوقتي، خدي نفس عميق من مناخيرك وطلّعيه من بُقك ببطء.
نفّذت ما قاله بصعوبة وكأن الهواء يمر عبر أشواك في صدرها، أمسك بيدها برفق، وكأنما يحاول أن ينقل إليها بعضًا من قوته وأكمل وهو ينظر إلى عينيها الشاحبتين:
_شربتي مياه كفاية؟ التعب ده بيحتاج إننا نرطب جسمنا طول الوقت..
نهض بسرعة ليحضر لها زجاجة ماء كانت على الطاولة. فتحها ورفعها نحو فمها يحاول تجميع كلماته التي ضاعت حينما رآها هكذا:
_اشربي بالراحة... مش لازم مرة واحدة.
كانت نظراتها مليئة بالشكر، لكنها كانت عاجزة عن التعبير الآن، أكمل حديثه بنبرة جدية لكنه مليء بالحنان بعدما تنهد بعمقٍ وراحة:
_لازم تاخدي بالك أكتر، النوبات دي مابتجيش فجأة... أكيد جسمك كان بيديلك إشارات..
ثم أضاف وهو يمسح العرق الذي تجمع على جبينها بمنديل:
_لازم تتجنبي التعب والإجهاد، وتاكلي أكل مليان حديد، هقول «لهاجر» تعملي أنا وأنتِ النهاردة أكل فيه حديد، ومتنسيش تشربي عصير برتقال، الواد «زين» مخلص عليه ولا إيه..
أضاف المزاح بين كلماته ليجعلها تهدأ تمامًا، بينما هي اقتربت نحوهه وعانقته بقوة مما جعلته عاجزًا هكذا أمامها، رفع يديه ببطءٍ وربت على ظهرها بحنانٍ بالغ:
_أنا معاكِ، وكل حاجة هتكون كويسة!
ابتسمت ونبست بنبرة متعبة ولكنها حملت الامتنان:
_ربنا يديمك ليا..
شيئًا فشيئًا بدأت «وتين» تشعر ببعض التحسن، كأن صوته الهادئ وكلماته المشجعة كانا الدواء الذي تحتاجه.
ساعدها في الوقوف يسند جسدها نحو الأريكة وجلس بجوارها يسند ظهره وعيناه تتأملا ملامحها بابتسامة:
_المرض عندي برضو، بس زي ما تقولي اكتسبت مناعة، أو تناحة مش عارف..
قهقهت بخفة ثم قالت وهي تسند رأسها للخلف:
_ربنا يحميك يارب ومتتعبش أبدًا أبدًا، وتكون كويس على طول..
_دي أحلى دعوات ليا والله، وأنت كمان ياكتكوت!
قالها بينما الابتسامة توسعت على ثغره لتقول بضحكة عابسة:
_كتكوت؟
اومئ برأسه قائلًا:
_بحسك شبه الكتكوت، صغير كدا وبيحتاج معاملة رقيقة..
ابتسمت بإعجابٍ لذلك اللقب -رغم الألم الذي لا يزال ينهش جسدها- وقالت بصوت خافت:
_شكرًا يا «مُهاب».
_مافيش شكر بين الأخوات يا كتكوت..
كأن المكان تحول إلى ملاذ آمن، حصنٍ أقيم على أنقاض الألم ليحمي قلبين أنهكهما الصراع.
هنا..
حيث السكون يحتضن الأرواح المتعبة، لم يعد هناك مجالٌ للخوف؛ فالطمأنينة وجدت طريقها إلى حيث كان الاضطراب يزرع جذوره.
لم يعد الألم وحشًا منفردًا ينهش في العزلة، بل بات يقف عاجزًا أمام حضور مشترك يبعث الحياة في الأنفاس، لا مكان بعد اليوم لعيش شيء بمفردهما؛ فقد صار الحزن يُقتسم، والوجع يُقاسَم، وكأن قلوبهما اتفقت على ألا تخوض معركة أخرى دون سندٍ أو عون.
******
«في قسم الشرطة»
كان «زين» يجلس على مقعد خشبي، وقد أسند رأسه إلى راحة يده، بينما عينيه عالقتان بباب مكتب المحقق، إلى جواره جلس المحامي والذي أخبره أن المحكمة حكمت على والده بالسجن لمدة سنة بعد التخفيف ودفع غرامة، بدت ملامح «زين» مشدودة، كأن وجهه لوحة غطتها ظلال من القلق والتعب.
خرج الشرطي أخيرًا وأشار له بالدخول، خطا بخطوات ثقيلة نحو والده «سليمان»، الذي كان يجلس على كرسي خلف القضبان، هادئًا رغم نظرة الحزن التي احتلت عينيه.
نبس «سليمان» بصوت منخفض، لكنه يحمل نبرة حزم:
_قرب يا «زين»... أنا محتاجك تسمعني كويس..
جلس «زين» بصمت وأشار «سليمان» للمحامي الذي قدّم له مجموعة من الأوراق، مدّ يده المرتعشة ليوقع عليها، ثم رفع عينيه إلى ابنه وقال:
_الأوراق دي بيع لكل أملاكي ليك... ووصيتي ليك يا ابني، تقسمهم بالعدل، أنت، وأخوك «مُهاب»، وأختك، وحق «مُهاب» لازم يكون مضمون، اللي فات كان غلط، بس لازم اللي جاي يكون صح."
ارتجف صوت «زين» وهو يرد، وكأن الكلمات تحارب للخروج من بين شفتيه:
_ليه يا بابا؟... ليه دلوقتي؟ لما تخرج بالسلامة ياحبيبي تبقى تقسم كل اللي نفسك فيه..
ابتسم «سليمان» ابتسامة خافتة، لكنها تحمل ثقل العمر كله:
_عشان لما أرجع، أكون عارف إني سبت حاجة عدلة ورايا يا «زين»، وسامحوني يابني المسامح كريم، لازم العدالة تيجي الأول..
_ربنا يقويك يابابا، وتخرج بالسلامة..
وقبل أن يغادر انحنى «زين» قليلاً نحو والده يقبل رأسه، وعيناه تغرقان في صمت مشحون بالعاطفة، لم يقل كلمة ثانية بعدما دعا له، لكن تنهيدته الثقيلة كانت كافية لتقول كل شيء.
خرج «زين» نحو سيارته يقودها ببطء، شارد الذهن وكأن عقله يحاول ترتيب الفوضى التي تملأ صدره، هاتفه اهتز على المقعد بجواره، فأمسك به وردّ بصوت خافت:
_أيوة..
جاءه صوت رجل الشرطة:
_أستاذ «زين»، أحب أبلغك إننا قبضنا على «محمود» و«فادي»، كمان «سلوى» موجودة معانا في القسم للتحقيق.
حبس «زين» أنفاسه للحظة، ثم ردّ بنبرة هادئة:
_تمام، شكرًا ليك.
أغلق الإتصال وهو يتذكر حينما ذهب رفقة المحامي ليقدم «بمحمود» وابنه بلاغ ليتم القبض عليهما، وبالفعل حدث ذلك وهو يقدم لهما أوراق من المستشفى تثبت أن «ماسة» تم الغدر بها ووُضع لها المخدر بمشروبها فأصبحت مدمنة، ولسوء حظهما أن «سلوى» قدمت لهما الدليل جاهزًا بتسجيلاتها «لمحمود».
دخل «زين» المنزل بخطوات متثاقلة، لكن سرعان ما أسرع إلى غرفة «ماسة»، كانت مستلقية على السرير، تبدو متعبة لكن عينيها لمعتا عندما رأته.
ابتسمت بخفة، تلك الابتسامة الصغيرة التي تحمل ألف معنى من الطمأنينة، جلس بجوارها بهدوء، ووضع يده على يدها بحنان، ثم قال بصوت هادئ:
_عاملة إيه دلوقتي؟
ردّت بصوت خافت:
_أحسن شوية لما شوفتك.
ابتسم بخفة لكنه سرعان ما تلاشت الابتسامة يتنهد بعمقٍ وهو يقول:
_أنا عايزك تكوني سعيدة، وقوية زي ما عرفتك، وأنا هكون دايمًا جنبك ومش هتخلى عنك!
وضعت يدها على يده وقالت بعدما سحبت نفسًا عميقًا وأخرجته على مهلٍ:
_طول ما إحنا مع بعض، هنعدي أي حاجة.
أخذ نفسًا عميقًا ثم أكمل:
_في خبر كويس... «محمود» و«فادي» اتقبض عليهم...
ابتسمت «ماسة» بسعادة وكأن الخبر أشعل في عينيها نورًا جديدًا، لكن سرعان ما تلاشى هذا النور عندما قال:
_وكمان... طنط، «سلوى»، في القسم...
صُدمت المسكينة سريعًا، واتسعت عيناها في عدم تصديق..
همست بصوت متقطع، وكأن الكلمات تعجز عن التكوّن:
_ماما؟!
فبرغم تلك الكوارث التي فعلتها بها أمها، ألا إنها مازالت تكّن لها بعض المشاعر ربما، أو لأنها أمها وهذه المشاعر فطرية تخرج دون أن يدرك المرء..
نظر إليها «زين» بملامح تملؤها الحيرة والحزن، وقال بصوت خافت:
_أنا عارف إنه كتير عليكِ... بس هتكوني قوية، زي ما أنتِ دايمًا قوية..
لم تردّ، بل غرق وجهها في صراع بين الفرح لاعتقال «محمود» و«فادي»، والحزن على والدتها التي لم تكن تتوقع أن تصبح جزءًا من هذه الفوضى.
جلس «زين» بجانبها، محاولًا أن يكون لها الدعم الذي تحتاجه، في تلك اللحظة التي بدت فيها الحياة كأنها تضعهما في اختبار جديد..
تعليقات



<>