رواية ابني ابنك الفصل الثامن والعشرون28بقلم امينة محمد

رواية ابني ابنك

 الفصل الثامن والعشرون28

بقلم امينة محمد

 الحق لا يضيع»

سألني أحدهم يومًا عن معنى الحب، وتركني لأسحب أنفاسي بعمقٍ ثم أجبته:
الحب ليس قصيدة تُلقى في مسامع العشاق،
وليس وردة تُهدى وتذبل.
الحب هو جسرٌ يعلو فوق طوفان الحياة،
يُبنى بأخشاب الأفعال وسواعد الوفاء،
هو يدٌ تمتد حين يتعب القلب،
وسندٌ يُقام حين تميل الكتف.
الحب ليس ضوء الشموع التي تذوب ببطء،
بل هو النور الذي يشق عتمة الطريق حين تضيع في الظلام، هو كالصخرة التي تواجه العواصف معًا، لا تنكسر تحت قسوة الأيام ولا تنفرط أمام الرياح الهوجاء.
الحب أن تُشبه الغيم حين يعانق الأرض العطشى،
يُسكب المطر في جذور الروح فلا تجف.
أن تكون مثل القمر،
يُنير العتمة لرفيق الدرب حتى وإن ابتعد.
أن تهمس بكلمة واحدة فقط،
لكنها تحمل في صمتها وعدًا أبديًا: "أنا هنا"
فالحب لا يقاس بعبارات زائفة،
بل بما يتركه من أثر.
هو الفعل الذي يصرخ في وجه الصعاب: "لن أرحل."
وهو العهد الذي لا ينطفئ في قلبه أبدًا ضوء الأمان.
انكمشت «ماسة» على نفسها كطفلة فقدت دُميتها، تضرب كفيها على رأسها بعنف وكأنها تحاول إسكات أصوات تعصف داخل عقلها، كانت دموعها تنهمر بغزارة، وشفتاها ترتجفان وهي تردد بصوت متهدج:
_ليه كل حاجة بتخرب؟! ليه كل حاجة في حياتي بتوجعني؟! أنا تعبت يا زين... تعبت أوي!
كان «زين» يجلس أمامها عاجزًا، كجندي فقد سلاحه في معركة لا يمكن أن يخسرها، عيناه مملوءتان بالألم وهو يرى انهيارها، بينما ارتعشت يداه قبل أن يقترب لجانبها، يمد يديه إليها ببطء وكأن لمسة واحدة منه قد تزيدها انكسارًا.
_ماسة... اسمعيني... هدي نفسك شوية، أنا معاكِ... مش هسيبك أبدًا.
لكنها لم تسمعه، كانت كبحر هائج أمواجه تتصارع مع نفسها، تصرخ بصوت عالٍ وهي تهز رأسها:
_مش عاوزة أهدى مش عاوزة، كل حاجة بتخرب حواليَّا كل الناس بتسيبني... حتى نفسي مش عارفة أحبها!
اقترب «زين» أكثر وضمها إليه بقوة وكأنه يحاول أن يجمع شظاياها المتناثرة، شعرت بدفء حضنه لكنها ظلت تضرب بيدها على صدره، تبكي وتشهق:
_سيبني! مش هينفع... مش هينفع أي حاجة تكون كويسة، عــاوزة ارتـاح، والله عاوزة ارتـاح.
أمسك بيديها بقوة، صوته رجف لكنه كان مملوءًا بالإصرار:
_مش هسيبك! لو الدنيا كلها خربت أنا هفضل معاكِ، أنا ضهرك يا «ماسة»، افهمي ده!
رفعت رأسها نحوه عيناها غارقتان في الدموع وكأنها تبحث عن تصديق في ملامحه، بالرغم من معرفتها بأنه صادق، ولكن تلك الهواجس في عقلها تُحذرها من كل شيء.
وكأن بوق الإنذار بداخل رأسها فجأة صدح،
يُعلن أن الجميع عدوها، حتى وإن كان حبيبها..
حاولت دفعه لكنه تمسك بها بقوة، وصوته ارتفع كنغمة غاضبة تحاول كسر الحاجز بينها وبين الواقع:
_كفايــة! اسمعيني ولو مرة واحــدة، أنا هنـا، أنا جنـبك ومش هسيبك مهما حصـل..
تجمدت للحظة؛ فصَدمتها قوة صوته وجعلتها تنحبس داخل صمت مفاجئ، ثم بدأ جسدها يرتخي تدريجيًا وانهارت فوق صدره، تبكي بصوت مكتوم ويداه كانت تربت على ظهرها بلطف، وكأنه يحاول أن يُسكن عاصفتها.
همس بصوت منخفض بعد أن هدأت قليلاً:
_إحنا مع بعض، مش مهم الدنيا تخرب، إحنا اللي هنبنيها من الأول... وأنا والله مش هسيبك لحد ما تكوني كويسة..
أومأت برأسها بصمت وكأنها وجدت أخيرًا في حضنه ذلك الأمان الذي افتقدته طيلة حياتها.
هي عاصفة تأبى السكون،
رياح تهدم جدران السكينة،
وتصرخ في وجه الكون،
تتأرجحُ بين فرحٍ ضائعٍ ووجعٍ مقيم،
تخشى النورَ لكنه أملها القديم.
وهو صخرة تصدّ المدَّ والرياح،
قلبه ينبضُ رغم الجراح،
يحملها حينَ تعجز قدماها عن الوقوف،
ويحاكي ألمها كأنه نزفٌ من حروف..
الحبُّ بينهما كالحربِ والسلام،
قتالٌ على جبهاتِ الصمت والكلام،
هو جسر يربط بين روحين هاربتين،
يهتزُّ تحت ثقل الدموعِ، لكنه لا ينهار..
هي نارٌ تشتعلُ في صدرها ولا تنطفئ،
وهو ماءٌ يحاولُ إخمادها،
وفي المنتصف... الحبُّ،
ذاك السيفُ الذي يجرحُ لكنه يشفي،
ذاك الحبلُ الذي يربطُ بين شظاياهما،
كي يصيرا يومًا ما وطنًا واحدًا،
لا تهزه الريح، ولا تهدمهُ العواصف.
*********
الأخوة جسرٌ لا ينهار..
الأخوة هم ذاك الجدار الذي تستند عليه حين يميل بك تعب الحياة، هم الأرض التي لا تخذلك مهما اهتزت بك الأيام، وجودهم يشبه جذور الشجرة، عميقة، خفية، لكنها تمنحك الثبات في وجه الرياح العاتية.
هم الوطن الذي لا تغلق أبوابه في وجهك، والميناء الذي يحتضنك بعد كل غرق، تراهم في لحظات ضعفك، فلا يطلقون الأحكام، بل يمدّون أيديهم ليجعلونك تقف على قدميك كما لو أن حياتهم تتوقف على نهوضك.
_هوصلك وبعدين أرجع البيت عشان مش هضمن تسوقي بالحالة دي..
نطق بها «مُهاب» بينما مازال جوارها بابتسامته الخفيفة، لتبتسم هي الأخرى تخبره:
_اوك ماشي، أنا معايا عربيتي أصلًا..
_معايا موتسيكل، بس تعالي اوصلك بالعربية وأنا هبقى ارجع مواصلات لحد هنا أخد الموتسيكل بتاعي
فسر لها ما سيفعله مبتسمًا لتتحرك رفقته نحو سيارتها وأعطته المفتاح ليتولى هو أمر القيادة، ولكن قبل أن يتحرك أستمع لصوت هاتفه يرن باسم «زين»..
وضع الهاتف على أذنه يجيب صوته يحمل نبرة من الفضول:
_الو.. في إيه؟
جاء صوت «زين» من الجهة الأخرى، متعبًا ومشحونًا بشيء لم يستطع إخفاءه:
_محتاج أشوفك... دلوقتي
_طيب أنا أصلًا مع «وتين» وكنت هوصلها للبيت، استناني عندك.
قالها «مُهاب» وهو يدير محرك السيارة وينطلق ليأتيه نبرة الآخر ممتعضًا:
_«وتين»! أنتو خدتوا على بعض بسرعة ليه!
ضحك «مهاب» بخفة، ثم رد بنبرة تحمل دعابة:
_هجاوبك لما أشوفك بيني وبينك..
أغلق الهاتف بينما هي ابتسمت بخفة حينما استدركت أنهما حينما وقعا في مشكلة توجها ناحية أخوهما وليس بشخصٍ غريب.. هم الآن بالنسبة لبعضهما؛ الكتف الذي لا يكلّ من حمل أوجاعك، والحضن الذي يدفئك حين تعصف بك برودة الوحدة، يشبهون الشمس، قد لا تراهم في كل وقت، لكنك تشعر بدفئهم في كل لحظة.
وصل بالسيارة أمام المنزل ليجد الآخر ينتظرهما في الحديقة وبيده سيجارة ينهيها، يطالعهما بسخطٍ وكأنما هنالك جريمة افعتلوها..
_يا مرحب بالبهاوات، كنتو فين؟
وقبل أن تجيب «وتين» بلطافتها أجابه الآخر حانقًا:
_وأنت مالك، أخ وأخته سوا.. وبعدين أختك محتاجة تغذية، أنت مخلص على عصير البرتقال كله ولا إيه!
_أنا؟ أبدًا والله ده أنا كل ما بجيب Orange juice بجيبلها معايا!
قالها «زين» يُبرأ نفسه، لينظر «مُهاب» نحوها وهو يسألها بتوجسٍ:
_بجد بيعمل كدا؟
أجابت هي الأخرى بابتسامة خفيفة:
_أيوه إحنا أصلًا بنحب الـ orange juice فبيجبلي معاه علطول..
_يا حلاوة! ده أنا هكفركم عن الإنجليزي اللي في وسط الكلام ده بس لما افضالكم، اسمه عصير برتقال ياختي أنتِ وهو!
قالها «مُهاب» حانقًا منهما، بالكاد كان يتحمل «زين» الآن أصبح لديه اثنين، وقبل أن يكمل استدرك موقفه ليعود لطيفًا بقوله:
_والكلام ده طبعًا أقصد بيه «زين»، أنت براحتك يا كتكوت!
غمزها بطرق عينه لتبتسم بخجلٍ بينما الآخر كاد يشتعل في مكانه، لا يعلم على من يغار الآن!
على أخته من أخيه!
أم على أخيه من أخته!
_خلصتوا؟
سألهما وهو ينقل بصره بينهما بسخطٍ، ليومئ له «مُهاب» بملامح حملت الاستفزاز، الكيد!
_ادخلي يا «وتين» وشوفي «ماسة» عشان هي تعبانة أوي، هي نامت أصلًا بعد ما خدت المهدئات بتاعتها فأبقي شوفيها لحد ما أرجع..
تنهدت بحرارة وهي تتحرك نحو الداخل بعدما ألقى هو بكلماته بتنهيدة، ثم نظر لأخيه وزفر قائلًا:
_ما تخفوا شوية، أنا لسه متعودتش إن فيه حد بيتعامل معاها كدا غيري...
أومأ «مُهاب» برأسه وهو يجاريه في الحديث بقوله:
_متقلقش، محدش هيعاملها كدا غيري أنا وأنت!
_آه، إذا كان كدا ماشي.. المهم تعالى نقعد في حتة بعيد عن البيت..
توجّه «مهاب» معه نحو مقهى بالخارج وجلسا سويًا، بينما الاخر حينما جلس وضع رأسه بين يديه، وكأن كل ثقل الدنيا يستقر فوق كتفيه.
رفع «زين» عينيه بتنهيدة بعدما استجمع شتات نفسه، كانت ملامحه شاحبة، هو بالفعل كان التعب يبدو عليه حتى حينما كان يحاول المزاح معهما..
تنهد «زين» بعمق:
_بابا... ساب وصية، هنروح بكرة للمحامي نقسم كل حاجة، وهو قال نصيب كل واحد فينا يتكتب له..
طالعه «مُهاب» لبرهة قبل أن يردف:
–أنا مش محتاج حاجة يا زين.
قاطعه «زين» بينما صوته صار أكثر حزمًا:
_لأ... ده حقك ونصيبك، وعمومًا كل حاجة بكرا هتتفتح وزي ما هو كاتب هتتوزع، أنت ليك نصيب في كل ده.
تردد «مُهاب» للحظة وقبل أن يتحدث نطق الآخر مجددًا:
_الكلام كله مش هيفيد، وأنا حابب تكون جنبي ومعايا في الشغل!
أجابه «مُهاب» بتنهيدة:
_أنا مش هفهم فالشغل بتاعكم والإدارة والكلام ده، أنا ورشتي مأكلاني عيش الحمدلله..
ابتسم «زين» بتنهيدة قائلًا:
_خلاص كبر الورشة أو افتحلها فرع جديد في مكان تاني في إسكندرية، رزقك في يوم لازم يوسع فوسعه..
_ان شاء الله
هكذا أجاب فقط، فهو لم يجد كلمات تصف الموقف ولا كيف يعترض الآن، فابتلع الكلمات في حلقه..
صمت دام لثوانٍ بل أن يضيف «زين» بصوت منخفض، ونبرته مليئة بالحيرة والألم:
_«ماسة»... كل حاجة بقت متلخبطة معاها، أمها اتسحبت من رجليها بعد اللي قاله «محمود» و«فادي»... بيقولوا إنها ساعدتهم، ما بقتش عارف أصدق مين، ولا أعمل إيه..
_طب هي فعلًا عملت حاجة؟
سأله «مُهاب» وهو يطالعه باستغراب ليهز الثاني رأسه مجيبًا:
_عملت كتير، بس «لماسة»، تقدر تقول إنها كانت متخاذلة جدًا مع اللي حصل مع بنتها ومدافعتش عليها قصاد الراجل الغريب وابنه، أنا عرفت أنه بيتاجر في المخدرات وبلغت عنه، وحظهم إنها كمان بلغت عنه في نفس الوقت، الظابط بيقولي أنهم لقوا في بيته مخدرات فعلًا.. فـ مش عارف هي عاملة حاجة من ورانا وهما هيثبتوا بالأدلة ولا لأ، بس «ماسة» حالتها بتسوء بعد ماكنا ماشيين في طريق صح، ومش عاوزها ترجع لنقطة الصفر..
أخرج نفسًا عميقًا بعدما قال كل ما في صدره هكذا كي يرتاح ولو بمقدارٍ بسيط، مما جعل الآخر يجيبه بتنهيدة:
_طب أهدى وصل عالنبي..
_عليه أفضل الصلاة والسلام..
هكذا همس بتنهيدة، بينما «مُهاب» تحرك بكرسيه ليجاوره وهو يرفع يده ويضعها على كتف «زين» وأردف بنبرة تحمل الثقة والدفء:
_أنت مش لوحدك، أنا جنبك وهنشوف حل للموضوع، هنعدي كل ده إحنا كنا سوا في جرايم قتل وخطف أطفال وجثث متعدش يعني، وأنا مش هسيبك أبدًا وهنلاقي حل لأمها دي..
نظر «زين» إليه، ووجد في عينيه وعدًا صادقًا، كأن وجود «مهاب» كان طوق نجاة وسط أمواج عاتية، ابتسم بخفة رغم ثقل صدره، وأغمض عينيه للحظة، وكأنه يستمد من كلمات أخيه قوة جديدة لمواصلة الطريق.
_أهدى بقى متضايقش، اطلبلك orange juice؟
مازحه بخفة وكانت نبرته كوتر مشدود يُطرق عليه برفق
ردّ عليه «زين» بجدية لم تخلُ من سخرية لاذعة:
_لا أنا هطلب Strawberry juice عشان نفسي فيها!
ملامحه كانت مزيجًا غريبًا من الغضب المازح والسخرية، مما زاد من حنقه ونبس ساخطًا:
_تصدق أنا أمي نسيت تربيني فخدتك على قد عقلك وحاولت أهزر معاك، ما تقول فراولة أنت في مصر يابا!
زفر «زين» ساخطًا، لكنه لم يستطع أن يخفي دفاعه الصارم عن أمه، التي تسكن قلبه كجدار لا يُسمح بالمساس به:
_متقولش على ماما حاجة، إيه دخلها دلوقتي فالحوار اللي إحنا فيه؟
دون أن يترك له فرصة للإكمال، مدّ «مهاب» يده إلى ياقة قميصه، كأنه يعلن حربًا صغيرة على مستوى المزاح:
_لولا إنك لابس لي قميص لونه حلو وبنطلون وشكلك ابن ناس كنت قليت منك هنا في وسط القهوة اللي إحنا قاعدين فيها، جاك مَـو يالا!
_جاك أيــه؟
استفسر «زين» بصدمة مشوبة بدهشة حقيقية، فردّ «مهاب» ببساطة عبثية جعلت الوضع أكثر مرحًا:
_شتيمة عشان معرفش تفسيرها، بشتمك من الآخر..
لم يستطع «زين» كبح ابتسامته لكنه أخفاها بمهارة ليعود للسؤال الذي كان يدور في رأسه منذ البداية:
_أنت رخم والله، وبعدين قولي كنت فين أنت «وتين»، أنا لقيتها رنت عليا بس تليفوني كان صامت عشان كنت جنب «ماسة»..
ابتسم «مهاب» وكأن إجابته كانت معدة مسبقًا، ثم عاد بجسده للخلف بثقة قائلاً باستفزاز مكشوف:
_كنت بفسحها، عاوز إيه من الآخر!
التقط «زين» الجملة كأنها سهم أصابه في مقتل، لكنه اعتدل في جلسته محاولًا الرد بمزاحٍ يحمل غيرة خفية:
_عادي والله لأخدها بكرا افسحها أنا كمان..
رمقه «مهاب» بنظرة شبه انتصارية، وقال وهو يلوّح بيده كأنما يرسم حائطًا منيعًا بينهما:
_لا بكرا هاخدها عندنا فالبيت أغديها معايا، شوفلك حاجة تعملها بعيد!
ردّ «زين» سريعًا كمن يعلن تحديًا أخيرًا:
_وأنا كمان هاجي اتغدى معاكم، عشان عاوز أدوق أكل ماما «هاجر»..
لم يجد «مهاب» مخرجًا من هذا الحصار المفاجئ، فزفر بضيق مصطنع قائلاً:
_أمرنا لله، تنور..
وما هي إلا دقائق حتى انقلب الغيظ والكيد لمزاحٍ أخوي لن يملوا ولن يكلوا منه..
هم هنا، فحين تشتد الظلمة في حياتك، تجدهم كنجوم تضيء لك الطريق، وحين تضيع البوصلة، هم الريح التي تعيد سفينتك إلى المسار الصحيح.
وجودهم لا يعني فقط أنك لست وحدك، بل أنك دائمًا محاط بسياجٍ من حبٍ لا يزول، وعطاءٍ لا يتوقف.
الأخوة هم الوعد الذي لا يُنكَث،
والظهر الذي لا ينحني إلا ليحملك حين تعجز عن السير،
هم الأمان الذي لا يعرف الغياب،
والصوت الذي يردد في كل محنة:
"لا تخف، أنا هنا".
********
وعلى الجانب الآخر أمام قسم الشرطة، وأثناء ترحيل كلًا من «فرحات» و«حسني» ببدلة الإعدام ليتلقيا حتفهما، وحينما جلسا سويًا في تلك السيارة كلًا منهما يحمل بداخله الشر والكره، لا يتحدثان منذ أن حكمت عليهما المحكمة بالاعدام شنقًا، بل كانت الشجارات بينهما عنيفة وبالكاد وصلت بأن محاولاتهما لقتل بعضهما كادت أن تحدث..
وأثناء سير السيارة التي تحملهما على طريق سريعٍ وكل منهما بوادٍ كان نهايته الموت، ولسوء حظهما حينها وبسبب الرجال الذين عملوا معهم ودبروا لهم المكائد والافاعيل، كانت النهاية محتومة..
نهاية تليق بهما، ولكنها سحبت معها أرواح شهداء بكلٍ أسفٍ لا ذنب لهما وإنما كانوا يسعون للعدل..
حيث كل شيء بدا ساكنًا كأنما يستعد لصرخة مدوية، انفجرت السيارة، ونارها امتدت كوحش جائع يلتهم كل شيء، وصدح صوت الانفجار كصاعقة تقطّع أوتار السماء.
لم يكن مجرد صوت،
بل كان شهادة صامتة على نهاية أناسٍ خُدعوا في نضالهم،
وجُروا إلى معركة لم تكن عادلة.
تلاشت السيارة كأنها طيف اختفى في العدم، تاركة خلفها رمادًا وأرواحًا نقية سُحبت إلى العلاء بلا ذنب، كأوراق خريف اقتلعتها الرياح فجأة.
ولكنها أخذت أرواحًا تركت ندوبًا بأناسٍ كثيرين، وبأرواحٍ قتلت غدرًا..
قد تشتد الظلمات، وتبدو السماء بلا نجوم، وقد يعلو زيف الظالم كأنه أبدي، لكنّ كل ليل وإن طال، تشرق شمسه، كل كذبة وإن عظم شأنها، تنكشف حين تلامسها الحقيقة.
الحق، وإن أخفاه التراب سيُبعث كنبع ماء يفجر الأرض عطشًا، والظلم، وإن استقوى بعروشٍ وسيوف، لن يكون إلا دخانًا يتلاشى في أول نسمة عدل.
لا مجال للفرار من ميزان السماء،
ولا هروب من عين لا تنام.
سيأتي يوم تُرد فيه المظالم،
ويُشفى فيه الصدر المكلوم،
وتُغسل فيه الجراح بماء العدل الطاهر.
فليطمئن القلب المقهور،
ولتسكن الروح المظلومة؛ فإن الحق لا يضيع،
وإن العدالة، مهما تأخرت، لا تخذل من صبر واحتسب.
********
ركضت نحوه حينما وصل للتو للمنزل بعد يومٍ شاق قضاه في الخارج، تسأله عن أمها وكيف حالها الآن بقلبها المكسور لأشلاء لأجلها:
_عملت إيه؟ ماما مش هتتسجن صح؟
أمسك يدها بين يده بتنهيدة ونبس بابتسامة خفيفة:
_أيوه، أنا وكلت المحامي بتاع العيلة للقضية وهو هيطلعها ان شاء الله متقلقيش، على بكرا بالكتير هتكون برا السجن حرة..
تنفست الصعداء ولكنها سألت بحاجبين مقضوبين:
_هما قالوا عنها إيه طيب؟ ليه اتاخدت..
هنا صمت، لا إجابة لديه لأنها حتمًا ستكون الكسرة الأخيرة «لماسة»، بل ستقطم ظهرها وتنهي حياتها وهي أمامه، كيف سيخبرها أن والدها وحبيبها الأول قُتل..
يعلم كم تحب والدها بل كم تعشقه،
لن تتحمل هكذا كلمات، لذلك احتفظ بالإجابة بجوفه وبدلها باستنكار:
_معرفش، بس الأكيد ناس زي «محمود» و«فادي» هيتبلوا عليها، المهم أنتِ تهدي ومتقلقيش، وخدي ادويتك عشان نكمل جلسات ونكمل علاج السموم اللي فجسمك، مش عاوزك تاخدي خطوة وترجعيها عشرة يا «ماسة»..
أومأت سريعًا برأسها وعانقته تتعلق برقبته، كان جسدها يرتجف بين يديه ولكنه حاوطه يبث بها الأمان، يحاول أن يجعل الإستقرار النفسي يحاوطها من كل الاتجاهات..
همس بتنهيدة قوية:
_كل حاجة كويسة، نكسر اللي يكسرك، ونطبطب عليك يا حِلو أنت..
_شكرًا بجد، شكرًا إنك وفيت بكل كلامك وإنك رجعتلي حقي زي ما وعدتني، أنا بحبك أوي أوي يا «زين»، شكرًا إنك اثبتلي إني مش لوحدي
قالت كلماتها بشكرٍ وامتنان، وبحبٍ بالغ تغلل لقلبه وثناياه من قلبها..
ابتسم بحبٍ وشدد على عانقها قائلًا:
_أنتِ مش لوحدك، مهما كانت الطريق صعب أو مليان تحديات، هفضل أمشي جنبك وأمسك إيدك طول العمر، أنا مش بس هكون جنبك، أنا هكون في كل خطوة ليكِ، هحبك أكتر وأكتر، لحد ما تزهق الدنيا وأنا لسه هنا..
هي ليست مجرد كلمات تُقال في لحظات ضعف أو احتياج، بل هي وعود صادقة بأنك ستظل هنا على الدوام، مهما كانت الرياح العاتية أو العواصف المدمرة، حُب لا يعرف التراجع، ولا يعترف بالمسافات، بل يتحدى كل العوائق ليظل متجذرًا في الروح، في كل لحظة، في كل خطوة، في كل حلم.
في النهاية الحب هو الثبات، هو أن تبقى هنا، في وسط العاصفة،
لا تبتعد،
لا تفقد الأمل،
بل تظل قريبًا،
حاضرًا،
مهما كانت العواصف،
لأنك ببساطة، تُحب.
************
كان «مُهاب» واقفًا أمام قبر والده، عينيه غارقتين في الحزن، تائهتين بين الكلمات التي عجز عن نطقها، وبين الذكريات التي كأنها لا تفارقه لحظة.
كان الهواء باردًا، وكأنّه يعكس برودة الروح التي تلفّه منذ رحيل والده، أمامه كان القبر، بسيطًا لكنّه مليء بالوجع، كما لو أنه يحتوي كل مرارة حياته.
_السلام عليكم يابابا، أتعودت طول عمري أقولك يا «عادل» بسبب إني شيلت مسؤولية بدري، يوم ما لجأتلك اناديك بـ بابا ملقتكش في ضهري، ضهري اتقطم لما مُت مع إني متعودتش استنى منك حاجة، بس كنت مستني والله، كنت مستني في يوم من الأيام نقعد سوا ونهزر..
شعر بثقل الأيام على قلبه، ثقل لم يكن ليشعر به لو أن والده كان لا يزال هنا، كان يحاول أن يتنفس، لكن كل نفس كان يمر كأنه يحمل معه ذكرى، وكل خطوة كانت ثقيلة كما لو كان يقف على أطلال الماضي.
_يعز عليا تموت وأنت على حقيقة إني مش ابنك، بس أنت وأمي هتفضلوا عيلتي مهما حصل وأتغير، عاوز أقولك إني لقيت أخت.. وأخ، ولقيت أم تانية، بقى عندي اتنين يعوضوني عن مُر الأيام اللي عيشتها..
تنفس الصعداء وتلك الدمعة التي تحجرت في عينه.. فرت:
_«هاجر» مكسورة أوي من بعدك، بتحاول تكون كويسة بس هي مش قادرة، ولا أنا قادر.. بحاول أبان كويس عشانهم، عشان أمي.. «غنى» وعشان عيلتي الجديدة، عشان صاحبي اللي محتاجني دلوقتي في أيامه التقيلة، عشان الكل.. بس أنا مافيش حد بيحاول يبانلي كويس عشاني..
مسح تلك الدمعة التي فرّت واكمل بتنهيدة:
_بس أنا أتعودت، أتعودت أكون كدا من يوم ما شيلت فوق ضهري مسؤولية، كل دعواتي دلوقتي إني أقدر أقدم اللي فأيدي، ولما يجيلي عيال أقدر اقدملهم أكتر وأكتر، دعواتي لربنا إني مش عاوز أشيب بدري بكل الهموم اللي شيلتها دي، عاوز اديهم كل حاجة أنا مخدتهاش، مش عاوزهم يتعبوا من حاجة ولا يشكوا مني في يوم من الأيام، عاوز أكون أب صالح وضهر لأطفالي..
كان يتمنى لو يستطيع أن يصرخ، لو يستطيع أن يضع يده على قلبه ليشعر ببعض الراحة، لكن كل ما استطاع أن يشعر به هو الفراغ الذي خلفه والده -سواءً كان حيًا أم ميتًا- وهو وحده الآن أمام هذا القبر، يحاول أن يستجمع ما تبقى له من قوة ليواجه الحياة بعد أن فقده.
لحظاتٌ مرّت وكلما طال الوقوف، زادت المسافة بينه وبين ما كان يحلم به، أغمض عينيه لفترة طويلة، كما لو كان يريد أن يشعر بوجوده من خلال الهواء الذي حوله، عله يحسّ بذلك الأمان الذي لم يشعر به يومًا، لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن هذا لم يعد ممكنًا أيضًا..
**********
في صباح اليوم التالي،
كانت الأجواء داخل منزل «هاجر» مليئة بالحيوية والضحك، توافد الجميع إلى هناك، مهبون بأشعة الشمس التي تضيء المكان وتمنحه دفئًا.
كان «مهاب»، و«وتين»، و«زين» يجلسون هنا في الصالون ومعهم أيضًا «ماسة»، التي كانت تحاول الاندماج مع الجو العائلي، رغم ترددها.
_هي «غنى» هتيجي أمتى، عاوزين نشوفها بقى!
قالتها «وتين» بنبرة غلفتها الحماسة، ليجيبها الآخر بابتسامة:
_زمانها على وصول، إحنا في دراسة وزي ما قولتلك هي مُدرسة وكدا... تعالي لحد ما تيجي اوريكِ حاجة فأوضتي..
وقبل أن تتحرك أمسكها «زين» بوجه متهجم:
_إيــه، حيلك حيلك خليه يجيب الحاجة لحد هنا أنتِ رايحة فين!
ضحكت بخفة وهي تطالع «زين» الذي يشعر بالغيرة المفرطة عليها، بينما «مُهاب» جذبها من يدها نحوه:
_اتهد ولم الدور، عاوز أديها حاجة مجهزهالها.
يحاول أن يهديها أشياء كثيرة، يدخل بداخلها الذكريات التي سيصنعها هو لها، وكأنه اللحظات هذه لن تعوض مجددًا، فيستغلها أشد استغلال..
وأثناء العبث الذي يحدث هنا، طرق الباب ولم يسمعوه مما جعل «هاجر» تخرج من المطبخ لتفتحه ولم تكن سوى «غنى» المبتسمة في وجهها، وفي ذلك الأثناء كانت «وتين» بين أحضان أخيها تضحك رفقته في محاولات إغاظة «مُهاب»..
وفجأة استمعوا جميعًا لصوت شهقة، ثم تلاها توبيخ:
_آه ياخاين، يا معفن، أنت بتخوني يا «مُهاب» وفي بيتك، ينفع كدا يا طنط «هاجر» وقدامك..
قطب حاجبه وهو يجيب ببساطة:
_معفن.. خاين! دي وتين..
_إيه؟
نبست بصدمة، فزاد من تقويس حاجبه يقول:
_إيه؟
_بهزر معاكم، حسيت نفسي عاوزة اهزر..
ثم اقتربت منه وهمست بترجي:
_ابلع لي الشتمتين، وهعملك أي حاجة عاوزها..
_اي حاجة؟
سألها ونظره مثبتًا في عينيها لتومئ برأسها بدراما كبيرة، فأقترب وهمس هو الآخر بمكرٍ:
_هاخد بوسة لما الكل يمشي..
_ياقليــل الأدب!
نطقت بها بعدما شهقت مجددًا، فسألتها «وتين» سريعًا وهي تقترب منها:
_هو قالك إيه وشك لونه قلّب ألوان كدا ليه!
مررت بصرها بينه وبينها بإحراجٍ كبير، بينما هو تراجع يجلس يطالعها بتحدٍ وكأنه يخبرها بنظراته أن تقول ما قاله للتو لها..
ولكنها ابتلعت لسانها، ثم نبست بتلبكٍ:
_بيقولي.. بيقولي أتعرف عليكم.. أنا «غِنى» مراته.. ازيكم كل سنة وأنتو طيبين!
_بس النهاردة مافيش أعياد!
أعترضت «وتين» فأجابتها «غنى» بسذاجة تُحسن من موقفها وهي تمرر بصرها على الوجوه الموجودة:
_لا طبعًا ده يوم شوفتكم يوم عيد.. منورين الحارة والدنيا كلها..
_ماعلينا، اتبسطت أوي إني شوفتك، تعالي أعرفك على «ماسة» دي تبقى my best friend ومرات «زين» أخويا، مكتوب كتابهم زيك أنتِ و«مُهاب» كدا، أكيد إحنا التلاتة هنكون صحاب جدًا..
تحدثت «وتين» بحماسة كبيرة، بينما ابتسمت «ماسة» تصافح الأخرى أمامها قائلة:
_اتبسطت بشوفتك أوي يا «غنى».
_أنا كمان بجد.. تشرفت بيكم.
هكذا عبرت بسعادة عن تشرفها بهم جميعًا، وانطلقت الضحكات هنا في المكان، بين القلوب لتعزف على أوتارها تاركة خلفها سعادة تغلفهم جميعًا..
تعليقات



<>